الدراية في بيان ضوابط نقد الرواية عند الصحابة

عبد القادر المحمدي ت. غير معلوم

الدراية في بيان ضوابط نقد الرواية عند الصحابة

تصانيف

الدراية في بيان ضوابط نقد الرواية عند الصحابة ﵃ الأستاذ الدكتور عبد القادر مصطفى المحمدي أستاذ الحديث في كلية أصول الدين المقدمة إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فمثلما أنّ الملائكة أمناء الله في السماء، فالصحابة الكرام هم أمناء الله تعالى في الأرض، إذ وقعت على كاهلهم مهمة جسيمة، وأمانة خطيرة، هي نقل دين الله تعالى وتبليغه للناس، فكانوا وزراء النبي ﷺ في تبليغ رسالته، فطوّفوا الأرض شرقًا وغربًا فما استكانوا وما وهنوا في حفظ الدين وتبليغه. وهذا التكليف خصيصة من الله تعالى إذ اختار لنبيه ﷺ أصحابًا هم خير جيلٍ ظهر في التاريخ، آووا ونصروا وبذلوا وضحوا، ولم يدخروا نفيسًا في سبيل الله تعالى. وكان من أهم المهام التي قام بها الصحابة الكرام هي حفظ أحاديث النبي ﷺ ونقلها للناس، ولمّا كان هذا الحديث المنقول دينًا يتعبد به كان الصحابة لا يقبلون كل حديث يروى عن النبي ﷺ هكذا، بل تعاملوا مع الرويات وفق ضوابط ثابتة، يلحظ المتتبع أنها مشتركة بينهم في الغالب الأعم، حاولنا في بحثنا هذا الموسوم (الدراية في بيان ضوابط نقد الرواية عند الصحابة ﵃)، حاولنا من خلاله استقراء الضوابط الرئيسة التي اعتمدها الصحابة الكرام في قبول الرواية أو ردها في حياة النبي ﷺ وبعد وفاته. والمشكلة الأساس التي يعالحها بحثنا: هي لما كان كثير من الجهلة والمنتحلين يثيرون اشكالات حول نقل الروايات عن النبي ﷺ وطريقة وصولها إلينا، زاعمين أنْ لم تكن للصحابة ضوابط للتثبت في نقل الأحاديث، وأنّ بعض الصحابة توسعوا في رواية الأخبار وتناقلها دون استيثاق من صحة صدورها من النبي ﷺ، فأردرنا في هذه الدراسة المقتضبة تسليط الضوء على منهج الصحابة الكرام في التثبت في قبول الرويات، واستقراء الضوابط التي اعتمدوها في نقدهم للرواية. وأما عن أهم الدراسات التي سبقتني في هذا الموضوع، فقد وجدت أنّ غالب الدراسات التي تحدثت عن موضوع النقد عند المحدثين تعرضت لمنهج التابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم في مسالك النقد الحديثي، ونادرًا من تطرق إلى ضوابط الصحابة الكرام في النقد، ربما لصعوبة توجيه النصوص وفق قواعد عامة أو

1 / 2

لسبب آخر، فالذي اردناه ههنا وضع بصمة معينة في هذا الطريق، وفتح باب لباحث متخصص متوسع يستفيض بالبحث والجمع، ولا أخالها مهمة صعبة إن شاء الله تعالى. وقد وجدت بعض الأساتذة والباحثين قد تطرقوا إلى الأسس العامة للنقد عند اهل الحديث، ومن انفعها كتاب (مقاييس نقد متون السنة) للدكتور مسفر الدميني، وكتاب (توثيق السنة في القرن الثاني الهجري اسسه واتجاهاته)، للدكتور رفعت فوزي، وكتاب: (منهج النقد في علوم الحديث) للدكتور نور الدين عتر، و(حوار حول منهج المحدثين في نقد الروايات سندًا ومتنًا)،للشيخ عبد الله بن ضيف الله الرحيلي، وكتاب (منهج النقد عند المحدثين)،للدكتور محمد علي قاسم العمري، و(أسباب تفوق الصحابة في ﵃ في ضبط الحديث) للأستاذين د. سلطان العكايلة ود. محمد عيد الصاحب، وهي كتب قيمة ونافعة، لكنها لا تتحدث في مناهج المحدثين ومسالكهم في النقد، ولا تتطرق إلى مناهج الصحابة وضوابطهم، إلا نزرًا قليلًا، وأعمق من تحدث عن ذلك الدكتور الدميني، فجزاهم الله كل الخير على ما قدموا. وهكذا حاولنا في هذا البحث أن نأصل لمسالة في غاية الأهمية، تيبن من خلالها الدور الكبير للصحابة الكرام في التنقيب والتفتيش عن الرواية ومسالك نقدهم لها. وجاء البحث في ثلاثة مباحث رئيسة: ففي المبحث الأول: بينا مفهوم الصحبة، وتعرضنا لدورهم في كتابة السنة وحفظها. وجاء في أربعة مطالب: في المطلب الأول: عرفنا بالصحابي، وبينا أقوال أهل العلم فيه. وفي المطلب الثاني: بينّا طرق ثبوت الصحبة. وخصصنا المطلب الثالث: لذكر الأدلة على فضلهم ومنزلتهم من الكتاب والسنة. أما المطلب الرابع فتحدثنا فيه عن مراتب الصحابة، وعقيدة أهل السّنّة في تفضيل الصّحابة. وجاء المبحث الثاني في بيان جهود الصحابة في تدوين السنة، وتطرقنا لبعض الصور المتميزة لهذه الجهود. أما المبحث الثالث فخصصناه في ضوابط النقد عند الصحابة الكرام، وجاءت في خمسة ضوابط: ففي الضابط الأول: تحدثنا عن عرضهم الرواية على النبي ﷺ حال حياته. وفي الضابط الثاني: تعرضنا لعرضهم الرواية على القرآن الكريم. أما الضابط الثالث: فخصصناه لعرض الرواية على المحفوظ من السنة النبوية (بعد وفاته ﷺ).وفي الضابط الرابع: ذكرنا عرضهم الرواية على كبار الصحابة. أما الضابط الخامس: فكان في عرضهم الرواية على أزواج النبي ﷺ.وجاء الضابط السادس: في تحريهم من صاحب القصة، ثم ختمنا بأهم النتائج.

