102

والفيلسوف يسأل : ماذا تقول هذه المرأة؟ والتلميذ يترجم الأنشودة ويتخابث في سؤال الشيخ عن رأيه في هذه المناجاة العصرية، على لسان امرأة تخاطب رجلا، أو على لسان النساء يخاطبن الرجال.

والشيخ يتأمل باسما ويجيب تلميذه راضيا رضى القانطين المستسلمين: «هو الغرب كله يا بني ماثل في هذه الأنشودة اللاهية: هو الغرب الذي يأخذ من الحياة ما تعطيه، ويطلب السرور، ثم لا يسوم دنياه طلب الوفاء والكمال، هو الغرب الذي يأخذ كل شيء بقيمته وكل شيء على حقيقته، ثم يصقله ويحببه إلى نفسه ليستسيغه ويستمرئ مذاقه، هو الغرب ذو النفس الناطقة التي لا تقول كلمة في جدها ولا لهوها إلا جمعت فيها خلاصة ما عندها من حضارة وأخلاق وفلسفة وشعور.»

قال التلميذ: أوليست كل النفوس ناطقة؟ ألا تفصح كل نفس عن دخيلتها في غنائها ومناجاتها؟

قال الشيخ: بلى، ولكن شتان تعبير اللسان الذي يقول فيجمع حياته فيما يقول، وتعبير الثمرة التي ترى قشرتها فترى من لونها وتشم من رائحتها أنها ناضرة أو ذاوية، وصحيحة أو معطوبة: ذلك تعبير الفضل كله فيه للقائل، وهذا تعبير الفضل كله فيه للناظر، وكلاهما تعبير ولكن المسافة بينهما كالمسافة بين الحياة والجمود، والحركة والركود.

فصاح التلميذ: اليوم سيدي الشيخ عربي وهو يفارق الغرب إلى الشرق! فهلا كان غريبا وهو في بلاد القوم مستريح؟ أم كتب على الإنسان أن يحب ما يفارق ولا يزال ساخطا على ما هو فيه؟

فصمت الشيخ هنيهة، ثم راح يمضغ بين شفتيه:

يا ماء دجلة ما أراك تلذ لي

شوقا كماء معرة النعمان

اطمئن يا بني. ما أنا إلى الغرب ولا أنا إلى الشرق. أنا إلى معرة النعمان فهلا آن الأوان؟ •••

فأراد التلميذ أن يطاوله ويصرفه عما ورد على نفسه في تلك اللحظة من الحنين إلى وطنه، وعاد يحاوره وكأنما يتحداه ليستثيره ويجنبه غاشية السوداء التي هو مقبل عليها: أفي المعرة مثل هذه السفينة ومثل هذا المذياع ومثل هذا الصوت الجميل ومثل هذه الأعاجيب!

صفحة غير معروفة