لبس القنباز في فجر حياته، ثم بدل به الحلة الفرنجية فتناسى ماضيه السعيد وأصبح يأنف من التحدث عن زرعه وضرعه. وتعالى على لداته، فصار لا يطيق الجلوس معهم لأنهم متأخرون، لا يعرفون رجال السياسة معرفته لهم. إنه يحب السياسة حبا بريئا، ويحدثك عن كبار رجالها بلا كلفة، ولا ينسى أن يخص اللامعين منهم بكلمة ثناء باردة. وإذا ما انفرجت شفتاك هزءا ظنك معجبا بحديثه، فيتنحنح ويبصق، ويومئ قائلا: اسقونا. حتى إذا شرب تلفت يمينا وشمالا، وقال: هناكم الله. واستأنف حديثه بصوت كأنه مواء الهرة.
ويظل سعيد على هذه الحال يتحدث بحدة ويعيد كلمة: فقط، وإنما، وفهمت. ثم يقوم ويقعد، ويفرك رأسه حتى يصوصي الكرسي تحته، ويستشهد في سبيل القيام بالواجب، وإذا ظن أنك تصغي إليه انتفخ كالطاووس، وطفق يقص عليك ما اكتسبه من اختبارات في طوافه وتجواله. وإذا لم تعره الاهتمام العنيف، تبرم بك وبالناس.
يستولي سعيد على المبادرة أين وجد، ولا يفلت خيط الحديث عن نفسه وعن آبائه وأجداده. فأبوه حاتم، وجده جعفر، وخاله صمصامة العرب، فهو منسوب العم والخال ورث النبل والمروءة من طرفيهما. أما العلم فلا يحسد أحدا عليه. وما العلم؟ لقد علمه الدهر ما لا تعلمه عشرات المدارس في عشرات السنين، العلم اختبار وتجاريب. ثم تتسع حدقتاه ويقول لك: اسأل إذا كنت لا تصدقني.
وسعيد، عدا هذه المميزات الحلوة، واثق بشجاعته رغم أنف من لا يصدق. ولا ينعته بالجبان إلا من يحسده على مركزه الأدبي وتطوره الغريب في مراحل الحياة.
تزوج سعيد في الثلاثين من عمره، وعاش سنوات عيشة هانئة هادئة. فزوجته، كما يخبر، تخاف بطشه وجبروته، وتحبه حبا لا تشوبه شائبة. ألم تمرض قبل زواجها بعام عندما هددها بالترك فأشرفت على الموت؟
قال البعض: إنه سل، وقال آخرون: إنه داء لا شفاء منه، أما سعيد فهو وحده يعرف السبب. ثم كان الزواج وكانت حياة كلها نعيم. كم كانت تنصحه بمحبة وعطف: الصحة كنز يا حبيبي، لا تنهك قواك، أشفق على نفسك.
كل هذا يتذكره سعيد وما زال وقعه العذب في مسمعه. ولكنه عندما يتذكر ليلة أمس ينتفض كالمقرور وتتشنج أعصابه، ويقضقض عصلا في أسرتها الردى، وتطغى عليه رغبة ملحة تدفعه إلى الانتقام، فيسمع هاتفا يصيح به: سعيد؟ حان لك أن تثأر لكرامتك وشرف آبائك وأجدادك، أين العزة والناموس؟
الساعة المعلقة على الحائط تدق الواحدة بعد نصف الليل، وكل ما في الطبيعة يمهد لك الطريق: سماء ترغي وتزبد، عواصف يجن جنونها، ورعود تقهقه. الفرصة سانحة فاغتنمها. استرح من هذه الفاجرة. اقتلها. لا تسامحها هذه المرة مهما بكت، ومهما توسلت. إنها تكذب، وتكذب بجرأة ووقاحة. كن صخري الفؤاد فلا تؤثر بك دموعها وتوسلاتها. إذن أقدم ولا تخف.
وبينما هو غارق في نجواه، في تلك الليلة الصاخبة، تمثل له شرفه كالوطواط الجريح ففرت دمعة من بين هدبيه فصاح: جبان، أي والله جبان. - جبان، جبان. ها ها. وضحك ضحكة بلهاء عندما تذكر هذا اللقب الذي يثير حقده فتقلصت شفتاه وجمدت عيناه. وقرصه البرد فاندس في فراشه وهو يقول: أنا جبان؟! لا لا لا. ما بقي من عمر هذه الشقية غير دقائق معدودات. ورصاصات مسدسي، هذه الرصاصات الجهنمية ستطفي هاتين العينين. عفوت عنك مرتين وثلاثا. يكفي! يكفي! لا رحمة بعد الآن.
أريد أن أطهر فراشي، أريد أن يسلم شرفي الرفيع من الأذى . بعد دقيقة أمزقك أيتها الحية الرقطاء. أتظنين أني صدقت كلامك أمس: لا والله أبدا، سأنتقم منك أفظع انتقام، هذا عار لا يطاق، هذا عرين أسد فكيف تدخله الكلاب.
صفحة غير معروفة