فأنا أستطيع من الناحية العملية، أن أحدد جميع الأحاسيس اللامعقولة التي لا تقبل التحليل، ومن بينها الإحساس بالمحال، وأن أتعرف على قيمتها العملية، وذلك بأن أضم مجموعة الظواهر المترتبة عليها في نظام عقلي واحد، وأحاول فهم الصور التي تتجلى فيها وأقومها وأترسم عالمها.
9
ولما كانت المعرفة على اختلاف صورها مستحيلة عند كامي،
10
فسوف نلجأ إلى منهج التحليل، نحصي بواسطته الصور التي يظهر بها الشعور بالمحال ونصف عالمها ونتعرف على جوه.
فالشعور بالمحال شعور مفاجئ، غير منتظر، مجرد عن كل عزاء. قد يباغتنا عند منعطف شارع، وقد يستولي علينا ونحن نباشر أكثر أعمالنا اليومية سخفا. إنه تجربة شخصية وحيدة، لا سبيل إلى توصيلها للآخرين.
هذا الشعور بالمحال قد يرجع إلى أسباب كثيرة، أول ما يؤكده كامي منها هو طابع الآلية الذي تتسم به حياتنا التي نعيشها كل يوم: «يقظة، ترام، أربع ساعات في المكتب أو المصنع، طعام، ترام، أربع ساعات من العمل، طعام، نوم، اثنين، ثلاثاء، أربعاء، خميس، جمعة، سبت، دائما وأبدا نفس الإيقاع. لقد طالما كان هذا طريقا مريحا.»
11
هذا الإيقاع الآلي الرتيب الذي تسير عليه حياتنا اليومية يقابله إيقاع آلي آخر ينتظم أفعالنا وسلوكنا؛ فليس اللامعنى من حولنا فحسب، ولكنه كامن كذلك في نفوسنا؛ فالإحساس بالضيق وعدم الارتياح الذي تثيره فينا لاإنسانية الإنسان قد تسببه ملاحظة عادية نراها كل يوم ولكننا لا نلتفت إليها إلا على حين فجأة: «إنسان يتحدث في التليفون ووراء حائط زجاجي.» نحن لا نسمعه ولكن نرى حركاته وإيماءاته الخالية من كل معنى، ونسأل أنفسنا «لماذا يعيش؟» وهكذا نحيا حياتنا المتعبة ولا نلتفت إلى متاعبها، ونعيش أيامنا الرتيبة ولا ندهش لما فيها من رتابة، حتى يأتي يوم يستيقظ فيه الإحساس بالمحال فجأة وعلى غير انتظار، ليوقظ فينا الإحساس بالقرف والملال. بهذا «القرف»
12
صفحة غير معروفة