ووصف مالت موقف توفيق في هذا الظرف بقوله: «إن موقف الخديو موقف مؤلم أعظم الألم، فهو مهدد بالقتل، ثم إننا صرفناه عن الذهاب إلى الإسكندرية حيث كان في الوقت متسع لهذا، وكذلك لم نخل بينه وبين الالتجاء إلى الجهة التي يأتيه منها تأييد ذو أثر، ولذلك فهو والحال كما أذكر خليق بأن يشعر شعور المرارة تلقاء ما يبدو له الآن من عواقب اتباعه نصحنا واعتماده على تأييدنا.»
وهكذا نرى مالت يضغط ضغطا شديدا على حكومته لتعجل بالتدخل المسلح المنشود، وكان من أثر ذلك أن كتب جرانفل دون أن ينتظر مشورة الحكومة الفرنسية إلى اللورد دوفرين في الآستانة بقول: «إن حكومة جلالة الملكة ترى الضرورة ملحة بألا يضيع السلطان شيئا من الوقت دون أن يرسل أمرا به يؤيد الخديو، ويرفض الاتهام الذي عزته الوزارة الساقطة إلى سموه، ويأمر كبار العسكريين الثلاثة، وكذلك رئيس الوزارة السابق إذا دعا الحال، بأن يحضروا ليشرحوا مسلكهم في القسطنطينية.»
ويتضح من ذلك أن الحكومة الإنجليزية تخطو خطوة سريعة نحو الانفراد بالعمل وتنفيذ خطتها في التهام مصر، ولا نجد في تفسير سياستها خيرا من قول كرومر في هذا الظرف تعليقا على الموقف: «إن النتيجة على أي حال لم تكن بعيدة، فإنه كان يتضح يوما بعد يوم أن عرابي لن يخضع إلا بالقوة، فإذا لم تتبع القوة المطلوبة أي جهة أخرى فإن هذا العمل يلقى بالضرورة على عاتق إنجلترا.»
هذا هو الذي كانت ترمي إليه السياسة الإنجليزية من جميع مراوغاتها واقتراحاتها، ولسوف تنفرد عما قريب بضرب الإسكندرية، وحجتها في ذلك تأييد سلطة الخديو تجاه عرابي الثائر الذي تحركه الأطماع والمآرب الشخصية!
واشتد خوف الأجانب في مصر حين فهموا أن الخديو عاجز عن تأليف وزارة، فذهب وفد من القناصل إلى عرابي في الثامن والعشرين من مايو، وقد أشار عرابي إلى ذلك في قوله: «ولما تعاظم الخوف حضر لمنزلي جميع قناصل الدول ما عدا قنصلي إنجلترا وفرنسا يطلبون مني التأمين على رعاياهم فأجبتهم بأني قد استعفيت ولا صفة لي تخولني تحمل هذه المسئولية العظيمة، فقالوا إن الجيش لا يخالف إرادتك، وأنت رئيس الحركة الوطنية فلا نأمن على رعايانا وأنفسنا إلا بإعطائك لنا كلمة الشرف بحفظ رعايانا، فلأجل طمأنينتهم وتسكين روعهم كتبت تلغرافا إلى جميع مراكز العسكرية بصفة أني رئيس الحزب الوطني أرغب إليهم فيه أن يلتزموا الهدوء والسكينة، وأن يحافظوا على راحة العموم، وخصوصا رعايا الدول الأجنبية، وأن يعاملوا الجميع بحسن المعاملة وكمال المجاملة.»
وقابل هؤلاء القناصل الخديو، ورجوا منه أن يعيد عرابي إلى الجهادية حفظا للأمن في مصر وتفاديا للأخطار.
أما الوطنيون فقد اشتد قلقهم وقد مضى يومان والخديو عاجز عن إقامة وزارة، ونشط سلطان باشا، وأكثر من مقابلة الخديو، وفي نفس اليوم الذي قابله فيه القناصل، ذهب سلطان إلى سراي الإسماعيلية وتحدث مع الخديو طويلا، ولكنه وجد منه تصميما على موقفه ...
واجتمع بمنزل سلطان باشا عدد كبير من النواب والعلماء والأعيان وكبار ضباط الجيش، واتفقوا على أن يذهب وفد منهم إلى الخديو يرجو منه أن يعيد عرابي وزيرا للحربية، ففي ذلك ضمان الأمن والسلامة.
وذهب وفد مؤلف من سلطان باشا وحسن باشا الشريعي وسليمان أباظة إلى سراي الإسماعيلية وقابلوا الخديو وعرضوا عليه ملتمسهم أن يعيد عرابي إلى الوزارة؛ فرفض الخديو وأصر على رفضه، وبعد طول توسلهم وتوسط سلطان باشا أجابهم الخديو إلى طلبهم قائلا: «بما أنكم أتيتم طالبين تقليد نظارة الجهادية لسعادة عرابي باشا حيث إنكم تظنون أن هذا التعيين يساعد على حفظ النظام فلا مانع من إجابتكم ...»
وإن اتفاق هذا العدد الكبير من رجالات الأمة على إعادة عرابي حتى يطمئن الناس ويتحقق الهدوء لدليل لا شبهة فيه على أن الرجل فضلا عما تحقق له من الزعامة قد أصبح بحق ملاذ البلاد، أما الخديو فلم يعد في رأي الناس إلا أداة طيعة في يد مالت يصرفه كيف شاء ...
صفحة غير معروفة