ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
58

ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي

تصانيف

إنني لن أستطيع أن أفهم ما هو اللامعنى حتى أفهم أولا ما هو المعنى؛ أي إن السلب لا بد أن يتقدمه الإيجاب، والنفي والتأكيد؛ فالإنسان وحده - وهذا مثل مشهور نستشهد به - هو الذي يعرف أن البيت ليس هو كومة من التراب والأنقاض، وأن كومة التراب والأنقاض ليست بيتا، ولكنه يعرف ذلك لمعرفته سلفا ما هو البيت وما هي كومة التراب والأنقاض.

154

إن كامي حين يتحدث عن المعنى يسأل نفسه إن كان من الممكن أن يكون هناك معنى فيما لا معنى له، وأن يكون في حكم يقرر ألا معنى هنالك مع ذلك شيء من المعنى. إن المعنى لا يكون للحكم الإيجابي فحسب، بل إنه يكون كذلك وقبل كل شيء للحكم النافي أو السالب (وتاريخ الديالكتيك من هيراقليط إلى يومنا هذا عامر بالأمثلة التي تؤكد القوة الوجودية والمنطقية الكامنة في السلب والعدم، مما لا نستطيع في هذا المجال أن نفصل القول فيه)؛ فحكم كهذا: «العالم لا معنى له، أو العالم محال » يمكن أن يكون حكما ذا معنى، وإن كان ينطق بتجرد العالم من كل معنى، إنه يعطينا حكما سلبيا أو حكما نافيا، وحكم السلب أو النفي يظل حكما على كل حال.

وقد أشرنا فيما تقدم إلى الأسباب التي جعلت الإنسان يصل إلى هذا الحكم الساخط الأليم، ولعل أهم هذه الأسباب التي تجعل الوجود عديم المعنى في نظر إنسان المحال هو الموت، أو هو انعدام كل شيء بعد أن أموت. إنه بمعنى آخر إمكانية عدم إمكان وجودي، وبقاء العالم غير المبالي مع ذلك على حاله. إنه عدمي في مقابل وجود العالم أو هو العالم بعدي بدون وجودي.

155

وليس من العسير أن نرى كيف أن هذه اللامعنية (إن صحت هذه الكلمة!) أو المحالية لا يمكن أن تكون مطلقة. إنها تظل تجربة متعلقة بأولئك الذين ينعدم في نظرهم كل شيء بعد الموت. ولكنها تفقد قيمتها بالنسبة لمن يؤمن بوجود شيء بعد الموت، أو لمن يؤمن بأن الحياة الحقة والوجود الحق لا يبدآن إلا بعد أن تنتهي الحياة وينعدم الوجود من هذه الأرض.

والحق أن التجرد المطلق من كل معنى، أو المحالية المطلقة، من وجهة نظر منطقية بحتة، لا بد وأن تفترض وجود العدم المطلق الذي يسبقها، والذي لا يكون من معنى فيه إلا للامعنى، وبالتالي للتأكيد الذاتي في هذه «اللامعنية».

156

ولكن هذه اللامعنية أو هذا الانعدام المطلق لكل معنى يناقض نفسه بنفسه. ويبدو أن من الصعب علينا أن نتحدث عن اللامعنية المطلقة بمثل ما يصعب علينا الحديث عن العدم المطلق؛ ذلك أننا من الناحية الصورية البحتة لا نستطيع أن نقول شيئا عن العدم؛ لأن كل مقال فهو بالضرورة عن موجود أو عن نحو من أنحاء الوجود، أضف إلى هذا أنه لا بد أن يكون ثمة معنى نقيس عليه اللامعنى؛ أي إننا لا بد أن نعرف أولا ما هو معنى العالم لكي نحدد من بعد متى وكيف يتجرد من هذا المعنى. وإذن فنحن لا نملك إلا أن نتحدث عن لا معنى إضافي أو عدم وجود أو عدم إضافي، لا عن لا معنى مطلق أو عدم مطلق.

ومن المستحيل كذلك أن يصح للمحالية المطلقة وجود. ولقد بين كامي كيف أن مثل هذا المنطق العدمي - منطق اللامعنى والمحلية المطلقة - منطق فاسد، لا بل منطق يؤدي إلى إراقة الدماء. وقد وضح ذلك حين عرض علينا مصائر تراجيدية ثلاثة وهي الصديق الألماني

صفحة غير معروفة