أخذنا شقة أنا وأحلام وبدأنا في فرشها. وتجددت خلافاتنا منذ عودتنا من اليابان، شكواها الدائمة من اهتمامي بطلبتي وطول الوقت الذي أقضيه معهم، فتضع نفسها دائما في وضع مقارنة بين اهتمامي بها وبهم، وفشلت كل محاولات أن أشركها فيما أكتب وأفكر، فكانت تنسخ الأوراق على ماكينة الكتابة دون أن تعيرها اهتماما، فوضعت جهدي في الإنتاج الفكري والعلمي.
كتاب «غالي شكري» «الكشف عن أقنعة الإرهاب، بحثا عن علمانية جديدة»، الذي أخذ من مادة ندوة «الدين في المجتمع العربي» التي عقدت في أبريل سنة تسع وثمانين بمشاركات «طارق البشري، وفهمي هويدي، وأحمد كمال أبو المجد» تحت اللافتة الدينية، و«محمد سعيد العشماوي، وميلاد حنا، وأنور كامل، وفرج فودة، وتوفيق حنا» تحت اللافتة العلمانية. قام «غالي شكري» بتحليل الخطاب. نشرت المقال بمجلة «أدب ونقد»، عدد يونيو، سنة تسعين. أردت أن أخطو خطوة أعمق في تحليل هذه المادة التي أشار إليها الكتاب؛ فأنماط الخطاب العربي التي ذكرها، بتحليلها نجد وراءها بنية ذهنية واحدة ناتجة عن سقوط مشروع النهضة بعد سلسلة الأزمات التاريخية التي مر بها، لكن الانهيار سببه أن معادلة النهضة بنيت على تلفيقية بين التراث والوافد الغربي على أساس نفعي براجماتي؛ لأن النخبة المفكرة هشة، نشأت في أحضان الإقطاع التابع للرأسمالية الغربية؛ فتحولت النهضة إلى تبرير نقل التكنولوجيا الغربية باسم الإسلام. ومع سقوط المشروع الناصري سقطت معادلة النهضة ذاتها، ولم يبق غير السلفية التي عززها الانفتاح، واشتداد ثروة البترول. وكان لقيام دولة إسرائيل دور في تعميق أزمة مشروع النهضة؛ مما عجل بسقوط هذه المعادلة التلفيقية. الخطاب عاجز عن إنتاج وعي علمي بتاريخية النصوص الدينية وتعامل معها من منظور سلفي، وارتفع صوت الراديو بخبر غزو القوات العراقية لدولة الكويت.
4
مع سقوط الأقنعة، والتدخل الغربي المباشر في الأراضي العربية، وكشف الإرهاب عن وجهه القبيح في شوارع القاهرة باغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب في الثاني عشر من أكتوبر سنة تسعين، فأصبح الصراع على أشده بين الجماعات الدينية المسلحة والسلطة، كتبت مقالا نشرته مجلة «القاهرة» في عددها يناير واحد وتسعين تحت عنوان «ثقافة التنمية وتنمية الثقافة»، في ملف للمجلة عن الثقافة. العقل العربي ظل مشدودا طوال تاريخه إلى سلطة النص الديني والسلطة السياسية الحاكمة؛ فمنذ موقعة «صفين» في عهد الإمام «علي بن أبي طالب» وتحول الصراع من صراع اجتماعي سياسي إلى صراع حول معنى النصوص وتأويلها، وأصبح تأويل النص الديني شأنا من شئون الدولة، وصار عالم الدين موظفا في بلاط الخلافة؛ فأصبحت النصوص الدينية الإطار المرجعي الأول والأخير لكل القوى الاجتماعية والسياسية. من ناحية أخرى ظلت عين المفكر والمؤول على اتجاه السلطة السياسية، سواء كان مؤيدا أم معارضا، فأصبح النشاط العقلي تبريرا، وحينما يضاف إليها (النصوص الدينية كمرجعية أولى وأخيرة) الانتماء إلى أيديولوجية السلطة تصبح نوعا من التواطؤ. ومثال ذلك ما حدث أخيرا في عملية الكويت من كل الأطراف. وفي القديم تواطأ المعتزلة - حينما اقتربوا من السلطة - بقمع المخالفين لهم، وتقديم تبريرات دينية وسياسية نتيجة لبنيتهم الفكرية. ولا خلاص من هذا الموقف ولا استعادة للذاكرة إلا بالتعددية السياسية والفكرية، وترسيخ مبدأ الصراع الحر الخلاق لكل الاتجاهات، والتحول من نظام الوثوب على السلطة إلى نظام التداول الديمقراطي الحق لها.
حقق كتاب «مفهوم النص» توزيعا كبيرا في معرض الكتاب، وخصصت ندوة لمناقشة الكتاب يوم الثامن عشر من يناير واحد وتسعين، الساعة الواحدة، تكلم فيها د. «شكري عياد ود. جابر عصفور»، وكانت ندوة قيمة لي في نقدهم للكتاب. ونشر د. «حسن حنفي»، عرضا ومراجعة للكتاب في مجلة «فصول»، المجلد التاسع، فبراير واحد وتسعين. ونشر «جابر عصفور» مقالة طويلة في مجلة «إبداع»، عدد مارس، بعنوان «مفهوم النص والاعتزال المعاصر»، وضع الكتاب في سياق مدرسة التفسير الأدبي للقرآن في جذورها القريبة من «محمد عبده إلى أمين الخولي وشكري عياد ومحمد أحمد خلف الله»، ووضعها في جذورها القديمة التي تمتد إلى المعتزلة، وأيضا في السياق الثقافي المعاصر بتحدياته حين قراءة التراث. إلا أن «جابر» استطاع أن يقدم نقدا بناء وعميقا للكتاب.
