فأجبتها: لا تتذمري أيتها المرأة، وسلمي لأحكام ربك، وتعزي على فقد وحيدك، فهنيئا له. لقد تخلص من متاعب الأرض ومفاسدها ومهما قصر عمر الإنسان كان سعيدا.
وتركتها أريد الخروج؛ لأن وطأة الأحزان كانت قد ثقلت علي، فرأيت على طريقي ضريحا مموها بالكلس، فتركته ولم أعرج عليه بل قلت: ما أكثر أمثال هذا الضريح بين البشر.
وكان على جانب القرافة الأيمن ضريح بسيط عرفت أنه مستودع عظام ذاب صاحبها حبا لأمته فقلت: أهذا جزاء من يخدم القلم في هذه البلاد، أيظل يصح بها القول: ما زال فيها الألمعي غريبا؟
رحمة الله عليك أيتها الأيدي البالية! فقد كنت تديرين الأقلام، وتحاربين الظلم والاستبداد والفساد. أهكذا يكون جزاؤك؟
لا فقد بدأت الأمة تشعر بفضل الذين يعلمونها واجباتها وحقوقها. فسوف تكرم رفات ذوي الفضل ويرفع منار العلم والأدب.
وفيما أنا أهم بالخروج، رأيت من عن يميني بلاطة رخامية ناصعة البياض لم يمر عليها أزميل نحات، ولم يحط عليها حرف، فسألت الخفير، قبر من هذا؟
فأجاب: يقال: إنه قبر رجل أوصى أن يظل شاهد قبره غير مكتوب عليه.
فقلت: هذه الصفحة البيضاء هي رمز التاريخ، نجيء الدنيا لنكتب عليها بيدنا أعمالنا، فمن مخبر عني قادة الشعوب المعتدين الجائرين أن هذه البلاطة في انتظارهم، وسيحفر عليها أزميل النحات الأكبر كلمات لا تزول.
وما وضعت رجلي على عتبة الباب حتى عدت وألقيت نظرة على تلك القبور، وقد تمثلت لي رهبة الموت وناديتها: يا بيت الإنسان الأخير، يا مقر الراحة من أتعاب الحياة، أيتها القبور، يخافك بعض الأغرار ويرتعدون من المرور بقربك في ظلمة الليل، ولو عقلوا لجزعوا من المدن والمراقص، وخافوا من المرور بجانب بعض الأحياء - وحوش الإنسانية - الذين يغيرون على بعضهم بلا حق وينصبون الفخاخ والمكايد.
يا مدينة الأموات! أنت مدرسة المتأمل المفكر، أنت تخبرين المرء عن مصير العظمة الكاذبة واضمحلال المال، عن فناء هذا العالم.
صفحة غير معروفة