فكتبت دراسة بالإنجليزية عن السيرة النبوية؛ سيرة شعبية، نشرت في مجلة جامعة أوساكا، عدد واحد وسبعين، ونشر نصها العربي بعد ذلك بمجلة الفنون الشعبية بالقاهرة، عدد ثلاثة وثلاثين، ديسمبر سنة إحدى وتسعين. حاولت أن أنظر إلى السيرة النبوية من منظور دارسي الأدب الشعبي، رغم الحساسية الدينية المرتبطة بذلك عند دارسي الأدب الشعبي، لكن هذه الدراسة مهمة لدراسة الدين الشعبي في ثقافتنا الذي يقابل مفهوم الدين الرسمي أو الدين النظامي. من هنا تعرضت للسيرة النبوية ليس بوصفها نصا دينيا بل بوصفها سيرة لأهم بطل في تراثنا الديني؛ البطل النبي؛ وذلك من خلال الجزء الأول من سيرة «ابن هشام». والتعامل مع السيرة النبوية بوصفها سيرة يحتاج إلى مهارات بألا نجزئ النص ولا نستبعد منه شيئا، فنتعامل معه في كليته بخلاف تعامل المؤرخ أو عالم الدين. وفصلت في مظاهر التشابه بين السيرة النبوية والسيرة الشعبية، مثل المزاوجة في القص بين الشعر والنثر، ومثل ذكر نسب كل شخصية بغض النظر عن أهميتها في الأحداث، وكذلك ملاحظة أن «ابن هشام» لخص وركز في الروايات التي أخذها عن الراوي الأصلي «ابن إسحاق» الخصيصة الرابعة؛ ألا وهي الإسناد في الروايات. وقسمت السيرة إلى وحداتها القصصية الأولى، ولاحظت دور الحلم - الرؤيا - وتفسيره في السيرة مما يحتاج إلى دراسة مستقلة أتمنى أن أقوم بها في المستقبل.
ودراسة عن نظرية التأويل عند الإمام «أبي حامد الغزالي» بالإنجليزية أيضا، نشرت في نفس المجلة في العدد اثنين وسبعين، ومقالة طويلة لمجلة «فصول » عن مفهوم النص في علوم القرآن، لكنها ضاعت في البريد. وشاركت مع د. «سيزا قاسم» لوضع كتاب يكون مقدمة لعلم السيميوطيقا، أو علم العلامات، يحوي ترجمات لدراسات مختلفة في هذا المجال. وأقوم بترجمة «مشكلة اللقطة» ل «يوري لوتمان» (1922-1993م)، ولآخرين «نظريات حول الدراسة السيميوطيقية للثقافات». حاولت الاتصال بالأستاذ «توشيهيكو إيزوتسو» (1331ه/1914م-1412ه/1993م)، وكان قد دخل في عملية انعزال وانقطاع عن التواصل مع العالم، فأشار علي البعض أن أرسل له رسالة ربما يستجيب، فأرسلت له رسالة أخبره فيها أني باحث في التراث العربي والإسلامي ومن المعجبين بدراساته وأبحاثه عن القرآن، وأتمنى أن أتواصل معه، لكني لم أتلق أي إجابة منه. ووجدت له كتاب دراسة عن سيميوطيقا العلامات في اللغة والثقافة اليابانية.
لم أنطلق من موقف يقيم الثقافة اليابانية، بل حاولت أن أقترب من منطقها الداخلي، أن أتعلم الحكمة وراء هذه الثقافة والقيمة الجوهرية. ذهبت إلى مسرح «الكابوكي»؛ ممل جدا، لكني حاولت أن أكتشف الدينامية الثقافية ودور العلامات فيها، بل إني قضيت أسبوعا في أحد المعابد البوذية أعرف وأدرس المعتقدات الدينية في اليابان. الغربة جعلتني وزوجتي نتحاشى الصدام بقدر الإمكان. كنت مشغولا بكيفية تعامل المجتمع الياباني مع تراثه، وكيف تعامل مع تحدي الحداثة الغربية، فوجدت كتابا مكتوبا بالإنجليزية عن «البوشيدو، المكونات التقليدية للثقافة اليابانية»، كتبه دبلوماسي كان سفير اليابان في أمريكا «إينازو نيتوبي»، كتبه بالإنجليزية يعرف فيه القارئ الغربي بالتقاليد اليابانية، فقمت بترجمة الكتاب إلى العربية. واكتشفت بعد إتمام الترجمة أن هذا الكتاب قد ترجم من قبل سنة ثمان وثلاثين، وقدمت حفيدة المؤلف الترجمة لي. ولما اطلعت عليها وجدت أن المترجم لم يكن يتحدث الإنجليزية، بل استعان بصديق فرنسي يعرف الإنجليزية، فمضيت في استكمال ترجمتي، لكن ثقافتنا تقف نفس الموقف من التجربة اليابانية؛ فبعد خمسين عاما من الترجمة الأولى تظل تجربة اليابان أسطورة لنا. وهذا يعكس وضع ثقافتنا.
