اقترب الشاويش علام الذي كان يقف زنهارا على الباب من النقيب عندما سمع كلمة القهوة وأسر في أذنه أن البوفيه شطب مبكرا هذه الليلة، فصاح الضابط الشاب من ضيقه: مفهوم، مفهوم، كل الأبواب مسدودة، لم يبق إلا أن تسرع بفحص الحقيبة قبل أن نقع من طولنا، تفضل يا عم عبد الحق، على مهلك. - كلها أوراق، هل نفحصها واحدة واحدة؟ - المهم نعثر على شيء يفيد في تحديد شخصية الرجل، وإلا اضطررنا لتحويله كما تعلم ... - لا داعي أبدا، الدكتور نبيل لم يجد ضرورة لتشريحه، كما أن مستشفى الجامعة لا يحتاج في الإجازة، المهم.
أخذ التومرجي يفرغ ما في الحقيبة وعلامات التعجب ترتسم على وجهه وتزحف على جبينه المتغضن وتسحب التمتمات من بين شفتيه فلا تلبث أن يسمع حفيفها شيئا فشيئا: لا حول ولا قوة إلا بالله، أوراق من كل الأحجام والألوان والأشكال صغيرة وكبيرة، بيضاء وحمراء وزرقاء، وملاحظات وخطوط من كل الأنواع نسخ ورقعة وكوفي، ما هذا؟ أشعار أيضا؟ يظهر أنها مختارات من المتنبي والمعري و...
قاطعه حازم مغتصبا ضحكة قصيرة: هل قلت المعري؟
لم يتركه يكمل دعابته فاستطرد: أجل أجل. أبو العلاء المعري، صاحب اللزوميات ورهين المحبسين. - مفهوم مفهوم. - وقيس بن ذريح، أقصد مجنون ليلى، حتى شوقي وناجي و...
تدخل حازم: يمكنك أن تقرأها فيما بعد - ثم وهو يتفرس وجهه بحب وشوق - هل كنت شاعرا يا عم عبده؟
قال عبد الحق وهو يرفع رأسه ويهزها في أسف: كنت وأفلست، ياما قرأت وحفظت، ياما كتبت أغنيات للإذاعة ولم يرد علي أحد، أقصد بالعامية، هل تعلم أنني عرضتها يوما على بيرم فنظر فيها قليلا وربت على كتفي قائلا: رح يا بني شف لك شغلة تنفع الناس. ثم أعطاني ظهره المنحني قليلا وضغط على حزمة الأوراق التي لا تفارق إبطه. - يعني قابلت بيرم نفسه؟ صاحب الأوله آه وغنى لي ... - نعم نعم، وفي مرة أخرى قال لي: رح يا بني وتزوج، المهم تبعد عن الشعر ويبعد عنك. - لا بد أنك كنت مدمنا على دار الكتب. - وعلى المكتبات القديمة في الأزهر والحسين، بعدها قررت أن أسعف الناس ما دمت لا أستطيع أن أسعف نفسي. - وتعلمت التمريض وصرت أعظم وأشهر ... - أستغفر الله، ولم أنقطع مع ذلك عن القراءة، على الأقل لمساعدة الأولاد في دروسهم. - المهم أنك ما زلت تعيش الشعر بدلا من أن تقوله، الطيبة والكمال وحب الناس يا عم عبده، أكمل أكمل.