1 / 3

واخيرًا نقول: هذا جهد المقل وبضاعة مزجاة، فإن كانت صوابًا فما هي إلا بتوفيق الله وحده وإن كانت الاخرى فمن ضعفي وتقصيري، والحمد لله رب العالمين. المبحث الأول: مفهوم الصحبة، ودور الصحابة في كتابة السنة النبوية وحفظها المطلب الأول: من هو الصّحابيّ أولًا: الصّحابيّ لغة: قال ابن سيدة:" الصُحبة - المعاشرة صحِبَه صُحبة وصَحابة وصِحابة وَصَاحبه والصاحب - المعاشِر" (١). ثانيًا: الصّحابيّ في اصطلاح المحدثين: قال الحافظ العراقي:" فالعبارة السالمة من الاعتراض أن يقال الصحابي من لقي النبي ﷺ مسلما ثم مات على الإسلام؛ ليخرج من ارتد ومات كافرًا" (٢). وقال ابن حجر:"وهو من لقي النبيَّ ﷺ مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة في الأصح. والمراد باللقاء: ما هو أعم: من المجالسة، والمماشاة، ووصول أحدهما إلى الآخر، وإن لم يكالمه، ويدخل فيه رؤية أحدهما الآخر، سواء كان ذلك بنفسه أم بغيره. والتعبير باللقي أولى من قول بعضهم: الصحابي من رأى النبي ﷺ؛ لأنه يخرج ابن أم مكتوم، ونحوه من العميان، وهم صحابة بلا تردد" (٣). وقال السّيوطيّ:" ولا يشترط البلوغ على الصّحيح، وإلا لخرج من أجمع على عدّه في الصّحابة" (٤). فالصحابي هو من لقي النبي ﷺ حال حياته ومات على الاسلام. وقولنا: (من لقي النّبيّ ﷺ): يشمل كل من لقيه في حياته، وأمّا من رآه بعد موته قبل دفنه ﷺ فلا يكون صحابيّا كأبي ذؤيب الهذليّ الشّاعر فإنه رآه قبل دفنه (٥). وقولنا: (مسلمًا): خرج به من لقيه كافرًا وأسلم بعد وفاته، كرسول قيصر فلا صحبة له. وقولنا: (ومات على إسلامه): خرج به من كفر بعد إسلامه ومات كافرًا (٦).

(١) ابن سيدة، المخصص ٣/ ٤٢٩. (٢) المصدر نفسه ٢/ ١٢٠. (٣) ابن حجر، نزهة النظر ص١٤٠ - ١٤١. (٤) السيوطي، تدريب الرّاوي ٢/ ٢١١. (٥) ينظر: ابن عبد البر، الاستيعاب ٤/ ١٦٤٨. (٦) ينظر: ابن حجر، نزهة النظر ٢/ ١٤٠.

1 / 4

أما من ارتدّ بعده ثم أسلم ومات مسلمًا، فقال العراقيّ: "فيهم نظر، لأن الشّافعيّ وأبا حنيفة نصّا على أن الردّة محبطة للصّحبة السابقة، كقرّة بن ميسرة والأشعث بن قيس" (١). وجزم الحافظ ابن حجر ببقاء اسم الصّحبة له كمن رجع إلى الإسلام في حياته، كعبد اللَّه بن أبي سرح (٢). المطلب الثاني: طرق ثبوت الصحبة (٣): أولًا: التّواتر، وهو رواية جمع عن جمع يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وبقيّة العشرة المبشّرين بالجنّة- ﵃. ثانيًا: الشّهرة أو الاستفاضة، كما في أمر ضمام بن ثعلبة، وعكاشة بن محصن، وياسر والد عمار ﵃. ثالثًا: أن يروى عن آحاد الصّحابة أنّه صحابي، كما في "حممة بن أبي أحممة الدّوسي" الّذي مات بأصبهان مبطونًا فشهد له أبو موسى الأشعريّ أنه سمع النَّبيَّ ﷺ حكم له بالشهادة، هكذا ذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان (٤). رابعًا: أنْ يخبر أحد التّابعين بأنّه صحابي بناءً على قبول التّزكية من واحد عدل وهو الرّاجح. خامسًا: أن يخبر هو عن نفسه بأنّه صحابيٌّ بعد ثبوت عدالته ومعاصرته، فإنّه بعد ذلك لا يقبل ادّعاؤه بأنّه رأى النبيَّ ﷺ أو سمعه، لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: " أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنّه على رأس مائة سنة منه لا يبقى أحد ممّن على ظهر الأرض أحد " (٥).

(١) العراقي، شرح الألفية ٢/ ١٢٠. (٢) ابن حجر، نزهة النظر ص١٤١،وينظر: العراقي، شرح الألفية ٢/ ١٢٠. (٣) ينظر: ابن حجر، نزهة النظر ص١٤٠،والسخاوي، فتح المغيث ٤/ ٩٠ - ٩١، والسيوطي، تدريب الراوي ٢/ ١٠٨ وأبو شهبة، الوسيط، ص٧٦٧. (٤) أبو نعيم، تاريخ اصبهان ١/ ٩٩. (٥) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (١١٦)، ومسلم، المسند الصحيح ٤/ ١٩٦٥ (٢٥٣٧) وغيرهما.

