أغلق عطية باب الثلاجة، انتظر حتى فرغ عبد الحق من مسح وجهه وخديه عدة مرات ثم قال له: إن شاء الله في عينيه، بالسلامة أنت يا عمنا، بالسلامة.
قال عبد الحق وهو يتأهب للانصراف: قبل ما أنسى، سلمهم هذه الحقيبة في الصباح، لا تنس وحياتك يا عطية. هي الحرز الوحيد من المتعلقات.
قال عطية: طبعا طبعا. في أمان الله.
وتساءل عبد الحق وهو يتوجه ناحية الباب الخارجي: هل كان علي أن أضع القلم في يده؟ (وحيد في المشرحة ولا أحد هناك، لا لست وحيدا فبجانبك رجال ونساء وعجائز ويتامى منسيون، والجدران تطوق صدرك وصدورهم، تطويك وتطويهم في ظلمات العتمة. أتراك ستخرج من هذا المنفى وترى الضوء بعيني قلبك ينداح يفيض كفجر أبيض؟ حتى إن لم تره فهو يراك. سوف يفاجئك ويملأ أركان الأرض ويطرد كل خفافيش الظلمة، وعندما يسير بك النعش أو عربة المستشفى إلى مقابر الصدقة سيخرج وجهك من ضجر الموت ويتوحد مع كل الوجوه في الجبانة الكبيرة، وربما تخرج من شفتيك حروفك وكلماتك التي لم يسمعها أحد ولم يقرأها أحد وتصرخ - كالمتشبث بالعلم المرفوع أمام الجيش المهزوم - بأبجدية رفضك وتمردك على اليأس والتبلد والغربة والموت المنتظر، عندئذ تتجلى بنور وحدتك مع الواحد وتوحدك مع الكل، تحوم حولك فراشات الأسئلة التي تحلم بأنها عثرت على الجواب ...)
بعد سبعة أيام سلم عطية الجثة لسائق العربة والتومرجية والحانوتية المتجهين إلى مقابر الصدقات، أمام باب المستشفى كانت صبية شاحبة الوجه تسحب أباها الأعمى العجوز المتوكئ على عكاز، همست لأبيها كلمات فرفع صوته بالدعاء: بالسلامة يا حبيبي. بالسلامة يا بني. (وحيد أنت الآن تماما، هل غادرتك الفراشات وكفت الأسئلة؟ أم بقيت تحوم حولك وتنتظر؟)
1
أحزان عازف الكمان (1)
يتسلل ضوء الفجر - كما يفعل منذ سنوات طويلة - من خصاص النافذة الوحيدة في الحجرة فتسقط أشعته الباهتة الخافتة على الوجه الخريفي الشاحب المستدير، المتغضن بالتجاعيد كالليمونة الذابلة الجافة. يفتح عينيه - ومن حسن الحظ أنه ما زال قادرا على أن يرى ويسمع وإن كان قد فقد القدرة على الحركة من زمن بعيد - فتقع نظرته على علب وزجاجات الأدوية المتراصة فوق التسريحة القديمة المشروخة المرآة، أقراص مختلفة الأشكال والألوان، وأكياس وحقن وأوعية شتى مجهزة كلها لتسييل الدم وتحريك الجسد الذي طوقه الشلل الحديدي حتى أوشك أن يصبح حجرا جامدا أو جثة هامدة، ويمد بصره إلى الملاءة التي لا يقوى على تحريكها أو الإمساك بطرفها، وإلى السرير السفري الصغير الذي أصبح تابوته ونعشه الدائم، وإلى الكراسي التي صفت في الحجرة الصغيرة ليجلس عليها الضيوف والزوار الذين انقطعت زياراتهم وأخبارهم ورسائلهم ومراسيلهم ولفهم الصمت الذي لف كل شيء فيه وحوله بكفنه الطويل العريض، وتحركت أنامل يده اليمني - فالذراع قد أصبحت كالرصاص الثقيل - فلمست أوتار الكمان الراقد بجواره، قريبا من القلب ولصيقا بالصدر كأنه يحضنه. قال له ولنفسه: تعال يا رفيق عمري، يا