علامات الخلود
تمهيد
وفد
صاحب الجلالة المعري
عالم السريرة
أبو العلاء هو أبو العلاء
بساط الريح
حكم السيف
المستشرقون
مع المشيعين
في بلاد الشمال
جر الذيول
المرأة
الحكيمان
حكم وحكمة
خليفة دانتي
لعب العبقرية
الاختراع
أقصى المغرب
أقصى المشرق
زعيم الصين
زهدان
في مصر
نشيد وداع
علامات الخلود
تمهيد
وفد
صاحب الجلالة المعري
عالم السريرة
أبو العلاء هو أبو العلاء
بساط الريح
حكم السيف
المستشرقون
مع المشيعين
في بلاد الشمال
جر الذيول
المرأة
الحكيمان
حكم وحكمة
خليفة دانتي
لعب العبقرية
الاختراع
أقصى المغرب
أقصى المشرق
زعيم الصين
زهدان
في مصر
نشيد وداع
أبو العلاء
أبو العلاء
تأليف
عباس محمود العقاد
علامات الخلود
ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حق في الخلود:
فرض الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجو من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على الأدمية، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتارة إلى السحر والكهانة، وتارة إلى فلتات الطبيعة إن كانوا لا يؤمنون بما وراءها.
وهذه العلامات الثلاث مجتمعات لأبي العلاء على نحو نادر في تاريخ الثقافة العربية، لا يشركه فيه إلا قليل من الحكماء والشعراء؛ فهو في ضمان الخلود منذ أحبه من أحب، وكرهه من كره، وتحدث عنه من تحدث كأنه بعض الخوارق والأعاجيب. •••
بلغ من منزلته بين مريديه أن وقف على قبره نيف وثمانون شاعرا يرثونه بعيد وفاته، فكان بلاغ قولهم مطلع قصيدة لأحدهم - أبي الفتح الحسن بن عبد الله بن حصينة - حيث يقول:
العلم بعد أبي العلاء مضيع
والأرض خالية الجوانب بلقع
وهو مثل من أمثلة الإعجاب الذي اتفق عليه أولئك الشعراء، وكانوا فيه ترجمانا لمئات، أو ألوف من المعجبين، لم ينظموا الرثاء ولم يقفوا على ثراه.
وبلغ من إنكار حساده والجاهلين به أنهم جعلوه من أهل الجحيم، وألحقوه بأحقر ما يسب من الحيوان، واستجهلوه غاية الجهل، واتهموه في فهمه وذكائه!
قال رجل وقد عثر به : من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما!
وذكر ياقوت بعض كلامه في معجمه ثم قال: «كان المعري حمارا لا يفقه شيئا، وإلا فالمراد بهذا بين!»
وسئل عنه علي بن الحسن المعروف بشميم وهو من نحاة القرن السادس، فغضب وقال لسائله ناهرا: «ويلك! كم تسيء الأدب بين يدي؟ من ذاك الكلب الأعمى حتى يذكر بين يدي في مجلسي؟!» •••
وهناك أناس استعظموه ولكنهم لم يفهموه ولا حقدوا عليه! وحسبوا أن قدرة الإنسان لا ترتقي هذا المرتقى، وأن سر بني آدم لا يخفى هذا الخفاء، فألحقوه بعالم المجهول ووصلوا بينه وبين سيطرة الفلك وقضاء الأقدار.
قالوا إن محمود بن صالح صاحب حلب اتهمه بالزندقة، فأمر بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسا ليحملوه، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يا ابن أخي! قد نزلت بنا هذه الحادثة، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارا علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخ الذل والعار. فقال أبو العلاء: هون عليك يا عم! ولا بأس عليك، فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟ فقال في منزلة كذا وكذا ... فقال: زنه واضرب تحته وتدا، وشد في رجلي خيطا واربطه إلى الوتد. ففعل غلامه ذلك، وسمعوه وهو يقول: يا قديم الأزل! يا علة العلل! يا صانع المخلوقات وموجد الموجودات. أنا في عزك الذي لا يرام، وكنفك الذي لا يضام ... الضيوف الضيوف! الوزير الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم ... وإذا بهدة عظيمة! فسأل أبو العلاء عنها فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين ... وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير.