1 / 5

يريد بهذا انخرام ذلك القرن، وقد قال النبي ﷺ ذلك في سنة وفاته، ومن هذا المأخذ لم يقبل الأئمّة قول من ادّعى الصّحبة بعد الغاية المذكورة. وقد ذكر الحافظ ابن حجر ضابطا يستفاد منه معرفة جمع كثير من الصّحابة يكتفى فيهم بوصف يتضمّن أنهم صحابة، وهو مأخوذ من ثلاثة آثار (١): أحدها: أنهم كانوا لا يؤمّرون في المغازي إلا الصّحابة، فمن تتبّع الأخبار الواردة من الرّدة والفتوح وجد من ذلك الكثير. ثانيها: أن عبد الرّحمن بن عوف قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي ﷺ فدعا له، وهذا أيضا يوجد منه الكثير. ثالثها: أنه لم يبق بالمدينة ولا بمكّة ولا الطّائف ولا من بينها من الأعراف إلا من أسلم وشهد حجّة الوداع، فمن كان في ذلك الوقت موجودًا اندرج فيهم، لحصول رؤيتهم للنبيّ ﷺ وإن لم يرهم هو. المطلب الثالث: فضلهم ومنزلتهم في الكتاب والسنة: نصَّ القرآن الكريم على فضلهم وتزكيتهم في آيات كثيرة منها: قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (٢). وغيرها من الآيات. وفي نصوص السّنّة النبويّة المشرّفة أمثلة كثيرة منها: عن أبي سعيد عن النّبي ﷺ قال: " لا تسبّوا أصحابي، فو الّذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه" (٣). وعن عبد اللَّه بن مغفّل المزنيّ قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "اللَّه اللَّه في أصحابي، اللَّه اللَّه في أصحابي لا تتّخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللَّه، ومن آذى اللَّه فيوشك أن يأخذه" (٤).

(١) ابن حجر، الإصابة ١/ ١٦١. (٢) سورة التوبة/ ١٠٠. (٣) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (٣٦٧٣) ومسلم، المسند الصحيح ٤/ ١٩٦٧ - ١٩٦٨ (٢٥٤١). (٤) أخرجه أحمد، المسند ٤/ ٨٧، التّرمذي، الجامع ٥/ ٦٥٣،وغيرهما.

1 / 6

وعن عمران بن حصين قال: قال رسول اللَّه ﷺ:" خير أمّتي القرن الّذي بعثت فيهم، ثمّ الَّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم" (١).قال ابن عبّاس:" أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم اللَّه لنبيه ﵇" (٢). فالصحابة كلهم عدول، وهم أمناء الله في أرضه، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة، عن أبيه، قال: صلينا المغرب مع رسول الله ﷺ، ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء قال فجلسنا، فخرج علينا، فقال: "ما زلتم هاهنا؟ " قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب، ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال:" أحسنتم أو أصبتم " قال فرفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون (٣). قال الإمام النّوويّ: "الصّحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتدّ به" (٤). وقال أبو زرعة الرّازيّ:" إذا رأيت الرّجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول اللَّه ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أنّ الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة، وهؤلاء الزّنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسّنّة فالجرح بهم أولى" (٥). قال ابن الصّلاح: "ثم إنّ الأمة مجمعة على تعديل جميع الصّحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتدّ بهم في الإجماع؛ إحسانا للظّنّ بهم ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن اللَّه ﷾ أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشّريعة" (٦). قال الخطيب البغداديّ في الكفاية مبوبًا على عدالتهم:"ما جاء في تعديل اللَّه ورسوله للصّحابة، وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم، وإنما يجب فيمن دونهم كل حديث اتّصل إسناده بين من رواه وبين النّبيّ ﷺ لم يلزم

(١) أخرجه مسلم، المسند الصحيح ٤/ ١٩٦٤ (٢٥٣٥)، وغيره. (٢) البغوي، شرح السنة ١٤/ ٦٨. (٣) المصدر نفسه ٤/ ١٩٦١ (٢٥٣١). (٤) النووي، التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث ص٩٢. (٥) ابن عساكر، تاريخ دمشق ٣٨/ ٣٢. (٦) ابن الصلاح، مقدمة علوم الحديث ص٢٩٥.

1 / 7

العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النّظر في أحوالهم سوى الصّحابي الّذي رفعه إلى رسول اللَّه ﷺ، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل اللَّه لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن" (١). والأخبار في هذا المعنى تتّسع، وكلها مطابقة لما ورد في نصّ القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصّحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل اللَّه تعالى لهم، المطّلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له. المطلب الرابع: مراتب الصحابة، وعقيدة أهل السّنّة في تفضيل الصّحابة قد أجمع أهل السّنّة والجماعة على أنّ أفضل الصّحابة بعد النّبيِّ ﷺ على الإطلاق: أبو بكر ثم عمر ﵄. قال القرطبي:"ولم يختلف أحد في ذلك من أئمّة السّلف ولا الخلف، فقال: ولا مبالاة بأقوال أهل التّشيّع ولا أهل البدع، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته" (٢). وقال البيهقيّ:" روينا عن أبي ثور عن الشّافعيّ، قال: ما اختلف أحد من الصّحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصّحابة، وإنما اختلف من اختلف منهم في عليّ وعثمان" (٣). وقال العلّامة ابن الهمّام:" فضل الصّحابة الأربعة على حسب ترتيبهم في الخلافة، إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند اللَّه تعالى، وذلك لا يطلع عليه إلاّ رسول اللَّه ﷺ وقد ورد عنه ثناؤه عليهم كلهم، ولا يتحقّق إدراك حقيقة تفضيله ﵇ لبعضهم على بعض إن لم يكن سمعيّا يصل إلينا قطعيّا في دلالته إلا الشاهدين لذلك الزمان، لظهور قرائن الأحوال لهم، وقد ثبت ذلك لنا صريحًا ودلالة كما في صحيح البخاريّ من حديث عمرو بن العاص حين سأله ﵇: من أحبّ النّاس إليك من الرّجال؟ فقال: "أبوها". يعني عائشة ﵂ وتقديمه في الصّلاة على ما قدّمنا مع أن الاتّفاق على أن السّنّة أن يقدم على القوم أفضلهم علما، وقراءة، وخلقًا، وورعًا، فثبت أنّه كان أفضل الصّحابة، وصحّ من حديث ابن عمر في صحيح البخاريّ قال:"كنا في زمن النّبيِّ ﷺ لا نعدل بأبي بكر أحدًا ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي ﷺ لا نفاضل بينهم" (٤).وصحّ فيه من حديث محمّد بن الحنفيّة: قلت لأبي: "أيّ النّاس خير

(١) الخطيب، الكفاية ص٤٧. (٢) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ٨/ ١٤٨. (٣) البيهقي، الاعتقاد ص٣٦٩. (٤) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (٣٤٩٤).