عذابي وسلواي ومرفأ قاربي المنسي المكسور، يستغيث بك الغريق الذي طالما انتشلته من المستنقعات، ويناديك المحاصر بالحريق الذي طالما أنقذته من ألسنة اللهب وغسلته وطهرته بماء نغمك ولحنك الشجي الحنون، أستغيث بك وأناديك كما فعلت من سنين، لكني اليوم أبتهل إليك أن تستجيب، الوقت مضى يا صاحبي وحبيبي ولم يعد في العمر بقية، واليوم يوم فاصل في حياتي وحياتك، واللحن الذي تخلق في مهجتي وأحشائي نطفة فمضغة فعلقة قد أصبح جنينا يصرخ شوقا للنور والحياة؛ لحن العتاب الطويل الذي نما على مر السنين والتأمت أطرافه وحلقاته يريد أن يخرج للحياة ويتردد في الأجواء حتى ولو لم يسمعه أحد سواي وسواك، مرت الأصابع النحيلة على الأوتار فرنت بأصوات واهنة ومتقطعة كبكاء أرملة ونهنهة يتيم، وامتدت اليد تبحث عن القوس فلم تجده. فتشت عنه تحت الملاءة وفوق الكرسي المجاور للسرير حتى اصطدمت به القدم اليمنى هناك على المخدة الموضوعة على امتداد الساقين. استجمع قوته وعبأ إصراره وتصميمه لكي يحرك ذراعه أو يثني جذعه ليطول القوس. حاول عدة مرات حتى تعب وتلاحقت أنفاسه اللاهثة وابتسم رغم كل شيء وهو يقول: ولكن اللحن لا بد أن يخرج، لا بد أن يندفع اليوم ويكسر كل القضبان ويحوم فوق رأسي كالنورس العائد من سفر طويل، ستأتي أمينة وتناولني إياه ثم أحاول وأحاول وأصارع وأصارع حتى ينبثق شلاله الحبيس ويدمدم ويثور ويفور ويرفرف في الأرض والسماء كسرب كامل لا نورس واحد وحيد.
آه! منذ متى ضربتني الصاعقة فشجت رأسي وشلت جنبي وكادت أن تعمي عيني؟ لا بد أن سنوات طويلة قد انقضت على رجة الزلزال الذي نفضني وحفر تحتي حفرة رحت أغوص فيها يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة. كل ما أذكره أن سيدتي وسيدة الكل قد غضبت في ذلك اليوم أو في تلك الليلة المشئومة؛ أفهمتني حين مثلت أمامها بعد انتهاء الحفلة أنني حر أن أبقى مع الفرقة أو أخرج منها بلا عودة، استأذنت وانصرفت أجر ورائي كرة عمري وأحمال تعبي وشقائي في تراب الشارع الذي لم أدر ما اسمه ولا إلى أين يؤدي بي، وعندما وصلت إلى باب مسكني، ولا أدري كيف ولا متى، شعرت، وكنا بعد منتصف الليل، كأنني أصبت فجأة بضربة شمس بزغت في عز الليل لتضربني أنا وحدي دون الناس أجمعين. آه! كم كنت طيبة وأصيلة يا أمينة؛ تلقفتني قبل أن أسقط على الأرض، مددتني على الفراش وأسرعت باستدعاء الطبيب الذي أعلن بصوت جهوري: جلطة في المخ. هو الفالج كما يقولون بالفصحى، الراحة مطلوبة، والبعد عن النكد أهم شيء، والدواء المكتوب بانتظام وعلى وجه السرعة.
شلت ذاكرتي أيضا فما عدت أتذكر التفاصيل، كل ما يخطر على بالي الآن أن سيدتي حين بلغها الخبر أرسلت مع زميلين من الفرقة باقة ورد ومعها مظروف مطوي فتحته زوجتي بعد ذلك وهي تقول بصوت هامس: شيء يساعد على الدواء. وربما قال الزميلان - عاطف عازف الكونترباس وسيد عازف القانون - شيئا يشبه ذلك وأضافا: مؤقتا حتى تتم إجراءات النقابة.
صفحة غير معروفة