1 - النصح بالإخلاص
2 - بارقة الأمل
3 - الغداء على الغدير
4 - ما وراء الستار
5 - سورية في البارلمنت الإنكليزي
6 - التفتيش الأول
7 - مطارح النظر
8 - الاجتماع الثاني
9 - العرس والميدان
10 - المجمع البطريركي
صفحة غير معروفة
11 - المشكل الجديد
12 - بوادر الحب
13 - حل مشكلة
14 - الأميرة صفا
15 - كشف الغامض
16 - استفحال الخطب
17 - واقعة الساحل
18 - التفتيش عن الأميرة سلمى
19 - النار ولا العار
20 - شكوى الحب
صفحة غير معروفة
21 - الشهابيون في بيروت
22 - المذاكرات السياسية
23 - استفحال الفتنة
24 - حادثة دمشق
25 - توقع القضاء
26 - الذهاب إلى العرب
27 - المأتم
28 - خطر غير منتظر
29 - خيبة الأمل
30 - البحث والتحقيق
صفحة غير معروفة
31 - مؤتمر باريس
32 - الخيبة والفشل
33 - البطر بعد الظفر
34 - التزلف والنفور
35 - الاحتفال في الحرش
36 - مؤتمر بيروت
37 - النجاة من السجن
38 - السلطان عبد العزيز
39 - زيارة الوالي
40 - فصل الخطاب
صفحة غير معروفة
الخاتمة
1 - النصح بالإخلاص
2 - بارقة الأمل
3 - الغداء على الغدير
4 - ما وراء الستار
5 - سورية في البارلمنت الإنكليزي
6 - التفتيش الأول
7 - مطارح النظر
8 - الاجتماع الثاني
9 - العرس والميدان
صفحة غير معروفة
10 - المجمع البطريركي
11 - المشكل الجديد
12 - بوادر الحب
13 - حل مشكلة
14 - الأميرة صفا
15 - كشف الغامض
16 - استفحال الخطب
17 - واقعة الساحل
18 - التفتيش عن الأميرة سلمى
19 - النار ولا العار
صفحة غير معروفة
20 - شكوى الحب
21 - الشهابيون في بيروت
22 - المذاكرات السياسية
23 - استفحال الفتنة
24 - حادثة دمشق
25 - توقع القضاء
26 - الذهاب إلى العرب
27 - المأتم
28 - خطر غير منتظر
29 - خيبة الأمل
صفحة غير معروفة
30 - البحث والتحقيق
31 - مؤتمر باريس
32 - الخيبة والفشل
33 - البطر بعد الظفر
34 - التزلف والنفور
35 - الاحتفال في الحرش
36 - مؤتمر بيروت
37 - النجاة من السجن
38 - السلطان عبد العزيز
39 - زيارة الوالي
صفحة غير معروفة
40 - فصل الخطاب
الخاتمة
أمير لبنان
أمير لبنان
تأليف
يعقوب صروف
الفصل الأول
النصح بالإخلاص
هضاب لبنان آكام يعلو بعضها بعضا من ساحل بحر الروم إلى قنن صنين، مرتصفة على طول البلاد من طرابلس الشام إلى ساحل صيداء، رصعتها القرى والدساكر، ووشحتها حراج الصنوبر والبلوط، وتخللتها أودية وفجوات تنساب فيها الجداول والغدران، وقد قامت على جوانبها الحدائق والبساتين من التوت والزيتون والتين والرمان، ودبجت أرضها بطرائق الديباج من النرجس والخزام والأقحوان. بلاد المروءة والضيافة والشهامة والعفاف، مضى على سكانها دهور طوال، وهم يغرسون كرومهم ويجنون ثمارهم، ويذودون عن ذمارهم بالبيض الصفاح، جانبهم عزيز وحرزهم حريز، يمر بهم الغزاة من مصر، وبابل، واليونان، والرومان كالطيور القواطع تلتهم ما تراه وتغادر البلاد وأهلها، فيعودون إلى زرعهم وضرعهم يغرسون البساتين، ويزرعون الحقول ويسومون القطعان، ويبنون البيوت، ويشيدون القصور آمنين ناعمي البال إلى أن ينتابهم غاز آخر كما تنتاب الأوبئة البلدان، فيظاهرونه أو يشاغبونه حسب مقتضى الحال.
لما كثر مرور الغزاة في بلاد الساحل بين بيروت ولبنان، انحدر الأمراء آل أرسلان من الشرق إلى الغرب، ونزلوا قرى تطل على طريقهم لاستكشافها فسميت الشويفات، وبنوا فيها دورهم حيث ضافهم سلطان دمشق الملك المؤيد المحمودي الخاصكي منذ خمسمائة عام، ونزل على الأمير سيف الدين ثلاثة أيام.
صفحة غير معروفة
في دار من هذه الدور وقف الأمير أحمد صباح يوم من أواخر عام 1859، وقف في رواق يطل على بحر الروم وغابة الزيتون المعروفة بصحراء الشويفات، وكانت سفن الصيادين قد خرجت من بيروت للصيد، ونشرت شراعها لنسيم الصبا، وقد هب صباحا من البر إلى البحر قبل اشتداد الهجير، فجازت خلدة وشقت صدر الماء فأرغى وأزبد، ونشرت الغزالة أشعتها على الرمال بين الصحراء والبحر، فعصفرتها وعبثت بما تجمع على أوراق الزيتون من ندى الليل، فطار ضبابا لطيفا كأنفاس المحبين.
وقف الأمير هنيهة يقلب طرفه فيما يراه من جمال الطبيعة، ويستنشق نسيم الصباح، ويصغي إلى تغريد الطيور، وهم بالخروج للصيد، ثم عاد إلى التفكير في كتاب ورد عليه في الليل الفائت من الكولونل روز قنصل إنكلترا في بيروت، وقال في نفسه: لأمر دعاني القنصل إليه، ولا بد من تلبية دعوته. ولم يستغرب دعوة القنصل له وتخصيصه إياه دون أبناء عمه؛ لأنه كان يعتمد عليه بعد أبيه، والكتاب ليس من القنصل نفسه بل من ترجمانه، ثم دخل غرفته وافتقد الكتاب وقرأه ثانية فإذا هو يقول فيه:
الجناب الأكرم والملاذ الأفخم الأمير أحمد أرسلان المحترم دام بقاه
بعد أداء واجب التحية والإكرام، أعرض أن سعادة القنصل أمرني لكي أكتب إليكم أدعوكم إلى دار القنصلية غدا صباحا، للمذاكرة في بعض الشئون الهامة والمرجو تشريفكم في الوقت المعين، وأدام الله بقاءكم.
فقال في نفسه: ما هذه الأمور الهامة يا ترى؟ ولماذا لم يكتب القنصل نفسه إلي بالفرنسوية؟ أويظن أنني أكون آلة في يده كما كان المرحوم والدي؟! تلك أيام مضت ولن تعود، نعم إن إنكلترا وفرنسا ساعدتا دولتنا على الروس في حرب القرم، ولكن تلك المساعدة لا تقضي علينا بالاستعباد، وليس من صواب الرأي أن نجاري خورشيد باشا فيما طلبه، ولكن لا يليق بنا أن نستميت إلى هذا الحد.