1 / 8

بعد رسول اللَّه ﷺ؟ فقال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت قال: ما أنا إلاّ واحد من المسلمين" (١).فهذا عليّ نفسه مصرّح بأن أبا بكر أفضل النّاس، وأفاد بعد ما ذكرنا تفضيل أبي بكر وحده على الكلّ، وفي بعض ترتيب الثّلاثة، ولما أجمعوا على تقديم عليّ بعدهم دلَّ على إنّه كان أفضل من بحضرته وكان منهم الزّبير وطلحة فثبت أنّه كان أفضل الخلق بعد الثلاثة. هذا واعتقاد أهل السّنّة تزكية جميع الصّحابة والثناء عليهم، كما أثنى اللَّه ﷾ عليهم إذ قال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ً﴾ (٢)." (٣). فمنهج أهل الحق من المسلمين احترام الصحابة، وتوقيرهم، والترضي عنهم أجمعين، ونترك ما شجر بينهم، فهم خير البشر بعد النبيين. المبحث الثاني: جهود الصحابة في تدوين السنة: لم يدخر الصحابة الكرام جهدًا في تحمل أمانة الدين وتبليغه، فطوفوا المشارق والمغارب لنشره وتبليغه للناس، باذلين الغالي والنفيس في ذلك، ومن يقرأ التاريخ بإنصاف لا يملك إلا أن يقف لهم بكل احترام وتبجيل، ولا يتنكر لهم إلا جاحد أو حاقد. ولهم الفضل بعد فضل الله ثم فضل رسوله ﷺ في إخراجنا من براثن الشرك والوثنية وإدخالنا في هذا الدين العظيم. ومثلما كان لهم الفضل في الفتوحات الاسلامية، كان لهم الفضل في حفظ السنة النبوية ونشرها بين الناس، ويمكن إيجاز دورهم الكبير في حمل السنة وتبليغها بما يلي: ١ - حفظ الروايات، وأعني به حفظ الصدر وحفظ الكتاب، إذ تميز كثير من الصحابة بحفظ أحاديث النبي ﷺ في صدورهم، حتى تفرّغ لها بعضهم -كأصحاب الصفة- فكان جلّ حياته تتبع الروايات وحفظها، وكان من أحفظهم الصحابي الجليل أبو هريرة ﵁، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ﵁ قال:": " ما من أصحاب النبي ﷺ أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب " (٤).

(١) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (٣٤٦٨). (٢) سورة آل عمران/ ١١٠. (٣) ابن الهمام، المسايرة ١٦٦ - ١٦٨. (٤) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (١١٣)، ومسلم، المسند الصحيح ٤/ ٢٢٩٨ (٣٠٠٤)، وغيرهما.

1 / 9

وكان بعض الصحابة يتنابون على حضور مجالس النبيِّ ﷺ فأخرج الشيخان من حديث عمر ﷺ أنه قال:"كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله ﷺ ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك ..... "الحديث (١).وهذا يدل على حرصهم على حفظ حديث النبي ﷺ. وأما عن كتابة الحديث وحفظه في الصدور والسطور، فقد كتب بعض الصحابة في حياة النبي ﷺ كما في صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد كان لبعض كبار الصحابة صحف دونوا فيها بعض الأحاديث، وما هذا إلاّ من حرصهم عليه، وهو جهد كبير في حماية الحديث من الضياع أو النسيان، إذ كتب أسيد بن حضير الأنصاري ﵁ بعض الأحاديث النبوية، وقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، وأرسله إلى مروان بن الحكم (٢). وكتب جابر بن سمرة ﵁ بعض أحاديث رسول الله ﷺ وبعث بها إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص بناءً على طلبه ذلك منه (٣). وكتب زيد بن أرقم ﷺ بعض الأحاديث النبوية وأرسل بها إلى أنس بن مالك ﵁ (٤). وكتب زيد بن ثابت في أمر الجَدِّ إلى عمر بن الخطاب ﵁ وذلك بناء على طلب عمر نفسه (٥). وجمع سمرة بن جندب ما عنده من حديث رسول الله ﷺ وبعث به إلى ابنه سليمان، وقد أثنى الإمام محمد بن سيرين على هذه الرسالة فقال: "في رسالة سمرة إلى ابنه علمٌ كثير" (٦). ومن ذلك أيضًا حثهم على كتابة الحديث وتقييده، فروى عن عمر بن الخطاب وعن عبد الله بن عباس ﵁، أنهما كانا يقولان: "قيدوا العلم بالكتاب" (٧). وجاء عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال: "من يشتري مني علمًا بدرهم" (٨).

(١) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (٨٩)،ومسلم، المسند الصحيح ٢/ ١١١١ (١٤٧٩)، وغيرهما. (٢) ينظر: أحمد، المسند ٤/ ٢٢٦. (٣) أخرجه أحمد، المسند ٥/ ٨٩، ومسلم، المسند الصحيح ٣/ ١٤٥٣ (١٨٢٢). (٤) ينظر: أحمد، المسند ٤/ ٣٧٠ - ٣٧٤، وابن حجر، تهذيب التهذيب ٣/ ٣٩٤. (٥) الدارقطني، السنن ٤/ ٩٣ - ٩٤. (٦) ابن حجر، تهذيب التهذيب ٤/ ٢٣٦ - ٢٣٧، وينظر: أبو داود، السنن (٤٥٦). (٧) ابن نقطة، تقييد العلم ص: ٩٢،وابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله١/ ٧٢. (٨) أبو خيثمة، العلم ١/ ٣٨.