وعد الكتاب مقدمة في الأصول التي ينبني عليها التفسير. وطرح أسئلة مثل ما مفهوم الكتاب للنص، وأن الدراسة داخلة في إطار آليات القراءة التطبيقية وليس أصول القراءة النظرية على نحو يجعل كتاب «مفهوم النص» دراسة في كيفية فهم طائفة من أهل السلف، وسؤال ما الإسلام؛ هل هو الإسلام كنص إلهي أم الإسلام من حيث هو نصوص ثوان بشرية يتم إنتاجها من النص الأول.
زاد انخراطي في النشاط الثقافي العام والتدريس داخل الجامعة من الشقة بيني وبين زوجتي «أحلام»، حتى أصبحنا نعيش معا وكأننا لا نعيش معا، شبه منفصلين في نفس السكن؛ لأزمة المساكن.
كان لتصرفات النخبة المثقفة خلال أزمة احتلال قوات «صدام حسين» للكويت، وبحثها عن المهدي المنتظر، فكتبت مقالة نشرتها مجلة اليسار في عددها الرابع عشر من أبريل واحد وتسعين بعنوان «المهدي المنتظر والعقل المأزوم»، تناولت فيها تطور الفكرة في الفكر العربي الإسلامي، ولها مثيل في اليهودية والمسيحية كفكرة المسايا أو المسيح المخلص المنتظر. وتناولت الفكرة عند الشيعة المغالين والمعتدلين، مثل الإمامية الاثني عشرية والزيدية، وعند الصوفية. وقد أفهم تعلق البسطاء والعامة بالفكرة، لكن ماذا عن المثقف المعاصر الذي انخدع بالنظم الديكتاتورية العربية؛ لأنها ترفع شعارات العدل والحرية، فأغمض العين عن ممارساتها الفعلية وانخرط في التبرير الذي وصل عند البعض إلى حدود التواطؤ النفعي؛ المثقف الذي يعادي الإمبريالية والصهيونية لكنه يتصور أن قيادة الحرب ضدها يمكن أن تكون ناجزة بالديكتاتورية التي تسحق الإنسان، وتصادر كل حقوقه أو تؤجلها لأجل غير مسمى بدعاوى زائفة نعلم جميعا أنها ترتبط باستقرار النظم الفاشية، وإحكام سيطرتها على رقاب العباد؛ المثقف الذي يزعم أنه يفكر تفكيرا علميا ويسقط في وهدة ميثولوجيا المهدي المنتظر، ويعيد إنتاجها برطانة مسوح علمية تكشف أزمة العقل العربي؟
نشرت دار «سينا» للنشر كتابا صغيرا لي بعنوان «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، الذي نشرت جزءا منه في مجلة «الاجتهاد»، بيروت، العدد الثامن، سنة تسعين، تناولت فيه مفهوم الوسطية الذي يذكر على أنه السمة الجوهرية لتجربة المسلمين، وهو مفهوم أصله «الإمام الشافعي» (150ه/768م-204ه/821م) في مجال الفقه والشريعة أو مجال أصول الفقه، وأصله في مجال العقيدة أو أصول الدين «الإمام الأشعري» (ت: 330ه/942م)، واستنادا لهما أصله الإمام «أبو حامد الغزالي» (ت: 505ه/1111م) في مجال الفكر والفلسفة، وهو شافعي المذهب في الفقه، أشعري في أصول الدين. وهذا الكتاب ليس دراسة في أصول الفقه، بل دراسة في نظرية المعرفة كما يطرحها فكر «الشافعي» من خلال علم الفقه؛ أي دراسة الأصول النظرية التي أقام عليها «الشافعي» وسائله الاستدلالية وإجراءاته المنهجية، كدراسة في منهجه في التفكير بالمعنى الفلسفي للمنهج.
بدأت الدراسة من داخل الفكر إلى الواقع الذي أنتجه، بوضع فكر «الشافعي» في السياق الفكري العام للعصر الذي أنتجه، وفي مجال أصول الفقه، من خلال الصراعات الفكرية بين أهل الرأي وأهل الحديث في الفقه والشريعة، وعلى مستوى العقيدة بين المعتزلة وخصومهم من «المشبهة والمرجئة»، والصراع الشعوبي بين العرب والفرس. وطريقة ترتيب الإمام الشافعي للأصول الأربعة للإسلام، وتأسيسه اللاحق منها على السابق؛ فالسنة تتأسس مشروعيتها - أي بوصفها مصدرا ثانيا للتشريع - على الكتاب، وعدهما جزءا عضويا دلاليا واحدا بأدلة نصية منتزعة من المنطوق أو المفهوم، وعليها بنى «الشافعي» الإجماع؛ فأصبح نصا تشريعيا. ويأتي الأصل الرابع القياس/الاجتهاد ليصبح استنباطا من النص، المركب من الأصول الثلاثة السابقة، فتم تدشين تحويل اللانص إلى نص لا يقل في قوته التشريعية والدلالية عن النص الأساسي الأول، ألا وهو القرآن؛ وما يؤدي إليه ذلك من تضييق مساحة الاجتهاد/القياس بعقله بوثاق النص بإحكام.
صفحة غير معروفة