ثم نظر إلى ساعته، ونادى مسرورا عبده، وأمره أن يشد على جواده، ولبس ثيابه: بذلة من الجوخ الكحلي، وطماقا مزركشا بالقصب، وتقلد سيفه؛ وهو لجده الأعلى الأمير جمال الدين، قلده به السلطان سليم الفاتح في مدينة دمشق يوم دخلها ظافرا، وتنكب قربينة صنعت لأبيه في بيت شباب، صنعها له أولاد نفاع من فضلات نعال الخيل المطرقة، فجاءت مجوهرة كالسيوف الدمشقية يطلق بها عشرين حواشة معا، فتنطلق منها كالمدفع الرشاش ولا يستطيع إطلاقها إلا من كان ساعده من الحديد مثل ساعده، وألقى على كتفيه برنسا أبيض من نسج دمشق، ثم اعتلى صهوة جواده، ووضع فردين صغيرين في قربوصه؛ وهما هدية لأبيه من إبراهيم باشا، أهداهما إليه قبل واقعة اللجاة، وسار وأمامه عبداه مسرور وسالم، وهما بالعدة الكاملة مع كل منهما يطقان، وزوج طبنجات، وبندقية نظامية إبرهيمية من البنادق التي ألقتها جنود إبراهيم باشا وهي عائدة إلى مصر.
فمر في طريق متعرج بين البيوت والحوانيت، وكانت نساء القرية ذاهبات يستقين وجرارهن على أكتافهن أو رءوسهن، والبراقع مسدولة على وجوههن لا يبين منها إلا عين واحدة يكشفنها لينظرن طريقهن، فلما دنا منهن وقفن كاسرات الطرف هيبة ووقارا، وكذلك كان الرجال يقفون في حوانيتهم، ويضعون أكفهم على صدورهم ويحيونه.
وسار من تحت كفر شيما والحدث إلى الشياح والناس ينظرون إليه شزرا؛ لأن قلوبهم كانت موغرة بالأحقاد، ومر في حراج بيروت، وكان الهجير قد اشتد وعلا صوت الصراصير، فوقف هنيهة في ظل صنوبرة كبيرة مما بقي من الصنوبر الذي غرسه الأمير فخر الدين المعني، وهي منتصبة بين الأشجار التي غرسها إبراهيم باشا كالجبار بين الأطفال، حتى إذا كثر رفس الجواد من كثرة الذباب استأنف السير ومر في طريق الميدان فالباشورة.
وعرف أصحاب الحوانيت أنه من أمراء الجبل من قيافته وعدته، لكنهم لم ينهضوا للسلام عليه لاعتقادهم أن أهالي لبنان فلاحون كلهم حتى أمراؤهم، ولو كانوا من نسل الملوك، ولا هو بادأهم بالسلام أنفة وعتوا، ودار من عند السور «عصور»، وصعد في طريق المصيطبة إلى بيت الكولونل روز قنصل الإنكليز الجنرال، فبادر إليه قواسان كانا واقفين عند الباب، وأمسكا بركاب جواده، فنزل عنه ونفح كلا منهما بريال، ودخل غرفة كبيرة، كواها تطل على حديقة غناء، نسقت فيها أشجار البرتقال والتفاح والرمان، وأنواع الورد والياسمين، وكانت الغرفة مفروشة بالبسط الفارسية، وفيها مقاعد مكسوة بالحرير المطرز من نسج دير القمر، ومكتب كبير من خشب الجوز مطعم بعرق اللولؤ من عمل دمشق، وكراسي إنكليزية كبيرة مكسوة بالجلد البني، أمامها موائد صغيرة، فلاقاه القنصل إلى الباب ورحب به، ثم أتي بالقهوة ودار الحديث بينهما على شئون الجبل وثورة الخواطر فيه، فشكا الأمير من أن نصارى المتن والعرقوب وزحلة ودير القمر قد أكثروا من ابتياع الأسلحة، ولا عمل لهم إلا سبك الرصاص ولف الفشك، فلا عجب إذا فعل دروز الشوفين فعلهم. قال: ويبلغني أن كسروان كلها متحفزة للثورة، وأن يوسف بك كرم قابل قنصل فرنسا، فشد القنصل أزره، وأكد له أن فرنسا لا تتخلى عن الموارنة بوجه من الوجوه. فقال القنصل: ولكن بلغني أن خورشيد باشا قال لكم مثل ما قال قنصل فرنسا ليوسف بك. فقال الأمير: أما أنا فلم أقابل خورشيد باشا. فقال القنصل: نعم لم تقابله أنت، ولكن قابله جماعة من بيت عماد وبيت نكد، ومضى اثنان منهم إلى خلوات البياضة لهذا الغرض، وقد استدعيتك الآن لكي أحذرك من عواقب الثورة، فإنه إذا استفحل الخطب فلا يبعد أن تحتل بلادكم دولة أجنبية، وهذا لا نرضاه لكم ولا للدولة العثمانية، وأمس كان عندي سعيد بك فأخبرته بما أخبرتك به الآن، وليس الخوف من عقالكم بل الخوف من جهالكم، وأنا أعلم شدة طاعتهم للعقال، ولكن ما كل وقت يكون العقال على يقظة من أمرهم.
وطالت المذاكرة نحو ساعتين، حتى إذا حان وقت الغداء دعا القنصل الأمير للغداء معه، وتغدى معهما شاب إنكليزي اسمه السر هنري بدمونت في غرفة مجاورة لغرفة الاستقبال، وجلسوا بعد الغداء يدخنون التبغ ويشربون القهوة، ويتكلمون في مصالح الجبل، وتاريخ أمرائه، وسبب الخلاف بين اليزبكية والجانبلاطية، وبين النصارى والدروز، إلى غير ذلك مما يهتم به قناصل الإنكليز خاصة، وكان كلامهم بالفرنسوية، وقد سر السر هنري بحديث الأمير أحمد، وطلب إليه أن يسمح له بزيارته في داره بالشويفات. فقال: حبا وكرامة، وإن سمحت فإني آتي بنفسي وأذهب بك. فقال السر هنري: إني لا أكلفك إلى ذلك، وسأزورك بعد غد مع أحد قواسة القنصلية. ثم استأذن الأمير أحمد في الانصراف، فودعه الكولونل روز والسر هنري بدمونت إلى باب القنصلية.
صفحة غير معروفة
ومر وهو راجع في طريقه ببيت رجل اسمه الشيخ درويش ويكنى بأبي فخر، وكان هذا الرجل قد رآه ذاهبا إلى دار القنصل، فجلس في رواق بيته ينتظر عودته، حتى إذا مر به قام للقائه ودعاه لينزل ويشرب القهوة، واعتذر الأمير عن النزول بفوات الوقت، فقال له: ألا نزلت، فإن المرحوم والدك كان يشرفنا كلما نزل إلى بيروت، وبيتنا مستعد لقبول الزوار، وأمس شرفنا الوالي والسرعسكر. وما زال به حتى ترجل وصعد معه إلى رواق كبير يطل على الطريق، فلما جلس قال له الشيخ درويش: يا سبحان الله! إنك جلست على الكرسي الذي كان يجلس عليه المرحوم والدك! وهو الكرسي الذي يجلس عليه دولة الوالي كلما زارنا، هات أخبرني أين كنت؟ ولا تخف عني شيئا، فإن المرحوم والدك كان يطلعني على كل أخباره وأسراره، وقد كان أبي صديقا له، وأوصاني لأكون صديقا لك، قل لي أين كنت؟ فقال الأمير: كنت في بيت الكولونل روز لشغل خصوصي.
فقال الشيخ: أي نعم لشغل خصوصي، اسمع يابني ولا تملك الأجانب منك، ولا تحد عن خطة أبيك - رحمه الله، ولماذا لم تذهب إلى بيت الوالي مثل سائر مناصب الجبل؟
فقال الأمير: إني ذاهب إليه.