1 / 10

قال أبو خيثمة:"يقول: يشتري صحيفةً بدرهمٍ يكتب فيها العلم" (١). ٢ - تدوينهم الحديث في صحف: أخرج البخاري بسنده عن ثمامة أنّ أنسًا ﵁ حدّثه أنّ أبا بكر ﵁ كتب له -في زكاة الحيوان-التي أمر الله رسوله ﷺ:" ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء " (٢). وأخرج مسلم في صحيحه أنّ عليًا ﵁ سُئل: أخصكم رسول الله ﷺ بشيء؟ فقال:" ما خصنا رسول الله ﷺ بشيء لم يعم به الناس كافة، إلاّ ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: " لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا" (٣). ومن هذه الصحف أيضًا: * صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، المعروفة بالصحيفة الصادقة. عن مجاهد قال: "أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة من تحت مفرشه، فمنعي، قلت: ما كنت تمنعني شيئًا، قال: هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله ﷺ ليس بيني وبينه أحد" (٤). هذه الصحف الثلاث كلها كتبت في حياته ﷺ، وهناك غيرها كثير مما كتب في حياته ﷺ. * صحيفة عبد الله بن أبي أوفى، ذكرها الإمام البخاري في كتاب الجهاد من "صحيحه، فأخرج بسنده من طريق سالم أبي النضر، أنّ عبد الله بن أبي أوفى، كتب فقرأته: إنّ رسول الله ﷺ قال: "إذا لقيتموهم فاصبروا" (٥)

(١) المصدر نفسه. (٢) البخاري، الجامع الصحيح (١٣٨٠). (٣) مسلم، المسند الصحيح ٣/ ١٥٦٧ (١٩٧٨). (٤) ابن نقطة، تقييد العلم ص ٨٤، وابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله ١/ ٧٣، وهي صحيفة مشهورة، وينظر: الإمام أحمد، المسند ٢/ ١٥٨ - ٢٢٦. (٥) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (٢٦٧٨)،وينظر: ابن حجر: فتح الباري ٦/ ٤٥.

1 / 11

٣ - دقتهم وتحريهم وأمانتهم: أخرج مسلم من حديث عقبة بن عامر ﵁، قال: كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي فأدركت رسول الله ﷺ قائما يحدث الناس فأدركت من قوله: «ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة» قال فقلت: ما أجود هذه فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود فنظرت فإذا عمر قال: إني قد رأيتك جئت آنفا، قال: " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " (١). ٤ - احتياط الصحابة والتابعين في رواية الحديث: ومن هذا ما رواه عمرو بن ميمون قال: ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه قال: فما سمعته بشيءٍ قط قال: (قال رسول الله ﷺ) فلما كان ذات عشية قال: " قال رسول الله ﷺ، قال: فنكس، قال: فنظرت إليه، فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبًا من ذلك أو شبيهًا بذلك" (٢). وبدأ التحذير من الكذب على النبي ﷺ في وقت مبكر، فاوّل من حذر منه هو النبي ﷺ نفسه فأخرج البخاري من حديث المغيرة بن شعبة ﵁ " إنّ كذبا علي ليس ككذب على أحد من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " (٣). وكذا كان الصحابة يحتاطون جدًا في رواية الحديث خشية من التحريف أو التبديل، فكان بعضهم لشدة حذره يمتنع عن الرواية، وكان بعضهم يقول عقب الحديث (أو نحوه، أو بعناه ..). ولهذا كان الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ يحتاطون جدًا من قبول الأحاديث، أورد الحافظ الذهبي عند ترجمة أبي بكر الصديق ﵁:"وكان أوّل من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءة إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، ما علمت أنّ رسول لله ﷺ ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله ﷺ يعطيها السدس فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر ﵁ " (٤).

(١) أخرجه مسلم، المسند الصحيح١/ ٢٠٩ (٢٣٤). (٢) أخرجه ابن ماجه، السنن (٢٣). (٣) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (١٢٢٩). (٤) الذهبي، تذكرة الحفاظ ١/ ٢، والدهلوي، حجة الله البالغة ١/ ١٤١.

1 / 12

وقال في ترجمة عمر ﵁:"وهو الذي سنَّ للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب، فروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له، فرجع، فأرسل عمر في أثره، فقال: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاث، فلم يجب، فليرجع"، قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك، فجاء أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس، فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم، كلنا سمعه، فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره، أحبَّ عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر، ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم، ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد، وقد كان عمر من وجله أن يخطئ الصاحب على رسول الله ﷺ يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم، ولئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن" (١). وهذا الاحتياط لا يعني انهم كتموا شيئًا من السنة كما يروج له أهل البدع ويطبل به اذنابهم عبر وسائل الأعلام، فالصحابة أعرف الناس بأثم من كتم شيئًا من الدين، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ً﴾ (٢). ولا سيما أنّ النبيَّ ﷺ يقول:" من كتم علمًا يعلمه جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار" (٣). وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن الأعرج قال: قال أبو هريرة: إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن النبي ﷺ والله الموعد أنكم تقولون ما بال المهاجرين لا يحدثون عن رسول الله ﷺ بهذه الأحاديث وما بال الأنصار لا يحدثون بهذه الأحاديث وأنّ أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم صفقاتهم في الأسواق وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضوهم والقيام عليها وإنّي كنت امرأ معتكفًا وكنت أكثر مجالسة رسول الله ﷺ أحضر إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا وأنّ النبي ﷺ حدثنا يوما فقال:" من يبسط ثوبه حتى أفرغ من حديثي ثم يقبضه إليه فإنه ليس ينسى شيئا سمعه مني أبدًا". فبسطت ثوبي أو قال: نمرتي ثم قبضته إليَّ

(١) الذهبي، تذكرة الحفاظ ١/ ٦ - ٧. (٢) سورة البقرة/١٥٩. (٣) أخرجه أحمد، المسند ٢/ ٤٩٩.

1 / 13

فوالله ما نسيت شيئا سمعته منه وأيم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدًا ثم تلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ الآية (١) ". (٢). وأخرج مسلم من حديث أبي أيوب ﵁، أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله ﷺ، سمعت رسول الله ﷺ، يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم" (٣). والسبب الرئيس في تأخير تبليغ الحديث هو إما اكتفاءً بغيره من الصحابة ممن روى الحديث أو ربما اجتهادًا من الصحابي أنّ الحديث قد يتخذه بعض الناس ذريعة في تقصيرهم في العبادة، ومن ذلك انّ معاذ بن جبل ﵁ حين حضرته الوفاة قال: اكشفوا عني سجف القبة، أحدثكم حديثا سمعته من رسول الله ﷺ. وقال مرة: أخبركم بشيء سمعته من رسول الله ﷺ،لم يمنعني ان أحدثكموه إلاّ أنْ تتكلوا سمعته يقول: "من شهد أنْ لا إله إلاّ الله مخلصًا من قلبه أو يقينًا من قلبه لم يدخل النار أو دخل الجنة". وقال مرة:"دخل الجنة ولم تمسه النار " (٤).فالاحتياط والتثبت لا يتعارض مع التبليغ، والصحابة الكرام ﵃ بلّغوا ما سمعوا وأدوا ما يجب عليهم تأديته، ولم يكتموا شيئًا من الدين. المبحث الثالث: ضوابط نقد الرواية عند الصحابة الكرام: من خلال التتبع للأحاديث النبوية نجد أن الصحابة الكرام كانت لهم سبل متعددة يتبعونها من أجل ضبط قبول الرواية أو ردها، وهو ينم عن حرصهم على سنة نبيهم، وحمايتها من الدخلة والمنتحلين، ولاسيما أن الله تعالى تكفل بحفظ الكتاب الكريم، وصار على عاتقهم حماية السنة النبوية، فكانوا أحق بحمل هذه الأمانة وأهلها، فهم خير جيلٍ عرفه التاريخ. ومن هذه الضوابط:

