البلد، وقد كنت شاهدتها. فقرأت على بيت منها مكتوبا: حضر فلان بن فلان الكاتب هذا الموضع في مرقعة، خائفا هاربا مظلوما، وهو يقول: سترك سترك. وإذا تحته مكتوب بغير ذلك الخط: اللهم
استجب دعاه، واسمع شكواه، واكشف بلواه:
ورد كل شتيت عن أحبته وكل ذي غربة يوما إلى الوطن
وارحم تقطعهم في كل مهلكة وامنن بلطفك يا ذا الطول والمنن
فعدت فحدثت بذلك أبا علي بن مهدي. فركب حتى وقف على الموضع وقرأ الشعر، وكتبه في كتاب
كان بين يديه يجمع فيه ما يشاهد من أخبار الناس.
قال صاحب هذا الكتاب: وكنت في أيام الشبيبة والصبا ألفت فتى من أولاد الجند، في السنة التي
توفي فيها معز الدولة وولي بختيار، وكان لأبيه حال كبيرة ومنزلة من الدولة ورتبة. وكان الفتى في
نهاية حسن الوجه وسلاسة الخلق وكرم الطبع، وممن يحب الأدب ويميل إلى أهله. ولم يزل يعمل به
قريحته حتى عرف صدرا من العلم، وجمع خزانة من الكتب حسنة. فمضت لي معه سير لو حفظت
لكانت في كتاب مفرد، من معاتبات ومكاتبات وغير ذلك، مما يطول شرحه. منها ما يشبه ما نحنفيه: أنني جئته في يوم جمعة غدوة فوجدته قد ركب إلى الحلبة. وكانت عادته أن يركب إليها في كل
جمعة ويوم ثلاثاء. فجلست على دكة له على باب دار أبيه في موضع فسيح كان عمرها وفرشها،
وكنا نجلس عليها للمحادثة إلى ارتفاع النهار، ثم ندخل إذا أقمت عنده إلى حجرة نظيفة مفردة له،
فنجتمع على الشراب والشطرنج وما أشبههما. فطال جلوسي في ذلك اليوم منتظرا له، وأبطأ وتصبح
من أجل رهان بين فرسين لبختيار. فعرض لي لقاء صديق لي. فقمت لأمضي إليه ثم أعود. فهجس
لي أن أكتب على الحائط الذي كنا نستند إليه هذه الأبيات:
يا من أظل بباب داره ويطول حبسي بانتظاره
وحياة وجهك واحمراره ومجال صدغك في مداره
صفحة ٢٨