فقال الشيخ: أحسنت أحسنت، وتفضل خذ القهوة. انظر ما أجمل هذه الفناجين! فإنها من الصيني الحر، اشتراها المرحوم والدي من دمشق الشام، كل فنجان بعشرة فندقليات، إذا رميته على الأرض لا ينكسر! والظروف من صياغة إسطانبول: فضة روباص، وذهب بندقي، والمرجان من أعلى طبقة. الظروف اشتريتها أنا من إسطانبول، أخذتها من الدلال بثمن بخس بالنسبة إلى ثمنها الأصلي، كانت لأزميرلي باشا الصدر السابق، وبيعت مع بعض التحف بعدما قتل، ما أكثر تقلبات الدهر! يقال إنها كانت للسلطان مصطفى، نعم كانت للسلطان مصطفى، فأهداها إلى أزميرلي باشا، أما أنا فاشتريتها بمالي، كل ما عندي اشتريته بمالي؛ لأني أكره المهاداة، فإن الهدية بلية على ما يقال، فأنت الآن تشرب القهوة في فنجان من الصين، وظرف كان يشرب منه السلطان مصطفى - غفر الله له.
وكان الأمير أحمد يعرف هذا الرجل وحبه للفخر والمباهاة، ولذلك لقب أبا فخر فلم يسؤه كلامه، لكنه ود تقصير الزيارة على قدر الإمكان، فلم يكد يشرب القهوة حتى نهض، وقال: تعذرني الآن يا أبا فخر لأنه لا بد لي من رؤية دولة الوالي.
فقال: أحسنت، وإن أردت فأنا أذهب معك إليه، ولكن قد حانت صلاة العصر، ولا بد لي من الذهاب إلى الجامع، لأني لا أترك الصلاة مطلقا فعلى الطائر الميمون.
فودعه الأمير بعد أن طلب إليه أن يشرفه إلى الشويفات، وركب جواده وسار إلى دار الولاية، وأقام مع الوالي نصف ساعة دار فيها الحديث على شئون الجبل، وكان الوالي يتودد إليه على خلاف عادته، وقال له: أنتم سيف الدولة ولا غنى لنا عنكم، ولا غرض لنا إلا استتباب الأمن في البلاد، وكف يد الأجانب عنها، ولا بد للدولة من ذلك مهما كلفها، ونصيحتي لك أن تكون في خاطرها مثل أبناء عمك.
فقال الأمير: نحن لا نخرج عن خاطر الدولة؛ لأن طاعتها فرض علينا، ولكن يا حبذا لو فضت هذه المشاكل من غير حرب أهلية.
فقال الوالي: هذا الذي نوده، ولكن إذا كان لا بد من الحرب الأهلية، فالدولة لا تتغاضى عنكم؛ لأنها لا تترك الحزب القوي ليفتك بالضعيف، وقد أبنت رأيي بالإسهاب لشيخ العقل، ولا بد من أن يجمعكم ويبسطه لكم، ولا أخفي عليك أن ترددك على القنصل لا يرضينا.
فقال الأمير: كيف ذلك؟! والذي أعلمه أن دولة الإنكليز من أشد الدول صداقة لدولتنا العلية.
صفحة غير معروفة
فقال الوالي: نعم هي كذلك، ولكن ليس كل رجالها على رأي واحد.
قال ذلك وصمت، فعرف الأمير أن مدة الزيارة انقضت، فقام وودع، فوقف له الوالي وشيعه إلى باب الغرفة التي استقبله فيها على خلاف عادته، وكان هذا الحديث باللغة التركية؛ لأن الأمير أحمد تعلمها لما كان في الأستانة مع أبيه، وهو يحسن التكلم بها كما يحسن التكلم بالفرنسوية، وكان العصر قد أذن فركب جواده وعبداه معه، وسار راجعا إلى الشويفات في الطريق الذي جاء فيه. وكان يفكر في كلام القنصل المسهب وكلام الوالي الموجز وأحوال الجبل، وما يمكن أن تئول إليه إذا نشبت فيه حرب أهلية تسفك فيها الدماء وتحرق البيوت، وراجع ما كان من نتائج الحروب الأهلية السابقة وكلها ضعف على ضعف وذل على ذل، فقال: لا بد لي من اتباع نصيحة القنصل وحمل أبناء عمي على اتباعها. ووصل إلى نهر الغدير، وهو تائه في فيافي الأفكار وحانت منه التفاتة، فرأى نسوة جالسات وراء مطحنة، فخفق فؤاده وغض طرفه وظل سائرا.
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وانتشر ذهب الأصيل على ربى لبنان، وألبس الأفق طرازا معلما من البرفير والأرجوان.
الفصل الثاني
بارقة الأمل
في أحوال الناس سر غامض لا ينطبق على قاعدة معلومة، وهو الاتفاقات الكثيرة التي تقع على غير انتظار، يخطر على بالك رجل لم تره منذ سنين كثيرة، وفي الساعة التي يخطر على بالك فيها تراه آتيا لزيارتك، كأن قوة روحية تقدمته ووصلت إليك فأعلمتك بقدومه.
وتفتش عن عبارة قرأتها في كتاب فتقع عينك عليها حالما تفتح الكتاب، وقد تفتش عنها مرة أخرى فلا تجدها إلا بعد العناء الطويل، فكيف اتفق أن عثرت عليها في المرة الأولى؟!
وينشغل بالك بأمر هام وترتبك فيه ولا ترى وجها لحله، ثم تقابل أحد أصدقائك اتفاقا أو رجلا لا تعرفه، ولم تره قبلا، فتجده عنده حل المشكل والخبر اليقين، كأنه سخر لخدمتك وقت حاجتك إليه.
على هذا النمط كان الأمير أحمد في نظر السر هنري بدمونت، فلم يكد يخرج من دار القنصلية حتى دخل السر هنري مكتبه، وعاد إلى إتمام الكتاب الذي شرع في كتابته إلى أمه ذاكرا فيه خلاصة ما جرى له يوما بعد يوم من حين وصوله إلى بيروت، وكان قد أخبر أمه عن كل ما رآه وسمعه من حين قدومه، وعن درسه جغرافية البلاد من بيروت إلى صيداء، وتعيينه مكان الواقعة التي جرح فيها جده الأعلى كونت بدمونت، لما أوفده ملك الإنكليز الملقب بقلب الأسد لفتح بيروت، فقد عين مكان الواقعة بالتدقيق، وكانت تقاليد عائلته تجعلها قرب نهر الدامور المعروف عند الأقدمين باسم تاميراس أو داموراس، حيث حدثت المعركة الدموية المشهورة بين أنطيوخس ملك سورية ونيقولاوس قائد الجيوش المصرية، فدارت الدائرة على الجنود المصرية، وقتل منها ألفا رجل وأخذ ألفا أسير، وعادت فلولها إلى صيداء، وذلك قبل التاريخ المسيحي بنحو 218 سنة، لكنه وجد أن شكل الأرض هناك لا ينطبق على الوصف الذي وصفها به ولف خادم جده، بل ينطبق على جهات خلدة، حيث تكثر نواويس الحجر التي ذكرها ولف في وصفه، ولا عبرة بما جاء في دليل أورشليم من أن خلدة على اثني عشر ميلا رومانيا عن بيروت؛ لأن الاسم القديم وهو«هلدوي» ينطبق على الاسم الجديد، فالواقعة حدثت قرب خلدة، وجده لجأ إلى كهف من الكهوف التي قرب الشويفات، ولا بد من أن تكون رفاته هناك حتى الآن؛ لأن خادمه ولف سد باب الكهف الداخلي عليه بعد أن لفه بردائه.
