عرفني د. «أحمد» على الكثير من الأساتذة، ومنهم دكتور مصري في الأنثروبولوجي بجامعة قريبة، «عبد الحميد الزيني»، له بأمريكا عمر طويل، وكان لحواراتي معه أثر كبير في توجيهي لقراءات كثيرة. لم يمكث د. «أحمد مرسي» كثيرا؛ فقد تم اختياره مستشارا ثقافيا لمصر في إيطاليا، وكان مترددا في القبول، لكني ألححت عليه بالقبول حتى قبل، فأصبحت أعتمد على نفسي. أخذت مكانا متواضعا في بيت سيدة عجوز في أجوار الجامعة، وبينما تعطيني صاحبة البيت المفتاح للمسكن سألتني: أنت من أين يا بني؟ - من مصر. - مصر! ودي فين؟ - في أفريقيا - والتجهم على وجهها - هل تعرفين الأهرامات وأبو الهول؟ الحضارة المصرية لها سبعة آلاف عام. - سبعة آلاف عام؟ هذا مستحيل! - مستحيل ليه؟! دا تاريخ. - على حسب «الإنجيل»، الحياة بدأت على الأرض منذ ستة آلاف عام فقط.
شعرت أنه لا طائل من الاستمرار في الحوار. الكثير من الأمريكيين يعتمدون على الإنجيل كمصدر لمعرفتهم التاريخية، كما يفعل كثير من المسلمين مع القرآن. وصدمت من تقوقع الأمريكيين وجهلهم بالعالم وتركيزهم على ما يحدث داخل حدود وطنهم، بل حتى حدود المدينة أو المنطقة التي يعيشون بها.
الهدوء والانتظام في الحياة الجامعية ساعداني أن أقرأ في كتاب «الفتوحات المكية» الذي استعصى علي في القاهرة بزحامها، فظللت عاما كاملا لا أتخطى الصفحات الثلاثين الأولى؛ سحر الخطبة يجذبني للعودة إلى فك طلاسمها الرمزية، فوجدتني أدخل إلى عالم الصوفي الكبير «ابن عربي» بلا معوقات، عالم يستعصي دخوله دون إلمام بمعرفة واسعة بالتراث الإسلامي؛ فكل ثلاثة أسطر تجد آية قرآنية يستشهد بها. كانت تراودني دائما كلمة «تأويل»، وأريد أن أبحث عن معناها بالإنجليزية، فحاولت البحث عن
Super interpretation
أو
Ultra interpretation ، حتى اتصلت بأستاذي «حسن حنفي» الذي يجيد عدة لغات، فقال لي:
Hermeneutic . وبدأت أجمع الكتب ذات الصلة، بالهرمنيوطيقا التي استخدمتها بمعنى «التأويلية»، فوجدت تراثا كبيرا من المؤلفات، وكانت القراءة صعبة ومستغلقة، وشعرت بفشل وعجز عن الفهم. كنت لا أبرح المكتبة إلا للتدخين، ومن شدة انجذابي توقفت عن التدخين، وأصبحت أمكث في المكتبة من الصباح حتى الحادية عشرة مساء، لكني في نفس الوقت طالب في قسم الفولكلور، وعلي أن أحضر محاضرات وأكتب أوراقا بحثية. وكان القسم يتعامل مع الفولكلور بمفهوم واسع؛ محاضرات في تحليل النصوص، وفي اللاهوت، والأنثروبولوجي. وكان الأستاذ يعطي فكرة عن المنهج الدراسي، وبعدها نلتقي في مسكنه للحوار. كان المناخ الأكاديمي والعلمي جميلا، فدخلت في القراءة في اللغويات الحديثة، والسوسيولوجي، والأنثروبولوجي.
ذهبت إلى السوبر ماركت الضخم لقضاء بعض الاحتياجات، وكانت سيدة عجوز تمر بعربة مشترياتها، وبداخل العربة قطتها الجميلة على أهبة القفز من العربة، فأمسكت بها قبل أن تفعل. شكرتني السيدة برقة، وسألتني: من أين؟ فلما أجبتها وجدتها تقول لي: لماذا لا تقبلون اليهود يعيشون معكم؟ فقلت لها: أظن أن اليهود الإسرائيليين هم الذين يرفضون أن يعيش الفلسطينيون معهم.
استمرت السيدة بحدة: إنها «أرض الميعاد» التي ورثها «إسحاق» عن أبيه «إبراهيم».
حاولت أن أتحدث بهدوء: هذا حق، إننا نتحدث عن «أرض ميعاد»، لكن إبراهيم كان له ولدان، «إسحاق» و«إسماعيل»، هل ترين من العدل أن يصطفي «إبراهيم» «إسحاق» فقط ليرثه.
صفحة غير معروفة