ومن لم يكن عندهم ساحرا أو قديسا من ذوي الكرامات كان خارقة من خوارق التكوين أو طرفة من طرف الزمان. •••
رووا عن تلميذه أبي زكريا التبريزي أنه كان قاعدا في مسجده بمعرة النعمان بين يدي الأستاذ يقرأ عليه شيئا من تصانيفه، وكان قد أقام عنده سنين لم ير أحدا من أهل بلده، فدخل المسجد بعض جيرانه فرآه وعرفه فتغير من الفرح وأحس أبو العلاء بشيء فسأله: أيش أصابك؟ فحكى له ما رآه.
قال أبو زكريا فيما رووا عنه: فقال لي أبو العلاء: قم وكلمه! فقلت: حتى أتمم السياق. فقال: قم. أنا أنتظر لك. فقمت وكلمته بلسان الأذربية - أهل أذربيجان - شيئا كثيرا، إلى أن سألت عن كل ما أردت. فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت: هذا لسان أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته. غير أني حفظت ما قلتما. ثم أعاد علي اللفظ بعينه، من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه في جميع ما قلت. فتعجبت غاية التعجب! كيف حفظ ما لم يفهم؟
وحدث أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، قال: لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب. رأيت شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.
تلك هي العلامات الثلاث مجتمعات لأبي العلاء: إطناب في الإعجاب، ونهاية في الزراية، وحيرة في كلام واصفيه كحيرة المتحدثين عن خوارق الغيب وعجائب الأساطير.
وإذا بلغ من تعدد الجوانب برجل واحد أن يقول قوم إنه فخر بني الإنسان، ويقول قوم إنه كلب وحمار، ويسلكه أناس في زمرة الشيطان ويحسبه أناس وليا مستجاب الصلاة، ويخيل إلى فريق أنه ساحر وإلى فريق أنه طرفة من الطرف وأسطورة من الأساطير؛ فذاك هو الأفق الواسع، وتلك هي العظمة الباقية ... ومن شهده في زمانه فلا حاجة به أن ينتظر ألف عام ليعلم أنه باق إلى ألف عام، وأنه محتفل به بعد ألف عام، أو ينبئ الدنيا بامتداد خبره ما بقي لعصره خبر بين سجلات العصور. •••
وها قد مضى اليوم ألف سنة هجرية على اليوم الذي ولد فيه أبو العلاء لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة وثلاث وستين. ولد كثيرون في هذه السنين الطوال كما ولد، ومات كثيرون كما مات، وتكررت الولادة والوفاة في الأمم العربية مئات الملايين من المرات، ولكن ذلك المولد النادر لم يتكرر قط في هذه السنين، ولم يزل مولد ذلك الوليد حادثا فردا بين ثمرات الأصلاب والبطون، يستحق أن يعاد إليه من سنة إلى سنة، ومن جيل إلى جيل، ومن ألف عام إلى ألف عام.
وبين الذين كررتهم الدنيا ألوف من أمثال ذلك المسكين المغرور الذي أغضبه السؤال عن أبي العلاء بين يديه، ورأى من سوء الأدب في مجلسه أن يعاد له اسم على مسمع منه، ولكن التاريخ الذي كررهم كثيرا ومل من تكرارهم طويلا لم يدركه الملال من ترديد اسم أبي العلاء المغضوب عليه وعلى من سأل عنه. ولم ير من سوء الأدب أن يصبح ويمسي بتمجيده، وأن يحصي الأحقاب بعد الأحقاب لملاقاته في يوم عيده. بل رأى من سوء الأدب أن تمضي ألف سنة ولا يستوقف الزمن الماضي محتفلا بذكراه، مستعيدا لميلاده، مشيرا إلى مطلعه كما يشار إلى ظواهر الكون التي تستعاد، لأنها قلما تعود.
ولقد وقف على قبره - يوم وفاته - ثمانون شاعرا أو يزيدون، وتقف على قبره اليوم أمم العروبة جمعاء، وأمم شتى من جميع الأقطار والأنحاء، مئين أو فوق المئين، ينوب منها الشاهدون عن الغائبين.
وإذا عدل الزمان، فهذا الوفاء هو سواء الميزان، بين أناس وسموه بعزة القدر، وأناس وصموه بخسة الحيوان. •••
تسلفت هذه الذكرى قبل ست سنوات.
وكانت الصحف السورية قد نقلت إلينا في ذلك الحين أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، وكما نشير إليه بعد سطور.
