ويدخل من هذه الأبواب إلى غرف كبيرة مفروشة بالبسط العجمية على جوانبها مقاعد من المخمل المعرق أو الحرير المحجر تنار بمصابيح مدلاة من السقف زجاجها ملون، وفيها منصات عليها مصابيح أخرى من نوع الطلمبا يوقد فيها زيت الزيتون، وفي وسط الغرفة كانون كبير من النحاس الأصفر أوقدت فيه نار الفحم لتدفئتها، فدخل الثلاثة غرفة من هذه الغرف وتداولوا في الانتقال إلى بيروت؛ لأن أصدقاءهم في أوروبا - ولا سيما في باريس ولندن - كتبوا إليهم أنه يخشى من حرب أهلية في بلاد الشام، وهم لا ناصر لهم، فأية فئة غلبت تطمع بأموالهم وتسلبها، أما بيروت فلا يخلو مرفؤها من سفينة أجنبية يلجئون إليها إذا دعت الضرورة.
وقال واحد منهم: إني لا أرى ما يخشى منه، فبالأمس استدان أمير من أمراء لبنان عشرين ألف غرش من محلنا في بيروت لتزويج ابنته، فما دام الناس يهتمون بالإنفاق على أفراحهم، فهم غير مشغولي البال بأمر مهم مثل الحروب الأهلية.
فقال آخر: وأنا جاءني من ابن خالي في دير القمر أن الناس هناك لا شغل لهم إلا صب الرصاص وعمل الفشك «الخرطوش»، وقد أخبروه صريحا أنهم ينتظرون ثورة عامة.
فقال الخواجه بخور: وهذا هو الصواب، فإن عملاءنا في كل مكان يقولون إن الفتنة كامنة الآن كالنار تحت الرماد، ولا بد من إيقاظها قريبا، ورأيي أن نستشير الأمير المغربي في أمر انتقالنا، فإني أعتقد فيه الإخلاص، فأجمعوا على أن يستشيروه ويفعلوا حسب مشورته.
الفصل التاسع
العرس والميدان
خصت بلاد الشام بإقليم لا أعدل منه على وجه البسيطة، ساحلها من المنطقة الحارة ينبت فيه النخيل والصبر والبرتقال، ويقتني سكانه الإبل لحمل أثقالهم، وجبالها يكللها الثلج أكثر فصل الشتاء والربيع، وينبت فيها الأرز والبربريس، وتقيم فيها الدباب والأرنب، والبلاد بين بين الاعتدال بعينه لا ينبت نبات في المنطقة المعتدلة، إلا ويجود فيها التين والزيتون والكرم والتوت واللوز والجوز والمشمش والتفاح والليمون والرمان والصنوبر والسنديان والدلب والشربين والورد والياسمين. كل شجر مثمر وغير مثمر، وكل نبت مزهر وغير مزهر، فصول أربعة تتوالى في مواقيتها كأنها جارية على قواعد الحساب.
الخريف بوسميه يعد الأرض للزرع، والشتاء بمزنه يخترق طبقاتها، ويروي جذور أشجارها ويمد مياه ينابيعها ويفعم غدرانها وأنهارها، ويأتي الربيع بشآبيبه فيروي نباتها حتى يزهر ويثمر، ثم تمسك السماء عن المطر ستة أشهر متوالية بين الاعتدالين من أواسط الربيع إلى أواسط الصيف، فتنضج الأثمار وتتيسر الأعمال، وإذا ترفه المرء وأراد الابتعاد عن الساحل فلا أكثر من أن يسير ساعتين، فيصل مكانا هواؤه عليل وماؤه نمير، كأنه انتقل من وادي النيل إلى جبال الألب.
ولكن مهما كثر الخير والمير في بلاد صغيرة كبلاد الشام لا تستوفي أسباب الحضارة ما لم يكن لأهلها بضاعة يتجرون بها، حتى يشتروا بثمنها ما لا يجدونه في بلادهم من الحاجيات والكماليات، فإذا كثر عندهم الحديد فقد ينقصهم النحاس، وإذا كثر الحرير فقد ينقصهم الكتان، وإذا كثرت الفضة فقد ينقصهم الذهب.
ولقد كان السوريون أهل تجارة من قديم الزمان، بل هم أول من ركب السفن وخاض البحار وضرب بالقوافل شرقا وغربا، وامتدت تجارتهم من الهند إلى إسبانيا على طول نصف الكرة الشرقي، وساروا بسفن سليمان إلى جنوبي أفريقية، وما ذلك إلا لأنهم وجدوا في بلادهم من البضائع ما تروج سوقه في سائر البلدان، وتقلبت الدول وكرت القرون بغيرها وأهالي الشام يسعدون ويشقون، ولكنهم لم ينفكوا عن التجارة برا وبحرا، ومرت بهم سنون تشيب الولدان، وابتلوا بولاة كأنهم زبانية الحجيم، ولكنهم لم يفقدوا خصب أرضهم وكبر همتهم.
صفحة غير معروفة