ولما قابل السر هنري الأمير أحمد، وعرف أنه من أمراء الشويفات شعر كأن بارقة من الأمل بدت أمام عينيه، ثم لما علم أنه من طائفة الدروز أصحاب الطريقة السرية الخاصة بهم، كادت نفسه تطير حبورا، وجعل يسترق اللحظ ويتفرس في وجهه، وكان الكولونل روز يعلم أنه مغرم بالمباحث التاريخية والأثرية، فأشار إلى عائلة الأمير، وقال للسر هنري: لا يبعد أن يكون جدك كونت بدمونت قد التقى بجد الأمير منذ سبعمائة سنة في ضواحي هذه المدينة، وقد يكون بينكما ثارات وأخاف أن تتقاضياها الآن.
صفحة غير معروفة
فتبسم السر هنري، وقال: أما الآن فإننا في جوار الأمير، والعرب يرعون الجوار ويحمون الجار. فقال الأمير: بل أنا في حماكم وضيف عليكم.
فقال الكولونل: إن السر هنري جاء هذه البلاد للتفتيش عن رفات جده؛ لأنه توفي فيها على قول خادمه، بعد أن قتل أكثر رجاله، وأسر من بقي منهم حيا، وأرجو أن تبذل جهدك لكي ينال بغيته.
فقال الأمير: حبا وكرامة، إني من الساعة في خدمته باذل جهدي في تحقيق بغيته.
فشكره السر هنري على مروءته وكرم أخلاقه، واتفق معه على أن يزوره بعد يومين؛ ليريه ما حول الشويفات من الكهوف القديمة.
وذكر السر هنري هذه الأمور كلها لأمه، وهو يعجب من هذا الاتفاق الغريب، ويقول: إني موفق بإذن الله. إلى أن قال لها: فإذا عدت ومعي الوثيقة، وختم قلب الأسد عليها، فلا يبقى لي منازع في كونتية بدمونت، ولا يبقى اعتراض لإفلين ولا لأمها، أواه يا أماه لو تعلمين كم أقاسي من هذا البعاد؟! وقد آليت على نفسي أن لا أكتب إلى إفلين حتى أجد الوثيقة.
قال ولف: إنها من الفضة وعليها ختم قلب الأسد، وإنه وضعها على صدر سيده لما لفه بردائه، هذا هو الخبر المسلسل في تاريخ العائلة، وإن باب المغارة إلى جهة الشمال الغربي وقد سدها من الداخل على أسلوب يظهر منه أن نهايتها هناك، لا بد وأن أهتدي إليها إن شاء الله، وهذا الأمير شاب في نحو الرابعة والعشرين تلوح على وجهه لوائح الشهامة وعزة النفس، وهو يحسن الفرنسوية، ولا بد من أنه يحسن لغته العربية، والكولونل روز يكرمه كثيرا، وقال لي إن أباه كان من أخلص الناس لنا، لكنه يخشى أن لا يكون مثل أبيه؛ لأن الذين علموه اللغة الفرنسوية أثروا في ذهنه، فضلا عن أن اللغة وآدابها تكفي لهذا التأثير، ولا أدري لماذا لا يسعى رجالنا في نشر اللغة الإنكليزية وتعليمها لأبناء الأمراء والعظماء، كما يسعى الفرنسويون في نشر لغتهم؟! فإننا إذا فعلنا استفدنا تجارة وسياسة، وقد رأيت كثيرين هنا يتكلمون الفرنسوية والإيطالية ولم أر أحدا يتكلم الإنكليزية من أبناء البلاد غير اثنين أو ثلاثة، ولا أحد يهتم بتعليم اللغة الإنكليزية غير بعض المرسلين الأميركيين. وسأزور الأمير بعد غد، وأكتب إليك عن زيارتي له بالتفصيل. ثم فصل لها كيفية سفره من الأستانة العلية إلى بيروت، لكنه لم يذكر لها شيئا عن المهمة السياسية التي جاء لأجلها.
وكانت الباخرة الفرنسوية على أهبة السفر، فطوى الكتاب وأرسله مع مكاتيب القنصلية، وركب هو والقنصل جوادين وخرجا للنزهة على رمل بيروت إلى أن بلغا البحر ورأيا غروب الشمس، وقد امتدت أصابع الشفق حتى بلغت الأفق الشرقي وهو منظر بديع قرأ عنه في الكتب، ولكنه لم يره قبل الآن، فقال: ما أجمل هذا المنظر وما أبدعه للتصوير! أين مصورو الطبيعة يأتون هذه البلاد فيرون فيها كل يوم منظرا بديعا تعجز ألوانهم عن تصويره؟!
فقال القنصل: نعم، هي كما تقول وفوق ما تقول، ومتى جاء فصل الربيع تتعشقها تعشقا، وما هضاب اسكتلندا وجبال سويسرا شيئا مذكورا في جنب جبال لبنان وهضابه، ولكن انظر كيف صار أقرع أجرد من توالي المحن، وهذه المدينة التي كانت من أعظم المدائن الرومانية تكاد أعلامها تندرس، ولولا الإصلاح القليل الذي نالها في زمن الدولة المصرية لصارت أثرا بعد عين، أين أرز لبنان وبلوط باشان؟! أين المعاقل والمصانع؟! لا ترى مكانها غير أديرة الرهبان ومزارع الفلاحين، أما دور الأمراء والمشايخ فلا تذكر في جنب ما كانت عليه قصور الأمراء في سالف الزمن، أين المدارس والمشاهد التي كانت بيروت غاصة بها في عهد الرومان؟! لم يبق منها غير بعض الأعمدة الكبيرة مبثوثة بين الخرائب والأنقاض دالة على عظمتها السالفة.
فقال السر هنري: أوتبقى الحال على هذا المنوال؟
فقال القنصل: كلا؛ لأن دوام الحال من المحال، فإن لم تفلح مساعينا احتلت فرنسا البلاد كما تعلم، وأن أفلحت فلا بد لنا من وضع حد لسوء الإدارة.
صفحة غير معروفة
الفصل الثالث
الغداء على الغدير
إلى الشمال الشرقي من الشويفات قرية كبيرة تفضلها في غزارة مائها وكثرة بساتينها، ولو قلت عنها في عدد سكانها وفخامة مبانيها، وهي قرية كفر شيما أو قرية الفضة، نزلها الأمراء الشهابيون من قديم الزمان كما نزل الأرسلانيون الشويفات، وبنى الشهابيون الدور الكبيرة، واعتنوا بغرس الجنائن والبساتين فيها وفيما جاورها من رياض الغدير، وهو نهر شتوي يفيض في الشتاء حتى يطم على الربى، ويجف في الصيف حتى لا تبقى فيه نقطة ماء.
في دار من دور كفر شيما أمير من آل شهاب اسمه الأمير عباس لم يتنصر مع إخوته وأبناء عمه، بل بقي على الإسلام مثل أقاربه في حاصبيا ووادي التيم، وكان عنده خطيب يصلي وراءه، لكنه كان سمحا لا يجادل إخوانه إلا بالتي هي أحسن، ولا منع زوجته وأولاده من التنصر، بل كانت زوجته شديدة التمسك بالنصرانية والإكرام لقسوسها، وكثيرا ما قصده مطران بيروت وتجادلا طويلا، ثم انتهى الجدال بينهما بقوله: لكم دينكم ولي ديني، فيتركان الجدال ويعودان إلى وصف الدخان الجبيلي والشقيفي، فإن المطران كان مولعا بالأول والأمير بالثاني وكانا كلاهما مغرمين بالسعوط، ومع المطران حقة مرصعة بالماس أهدتها إليه الإمبراطورة أوجيني زوجة الإمبراطور نبوليون الثالث لما زارها في فرنسا، فلم يكن يسعه إلا استنشاق السعوط منها من وقت إلى آخر وتقديمها إلى الأمير، حتى يرى حجارة الماس على غطائها، والأمير يقدم له حقة سوداء سادجة من صنع الصين، لكن حملة شبقه كانت من الكهرباء وتحتها حلقات من الجزع والعقيق مرصعة بالذهب، والشبق نفسه قضيب طويل من الورد الأخضر يقطعه ويثقبه بيده، وقد غرس وردا كثيرا في حديقة داره لهذه الغاية فلا تلبث القصبة في يده يومين حتى يبدلها بغيرها قبلما تجف.