الترجمة ليست عملية نقل، بل هي في الأساس الأول إجراء حوار ثقافي يتجاوب في مضمونه مع إشكاليات ثقافتنا. وهذا الكتاب يتحدث عن علاقة الحاضر بالماضي حيث التواصل الثقافي والفكري في وعي الأمة، وهذا المفهوم يستدعي إلى الذهن نقيضه اللافت في ثقافتنا العربية؛ مفهوم الانقطاع بين الحاضر وتراث الماضي على مستوى الوعي. ومحاولات الوصل بين القديم والجديد في ثقافتنا ما تزال في بدايتها، لكنها تعاني واقعا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا يكرس التبعية. وأيضا العلاقة بالتراث الغربي الأوروبي عامة والأمريكي بشكل خاص. والكتاب دفاع ضد هجوم المستشرقين من مواطن ياباني تحول إلى المسيحية وتزوج من أمريكية، وكان عضوا في جمعية أصدقاء بعثات التبشير؛ فلا يعد بأي صورة من الصور معاديا للثقافات الغربية، لكنه يدافع عن تقاليد ثقافته اليابانية بدون أي استعلاء أو رفض، لكن موقف المثقف العربي من ثقافة الغرب يميل إلى الإحساس بالنقص بدرجات متفاوتة، بدءا من «الطهطاوي» حتى المثقف المعاصر؛ لذلك كانت الرحلة في ثقافتنا دائما من الداخل إلى الخارج. «الطهطاوي، طه حسين، ثم توفيق الحكيم، ثم لويس عوض، ومحمد مندور» ... إلخ. ونحن نحتاج إلى أن نفتح نافذة على اليابان الحديثة نحاورها ونتفاعل معها لنفتح نافذة أخرى غير نافذة الغرب.
والكتاب أيضا يعالج دور الدين في صنع الحضارة وتشكيل الثقافة؛ فموقف المثقف المنفصل عن تراثه وثقافته لحساب التراث والثقافة الغربيين خلق موقفا نقيضا، متمثلا في التعصب للتراث والتقاليد، لا بالمعنى الثقافي العام بل كما يتمثل في الدين بالمعنى الأخلاقي والشعائري. وهذا الموقف الدفاعي يحول التراث إلى مجموعة من الثوابت التي لا تخضع لأي شكل من أشكال التطور، ولا تتجاوز حدود المكان والزمان؛ وبذلك يختزل التراث في العقيدة والدين بعد أن تحول الدين ذاته إلى مجرد مجموعة من الشعائر، ونسق من الأوامر والنواهي، ونظام للتحليل والتحريم؛ وهو في العمق تجاوب مع مفهوم الاستشراق عن الإسلام، وهو مفهوم استورده المثقف العربي العلماني من الغرب. وقد انحصر اتجاه الإسلام الحضاري بين مطرقة السلطة مستخدمة الأزهر، والجماعات الدينية مستخدمة سلاح التكفير، فأصبح السؤال: ما الدين؟ وما الإسلام؟ لا يجرؤ أحد على طرحه، لكنه سؤال يجب أن يطرح ويسهم الجميع في الحوار إذا أردنا أن نخرج من ورطتنا الراهنة. كلنا نتحدث عن الإسلام وعن التراث الإسلامي وكأننا نتحدث عن مفهوم واضح متفق عليه، وليس الأمر كذلك على الإطلاق. وتجربة اليابان قد تكون مفيدة لنا في ذلك الأمر. والأمر الأخير الذي يمكن أن يفيد ثقافتنا من هذا الكتاب: الفروسية وتقاليدها كما يعبر عنها «البوشيدو». وقيم الفروسية موجودة في التراث العربي، مثل الشرف والإحساس بالعار أو الخجل وقيم الرجولة والاستقامة والعدل. وهي قيم تنحسر عن واقعنا الذي يسيطر عليه التجار سيطرة شبه تامة. تاجر يتصف بالفجر والخداع والجبن والقسوة ليس التاجر الذي يريد أن يبني وطنا، بل تاجر يريد أن يحقق مكسبا بأي طريقة؛ مما يجعل البعض يتعاطف مع صورة الإقطاعي القديم عند مقارنتها ببشاعة صورة التاجر الذي يحكم مصر. جهود مضنية تبذل لتفريغ ذاكرتنا وتجزيء تاريخنا كأننا نولد كل عقد من الزمان ميلادا جديدا من العدم، فنحيا بلا ذاكرة وبلا تاريخ، ويبدو الواقع الآني دائما ظاهرة فريدة تحتاج إلى تفسير.