فخطر لنا أن أبا العلاء قد دعي من حظيرة الخلود إلى شهود ذكراه، وأن الأمد لا يزال فسيحا بيننا وبين ذلك اليوم المشهود؛ ففي ذلك الأمد متسع لرحلة علائية حول الكرة الأرضية، يرى فيها ما يعنينا أن يراه، ويقول فيها ما ينبغي أن يقول، أو نقول نحن على لسانه ما يشبه مقاله في أوانه، قياسا على ما صنع هو في السماء حين حدثنا في رسالة الغفران بلسان الأدباء والشعراء، وجعل لهم من كلامهم وأخبارهم دليلا له في كلامه وأخباره.
فكتبنا يومئذ سلسلة هذه الفصول التي سميناها «رجعة أبي العلاء»، وعرضنا فيها حوادث الدنيا كما تتمثل له ولمن ينظرون إلى أمور العصر الحاضر مثل نظرته في سائر الأمور. ونحسب أننا أتينا بصفوة الآراء التي توافقه وتستخلص من جملة تفكيره، ما لم يكن قد تغير نظره بعد موته، وهو مستحيل!
ونحسب كذلك أننا لم ننحله رأيا ينكره لو أنه عاد إلى هذه الحياة الدنيا في زماننا هذا، لأننا شفعنا آراءه الحاضرة بأقواله المحفوظة فيما عرض له من خطوب زمانه، فتشابهت الأقوال وتقاربت الأحكام، وبقي على من يخالفنا أن يزعم أن هذه الآراء غريبة عن منحى أبي العلاء في تفكيره، ويثبت ذلك بكلامه وآرائه في مثل ما نحلناه. ويومئذ يظهر أن الإنكار هو الدعوى التي تفتقر إلى الشواهد والبينات. •••
وقد مضى الآن زهاء ست سنوات منذ كتبنا هذه الفصول، دارت فيها الأيام دورتها واضطربت فيها الحوادث اضطرابها. فلا شك أننا حين وصفنا الحوادث كما وصفناها واستطلعنا العواقب كما استطلعناها، لم نقحم على حكيم المعرة رأيا كذبه الواقع وأنكره الحق الصادع، ولم ننحله قولا يزري بصائب فهمه أو يقدح في صادق حكمه. فإن كنا وافقناه فقد أرضيناه، وإن كنا خالفناه فما أخجلناه.
ومن محاسن الاتفاق أن تحتفل الأمم العربية بتمجيد أبي العلاء وهي تتطلع إلى استقلال كريم يرضي الحكيم العربي الصميم، وتنهض إلى مجد طريف يستجد لها معالم المجد القديم، وأن تعاد «رجعة أبي العلاء» في طبعتها الثانية والدعوة إلى الاحتفال جارية إلى مجراها، ووفود الحجيج المعري مستبقة إلى ملتقاها، فهي تحية في الأوان، وقربان على ذلك المحراب ... مزاجه الشكر والعرفان.
عباس محمود العقاد
تمهيد
منذ سنة وشهور نشرت الصحف من أنباء سورية «أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاته، أو على ميلاده كما هو الأصوب ...» فالمعري كاره الحياة يعاد طوعا أو كرها إلى الحياة كرة أخرى!
خطر لي هذا الخاطر فأحببت أن أتخيل «رهين المحبسين» يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر، فماذا هو قائل؟ وماذا هو فاعل؟
لا شك أن أحوالا كأحوال العصر الحاضر قد كانت مشهودة معهودة في أيام أبي العلاء، ولا شك أننا واجدون في كلامه حكما مكشوفا أو ملفوفا على جميع تلك الأحوال، فأما ما يختلف من شئون زماننا وزمانه فهل يستطاع قياسه والنفاذ إلى رأي أبي العلاء فيه وفاقا لذلك القياس؟ وهل في مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم للجهر برأيه فيه؟
ذلك ما قد حاولناه في هذه الصفحات،
1
ونحسب أننا قد أصبنا فيه بعض التوفيق، إن تعذر التوفيق كله في مجال الفرض والتخمين.