(١) سورة البقرة/١٥٩. (٢) أخرجه أحمد، المسند ٢/ ٢٧٤. (٣) أخرجه مسلم، المسند الصحيح ٤/ ٢٠١٥ (٢٧٤٨). (٤) اخرجه احمد، المسند ٥/ ٢٣٥.

1 / 14

الضابط الأول: عرض الرواية على النبي ﷺ حال حياته: وهذا من أعظم أسباب حماية السنَّة، فهم وإنْ كانوا خير ناس، ولم يفشي بينهم الكذب، إلاّ أنهم تحرجوا من كثرة التحديث، والقبول من كل أحد، فكان بعضهم يأتي النبي ﷺ يسأله عن أمر ينسب إليه ﷺ،ومن ذلك: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، قال: كنا قعودًا حول رسول الله ﷺ، معنا أبو بكر، وعمر في نفر، فقام رسول الله ﷺ من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا، فقمنا، فكنت أوّل من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله ﷺ حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار، فدرت به هل أجد له بابًا؟ فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة - والربيع الجدول - فاحتفزت، فدخلت على رسول الله ﷺ، فقال: "أبو هريرة" فقلت: نعم يا رسول الله، قال: "ما شأنك؟ " قلت: كنت بين أظهرنا، فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط، فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: "يا أبا هريرة" وأعطاني نعليه، قال: "اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أنْ لا إله إلاّ الله مستيقنًا بها قلبه، فبشره بالجنة". فكان أوّل من لقيت عمر، فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله ﷺ، بعثني بهما من لقيت يشهد أنْ لا إله إلاّ الله مستيقنًا بها قلبه، بشرته بالجنة، فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله ﷺ، فأجهشت بكاء، وركبني عمر، فإذا هو على أثري، فقال رسول الله ﷺ: "ما لك يا أبا هريرة؟ " قلت: لقيت عمر، فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي، قال: ارجع، فقال رسول الله ﷺ: "يا عمر، ما حملك على ما فعلت؟ " قال: يا رسول الله، بأبي أنت، وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد أنْ لا إله إلاّ الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: "نعم ".قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال رسول الله ﷺ: "فخلهم" (١). فعمر بن الخطاب ﵁ لم يقبل الرواية عن النبي ﷺ من أبي هريرة ﵁ أولًا، حتى عرضه على النبي ﷺ ليتأكد من صحة الخبر، وهذا لا يعني تهمة لأبي هريرة، فربما لو جاء بهذا الخبر من جاء من الصحابة لتثبت عمر ﵁ من النبي ﷺ، اللهم إلاّ ابا بكر الصديق، لعظم مكانته عندهم، وقد مرت أمثلة تؤيد ذلك.

(١) أخرجه مسلم، المسند الصحيح ١/ ٥٩ (٣١)،وغيره.

1 / 15

فكان عمر - الملهم- قد اجتهد في احتمال استغلال بعض ضعاف القلوب لهذا الحديث في التسويف في الاعمال، والتقصير في الطاعات (الاتكال)،كما عبر عنه عمر ﵁، فأقره النبيُّ ﷺ على اجتهاده. وقد فعل مثل فعل عمر ﵁ بعض الصحابة، ومن ذلك انّ معاذ بن جبل ﵁ حين حضرته الوفاة قال: اكشفوا عني سجف القبة أحدثكم حديثًا سمعته من رسول الله ﷺ ". وقال مرة: أخبركم بشيء سمعته من رسول الله ﷺ لم يمنعني ان أحدثكموه إلاّ أنْ تتكلوا سمعته يقول: "من شهد ان لا إله الا الله مخلصا من قلبه أو يقينا من قلبه لم يدخل النار أو دخل الجنة" وقال مرة:"دخل الجنة ولم تمسه النار " (١). قال النووي:" وأما دفع عمر ﵁ له-يريد أبا هريرة- فلم يقصد به سقوطه وإيذاءه بل قصد رده عما هو عليه وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره " (٢). وهنا نكتة عظيمة وهي سماع النبيِّ ﷺ لرأي أصحابه والنزول عنده! وهذا في منتهى الرحمة والتواضع النبوي، وهو تربية لأمته من بعده. قال القاضي عياض:" وليس فعل عمر ومراجعة النبيِّ ﷺ في ذلك اعتراضًا عليه ورد الأوامر، إذ ليس فيما وجّه به أبا هريرة (٣) غير تطييب قلوب أمته وبشراهم، فرأى عمر أنّ كتم هذا عنهم أصلح لهم، وأذكى لأعمالهم، وأوفر لأجورهم ألاّ يتكلوا، وأنه أعود بالخير عليهم من مُعَجَّلة هذه البشرى، فلما عرض ذلك على النبيِّ ﷺ صوّبه له، وقد يكون رأي عمر للعموم وأمر النبيِّ ﷺ للخصوص، وخشى عمر إنْ حصل فى الخصوص أنْ يفشو ويتسع. وفى هذا الحديث من الفقه والذى قبله: إدخال المشورة على الإمام من أهل العلم والدين ومن وزرائه وخاصته .. " (٤). وتأمل بعد قول النبي ﷺ لمعاذ، وكان رديفه على الرحل:"يا معاذ بن جبل. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك- ثلاثا- قال: "ما من أحد يشهد أنْ لا إله

(١) اخرجه أحمد، المسند ٥/ ٢٣٥. (٢) النووي، شرح مسلم ١/ ٢٢٨. (٣) في المطبوع (معاذ)،والصواب ما أثبتناه، وهو في إحدى نسخ الكتاب كما نبه المحقق في الهامش. (٤) القاضي عياض، إكمال المعلم شرح صحيح مسلم١/ ٢٦٤.

