وكان نساء مسلمات ومسيحيات في مار إلياس يفين بنذورهن، فذعرن لما سمعن أصوات المدافع، وجعلن يضرعن إلى مار إلياس أو الخضر ليلطف بهن ويقي عيالهن، وهن في ذلك سواء كأنهن من مذهب واحد لا فارق بينهن.
وخرج أبو فخر من بيته ليسأل عن سبب إطلاق المدافع، فالتقى بالشيخ مصطفى صاعدا من المدينة، فأخبره بموت السلطان عبد المجيد وتنصيب السلطان عبد العزيز، فقال: الحمد لله، فقد نجانا الله من احتلال الفرنسوية لبلادنا، وأعطانا سلطانا لا يفضل الإفرنج علينا.
فقال له الشيخ مصطفى: ومن قال إن السلطان عبد المجيد كان يفضل الإفرنج علينا؟! فأجابه: الظاهر أنك غائب عن البلد، ألا تعلم أن كل هذه الحركات والقلاقل مسببة عن ذلك؟! ولكن هذا سر لا يعرفه غيري، أطلعني عليه الوالي لما زارني في رمضان الماضي.
والتقى مارون بنقولا وقال له: لم نستفد فائدة تذكر من مجيء الفرنسوية، ولم نكد نفرح بمجيئهم حتى خرجوا عن آخرهم، وأخاف أن تهبط أسعار العقارات التي اشتريناها.
فقال نقولا: من كان يظن أن سياسة الإنكليز تغلب سياسة الفرنسويين؟!
فأجابه مارون: لو عرفت من الأول أن الإنكليز غير راضين عن مجيء العساكر الفرنسوية ما كنت خاطرت بقرش واحد؛ لأن سياسة الإنكليز دائما غالبة، ألا تتذكر ما فعلوه بإبراهيم باشا؟ فإن فرنسا كانت معه ولكنهم قوموا أوروبا كلها عليه حتى ألزموه أن يخرج من البلاد ويرجع إلى مصر.
فقال نقولا: ومع ذلك لا أرى أن الأسعار هبطت ولا هي مائلة إلى الهبوط، وأسعار الحرير لا تزال في ارتفاع، ولا بد ما تصطلح الأحوال في أيام السلطان الجديد.
وتذاكر بخور وشمعون في الأحوال الحاضرة، فقال شمعون: كتب إلي ابن خالتي من إسطانبول أن السلطان الجديد سيستدين أموالا كثيرة، فتروج الاشغال وتكثر المكاسب في زمانه. فقال له بخور: متى كتب لك ذلك والسلطان لم يجلس إلا أمس؟! فأجابه شمعون: إنه كتب لي مع البوسطة الماضية، ولكن ابن خالتي وكل أصحابنا في فينا وباريس ولندرا كانوا عارفين أميال السلطان عبد العزيز من قبل أن يتولى، وأمور مثل هذه لا تخفى عليهم.
واجتمع وكلاء الدولة والعلماء في دار رشيد أفندي، وهنأ بعضهم بعضا بانفراج الأزمة، فقد تم كل شيء على ما تمنوا، وخرجت الجنود الفرنسوية من بلاد الشام، وجلس السلطان عبد العزيز على كرسي السلطنة بعد أن وعدهم المواعيد الوثيقة أنه يكف أيدي أوروبا، ولم يتسع نطاق الفتن أكثر مما قدروا، واعترض أحد العلماء على ذلك بأن الجنود أسرفت فيما فعلت، فأجيب أنه لم يكن في الإمكان أن يفعلوا غير ذلك، وأجمعوا على تقديم الشكر لفؤاد باشا لنجاحه التام في العمل الذي انتدب له.
وتلي خطاب الملكة في البارلمنت الإنكليزي، فأشارت إلى وفاة السلطان عبد المجيد، وتنصيب السلطان عبد العزيز، وذكرت الأول بفضائله وأشارت إلى أسف الأمة الإنكليزية عليه، وذكرت الثاني بما يرجى من النفع منه لبلاده، وشكرت فرنسا على ما أبدته من الغيرة بإرسال جنودها إلى سورية وإلى حفظها لوعودها، وإخراج جنودها منها حالما استتب الأمن فيها لئلا تزيد المسألة الشرقية تعقيدا.
صفحة غير معروفة