كتبت مقدمة طويلة لترجمة تضع هذا الكتاب وتلك التجربة في سياق الثقافة اليابانية، وفي سياق هموم ثقافتنا العربية المعاصرة خلال القرنين الماضيين، تحدثت عن الثقافة وإشكاليات الترجمة، وناقشت مسألة أن الحرب مع إسرائيل هي المسئول الأول والأخير عن تخلف المنطقة العربية، ومسألة أن سبب نجاح وتقدم اليابان هو تبني نموذج التنمية الرأسمالي الغربي؛ التبرير الذي يقدمه دعاة انفتاح السداح مداح. نعم هناك تأثير غربي تكنولوجي واضح على الحياة اليابانية، لكن هناك فرقا بين نمط التأثر باستيراد المنجز المادي وتطويره طبقا للحاجة المحلية، دون أن يتحول الاستيراد إلى حالة إدمان؛ فالمواطن الياباني يرتدي «الكيمونو» جالسا على الحصير «التاتامي»، ينام على الأرض مفترشا «الفوتون»، يأخذ حمامه «الأفورو» بالطريقة التقليدية، وهو نفس المواطن الذي يتعامل مع أعقد منجزات التكنولوجيا الحديثة في عمله وفي حياته الخاصة؛ فالتكنولوجيا أدوات لتسهيل الحياة لا للتظاهر الكاذب أو الوجاهة الفارغة. وكيف انتقلنا في بلادنا من مجتمع البناء والتعمير والكفاح إلى مجتمع الوساطة والانتهازية وبيع كل شيء، حتى التراث والتاريخ، فبدد الخونة كل شيء. بددوا الوطن في اتفاقية الصلح المهين، وبددوا التاريخ بتحويل العدو إلى صديق، والطامع إلى حليف. وبددوا حلم فقراء الوطن من عماله وفلاحيه، وباعوه لسماسرة الانفتاح بأبخس الأثمان. نشرت الترجمة والتقديم بعد ذلك تحت عنوان «البوشيدو، المكونات التقليدية للثقافة اليابانية»، في بغداد، دائرة الشئون الثقافية، عام اثنين وتسعين.
وكتبت دراسة ضمنتها في كتابي مع د. «سيزا قاسم» لكتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيميوطيقا»، ودراستي كانت بعنوان «علم العلامات في التراث، دراسة استكشافية»، عرضت فيه أن ثقافتنا الراهنة يتقاسمها اتجاهان، يتعامل أحدهما مع ثقافة الغرب على أنها ثقافة التقدم والحضارة، وعلينا أن نقلدها تقليدا أعمى، واتجاه ثان يأخذ رد الفعل النقيض، فيحتمي بالتراث، يكرر مقولاته ويتبنى بعض مفاهيمه دون الوعي بأن هذه المفاهيم كانت استجابة لهموم الواقع الذي كان يحياه الأسلاف. والاتجاهان يهدران ظروف الواقع ويتجاهلان الحاضر بالتوجه صوب الغرب، أو صوب الماضي. «ولا خلاص من هذا المأزق إلا بأن يكون الحوار النابع من موقفنا الراهن هو وسيلتنا للتعامل مع الغرب وثقافته من ناحية، وللتعامل مع مفاهيم تراثنا وتصوراته من ناحية أخرى»، في عملية تهدف إلى مزيد للفهم للتراث والوعي به واستكشاف جوانبه التي يمكن أن تساعدنا السيميوطيقا على اكتشافه.
