57 -
فالقياس إذن هو أمر ما مركب وله أجزاء عنها يتركب. وكثير من المركبات التي لها أجزاء لأجزائها أيضا أجزاء، والمقاييس بهذه الحال - أعني أن لها أجزاء ولأجزائها أجزاء أيضا. فأجزاء أجزائها تسمى الأجزاء الصغرى، وأجزاؤها أنفسها تسمى الأجزاء العظمى. والحال في ذلك كالحال في البيت، فإنه مركب وله أجزاء وهي الحيطان والسقوف، وللحائط أجزاء وهي اللبن والطين، وللسقوف أجزاء وهي القصب والخشب، واللبن هو جزء جزء البيت، والحائط هو جزء البيت. فأجزاء المقاييس العظمى تسمى المقدمات. وأجزاء المقدمات - وهي أجزاء أجزاء القياس وأجزاء المقاييس الصغرى - هي المعقولات المفردة وهي المعاني التي تدل عليها الألفاظ المفردة مثل قولنا إنسان، فرس، ثور، حمار، بياض، سواد، وما أشبه ذلك، فإن المعاني التي تدل عليها هذه الألفاظ وما أشبهها تسمى المعقولات المفردة. وإذا تركبت المعقولات المفردة حدثت مقدمات، وهي معقولات ما مركبة، وهي من جزئين مفردين. وهذه المعقولات المركبة - وهي المقدمات - هي التي تدل عليها الألفاظ المركبة التي أحد جزئي المركب منها مسند والآخر مسند إليه. وإذا تركبت المقدمات بعضها إلى بعض ورتبت ترتيبا حدثت عنها المقاييس. ولما كانت الأمور العامية التي تسوق الذهن إلى الانقياد المطلق تتقدم معرفتها معرفة أصناف تلك الأمور، لزم أن تكون المقاييس على الإطلاق تتقدم معرفة أنواع المقاييس وأصناف الأمور التي تضاف إلى أنواع المقاييس. ولما كانت الأشياء المركبة يلزم منها ضرورة متى قصدنا إلى معرفتها أن تتقدم لنا المعرفة بالأشياء التي عنها تركبت، وكانت المقاييس مركبة عن مقدمات، لزم ضرورة إن كان قصدنا معرفة أمور المقاييس أن نتقدم فنعرف قبل ذلك أمور المقدمات. ولما كانت المقدمات أيضا مركبة عن المعقولات المفردة، لزم ضرورة أن تتقدم لنا معرفة أمر المعقولات المفردة. ولما كانت هذه لا تنقسم إلى معقولات أخر، لم يمكن أن يكون في هذه الصناعة شيء أسبق من المعقولات المفردة. فقد ظهر بهذا القول أجزاء هذه الصناعة ومراتب أجزائها. وليس يعسر عليك أن ترتب كل جزء من هذه المواضع الأليق به من الصناعة.
10 -
58 -
وقصدنا الآن الشروع في صناعة المنطق
فينبغي أن نفتتح النظر في هذه الصناعة بما قد قيل إن العادة قد جرت أن يفتتح به في كل كتاب. فالغرض في هذه الصناعة هو تعريف جميع الجهات وجميع الأمور التي تسوق الذهن إلى أن ينقاد الحكم ما على الشيء أنه كذا أو ليس كذا - أي حكم كان - والتي بها تلتئم تلك الجهات والأمور.
59 -
ومنفعة هذه الصناعة أنها هي وحدها تكسبنا القدرة على تمييز ما تنقاد إليه أذهاننا هل هو حق أو باطل، والجملة فإنها تكسب القوة أو الكمال الذي ذكرناه في الكتاب الذي قبل هذا. وذلك أنا متى عرفنا أصناف انقيادات الذهن والأمور التي يسوق واحد واحد منها إلى واحد واحد من انقيادات الذهن أمكننا في كل حكم انقادت له أذهاننا أو ذهن غيرنا أن نعلم أي انقياد هو ذلك الانقياد وأي الأمور ساق الذهن إلى ذلك الانقياد، ونعلم طبيعة تلك الأمور التي تسوق الذهن إلى انقياد لحق أو باطل وإلى أي مقدار من الانقياد تسوق تلك الأمور، هل إلى انقياد هو يقين أو مقارب لليقين أو دون ذلك.
60 -
صفحة ٢٥