1 / 16

إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه، إلاَّ حرمه الله على النار". قال يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: "إذا يتكلوا " وأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا" (١). قال الحافظ:"فكأن قوله ﷺ لمعاذ أخاف أنْ يتكلوا كان بعد قصة أبي هريرة فكان النهي للمصلحة لا للتحريم فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ والله أعلم" (٢). وهنا يتضح أنّ خشية التكاسل والاتكال إنما كانت متوقعة من ضعاف الإيمان أو المؤلفة قلوبهم، والدليل أنّ النبيَّ ﷺ خصّ بها بعض أصحابه كأبي هريرة، ومعاذ. قال المهلب:" فيه أنه يجب أن يُخَصَّ بالعلم قوم لما فيهم من الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لقصير فهمه، كما فعل ﷺ " (٣). الضابط الثاني: عرض الرواية على القرآن الكريم وهذا الضابط في الأصل استعمله الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ،إذ لو كان النبي ﷺ حيًّا لردوا اختلافهم إليه. ومن أمثلة هذا الضابط، وأمثلته كثيرة: ما أخرجه أحمد في مسنده عن قتادة عن أبى حسان الأعرج انّ رجلين دخلا على عائشة فقالا: إنّ أبا هريرة يحدث أنّ نبي الله ﷺ كان يقول: "إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار". قال: فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن نبي الله ﷺ كان يقول:"كان أهل الجاهلية يقولون الطيرة في المرأة والدار والدابة". ثم قرأت عائشة: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ (٤) إلى آخر الآية" (٥). وقد وقع اختلاف واضح بين أهل العلم في هذا الحديث بين مقّرٍ ونافٍ له، والحديث لم ينفرد به أبو هريرة، بل رواه ابن عمر ﵁ (٦) وغيره، وليس الموضع موضع دراسته، وأنقل هنا كلام الإمام القرطبي في توجيه

(١) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (١٢٨) و(١٢٩)،من حديث أنس بن مالك ﵁. (٢) ابن حجر، فتح الباري ١/ ٢٢٨. (٣) ابن بطال، شرح صحيح البخاري ١/ ٢٠٧. (٤) سورة الحديد /٢٢. (٥) أخرجه أحمد، المسند ٦/ ٢٤٦. (٦) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (٥٤٣٨) وغيره.

1 / 17

الحديث، إذ قال:"ولا يظن بمن قال هذا القول: أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقد فيها، وتفعل عندها، فإنَّها كانت لا تقدم على ما تطيرت به، ولا تفعله بوجه بناء على أن الطيرة تضر قطعًا، فإنَّ هذا ظن خطأ، وإنما يعني بذلك: أن هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه، ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه، ويسكن له خاطره، ولم يُلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه، أو مع امرأة يكرهها، بل قد فسح له في ترك ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعَّال لما يريد، وليس لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود" (١). ومنه ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي إسحاق، قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس، أن رسول الله ﷺ، لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفًا من حصى فحصبه به، فقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال عمر:"لا نترك كتاب الله وسنة نبينا ﷺ لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله ﷿: ﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ (٢) " (٣). فعمر ﵁ عرض خبر فاطمة بنت قيس على القرآن الكريم، فرآه يخالفه، فالقرآن نصّ على السكنى للمطلقة، وفاطمة روت حادثة لها مع النبي ﷺ معارضة لهذا، فعمر ﵁ ردّ حديثها معللًا ذلك بانها واحدة لعلها نسيت أو اخطأت في نقلها أو فهمها للحديث، وللعلماء في الحديث أقوال فلتنظر في محلها. ومنه ما أخرجه الطبراني من حديث طارق بن شهاب قال: سألت عبد الله عن امرأة أرادت أن تجعل من حجها عمرة فقال:" ألم تسمع الله يقول: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ (٤) ما أرى هؤلاء إلا أشهر الحج " (٥). والحقيقة أنّ هذا المنهج (عرض الرواية على القرآن الكريم) قد علّمه النبي ﷺ لأصحابه، فمنه ما أخرجه تمام الرازي في فوائده بسنده عن أم مبشر، قالت: كنت في بيت حفصة فقال رسول الله ﷺ: "لا

(١) القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص شرح مسلم ١٨/ ١٠٤. (٢) سورة الطلاق/١. (٣) أخرجه مسلم، المسند الجامع ٢/ ١١١٨ (١٤٨٠). (٤) سورة البقرة/١٩٧. (٥) الطبراني، المعجم الكبير٩/ ٣٤٢ (٩٧٠٣).

1 / 18

يدخل النار إنْ شاء الله أحد شهد بدرًا والحديبية". قالت: فقالت حفصة: ألست تسمع الله يقول: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ (١)، فقال:" أولست تسمعين الله ﷿ يقول: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا﴾ (٢) " (٣). وكذا الموقف التاريخي العظيم لأبي بكر الصديق في أوّل امتحان حقيقي للصحابة في وفاة النبي ﷺ،إذ أخرج البخاري من حديث أمِّ المؤمنين عائشة: أنّ رسول الله ﷺ مات وأبو بكر بالسنح، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله ﷺ.قالت وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله ﷺ فقبله، قال: بأبي أنت وأمي طبت حيًا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا ﷺ فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت. وقال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ (٤). وقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (٥). . فنشج الناس يبكون ..... " (٦). فالقرآن الكريم البوصلة الصحيحة التي لا يضل من تمسك بها، ولا يزيغ عنها إلا هالك. وهكذا يجد الباحث أنّ الصحابة الكرام جعلو من القرآن الكريم ضابطًا لهم في قبول الرواية أو ردها، ولا سيما بعد وفاة النبي ﷺ. الضابط الثالث: عرض الرواية على المحفوظ من السنة النبوية (بعد وفاته ﷺ -). ومن الضوابط التي اعتمدها الصحابة الكرام في نقد الراويات عرضها على الثابت المحفوظ من الأحاديث، وقد نفعهم في هذا قربهم من النبي ﷺ ومجالستهم. ومن ذلك: ما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان ﵁ بمكة وجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس ﵃ وإني لجالس بينهما أو قال

(١) سورة مريم /٧١. (٢) سورة مريم /٧١. (٣) تمام الرازي، الفوائد (١٢٧٥). (٤) سورة الزمر/٣٠. (٥) سورة آل عمران/١٤٤. (٦) البخاري، الجامع الصحيح (٣٤٦٧).