علم العلامات يتعامل مع اللغة باعتبارها نظاما من العلامات الدالة، تقارن بينها وبين غيرها من العلامات كإشارات المرور والأزياء؛ فإن مفهوم العلامة وطبيعتها يعد هو المفهوم الأساسي في هذا العلم، ويقابله في التراث مفهوم «الدلالة». درست العلاقة بين الدال والمدلول على مستوى الألفاظ. وعلماء المسلمين اتفقوا على أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها علاقة وضعية؛ أي يتواضع عليها، لكنهم اختلفوا على أصل المواضعة؛ هل هي من الله في البدء، أم هي في الأساس بشرية؟ حتى وصلنا إلى «عبد القاهر الجرجاني» (ت: 471ه/1107م) الذي فهم العلاقة بين الدال والمدلول على أنها علاقة بين الصوت والمفهوم الذهني الذي يشير إليه، لكن «عبد القاهر» كان محكوما بعصره، وبالقضية التي تحركه وهي إعجاز القرآن؛ لذلك حين يتحدث عن أن العلامات اللغوية لا تنبئ بذاتها عن المعاني العقلية، بل تدل عليها وتشير بالمواضعة والاصطلاح، بخلاف الفهم المعاصر الذي لا يفصل بين الدال والمدلول، بل يعتبرهما وجهين لعملة واحدة. وعند المتصوفة الوجود من أرقى مراتبه إلى أدناها ليس إلا تجليات ومظاهر لحقيقة واحدة باطنة هي الحقيقة الإلهية؛ فقد حول «ابن عربي» (ت: 638ه/1240م) الوجود كله إلى نص دال يشير إلى قائله ويدل عليه، واللغة أحد مظاهر تجلي هذا النص. وعلم العلامات يمكن أن يساعد كثيرا في دراسة جوانب التراث المختلفة، مثل كتب تفسير الأحلام في تراثنا ودلالاتها الثقافية. نشرت دار إلياس العصرية الكتاب، وبه ترجمتان لي مع الدراسة.
11
دراسة تراثنا من خلال علاقة المفسر بالنص؛ بدراستي تأويل المتكلمين المعتزلة للنص القرآني في الماجستير، ومن خلال دراستي لفكر «ابن عربي» المتصوف وتعامله مع القرآن، لمست دور النص القرآني ذاته في تشكيل مفاهيم «ابن عربي». منذ هذه الملاحظة وأنا مشغول بسؤال عن: هل هناك تصور في الثقافة العربية الإسلامية عن طبيعة النص؟ فقد تم التعامل مع النص القرآني في تاريخنا بأن كل فرقة تجذبه إلى مفاهيمها وتصوراتها، حتى في عصرنا الحديث؛ فمن محاولات جذب الإسلام للمفاهيم الاشتراكية وللعدالة الاجتماعية في الخمسينيات والستينيات، إلى المفاهيم الرأسمالية في السبعينيات في زمن الانفتاح الاقتصادي، وأن الله قد رفع بعضنا فوق بعض درجات، مما يشجع الرأسمالية؛ ومن دين الجهاد والحرب مع العدو الصهيوني، إلى دين وإن جنحوا للسلم فاجنح لها في السبعينيات؛ فلا بد قبل الحديث عن طريقة التعامل مع النص أن نبحث عن مفهوم لهذا النص؛ عن طبيعته. ونقاشي مع طلابي في جامعة القاهرة الأم، في شتاء سنة اثنتين وثمانين، حين أهديت إليهم هذا العمل؛ «اعترافا بأن التعلم في الجامعة ذو اتجاهين».
صفحة غير معروفة