وكان للأمير عباس ابنان وابنة اسمها سلمى، وفي اليوم الذي مضى فيه الأمير أحمد أرسلان إلى بيروت لمقابلة الكولونل روز، قامت الأميرة سلمى وطالبت أمها بوعدها، وهو النزول إلى الغدير للنزهة وتناول الغداء هناك؛ لأن مطر الخريف كان قد كسا الأرض بساطا سندسيا، وظهر زهر العصفر فدبجه بطراز معلم، فنادت أمها جارية اسمها زهرة، وقالت لها: قولي لمرجان إننا نازلتان إلى الغدير، وقولي للخزندار أن يرسل غداءنا إلى هناك، ويدعو أم يوسف لتوافينا إليه. وأرسلت سلمى إلى صفا ابنة عمها تدعوها إلى النزهة معهما.
ثم ركبت الأميرة هند وابنتها وابنة سلفها خيولا عربية مطهمة تتهادى بما عليها من الحلى، ونزلن إلى الغدير ونزل معهن مرجان وبيده نارجيلة جوزتها من البلور المطرش وقلبها من الفضة والذهب، وقد علق على جنبه كيس التنباك من المخمل الأحمر المزركش بالقصب، ونزلت زهرة ومعها طاس من الفضة وجارية أخرى بطاس آخر وخادم يحمل سجادتين، وساروا الهوينى وقد تكبدت الشمس السماء، فلم يصلوا إلى الغدير إلا قبيل الظهر.
ثم تبعهم بعض الخدم والحشم ومعهم ما طهاه الطهاة من فاخر الطعام وسلتان من العنب والليمون، فمدوا سماطا للأميرات، ووقفت الجواري في خدمتهن، حتى إذا اكتفين من الطعام وأكلن الحلوى والفاكهة، اتكأن يتطارحن الحديث، وكانت أم يوسف من أفكه نساء القرية حديثا وأوسعهن رواية، فلا يطيب للشهابيات عيش بدونها فيدعونها من بيت إلى بيت، ولا يخرجن للنزهة إلا وهي معهن تطرفهن بالأحاديث المختلفة بعضها صحيح وبعضها مختلق أو مزوق، فحدثتهن تلك الساعة عن أعمال السحر والتعزيم التي كان يعملها الشيخ بشير تلحوق، وكان من أعلم أهل زمانه وأمهرهم وأدهاهم، ومما قصته عنه أنه كان يضع إبريقا بين رجلين، ويتلو عليه بعض الآيات من القرآن والزبور، فيدور الإبريق من جهة إلى أخرى من تلقاء نفسه بقوة السحر، وأنه كان يوقف عصاه فتقف، ثم يأمرها فتدور أمام الجلوس من أمام واحد إلى أمام آخر من غير أن يلمسها أحد، ويضع إبريقين في زاويتين من زوايا الغرفة واحدا ملآنا والآخر فارغا، ثم يتلو بعض الآيات فينتقل الإبريق الفارغ من مكانه ويسير إلى مكان الإبريق الملآن، ويسير الإبريق الملآن من مكانه إلى مكان الإبريق الفارغ، هذا والناس ينظرون ويعجبون ولا يشكون أنه يفعل ذلك بقوة سحرية، ويضع بيضة في إناء ويسلقها فتثب من الماء الغالي من نفسها وتبعد عنه.
وأعجب من ذلك قدرته على شفاء المجانين من جنونهم، لكنه لا يستطع ذلك ما لم يقفل باب غرفته عليه ويبقى فيها عشرة أيام أو أكثر صائما جاهدا، وأخيرا يأتيه ملك الجن ويقول له: اطلب ما تريد. فيقول الشيخ: إن فلانا أصيب بالجنون، وأطلب منك أن تساعدني على شفائه. فيقول له ملك الجن: لبيك وسعديك قد أجيب طلبك. ولما تورمت امرأة الشيخ أحمد تلحوق، حتى ظن أنها حامل، وطال الزمن عليها ولم تلد ولا شفيت من الورم؛ أمر الشيخ بشير يده عليها فشفيت للحال وزال الورم كله، وأتي إليه بالشيخ يوسف تلحوق وهو مجنون جنونا مطبقا، فأبقاه عنده يومين ثم أرجعه إلى بيته صحيح الجسم والعقل.
وكانت كلما أوردت قصة من هذه القصص تستشهد على صحتها بأسماء كثيرين من الرجال المعروفين في البلاد، حتى لم تبق شبهة في نفس الأميرة هند وابنة سلفها أن كل ما كان الشيخ بشير يفعله هو من قبيل السحر الحقيقي، أما الأميرة سلمى فقالت: إن كان الشيخ بشير ماهرا إلى هذا الحد فلماذا لا يستعمل سحره فيما ينفعه وينفع أبناء عمه؟! وأنا لو كنت مكانه أقدر أن استخدم الجن لجعلتهم يملكونني الدنيا.
فصلبت أمها على وجهها، وقالت: اسكتي ولا تتكلمي بهذا الكلام! من منا ينكر الجن؟! ألم يستحضرهم عمك مرة، ولما رآهم ملئوا المكان الذي كان فيه وضاق بهم ذرعا وهم يرقصون حوله، لم ير سبيلا لصرفهم عنه إلا بأن أمرهم ليذهبوا وينقبوا له الأرض التي فوق نهر بيروت، فذهبوا ونقبوها كلها في ساعتين من الزمان، ولكنهم جعلوا جلالها ممتدة عرضا من أعلى إلى أسفل، فلا تصلح للزرع ولا لشيء، ثم عادوا إليه يطلبون عملا يعملونه له، فحار في أمره، وأخيرا التفت إلى ما حوله فرأى بلاسا أسود، فقال لهم: خذوه واغسلوه لي حتى يصير أبيض. فمضوا به يغسلونه وحتى الآن لم يعودوا، ولولا هذه الحيلة لخطفوا روحه.
صفحة غير معروفة
فصادقت أم يوسف على كلامها، وقصت عليهن قصة القديسة هندية التي كان ملك الجان يأتيها ليلا في شكل تيس من المعزى، فتركب عليه وتذهب به إلى بلاد الصين، وتعود منها بالحرير تدفعه إلى الخواجه جاماتي، وتذهب وترجع في ليلة واحدة من غير أن يشعر بها أحد، قالت: وقد اغتنى الخواجه جاماتي من الحرير الذي جلبته له من بلاد الصين، وها داره أمامنا على قمة سبنيه ولولا ذلك ما استطاع رجل فلاح أن يبني دارا مثل دور الأمراء.
فقالت الأميرة سلمى: سمعت أبي يقول إن الجاماتي كان يدين الأمراء، ويستد الحرير منهم بثمن بخس، ثم يبيعه لتجار الإفرنج بثمن غال وهذا سبب غناه.
فقالت لها أمها: من أين عرف أبوك ذلك والجاماتي نفسه يقول إن الحرير يأتيه من الصين؟!
فقالت الأميرة صفا: الحق مع سلمى، وأنا سمعت أن ميخائيل طوبيا صار أغنى من قارون من مشتراه الحرير من الأمراء والفلاحين بثمن بخس، وبيعه لتجار الإفرنج في مرسيليا.
