كنت في ذلك الحين قد تخرجت من المعهد بنجاح وتفوق زاد من إحساسي بهما أن أساتذتي في قسم الآلات عرضوا علي أمر التكليف بتدريس الآلة في المعهد على أمل التعيين في وظيفة معيد ريثما تتم الإجراءات اللازمة، وأضيف إلى هذا نجاح آخر، إذ فوجئت برئيس فرقة الموسيقى العربية يدعوني عبر الهاتف للاشتراك في الفرقة، الأمر أو الأمران اللذان أمنا لي دخلا لا بأس به ويغنيني عن انتظار الأفراح واللهاث وراء الكازينوهات الليلية السيئة السمعة.
لم يكن من الممكن أن يبقى القديس الخائب وحيدا في كهفه مع وحش الموسيقى الجميل، وجد نفسه يتشجع على الفعل بعد أن بدأ يمارس التدريس ويشترك مع طاقم الكمان في الفرقة العربية ويسجل عددا من شرائطه الموسيقية التي بدأت الإذاعة ترسل بعضها مقرونا باسمه، وعند عودته ذات يوم من عمله المرهق وجد نفسه يجابه وجها يحييه بابتسامة ودود وهزة رأس ذات مغزى، كان هو وجه أمها الذي تصور فيه ملامح من وجه أمه الحبيبة التي كانت قد ماتت قبل سنوات قليلة أثناء تجنيده بالجيش، لا يدري حتى كيف ولا من أين واتته الشجاعة الكافية ليتقدم من أم المحبوبة التي لا يعرف اسمها، ويقترب من الجسد الضئيل القصير ويمعن النظر في العينين المرحتين قبل أن يمد يده بالسلام ويضع صندوق الكمان على الأرض، أحست الأم الطيبة بأن الجار الخجول يريد أن يسر إليها شيئا، عرفها بنفسه - ولم تكن في حاجة إلى تعريف - سألها إن كان من الممكن أن يتشرف بزيارتهم على أن يكون ذلك في أقرب وقت ممكن.
زاد انفراج الابتسامة على الفم الرقيق والوجه الحنون كله، وجاءه الصوت الضعيف ليقول: لا بد من التشاور مع الأهل وإبلاغ خال البنت، يمكنك أن تزوره في وزارة المالية وتسأل عن وكيل الوزارة للمراجعات الضريبية وستجد ألف من يدلك عليه، وعلى العموم لا بد من موافقة جنة وأخذ رأيها. سألت في خبث وهي تكاد تضحك: ألم تذهب إليها في الكلية؟ أغمض عينيه وغرق في عرق الخجل والارتباك فلم تنتظر الجواب بل مدت يدها بالسلام وذهبت في حال سبيلها.
منعه الخجل وقلة الحيلة من الذهاب إلى الخال الذي فاته أن يسأل عن اسمه، وتهيب موقف اللقاء العصيب مع المحبوبة التي تلبست روحه وعقله وأصبحت فكرته الثابتة المتسلطة فلم يجد في نفسه القدرة ولا الشجاعة للبحث عنها في الكلية التي لم يسبق له دخولها ولا يعرف طريقة الوصول إليها، ومرت أيام قليلة قبل أن يدق بواب عمارتهم الصعيدي العجوز بابه ليلا ويسلمه مظروفا صغيرا وجد فيه بطاقة كتب عليها بخط نسائي واضح ودقيق: «ننتظر تشريفكم بالزيارة مساء الخميس القادم، جيرانك.» شكر البواب وأعطاه ما فيه النصيب، وأمسك بالبطاقة وراح يقرؤها ويعيد قراءتها قبل أن يضعها في جيب قميصه فوق القلب مباشرة. أصبح الأمر جدا لا هزل فيه، فلتخض التجربة يا جورج وستخرج منها أنت وكمانك منتصرين، جرب جرب وكفى ترددا يا جورج.
ظل يردد هذه الكلمات ليل نهار حتى جاء مساء الخميس، لم يخطر على باله أن الأمر تحكمه العادات والأعراف والتقاليد، ولم يدر بخلده أن يطلب من شقيقته الكبرى وزوجها أن يصحباه في لقاء يتم فيه تقارب الأهل مع الأهل ولا مكان فيه لإنسان وحيد، وعندما تذكر ذلك قبل الموعد بقليل وبعد أن أتم ارتداء ملابسه لم يجد مفرا من الصعود وحده على سلم الجيران. فتحت الأم له الباب ولم تخف دهشتها من حضوره بمفرده؛ إذ خرجت إلى بسطة السلم بعد أن دعته بأدب شديد للدخول وكأنها تنتظر أن تسلم على بقية الضيوف. دخل من الباب فوجد نفسه في ردهة الاستقبال الكبيرة، وفوجئ بعدد كبير من الرجال والنساء الذين اتخذوا أماكنهم على الكنب والفوتيات والكراسي قبل وصوله بكثير؛ إذ لمح الأكواب والفناجين على الموائد الزجاجية الصغيرة الموضوعة أمامهم. سلم على الجميع في مودة ممزوجة بالرهبة، وبالغ في إحناء رأسه كثيرا أمام كبار السن، وألح عليه الشعور - بعد الجلوس على مقعد وحيد ومواجه للجميع - بأنه الليلة أشد وحدة مما كان في أي وقت مضى من حياته التي قضاها متوحدا مع كمانه، بل هاجمه الإحساس بأنه مهجور ومتروك للصدف وملقى به في عالم لا يعرف ماذا سيفعل معه، وداهمه الإحساس أيضا - إزاء الأعين التي تتفرس في وجهه - بأنه ملقى في حلبة صراع تاريخية قديمة وسوف تخرج عليه الوحوش الكاسرة التي ما زالت حبيسة الأقفاص.
