والكأس دائرة بكف مقرطق خنث الكلام مفتر الأجفان لم أنس ليلتنا به يا ليتها دامت فكانت مدتي وزماني
وحدثني أبو بكر محمد بن عمر قال: خرجت يوما وقد عرض لي ضيق صدر وتقسم فكر إلى
الموضع المعروف بالمالكية. فاجتزت بدير سمالو على نهر الفضل، فجلست في موضع تحت ظل
شجرة في فناء الدار أترنم بأبيات، إذ مر بي غلام أمرد كالقمر الطالع فقلت: يا فتى وحدك في مثل
هذا الموضع؟ فقال: ما بقلبي حملني على ركوب الغرر، فبالله عليك إلا ما عرفتني هل مضى بك قوم
من الأتراك ومعهم مغنية على حمار، عليها كساء نارنجي؟ فقلت: نعم، هم في ذلك البستان، ولكن
عرفني تريد الدخول عليهم؟ فارتعد رعدة عظيمة، ولم يزل لونه يتغير حتى سكن قليلا. ولم أزل
أسليه وأشجعه، وعلمت أنه يهوى المغنية، وأنها قد تركته وخالفته وخرجت مع الأتراك. فلما هدأ من
زفرته وأفاق من غشيته قال: لقد من الله تعالى علي بك، وإلا فقد كان ما بقلبي يحملني على دخول
البستان وحصولي تحت حال قبيحة. ثم قام وسألني مساعدته والمشي معه إلى أن يصل إلى البلد.
وتبين موضع الخطأ فجزع جزعا شديدا. فقمت معه وقويت من نفسه وأخذت به في طريق بين
البساتين حتى لا يراه من يمشي على الجادة، فلما قربنا من البلد أخذ خرقة فكتب على حائط بستان
اجتزنا به:
أين تلك العهود يا غدارة والكلام الرقيق تحت المناره
قد علمنا بأنه كان زورا واختلافا ونغشة وعياره
فاجهدي الجهد كله قد سلونا عن هواكم ولو بشق المراره
فقلت له: كأنك في الجامع عرفتها. فقال: أي والله، وظننتها الكلبة تفي، فاستحلفتها تحت منارة جامع
الرصافة بأيمان لا تحملها الجبال، فحلفت أنها لا تواصل غيري، ولا تريد سواي. فلما عرفت
صفحة ٣٦