فقالت أم يوسف: أنا لم أسمع أن ميخائيل طوبيا استخدم الجن مثل الجاماتي، ولكن لا أحد ينكر السحر واستخدام اللعين - خزاه الله. ثم قصت قصة رجل أراد آخر أن يقتله غيلة، فأتى أحد السحرة، وكتب له كتابة سحرية على قطعة من الشحم، ومضى وعلقها في مغارة عميقة، فجعلت الكتابة السحرية تذيب الشحم رويدا وريدا، وكلما ذاب منه شيء نحل جسم الرجل، حتى كاد يموت سلا وعجز الأطباء عن شفائه، وأخيرا استشاروا له أحد السحرة، فعرف بسحره أمر الشحمة، ففتشوا عنها حتى وجدوها ونزعوا الكتابة عنها، فسلم الرجل من الموت ثم شفي، ولولا ذلك لمات لا محالة.
فقالت سلمى: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يستعين الولاة بالسحر على التخلص من أعدائهم بدل المخاطرة بأنفسهم ورجالهم؟! أنا لا أصدق شيئا من ذلك.
فقالت أم يوسف: هاك قصة جرت للمرحوم أبي يوسف بالقرب من المكان الذي نحن فيه الآن، كان ذات ليلة راجعا من بيروت، وكان القمر بدرا، فلما وصل إلى الوروار سمع غناء وزغردة، فظن أن على الطريق أناسا آتين بعروس، ثم لما قرب من المطحنة علا الصوت كثيرا، وأتاه أربعة أولاد وهم يصفقون ويغنون ويقولون: يا أبا يوسف يا أبا يوسف، تعال انظر العروس. فسار معهم رغما عنه، حتى إذا وصل إلى قرب الماء رأى عروسا مجلوة وحولها جمهور غفير من الرجال والنساء، وهم بالحلى والحلل فقبضوا عليه وقالوا له: هلم نكتب الكتاب. فصلب يده على وجهه، فانشقت الأرض وابتلعت العروس وكل الذين كانوا معها. ولما قالت أم يوسف ذلك ارتجفت مفاصل الأميرة هند والأميرة صفا، وأما سلمى فقالت: إني معلمي قص علي قصة من هذا القبيل، وهي أنه كان سائرا مرة في طريق لم يسر فيه من قبل، فوصل إلى بئر سمع صوتا خارجا منها، فأطل وإذا في قعر البئر نساء يستقين ماء، فلم يشك أنهن من الجن، فأسرع العدو، ولما أتم غرضه من المكان الذي كان ذاهبا إليه خاف أن يعود في الطريق الذي ذهب فيه، فعاد في طريق آخر يمر من تحت البئر، وكان هناك درج يوصل إلى أسفل البئر والنساء ينزلن به ويستقين من الماء، فلو لم يمر في ذلك الطريق لاعتقد أنه رأى نساء الجن في البئر.
فقالت لها أمها: لا يمكننا إلا التصديق بوجود الجن، وأبوك يصدق بوجودهم والمطران أيضا، وكل واحد يصدق بوجودهم، وهم الذين رجموا بيت خالك بالحجارة، فقد فتشنا عن الراجمين كل مكان ولم نر أحدا. وقالت الأميرة صفا: دعونا من هذا الحديث، فقد صرت أخاف من خيالي ولا يمكنني أن أنام وحدي الليلة.
وقصت أم يوسف عليهن قصصا أخرى مضحكة فأطربتهن بعد أن خوفتهن بقصص السحر والجن، فمضى النهار ومالت الشمس إلى المغيب وهن لا يشعرن، ولما مر الأمير أحمد والتفت إليهن، ثم غض طرفه نظرت أم يوسف إلى الأميرة صفا، ثم نظرت كلتاهما إلى الأميرة سلمى فرأتاها قد احمرت وأطرقت إلى الأرض، فتغامزتا ولم تقولا شيئا، وكان العبيد قد أتوهن بالخيل فركبن وعدن إلى بيوتهن.
ودخلت الأميرة هند غرفة ابنتها في المساء، وقالت لها: أين كان أحمد يا ترى؟ الظاهر أنه لم ينظرنا، ألم تغيري فكرك من جهته؟ تقول خالتك إن عمه وأولاد عمه يحسبونه رئيس العائلة وركنها.
صفحة غير معروفة
فقالت سلمى: نعم، ولكنه درزي، وفوق ذلك فأنا لا أميل إليه مهما كان.
فقالت أمها: وأبوك لا يرضى بمجيد لأنه شاب خليع.
فقالت سلمى: ومن قال إني أريده؟! أنا لا أريد أحدا، ولا أريد أن أفارقك وأفارق أبي.
الفصل الرابع
ما وراء الستار
في دار فخيمة من دور الأستانة العلية التي تطل على البسفور، اجتمع جماعة من وكلاء الدولة وكبار العلماء، أتوها خفية الواحد بعد الآخر، وأوصدوا الأبواب وجلسوا ينظرون في أحوال السلطنة وما آلت إليه من الضعف، وجعل كل منهم يقص القصص المختلفة عن أحوال البلاد التي له فيها أصدقاء يكاتبونه منها أو التي كان مأمورا فيها.
وبعد أن نظروا في الداء مليا في قلة موارد الخزينة، وفيما آلت إليه حال الجيش بعد عودته من حرب القرم، وفي الاعتداء على الحدود؛ أخذوا ينظرون في الدواء، فأشار واحد منهم أن يعيدوا قراءة الفاتحة، وقسم اليمين المغلظة بأن لا يبوح أحد منهم بكلمة مما قيل ويقال في ذلك الاجتماع، فقرءوها وأقسموا كلهم على الكتمان واتباع الخطة التي يقع الإجماع عليها، ولا يعلم حتى الآن ما هي الأقوال التي قالوها، والآراء التي ارتأوها، ولكن يعلم أنهم أجمعوا أخيرا على أن يعملوا عملا يغيظ الدولة الأوروبية، ويجعلها تساعدهم على تغيير الحالة، وكان بعض المأمورين في سورية من حزبهم، فبعثوا إليهم من أطلعهم على القرار الذي أجمعوا عليه، وأهالي سورية غافلون، وسكان لبنان منهم لا ينبذون ضغائنهم وأحقادهم التي أضعفتهم وأذلتهم، فتعبث بهم الأهواء وينقادون صاغرين إلى كل من يدعي زعامتهم، وكيف لا تكون الحال كذلك وقد تسلط عليهم الجور والظلم قرونا طوالا ولسان حالهم يقول:
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد وللآباء أبناء
فاتفقت الكلمة في ذلك الاجتماع على إيقاد نار الثورة، وأن يكون القصد منها التنكيل بالنصارى لا انتقاما منهم، بل لغرض سياسي، وهذا شأن رجال السياسة في كل زمان يبيعون النفوس بيع السماح لأغراض يقصدونها، ولولا ذلك ما كان لنصف الحروب والثورات سبب معقول، وهم على هذا النمط من سالف عهدهم، وإنما يختلفون في الأساليب التي يبتدعونها، وقل من يستطيع أن يجاهر بالشكوى منهم أو يقول كما قال ذلك الأعرابي لعمر بن عبد العزيز:
صفحة غير معروفة
إن الذين بعثت في أقطارنا
نبذوا كتابك واستحل المحرم
طلس الثياب على منابر أرضنا
كل يجور وكلهم يتظلم
وأردت أن يلي الأمانة منهم
عف وهيهات الأمين المسلم
أو من يقول ما قاله المنصور قبلما ولي الخلافة:
حتى متى لا نرى عدلا نسر به
ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسكين بحق قائمين به
صفحة غير معروفة
إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له
وقائد ذي عمى يقتاد عميانا
ولا تحسبن العمران الغربي مزبلا لهذه الشكوى وشافيا من هذا الداء. كلا، بل إن مطامع أهل الغرب تفوق مطامع أهل الشرق، ودهاتهم من رجال المال ورجال السياسة يتذرعون إلى نيل مآربهم بكل وسيلة، ويستحلون كل عمل، فيدخل روادهم بلادا بعيدة، ويخاتلون صاحبها حتى يعاهدهم معاهدة لا بد له من الإخلال بها، ثم يتعقبونه إلى أن يستولوا على بلاده أو على خيراتها بحجة مخالفته لذلك العهد، ولا بد من ذلك ما دام هذا التنازع للبقاء سنة للكون. •••
في غرفة من غرف الدار الكبيرة التي يسكنها الأمير أحمد أرسلان، وقد سكنها أبوه وجده من قبله، جماعة من الأمراء والمشايخ والعقال اجتمعوا على أثر عودة الأمير أحمد من عند الكولونل روز، وتداولوا في أحوال الجبل، فقص عليهم الأمير ما قاله له الكولونل وما قاله الوالي، وجعل كل يبدي رأيه، ويعيد تاريخ الجبل، ويذكر أسباب الأحقاد القديمة من عهد آل تنوخ وآل معن، وتعرض الدول الأوروبية لإبراهيم باشا، وكيف استتبت السلطة للباب العالي على البلاد بمساعدة دولة إنكلترا، ولولاها ما استطاعت الدولة العلية أن تخرج إبراهيم باشا من بلاد الشام، بل كان نصف رجال الدروز الآن منتظمين في سلك الجنود المصرية.
