حتى قامت خلافة عثمان بن عفان فانتصر بها الأمويون أيما انتصار؛ لأنه رأس من رءوسهم وابن عم قريب لزعماء بيوتهم، وأصبحت الدولة الإسلامية أموية لا يطمع في خيراتها ولا ولاياتها إلا من كان من أمية أو من حزبها، فمروان بن الحكم وزير الخليفة الأكبر يغدق العطاء على الأقرباء ويحبسه عن سائر الناس، ومعاوية بن بي سفيان والي الشام يجتذب إليه الأقرباء والأولياء ومن يرجى منهم العون ويخشى منهم الخلاف.
فلما قتل عثمان - رضي الله عنه - كان المنتفعون بمناصب الدولة وأموالها جميعا من الأمويين أو من صنائعهم المقربين، ومال السلطان إلى جانب أمية على كل جانب آخر من القرشيين وغير القرشيين. •••
لا جرم كان الصراع بعد ذلك صراعا معروف النهاية من مطلع البداية، فقتل علي بن أبي طالب غيلة، وخلصت الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان.
ثم بايع أناس من أهل العراق وفارس الحسن بن علي، فلم يستقم له أمرهم، وضاق صدره بجدالهم ومحالهم، وكان رجلا سكيتا يكره المنازعة ويجنح إلى العزلة، فصالح معاوية على شروط وفى له معاوية بالمعجل منها والتوى عليه بمؤجلها، وزاد على ذلك كما تواتر في شتى الروايات أنه أغرى امرأته «جعدة بنت الأشعث» بسمه، ووعدها أن يزوجها يزيد ويعطيها مائة ألف درهم، فوفى بوعد المال ولم يف بوعد الزواج.
وقد أوصى الحسن - رضي الله عنه - أن يدفن عند قبر جده إلا أن تخاف فتنة، فلما توفي أرادوا دفنه حيث أوصى، فقام مروان بن الحكم وجمع بني أمية وزمرتهم ومنعوا مشيعيه. فأنكر الحسين عليهم منع سبط النبي أن يدفن إلى جوار جده، فقيل له: «إن أخاك قال إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين سعة. وهذه فتنة.» فسكت على مضض.
أهداف معاوية
وقد كان معاوية ولا ريب ينوي أن يجعلها دولة أموية متعاقبة في ذريته من بعده، منذ تصدى للخلافة، وخلا له المجال من أقوى منافسيه، إلا أنه كان يتردد ويتكتم ولا يفضي بنيته إلى أقرب المقربين إليه، ثم كبرت سنه وخاف أن يعجل عن قصده، فمهد لبيعة ابنه يزيد بعض التمهيد، وتوسل إلى ذلك بما طاب له من وسيلة؛ فلباه أهل الشام وكتب بيعته إلى الآفاق، ثم همه أمر الحجاز فكتب إلى مروان بن الحكم عامله أن يجمع من قبله لأخذ البيعة منهم ليزيد، فأبى مروان وأغرى رءوس قريش بالإباء لأنه كان يتطلع إلى الخلافة بعد معاوية ويحسبه أقدر عليها من يزيد؛ لما اشتهر به من نقص وعبث ... فعزله معاوية وولى سعيد بن العاص مكانه، فلم يجبه أحد إلى ما أراد، فكتب معاوية إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، والحسين بن علي، وأمر عامله سعيدا أن يوصل كتبه إليهم ويبعث إليه بجواباتها، وقال لسعيد: «فهمت ما ذكرت من إبطاء الناس، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبا فسلمها إليهم، ولتشد عزيمتك وتحسن نيتك، وعليك بالرفق، وانظر حسينا خاصة فلا يناله منك مكروه، فإن له قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة، وهو ليث عرين، ولست آمنك إن ساورته ألا تقوى عليه.» •••
فأعيت سعيد بن العاص كل حيلة في إقناع وجهاء الناس وعامتهم بهذه البيعة البغيضة، وخف معاوية إلى مكة ومعه الجند وحقائب الأموال، ودعا بأولئك النفر ، فقال لهم: «قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم، يزيد أخوكم وابن عمكم، وأردت أن تقدموا يزيد باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون، وتجبون المال وتقسمونه.»
فأجاب عبد الله بن الزبير، وخيره بين أن يصنع كما صنع رسول الله إذ لم يستخلف أحدا، أو كما صنع أبو بكر إذ عهد إلى رجل ليس من بني أبيه، أو كما صنع عمر إذ جعل الأمر شورى في سته نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه.
فقال معاوية مغضبا: «هل عندك غير هذا؟»
صفحة غير معروفة