الثورة
كان إسحق الموصلي يعقد مجالس الغناء والأدب والمناظرة في قصره. وكان قصرا بديعا يعيش فيه عيشة الأمراء والعظماء مما أفاء الله عليه وعلى أبيه إبراهيم الموصلي من عطايا هارون الرشيد. وقد كان يقول: «لو بقي لنا الرشيد لبنينا جدران بيوتنا بالذهب والفضة.»
وكان أكثر ما يكون الحديث عنده عن إبراهيم بن المهدي ومستحدثاته ومبتكراته في الغناء والموسيقى، وكان ينكر عليه إسحق وينتقده انتقادا مرا.
وزاره أبو دلف قاسم العجلي، ومخارق، وعمرو بن الوراق، مع جمع من الأصدقاء وجلسوا يشربون ويتحدثون.
وكانت بغداد في هذه الآونة قد زخرت بأنباء المأمون وإحراقه الملابس السوداء (شعار العباسيين) واستبدال الملابس الخضراء بها (شعار العلويين)، وما كان من مبايعته بولاية العهد من بعده لعلي بن موسى الرضا زعيمهم، مما أحدث ثورة في نفوس بني العباس والعرب ببغداد والعراق.
وأخذت الفتنة تزحف من القصور إلى الدور، ومن صدور الخاصة إلى أفواه العامة.
وجلس الأدباء والمغنون في قصر إسحق الموصلي يتذاكرون ويتشاورون، ويروي بعضهم لبعض ما سمعه من أنباء المأمون وشيعة العلويين في «مرو» وخراسان.
فقال أبو دلف: وهل استشار المأمون الفقهاء فيما فعل واستحدث من هذا الأمر؟
فقهقه عمرو بن الوراق وقال: أجل ... أجل ... إني محدثكم ما سمعته من صديق جاء من «مرو» منذ أيام: فقد روى أنه لما اعتزم المأمون تولية علي بن موسى الرضا عهد الخلافة، خلع الملابس السوداء، وجمع فقهاء المدينة عنده وأخذ يسألهم رأيهم، فكان والله كلما قال قولا قال الفقهاء: «كلنا نقول بقول أمير المؤمنين، وكلنا نرى رأي أمير المؤمنين.» حتى لو كان قد قال لهم إن الوحي نزل على أبي نواس لقالوا: «كلنا نقول بقول أمير المؤمنين، وكلنا نرى رأي أمير المؤمنين!»
فضحك جميع الحاضرين وقهقهوا قهقهة عالية، وقال إسحق الموصلي: ... اتق الله يا عمرو ... اتق الله ... ودع عنك هذا التشنيع!
صفحة غير معروفة