هذه الثنائية الحاسمة للحظتين متضادتين هي التي تكون علاقة التوتر الديالكتيكي الكامنة في الوجود نفسه، التي سميناها بالتمزق، وقلنا عنها إنها هي جوهر التمرد. إن كل لحظة منهما تشغل مكانها داخل توتر ذي قطبين، لا تتلقى معناها من ذاتها وحدها، بل تتلقاه كذلك من القطب المضاد لها، أو من علاقة التضاد نفسها. هذا الاستقطاب الديالكتيكي يتخلل أعمال كامي ويطبعها بطابعه. إن في الحرمان الامتلاء، كما أن في الفرحة اليأس، وفي محالية الحياة زيادة الإقبال على الحياة، كما أن في النفي التأكيد، وفي التمرد الموافقة والترحيب. وما المحال والتمرد سوى قطبين متقابلين لنفس علاقة التوتر الديالكتيكي التي لا سبيل إلى رفعها أو التغلب عليها.
يعلمنا الديالكتيك أن الوحدة تأتي بعد التضاد.
7
والحق أننا نلمح في تفكير كامي محاولة تهدف إلى تحقيق المركب الخلاق،
8
تتبين لنا في الديالوج وفي الإبداع الحي في مجالات الفن والعمل والأخلاق. غير أن هذه المرحلة الثالثة والأخيرة من كل تطور ديالكتيكي، التي تسعى إلى الوصول إلى وحدة الأضداد في الفكر والشعور، وتبغي حل المتناقضات في التاريخ والفن، مرحلة لم يصل إليها تفكير كامي ولا كان في استطاعته أن يصل إليها؛ فطبيعة تفكيره نفسها تحول بينه وبين بلوغ الانسجام بين الأضداد أو التخفيف من حدة الصراع الناشب في قلب الوجود نفسه. إن الحقيقة تتطور فيه على نحو ديالكتيكي وجودي، يعبر عن قلق الفكر المتمرد الذي يصارع المحال في مظاهره الميتافيزيقية والتاريخية المختلفة؛ ومن ثم كان تفكير كامي في صميمه محاولة لغزو هذه الحقيقة التي تعذبه في كل لحظة غزوا متجددا، وإلقاء الضوء عليها بكل ما يملك من وسائل الفن والتعبير.
9
هذه الحقيقة تتكشف من خلال الصراع الدائم بين التمرد والمحال. وليس المحال والتمرد - وما هما بالرفض المطلق ولا الموافقة المطلقة بل ينطويان عليهما جميعا - في نهاية الأمر إلا التمزق المتصل الذي يعانيه الإنسان الباحث عن التوازن في عالم يفيض بالاضطراب، وعن الحد والمقياس في عصر أفلت من كل حد ومقياس. إنهما معا يظلان أسيري علاقة التضاد الحادة التي أشرنا إليها.
إن الموقف المحال الذي يحيط بالوجود الإنساني والتمرد المتصل عليه يتميزان بطابع التضاد الأساسي. وكون هذا التضاد لا يقبل «الرفع» هو الذي يميز طبيعته. وكل من يقبل الموضوع ويرفض نقيضه إنما يهدر معنى الموقف الإنساني كله. وكل من يحاول الوصول إلى مركب التأليف، إنما يحطم في الوقت نفسه هذا الموقف ويفقده معناه. وليس للموقف من معنى إلا أن يعاش التضاد فيه بكل ما ينطوي عليه من حدة وتوتر؛ فالحياة في المحال (الذي يشتمل دائما على بذرة التمرد) معناها الحياة في التمزق، فما الحياة نفسها إلا هذا التمزق.
10
صفحة غير معروفة