1 / 19

جلست إلى أحدهما ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي فقال عبد الله بن عمر ﵄ لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإنّ رسول الله ﷺ قال:" إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ". فقال ابن عباس ﵄ قد كان عمر ﵁ يقول بعض ذلك ثم حدث قال صدرت مع عمر ﵁ من مكة حتى إذا كنا بالبيداء إذا هو بركب تحت ظل سمرة فقال أذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ قال فنظرت فإذا صهيب فأخبرته فقال: ادعه لي فرجعت إلى صهيب، فقلت: أرتحل فالحق أمير المؤمنين فلما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول وا أخاه وا صاحباه. فقال عمر ﵁: يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله ﷺ:" إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ". قال ابن عباس ﵄ فلما مات عمر ﵁ ذكرت ذلك لعائشة ﵂ فقالت: رحم الله عمر والله ما حدّث رسول الله ﷺ إنّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله ﷺ قال:"إنّ الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه".وقالت حسبكم القرآن ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (١) قال ابن عباس ﵄ عند ذلك: والله هو أضحك وأبكى" (٢). قال الحافظ:" وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل بما استشعرته من معارضة القرآن" (٣). قال القرطبي:" قال علماؤنا: وإنما حملها على ذلك أنها لم تسمعه، وأنه معارض للآية. ولا وجه لإنكارها، فإن الرواة لهذا المعنى كثير، كعمر وابنه والمغيرة بن شعبة وقيلة بنت مخرمة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم. ولا معارضة بين الآية والحديث، فإن الحديث محمله على ما إذا كان النوح من وصية الميت وسنته، كما كانت الجاهلية تفعل" (٤). وقد وقع خلاف في الحديث بشكل كبير، بعضهم ذهب إلى مذهب السيدة عائشة ﵂، وبعض ذهب المذهب الآخر، وبعضهم وفّق بينهما كما فعل الإمام البخاري إذ بوب في صحيحه (باب قول النبي ﷺ "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه ". إذا كان النوح من سنته) (٥).

(١) هذه جزء من آية وردت في سورة: الانعام /١٦٤والإسراء/ ١٥،وفاطر/١٨والزمر/٧. (٢) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح (١٢٢٦) و(١٢٢٨) و(١٢٣٠)، ومسلم، المسند الصحيح ٢/ ٦٤١ (٩٢٧و٩٢٨و٩٢٩) وغيرهما. (٣) ابن حجر، فتح الباري ٣/ ١٥٤. (٤) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن ١٠/ ٢٣١. (٥) البخاري، الجامع الصحيح١/ ٤٣٠ باب ٣٢، وينظر: ابن حجر، فتح الباري ٣/ ١٥٤.

1 / 20

فأم المؤمنين عارضت حديث عمر وغيره من الصحابة بما تحفظه من سنّة المصطفى ﷺ، وبفهمها لكتاب الله تعالى. ومنه ما أخرجه الطحاوي من طريق عروة بن الزبير، قال: بلغ عائشة ﵂: أنّ أبا هريرة يقول: إنّ رسول الله ﷺ قال:" لأنْ أمتع بسوط في سبيل الله، أحب إلي من أن أعتق ولد الزنا، وإن رسول الله ﷺ قال: ولد الزنا شر الثلاثة، وإن الميت يعذب ببكاء الحي". فقالت عائشة: رحم الله أبا هريرة أساء سمعًا فأساء إجابة" (١). قال الطحاوي:" قول رسول الله ﷺ الذي ذكره عنه أبو هريرة: " ولد الزنى شر الثلاثة " إنما كان لإنسان بعينه كان منه من الأذى لرسول الله ﷺ ما كان منه مما صار به كافرًا شرًا من أمه، ومن الزاني بها الذي كان حملها به منه" (٢). فأم المؤمنين عائشة ﵂ ردّت حديث أبي هريرة ﵁ بما تحفظه من حديث النبي ﷺ، وقد يكون كذلك من معارضته – بفهمها واجتهادها – للقرآن لكريم، ويؤيده ما جاء في أحد طرق الحديث أن عائشة ﵂ كانت إذا قيل لها: هو شر الثلاثة (يعني ولد الزنا)، عابت ذلك وقالت: "ما عليه من وزر أبويه، قال الله: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (٣) " (٤). ومنه أيضًا ما أخرجه أبو داود من حديث عدي بن ثابت الأنصاري: حدثنى رجل أنّه كان مع عمّار بن ياسر بالمدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمّار وقام على دكان يصلى والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله ﷺ يقول:" إذا أم الرجل القوم فلا يقم فى مكان أرفع من مقامهم ". أو نحو ذلك، قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي" (٥).فحذيفة ﵁ إنما انتقد فعل عمار بما يحفظه من سنة النبي ﷺ.

(١) أخرجه الطحاوي، مشكل الآثار (٩١٠)،والحاكم، المستدرك على الصحيحين ٢/ ٢١٥،والبيهقي، معرفة السنن والآثار ١٤/ ٣٤٣. (٢) الطحاوي، شرح المشكل ٢/ ٢٦٩. (٣) هذه جزء من آية وردت في سورة: الانعام /١٦٤والإسراء/ ١٥،وفاطر/١٨والزمر/٧. (٤) أخرجه عبد الرزاق، المصنف (١٣٨٦٠) و(١٣٨٦١)،والحاكم، المستدرك ٤/ ١٠٠، والبيهقي، السنن ١٠/ ٥٨. (٥) أبو داود، السنن (٥٩٨) وروي عن أبي مسعود ﵁ أيضًا كما في السنن (٥٩٧)،وهو مما يعضد هذا الحديث.

1 / 21