ومضت فترة ولم نسمع خبرا عن المحفل المنظور: هل تم بناء الضريح؟ وهل تم نحت التابوت؟ وهل تمت العدة؟ وهل شريت الدور التي تحجب قبر الحكيم؟ الأرجح أن هذا كله ماض في طريق التمام، وأن المحفل المنظور قائم في موعد قريب، لكن أبا العلاء الذي بعثناه وأطفناه بالعالم كله مع بعض تلاميذه قد بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، وأحب أن يثوب إلى داره وأن يقر في قراره. فنحن هنا مثبتون قصيدا لأبي علائنا يودع به من سوف يستقبلونه، ويعتذر به لمن يمسكونه في الدنيا ولا يرسلونه، ويقول أو نقول في مكانه، ما ينبغي أن يجري على لسانه. وذلك هو نشيد الوداع في ختام هذه الصفحات، أنابنا في نظمه على سنة اللزوميات، فله الحسنة منه، وعلينا نحن السيئات. •••
قيل إن بعض المكتبات الإيطالية أهابت بالأدباء من العرب أن يوافوها باسم الأديب الذي تجتمع فيه خصائص العبقرية العربية، فأجمعت الآراء على أنه هو أبو العلاء.
وقواعد الانتخاب ليست بمقطع الرأي في مزايا الفنون والآداب، ولكنا نراها في هذه الفتوى قد حكمت بالصواب، وأجابت أحسن الجواب، إذ الحقيقة أن حكيم المعرة خير من يمثل الذهن العربي والسليقة «السامية» غير مستثنى في ذلك أحد حتى صاحبه أبو الطيب؛ لأن تمثيل الذهن غير تمثيل «الطبيعة العملية» التي يرشح فيها أبو الطيب للمكان الأول بين شعراء الضاد. وأبو العلاء هو الذي يمثل الذهن العربي في تفكيره وفي مقاييسه وفي نظرته إلى الدنيا، دون سائر المفكرين من الشعراء. •••
وعسى أن تكون هذه الآراء التي وضعناها على لسانه وقسناها إلى المعهود من كلامه هي ترجمان الذهن العربي حين ينظر إلى حقائق العالم في زماننا الحديث.
وفد
نقلت الصحف من أنباء سورية أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر حكيمها وحكيم العرب أبي العلاء، وأنها تعد العدة من اليوم للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، فإن الأمد لا يزال بعيدا بيننا وبين ذكرى وفاته، إلا إذا كان الغرض التقريب لا التحقيق، ولا حاجة إلى ذاك لقرب ذكرى الميلاد. •••
تمثلت مندوبي الحكومة السورية يحملون قرارها إلى شيخ المعرة، ويبلغونه أنه سيبنون تابوتا على قبره، وأنهم سيدعون علماء المشرق والمغرب إلى موطنه للاحتفال بذكرى ميلاده. فماذا يقول؟ وماذا يقولون؟
إن الشيخ ليتململ في مضجعه بعد أن استراح فيه مئات السنين، وإنه ليخاطب جدثه اليوم كما خاطبه وهو في قيد الحياة وقيد المحبسين:
يا جدثي حسبك من رتبة
أنك من أجداثهم معزلا
أملني الدهر بأحداثه
فاشتقت في بطن الثرى منزلا
ثم يسأل متثاقلا: من أنتم؟ وماذا تبغون؟ فلا يعلمونه من هم وماذا يبغون حتى يتهاتف قائلا: أتبنون لي تابوتا؟ أما قرأتم أو سمعتم قولي:
إن التوابيت أجداث مكررة
فجنب القوم سجنا في التوابيت
فيحار الجماعة، ولا يدرون بماذا يجيبون. ولكنهم حريصون على إقامة التابوت، وعلى تمجيد الرجل وتشريف مدفنه وتشريف ذكره، وسيكون بينهم ولا ريب أناس ممن عركوا السياسة وحذقوا أساليب الخطاب والتدرج في المجاملة والإرضاء، فيقول قائل منهم: أيأبى مولانا الكرامة والتشريف ؟!
فيجيب الشيخ:
لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي
ريب المنون فلا فضيلة للجسد
ثم يقول:
إذا أنا واراني التراب فخلني
وما أنا فيه، فالتراب مئونتي!