وبعد كلام طويل في هذا الشأن تناول الحديث شيخ أشيب من التلاحقة، وقص عليهم ما فعله السنيور ود قنصل الإنكليز في دمشق الشام منذ ثماني عشرة سنة، لما هرب الأمير أمين أرسلان والأمير أسعد شهاب ونحو ألفين من الدروز إلى حوران فرارا من عمر باشا، الذي اعتقل أمراء الدروز ومشايخها، وكاد يوقع بكل عظيم منهم، فإن والي الشام أوجس منهم شرا، لا سيما وأنه يعلم ما فعل الدروز بعساكر إبراهيم باشا في تلك البلاد الوعرة، فجمع أعوانه واستشارهم في الأمر، فأشاروا عليه أن يلجأ إلى السنيور ود لكي يقنع الدروز بالعودة إلى الطاعة والرجوع إلى أوطانهم، والظاهر أن السنيور ود سر بذلك؛ لأنه كان يود أن يتوسط أمر الدروز من نفسه، ويخشى أن لا تقبل وساطته على حد قولهم «كل معروض مرفوض»، فقبل الوساطة على شرطين؛ الأول: أن يطلب العفو لأولئك الرجال من الباب العالي، والثاني: أن يؤمنوا على أرواحهم إلى أن يأتيهم العفو، فقال له الوالي أحمد باشا: إني أسمح لهؤلاء العصاة أن يقيموا في دار القنصلية إلى أن يصل فرمان العفو من الباب العالي، وأطلق كل أقاربهم الذين قبض عليهم وأدعهم يقيمون معهم في دار القنصلية.
فبعث السنيور ود ترجمانه إلى حوران، ومعه أمر الوالي بالمهادنة إلى حين وصول العفو من الأستانة، وكتب معه إلى الأمراء والمشايخ ضامنا لهم سلامتهم بناء على ضمانة الوالي له، وناصحا لهم لكي يسلموا وينزلوا إلى دمشق، وبعد أيام قليلة عاد الترجمان ومعه الأمير أسعد شهاب - وكان قد انضم إلى الدروز؛ لأنهم وعدوه بالولاية على الجبل - والشيخ يوسف عبد الملك وغيرهما من مشايخ الدروز وسبعمائة من أتباعهم، ومضى السنيور ود إلى الوالي بمشايخ الدروز، فرحب الوالي بهم، وأعطى كلا منهم شالا من الكشمير علامة العفو والرضا، ثم وصل بقية الدروز فضاقت بهم دار القنصلية، ورأى السنيور ود أنه يستحيل عليه أن ينزلهم كلهم في داره إلى أن يرد العفو من الأستانة، فسمح لهم الوالي بالعودة إلى بلادهم ما عدا سبعين من رؤسائهم بقوا في دمشق منتظرين فرمان العفو.
وبعد شهرين جاء الفرمان المنتظر، وفيه أمر صريح بالقبض على أولئك المشايخ وقتلهم وإرسال رءوسهم إلى الأستانة، وكان أحمد باشا قد عزل من ولاية دمشق، وولي علي باشا بدلا منه، فجاء كاخيته إلى دار القنصلية قبلما اشتهر ما في الفرمان، وقال لمشايخ الدروز: علام انقطعتم عن التردد على دولة الوالي؟! فتفضلوا واشربوا فنجان قهوة. فانخدع الشيخ يوسف عبد الملك بهذا الكلام، وسار معه إلى دار الولاية، فقبض عليه حالما وصلها، وبلغ السنيور ود ذلك، فهرع إلى دار الولاية، وأبى أن يجلس إلا ويطلق سبيل الشيخ، فأخبره الوالي بمضمون الفرمان، ثم قرأه له فالتفت إلى أحمد باشا، وكان جالسا مع علي باشا، وقال له: كيف كان الاتفاق بيني وبينك؟ ألم يكن على كذا وكذا؟! وقص على علي باشا واقعة الحال، ثم قال لأحمد باشا: إنك لو ذكرت للباب العالي واقعة الحال كما وقعت تماما، لجاء الفرمان بالعفو حتما، فأجاب أحمد باشا: إنني ذكرت لهم كل ما حدث بالتدقيق، فكانت النتيجة كما ترى، وقال علي باشا: لا بد لنا من العمل بالأمر العالي.
فقال السنيور ود: إن استطعتم أن تفعلوا ذلك فافعلوا، ولكن اعلموا أن إنكلترا لا تخفر ذمة قنصل من قناصلها.
ثم احتدم الجدال بينه وبينهما ثلاث ساعات على غير طائل، وأخيرا قالا له: إنك إن لم تسلمنا كل الرجال الذين عندك برضاك، اضطررنا أن نرسل قوة عسكرية ونستلمهم عنوة.
صفحة غير معروفة
فاطرق برهة يفكر في أمره، ثم قال لعلي باشا: نحن أصدقاء منذ عهد طويل ولي عليك جميل لا تنكره، فإذا كان لا بد لك من العمل حسب أمر الدولة، فأرجو من فضلك أن تنذرني قبل إرسال القوة العسكرية بنصف ساعة، حتى أخرج النساء والأطفال من دار القنصلية. فقال له علي باشا: وهل مرادك أن تقاومنا بالقوة؟
فقال القنصل: حتما ولا بد لي من الدفاع عن شرف القنصلية، ولا يمكن أن تمسوا أحدا من كل الذين في حمانا ما دمت في قيد الحياة، وأنت تعلم ما يفعل أناس مسلحون مثلنا إذا وقعنا في اليأس، ولا يخفى عليك أن الدولة الإنكليزية لا تدع نقطة من دمنا تذهب هدرا، فإذا شئت أن تلقي دولتك في المشاكل فافعل ما تشاء.
ثم نهض وهم بالخروج، فطلب إليه علي باشا أن يتمهل، وأخذ يفكر في أمره، ثم قال له: إني أعرف الإنكليز وأعرف مقدرتهم، ولا أريد أن أكون سببا للخلاف بينهم وبين دولتنا العلية، فآخذ العهدة على نفسي وأوقف الأمر العالي، وغاية ما يصيبني العزل أو الإبعاد، وهما أهون من حرب دولية.