رجع عبد الحق الفحص الأوراق والدهشة تطل من عينيه في كل لحظة دون أن تفصح عن نفسها بكلمة، كان يعلم أن الوقت ضيق والنقيب مرهق ومتعجل؛ ولذلك راح يقول كأنه يقرأ من لوح مسطور أمامه: ومذكرات، ربما كان يكتب مذكرات أيضا، لكنها مبتورة كقطع فخار مهشمة وليس فيها شيء محدد يدل على شخص محدد، ما هذا؟ - هل وجدت شيئا يا عبد الحق؟ - أوراق مطبوعة، بروفات، لا بد أنها بروفات كتب تحت الطبع، انتظر، العنوان موجود أيضا، وبعض الملازم تم تصحيحه وشكله، بدائع الزهور في وقائع الدهور. - ماذا؟ - الكتاب المشهور لابن إياس الحنفي، فيه سير الأنبياء عليهم السلام، من آدم إلى موسى وعيسى ويونس بن متى وسيدنا الخضر وأهل الكهف، وهذه ملزمة من كتاب آخر أهوال يوم القيامة وعذاب القبر. - أعوذ بالله، وماذا نفهم من هذا؟ - ربما يكون نساخا يرتزق من ... - نقول نساخ؟ - نعم نعم، كنت أراهم بكثرة في الدار، عجائز ملتحين مصفري الوجوه محنيي الظهور على الكتب والمخطوطات، ينسخون ما يطلبه منهم العلماء والأدباء والناشرون، لا سيما الكتبية والوراقون وأصحاب المطابع القديمة في الأزهر والحسين والعتبة وشارع المعز ... - المهم، المهم، كان ينسخ بخط جميل كما تقول، وربما كان يكتب الشعر أيضا وينشره، وربما يعرفه الكتبية في الأحياء الشعبية والأدباتية. - تقصد الأدباء يا سيادة النقيب؟ - لا فرق، وربما بعض النقاد والقراء، لكن ماذا ينفع هذا كله؟ لم نعرف الاسم ولا العنوان، لن نستطيع الاتصال بأهله إن كان له أهل، ولا يمكن أن نوزع صورته على هؤلاء الناس ولا أن نطرق كل الأبواب في الشوارع المقطوعة والحارات المسدودة لنسأل عن شاعر بائس فوق السطوح أو نساخ فقير أو مصحح على باب الكريم.
قال عبد الحق في صوت حزين: بالطبع مستحيل، حتى هذه الأوصاف لا ندري إن كانت تنطبق عليه، المسكين عاش مجهولا ومات كذلك مجهولا. - مجهول، معك حق يا عم عبد الحق، وليس أمامي الآن إلا أن أقفل المحضر وأعطيك الأورنيك كما هو معتاد: يحول إلى المشرحة ويحفظ لمدة أسبوع على سبيل الاحتياط حتى يسأل عنه أهله. (فحصوا أوراقك وجذاذاتك وخواطرك ومشروعاتك، لكن لم يجدوا وجهك منعكسا في أية صفحة، أيضا لم يجدوا ذلك الطفل الذي كنته ذات يوم وربما يتأمل الآن وجهك المحتقن العجوز وجسدك المنسي المهان، وهل تذكرته عينك الداخلية التي تفتحت فجأة كوردة الموت. عندما كان يدخل خلسة إلى مكتبة أبيه ويغرق نفسه في بحار الحروف الغامضة؟ والكتب تطل عليك من فوق الرفوف كوجوه مومياوات محنطة تبتسم لك وتغريك بالنزول إلى توابيتها، أو كملاحين عجائز يرتدون أقنعة نساك أو مغامرين أو أولياء يمشون على الماء ويشيرون إليك من بعيد ومن قريب. الأغاني كانت هناك وإحياء علوم الدين والبخاري والمسعودي وعرائس المجالس وتلبيس إبليس وألف ليلة وليلة، وأنت تبكي على الشاطئ من الرعب بينما تتخلق في داخلك القصائد المبتورة والقصص المهشمة والحكايات التي رويتها بعد ذلك ولم يسمعها أحد، أتراه الآن بعينك الداخلية التي تغلي وتستعر فيها النيران كعين الحياة التي غطس فيها الخضر، بعد أن سقطت عنك أقنعة الخوف والحيرة والطموح والفرح والحزن؟)
من أنا؟ ماذا أريد من العالم وماذا يريد العالم مني؟
كانت هذه هي الكلمات أو بالأحرى الأسئلة التي نفذت كالمسامير المحمية في صدر عبد الحق عندما لملم الأوراق المبعثرة ووضعها بحرص في المحفظة السوداء ثم أسندها على صدره واستأذن من النقيب حازم وتمنى له الراحة واللقاء القريب على خير. عاودته صورة القطة السوداء الميتة التي خطرت على ذهنه عندما وجد نفسه يحتضن الحقيبة السوداء وهو في طريقه مع الشاويش علام إلى حجرة النقيب فتساءل وهو يبتسم لنفسه: من كان يصدق أن القطة الميتة تختزن في بطنها المتورمة هذا القطيع من صغار القطط العمياء؟ هل كانت تتصور أن الحكم قد صدر عليها وعلى أولادها بالموت قبل أن تفتح عيونها وتستقبل النور؟
صفحة غير معروفة