ثم يقول كما قال من قبل:
أأرغب في الصيت بين الأنام
وكم خمل النابه الصيت
وحسب الفتى أنه مائت
وهل يعرف الشرف الميت؟
فيلهم أحدهم أن يراجعه ببيت من كلامه، وأن يذكره أنه ليس بميت وإنما هو حي خالد، أوليس هو القائل:
وجدت الناس ميتا مثل حي
بحسن الذكر أو حيا كميت
فيأنس أبو العلاء إلى ما سمع، ويعجبه أن يروى له شعره بعد مئات السنين، ويسألهم: وماذا تريدون الآن من جمع الجموع حول هذا التابوت الذي تبنونه؟ أتراكم تمدحونني وأنا القائل:
إن مدحوني ساءني مدحهم
وخلت أني في الثرى سخت
فيجيبه أريب كيس من القوم يعرف كيف يتسلل إلى كمين الرضى من سريرة الشيخ، ويقول له: بل نثني على أنفسنا وعلى بلادنا بما أنجبت من فضلك وأحيت من ذكرك وحفظت من أثرك، فإنما يعيبنا ولا يعيبك أن ننسى هذا ونتمادى في نسيانه، ولن يضيرك أن نكف عن مديحك وأنت القائل عرفانا بقدرك:
فلا وأبيك ما أخشى انتقاصا
ولا وأبيك ما أرجو ازديادا
ولكنه يضيرنا كل الضير أن يثني عليك الغرباء ونحن سكوت، وأن يمدح الناس من ملل الأرض حكماءهم وشعراءهم ولا نمدحك ونشيد بمناقبك وسجاياك.
وكأنما يطلق ألسنتهم إصغاء الشيخ وارتياحه وما يعهدونه فيه من حب الصراحة والفكاهة، فيقول منهم قائل: ثم ماذا يخيفك اليوم من المديح، وقصاراك من خوفه أن تحسب أنك سخت في باطن الأرض؟! لقد أصبح الخيال حقا والحسبان واقعا، وجربت بطن الثرى مئات السنين؛ فلا ضير عليك اليوم أن تسمع من المديح الدواوين والأسفار! •••
فيضحك الشيخ ويتفسح للحديث ويجري معهم في مجراهم فيقول: لا يغرنكم يا أبنائي أنني أزهد في المديح وأنني أسكن إلى الزهد فيه وفي المجد والسلطان، فما أبرئ نفسي من كبرياء، وما أزعم أنني اخترت العزلة والفاقة عن صغر في المطامع أو قناعة بالحظ الوضيع، ولكنني لا أرى لأحد عيشا في هذه الدنيا إلا أن يسودها أو يستخف بها ويعرض عنها:
ذر الدنيا إذا لم تحظ منها
وكن فيها كثيرا أو قليلا
وأصبح واحد الرجلين: إما
مليكا في المعاشر أو أبيلا
وما أتيح لي أن أصبح مليكا في المعاشر، فأصبحت باختياري راهبا متبتلا أعرض عن الدنيا ولا أريها أنها هي التي أعرضت عني وبخست من حقي!
إذا كان هذا الترب يجمع بيننا
فأهل الرزايا مثل أهل الممالك
فيقول قائل منهم: نعم أيها الإمام. لقد كررناك حتى فهمناك كما قلت في بعض شعرك:
يكررني ليفهمني رجال
كما كررت معنى مستعادا
فما تخفى علينا خافية من هواجس ضميرك ولا تغيب عنا خالجة من خوالج طبعك، وإنك لمناضل مكبوح ومغامر محبوس، وإن نفس الزاهد منك لمقرونة بنفس السيد الذي لا يدين في الحياة لغير حكمه، ويأنف أن يموت حتف أنفه، وقد عشت هكذا في عالم الرأي آمرا لا يأمرك الحاكمون، وأبيا لا يخضعك المغلوبون، وتمنيت يوما:
من السعد في دنياك أن يهلك الفتى
بهيجاء يغشى أهلها الطعن الضربا
فإن قبيحا بالمسود ضجعة
على فرشه يشكو إلى النفر الكربا
وترددت بين القلم والسيف فقلت:
وإن العز في رمح وترس
لأظهر منه في قلم ودرج
وما أختار أني الملك يجبى
إلي المال من مكس وخرج
فدع إلفيك من عرب وعجم
إلى حلفيك من قتب
1
وسرج
سراجك في الدجنة عين ضار
وإلا فالكواكب خير سرج
ويقول الشيخ مبتسما: لقد أحصيتم علي فلتات اللسان وشوارد الأماني وشطحات الأوهام، وعملتم بوصيتي حين قلت:
اقرأ كلامي إذا ما ضمني جدثي
فإنه لك ممن قاله خلف
ولكني كنت أوثر لو نسيتم بعضه ومنه هذا الذي ذكرتموه، فما أحسب إلا أنني حاذفه من جملة كلامي لو تمكن من تلك الأوراق التي حفظتموه فيها، فاحذفوه! •••
ثم يخطر لبعض الحاضرين أنها فرصة لا تضيع، فيسألونه: ألا نحمل إليك تلك الأوراق فنراجعك فيما تغير منها وما تأمر بمحوه، بعد أن تنظر في الدنيا نظرة وتطلع منها على ما استجد من حالها وتبدل من خلائق أهلها!