رنت العبارات المألوفة في سمعه رنينا عجيبا: أهلا وسهلا، يا مرحبا بالفن وأهل الفن، سمعناك كثيرا يا أستاذ قبل أن نتشرف برؤياك.
رجع الجميع للحديث الذي كانوا منخرطين فيه بعد أن لاحظوا أن الضيف القصير ذا النظارة الطبية لا يكاد يرفع رأسه المطرقة نحو الأرض ، وأنه فيما يبدو قد صمم على ملازمة قوقعته وعدم مغادرة شرنقته إلا بعد وقت غير قليل، رجعوا لما كانوا فيه من أحاديث عن الأزمات التي كانت شائعة في ذلك الحين؛ أزمات زحام المواصلات والكبريت والملح والفكة، خصوصا وقد اقتربت مواسم الاحتفالات والأعياد. رفع رأسه محاولا أن يعثر في شبكة الحوار على ثقب يمكن أن ينفذ منه بكلمة أو عبارة أو حتى بابتسامة موافقة أو اعتراض. كانت الأصوات تعلو وتتزاحم وتجأر بالشكوى من الفساد العام والاختناقات في كل الميادين وغياب الحريات في ظل العسكر الذين قبضوا على رقبة البلد وأصبحوا بقدرة قادر هم الساسة وخبراء المال والاقتصاد والزراعة، وربما الفكر والفن أيضا، وهنا نظر إليه أحد الحاضرين وكان قريبا منه وسأله: نريد أن نسمع رأي واحد من أهل الفن بعد أن سمعتم رأيي عن الفساد المستشري في الجامعة والتعليم في كل مراحله. نظر إليه جورج وأدرك أنه قطعا من أهل العلم، كما فهم مع استمرار الحوار أنه مدرس بالجامعة وزوج شقيقة المحبوبة التي جاء يطلب يدها، وقبل أن يبلع ريقه ويدير الرد في ذهنه فوجئ برجل نحيل شاحب الوجه بصورة ملحوظة يرفع صوته وصدره يلهث ربما من ربو قديم: لا تتعبوا الضيف الكريم، طوفان الفساد عم وفاض ولا على أيام سيدنا نوح، المهم الآن هو من يصنع السفينة.
ضحك أحد الحاضرين وهو يسعل بشدة ويضع سيجارا غليظا في فمه: يصنعها كل المخلصين كما فعلوا في كل الأزمنة السوداء (ثم موجها سؤاله مباشرة إلى الضيف الذي بدا له الآن أنهم جميعا قد جاءوا لرؤيته والاستماع إليه) أليس الفن انعكاسا للواقع يا أستاذ؟ حتى الموسيقى كما تعلم ...
تنحنح جورج وهم بالكلام فقاطعه الرجل النحيل اللاهث الصدر الذي عرف بعد ذلك من سياق الحوار أنه خال المحبوبة ووكيل الوزارة المرموق: الموسيقى؟ وماذا تفعل الموسيقى أو الموسيقيون؟ هل يمكنها أو يمكنهم أن يصدوا الطوفان؟ هل توقف الموسيقى زحف جيوش الذئاب والكلاب والعقارب والثعابين؟ ليت الأمور كانت بهذه البساطة!
هبط السكون والوجوم على رءوس الجميع ، وأخذ الكل ينتظر ما سيقوله الضيف الذي تشجع واندفع يقول: الموسيقى كغيرها من الفنون تعكس الواقع وروح العصر بطبيعة الحال، لست فيلسوفا في الفن أو علم الجمال حتى أشرح هذا بالتفصيل، ولكن حتى الموسيقى تعكس الواقع كما قلت ولو من بعيد وبشكل غير مباشر، تذكروا مثلا أن سيد درويش هو الذي عكس بأغانيه وأناشيده ثورة الشعب الكبرى سنة تسعة عشر، وأن بيتهوفن بسمفونية البطولة عكس روح عصر نابليون وعبر عن خيبة أمله هو وجيله في البطل الذي تحول إلى طاغية. ماذا تكون الحياة بغير الفن؟ هل يتصور أحد أن يعيش بدون أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وبقية الملحنين العظام؟
صفحة غير معروفة