ثم أمر بأن يطلق سبيل الشيخ يوسف عبد الملك، فعاد إلى دار القنصلية بين ستة من القواسة، واجتمع أهالي دمشق يرون مقدرة قنصل الإنكليز ويعجبون بها.
قال المتكلم: وبقينا في دار القنصلية سبعة أشهر؛ لأني كنت في جملة من لجأ إليها إلى أن جاء العفو من الأستانة، وقد بلغنا أن العفو صدر منها بواسطة سفير الإنكليز، فإذا كان قناصل الإنكليز وسفراؤهم يحموننا ويدافعون عنا أينما كنا، فكيف لا نسمع مشورتهم ولا نعمل حسب إرادتهم؟!
وكان المتكلم شيخا جليلا مسموع الكلمة، وكانت هذه الحادثة معروفة عند بعض الحضور، فشهدوا بصحتها، وكاد ينفض الاجتماع على أن لا يحركوا ساكنا، ولا يأتوا عملا من شأنه إثارة حرب أهلية في البلاد، ولكن قال واحد منهم قبل انفضاض المجلس: هب أن خصومنا اعتدوا علينا وتكرر اعتداؤهم، فهل نصبر على الضيم؟ فأجاب أكثر الحضور: كلا كلا. ثم اتفقوا على أن يرسلوا خبر ما قر عليه قرارهم إلى الخلوات كلها في الجبل ووادي التين وحوران.
ستأتي البقية ...
الفصل الخامس
سورية في البارلمنت الإنكليزي
غطى الضباب مدينة لندن، ووقفت المركبات عن السير والناس عن المشي، ولم تعد المصابيح ترى في الشوارع، فلم يصل الأعضاء إلى دار البارلمنت إلا بشق الأنفس، ولما انتظم عقدهم وجلس كل في مكانه حسب درجته، دارت المجادلات على نتائج الحرب بين النمسا وسردينيا، ومعاهدة زورك، وتنازل إمبراطور النمسا عن لمبرديا للإمبراطور نبوليون الثالث الذي أعطاها لسردينيا، وعلى ماجريات الحرب الأميركية الأهلية، والقبض على جون برون الذي غنم الترسانة الأميركية بعد أن قتل نصف رجاله، وعلى ما جرى لسفراء إنكلترا وفرنسا وأميركا في بلاد الصين وهم ذاهبون إلى بكين فصدوا عن دخولها، وطال البحث في هذه المسائل إلى ما بعد نصف الليل.
صفحة غير معروفة
وكان العضو النائب عن لنكشير قد طلب من مجلس النواب أن ينظر فيما شاع عن قرب نشوب الحرب في سورية، وعما يقال عن دسائس بعض الدول الأوروبية رغبة في احتلال تلك البلاد وإقفال أبوابها دون التجارة الإنكليزية، فلما حانت الفرصة للمناقشة في هذا الموضوع نهض وقال: إن لنا في سورية تجارة واسعة، فنرسل إلى مدينة بيروت في السنة ما ثمنه أكثر من ستمائة ألف جنيه، فإذا نشبت حرب أهلية هناك بارت تجارتنا، وإذا استولت عليها دولة أوروبية فقولوا على تجارتنا السلام، وأنا أسأل الرئيس عما عنده من الأخبار في هذا الصدد، وعن التحوطات التي اتخذتها الحكومة لمنع هذا الضرر عن التجارة الإنكليزية.
فقال الرئيس: إن الوزارة مهتمة بهذا الأمر تمام الاهتمام، وقد عقدت لجنة للبحث فيه، ومتى علمت الخبر اليقين لا تضن بإطلاع المجلس عليه.
فقال العضو: إننا لا نكتفي باطلاعنا على الأخبار؛ لأن عملاءنا في تلك البلاد يكتبون لنا بأخبارها كل أسبوع، ونحن نعلمها كما تعلمها الوزارة، وإنما يهمنا أن تتخذ الحكومة التدابير اللازمة لمنع الحرب الأهلية، وأن تذاكر الحكومة الطامعة باحتلال سورية، وتكف يدها عن ذلك.
فقال الرئيس: إن الوزارة مهتمة بهذه المسائل كلها، وهي ترجو أن تطرح على المجلس نتيجة أعمالها بعد وقت غير بعيد، ولا يخفى على حضرة العضو الكريم أن الوزارة تهتم بكل أمر له علاقة بنا، ولكنها لا تكفل النجاح في كل أمر؛ لأن زمام الدنيا ليس في يدنا.
ونهض المستر غلادستون حينئذ وكان ناظرا للمالية، وقال: إن مالية البلاد لا تمكن الوزارة من عمل كل ما تتمناه، ولكن الوزارة لا تضن بإنفاق المال إذا كان إنفاقه واجبا لتعزيز قوة البلاد وحفظ متاجرها. ثم قال: ولا يخفى على حضرة العضو الكريم أن جيوشنا تحارب الآن في بلاد الصين مع جيوش الدولة التي أشار إليها، ولنا كلينا مصلحة فلا ننتظر منها أن تسعى في عمل يكون من ورائه الإضرار بنا.
ففهم الأعضاء مع كلامه تهديدا خفيا، ولكنه لطيف لا يؤاخذ به.
وفي اليوم التالي اجتمعت اللجنة برئاسة لورد رسل وزير الخارجية، ونظرت فيما كتبه سفير إنكلترا في الأستانة عن ثورة الأفكار التي يراد بها خلع السلطان عبد المجيد بأية واسطة كانت، ولو بالتنكيل بالمسيحيين حتى تنهض دول أوروبا وتنتصر لهم، وفيما كتبه قنصلها في بيروت عن سعي فرنسا المتواصل في تحريض موارنة الجبل على مقاومة القوة بالقوة، ثم نظرت في تقرير غرفة التجارة عما تستورده سورية من منسوجات إنكلترا، وما تصدره إليها من الصوف وعرق السوس، وبعد بحث طويل في هذا الموضوع قر رأيها على ما تكتب به إلى سفيرها في الأستانة، وإلى سفيرها في باريس، وخلاصته السعي في منع الحرب الأهلية بكل واسطة ممكنة وحمل الدروز على الإخلاد إلى السكينة، وعدم الاغترار بمواعيد الولاة الذين يعدونهم بالمساعدة. •••
وفي تلك الليلة اجتمع جماعة من الماليين عند واحد منهم، ودار البحث على القرض الأخير الذي عقدته فرنسا، والقرض الثاني الذي طلبه فكتور عمانوئيل ملك سردينيا؛ ليستعين به على ضم ممالك إيطاليا بعضها إلى بعض.
فقال أحد الحضور واسمه ابن حاييم: إن القرض الأول مكن فكتور عمانوئيل من التغلب على النمسا، فإذا تيسر له بهذا القرض الثاني أن يضم ممالك إيطاليا بعضها إلى بعض، ويصير ملكا عليها كلها، نكون قد خدمنا أسرة سافوى خدمة لا مثيل لها جزاء دفاعها عنا.
وقال آخر: ليس من غرضنا أن نخدمه أو لا نخدمه، بل أن نستثمر أموالنا في بلاد نأمن عليها فيها، أما فرنسا فماليتها ثابتة وشعبها مجتهد مقتصد ولا خوف عليها مهما زاد دينها، وأما إيطاليا فبلاد فقيرة وأكثر خيراتها تذهب إلى خدمة الدين فيها، ولو علمنا أن حياة كاڤور تطول عشرين سنة أخرى لوثقنا أنه يصلح البلاد، ويبني مالية الحكومة على أساس وطيد، أما وأحوال إيطاليا لا تزال مرتبكة، والسلطة الدينية قوية فيها فلا يحسن المجازفة في تديين المال لها.
صفحة غير معروفة