فإذا الشيخ يتجهم هنيهة وقد عاودته سوداؤه وانقباض صدره وذهب يقول: أما خلائق أهل الدنيا فإنما يتبدل الرأي فيها لمن يراهم على إحدى حالتين: فمن قال إنهم كانوا في غابر زمانهم أهل ورع وصلاح وأصحاب كرم وتقوى. ثم عدت عليهم عوادي الزمن فصدوا عن سبيل الخير؛ فذلك خليق أن يصف منهم شأنا، ثم يعود بهم إلى شأن غير الذي وصف.
ومن قال إنهم اليوم جاهلون وغدا يعلمون، وإنهم اليوم على عوج وغدا يستقيمون، فذلك أيضا خليق بتبديل الرأي في الناس عصرا بعد عصر وأمة بعد أمة.
وما أنا هذا أو ذاك؟ أنا قد بلوتهم فعلمت أنهم هكذا كانوا منذ كانوا:
وهكذا كان أهل الأرض مذ فطروا
فلا يظن جهول أنهم فسدوا
ثم بلوتهم ورجوت صلاحهم واستأنفت الرجاء فيهم وعجبت من أمري معهم على شدة علمي بهم، وما زلت أستغرب من تلك الحال التي أحاولها وتحاولني:
وأعجب مني كيف أخطئ دائما
على أنني من أعرف الناس بالناس
حتى انتهيت إلى رأي لا يتبدل:
فلا تأمل من الدنيا صلاحا
فذاك هو الذي لا يستطاع
نعم ذاك الذي ما استطعته ولن تستطيعوه، ولكن:
نزول كما زال آباؤنا
ويبقى الزمان على ما ترى
وتذهبون في كل مذهب وتطمعون في كل مطمع، ثم تعلمون بعد خطأ لا تزالون ترجعون إليه أنه:
حكم جرى للمليك فينا
ونحن في الأصل أغبياء!
فهو داء عياء ليس له شفاء، وكنت أزعم أن الموت يبرئ الخلائق منه فهأنذا معكم لم أكد أشعر بظل الحياة حتى استرجعت من دائها كل ما كنت أشكوه وأعالجه وأرجو الغلبة عليه. كلا يا أبنائي: لا تحذفوا حرفا مما كتبت في خلائق الناس، أو احذفوه كله فما هو بضائركم أن تجهلوه، وهو منا ومنكم في الصميم، وإنه لباق في النفوس إن زال من الطروس.
تمثلت هذا الحديث بين شيخ المعرة وبعثة الحكومة السورية إليه، وأخال أنني على صواب حين أزعم أن الشيخ في طليعة الحكماء الذين لا يغيرون ما قالوه في هذا المعنى بعد آلاف السنين، لأنه لم يؤمن بالنكسة بعد العلاج، ولم يؤمن بالتقدم والارتقاء، فيتطرق الخلاف من أحد البابين إلى مجمل ما قال. لكن شيمة واحدة في حكيم المعرة أخالها لو تغيرت قليلا لتغيرت فلسفته جميعا من الألف إلى الياء، ولألغى كثيرا من سقط الزند وكثيرا من اللزوميات، ولخرج بديوان يقرأه القارئ فلا يهجس في خاطره ذكر المعري المعهود؛ لأن تغيير تلك الشيمة يخرجه خلقا جديدا لا يمت بقرابة ذهن ولا بآصرة نسب إلى ذلك الحكيم الذي عرفناه.
صاحب الجلالة المعري
قلت في ختام الفصل السابق: «إن شيمة واحدة في حكيم المعرة أخالها لو تغيرت قليلا لتغيرت فلسفته جميعا من الألف إلى الياء، ولألغى كثيرا من سقط الزند وكثيرا من اللزوميات ...»
فما هي تلك الشيمة؟
هي السمت والوقار، أو هي كما نقول في لغة العصر الحاضر أدب البيئة وأصول «اللياقة».
وهذه الشيمة في الواقع وازع قوي عظيم الهيمنة على جميع النفوس، وإن عدها بعضهم ثانية أو ثالثة أو رابعة في ترتيب الزواجر الأخلاقية والنفعية؛ لاعتقادهم أن الزواجر إنما تفعل في الطباع فعلها على مقدار ما يحيط بها من ضجيج وطنين، أو على مقدار ما لها من أسماء وعناوين، لا على مقدار بواعثها من الطبع ومن قوانين الاجتماع.
إن جميع الزواجر والأوامر والنواهي لا تخرج دانقا ولا سحتوتا من كنز المرأة العجوز الذي تجمعه من الدوانيق والسحاتيت، ليكون لها بعد وفاتها مشهد «يليق» ويجري مع العرف الشائع بين البيوت.
وإن الرجل ليقدم على جميع المحظورات غير حافل بالعقاب أو سوء المآب، حاشا المحظور الذي «يسقطه» في نظر الناس ويخل بقواعد المروءة في البيئة التي هو منها، فذلك حد لا يتخطاه إلا وقد تخطى قبله جميع الحدود واجترأ على جميع المنكرات.
وإن الخمر والزنا والسرقة لفي درجة واحدة من التحريم في بعض الشرائع السماوية، ولكن الناس يجانبونها أو يستبيحونها على حسب نصيبها من الزراية في البيئات التي يعيشون بينها، ونعني بها بيئة المعيشة وبيئة المعاشرة وبيئة التفكير. وربما وجد من الناس من يباهي ببعض تلك المحظورات في بعض بيئاته، وإن كانت في بيئات أخرى مجلبة العار والمذمة والنفور.
وربما استخف المرء أو المرأة بكل منكور وممنوع، إلا أن يزف بنته أو بنتها مثلا في شوار أقل من الشوار المصطلح عليه، مع أنه غير ممنوع في دين ولا في قانون ولا في شرع معقول، ولكنه ممنوع في أدب البيئة أو أدب اللياقة ... فهو إذن أصعب الممنوعات. •••
والخلاعة هي غاية السقوط عند العرب أو عند المتكلمين باللغة العربية، وإنما الأصل في الخليع أنه الرجل الذي يخلعه أهله ويبرأون منه، فهو من ثم يجلب على نفسه أكبر العار، وإن لم يقارف شيئا من معاصي الدين والقانون على حسب العرف الحديث.
وإنهم ليجدون متسعا من القول في كل عاص، وكل جارم، وكل آثم، إلا الخليع فلا متسع فيه من القول بعد الخلاعة. وما عسى أن يقول القائل في خليع؟ تلك غاية الغايات وقصارى الموبقات، فلا ملامة ولا عتاب!
المعري مثل من الأمثلة البالغة على سلطان البيئة أو على سلطان أدب «اللياقة» وأدب العرف والتقاليد.
فهذا الحكيم الذي عرض على فكره كل أصل من أصول الحكمة وكل مذهب من مذاهب الدين، فلم يقبل منها إلا ما ارتضاه برهانه، ولم يتخذ له إماما غير العقل في صبحه ومسائه، هو بعد هذا كله أسير «أدب اللياقة» يمنعه هذا الأدب ما ليس يمنعه شرع ولا فلسفة ولا عقيدة، وهذا القائل:
وسيان من أمه حرة
حصان ومن أمه زانية!
هو هو الذي يأبى أن يدخل الوليد على النساء بعد بلوغه العاشرة، ويأبى أن تذهب المرأة إلى الحمام، ويخشى على عرضها أن تخرج إلى الحج فلا يعده فريضة على عجز النساء ولا العذارى!
ذلك هو «السمت اللائق» بالمرأة في شريعة البيئة؛ فالسيدة الحصان تنجبها الأسرة الوقور لن تكون إلا على هذه الصفة، ومتى وصلنا إلى السمت اللائق أو إلى أدب اللياقة فأبو العلاء وسائر أبناء البيئة سواء، والفيلسوف الذي قال:
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مقيما في صبحه والمساء
لا يعنيه من إمامة العقل هنا إلا ما يعني قعائد البيوت وعجائز الأمهات والجدات، ذوات البنات يلتمسن الأزواج في ستر وحشمة وصيان! •••
ولعلنا تسهلنا بعض التسهل إذ قلنا: إن أبا العلاء وسائر أبناء البيئة سواء ... فإنه لأشد تحرجا من كثيرين، وإنه ليحظر على نفسه ما يبيحه آخرون، وإنه ليحسب الوقار جمالا لا يدانيه جمال في الرجال، فإن حذر من الشيخوخة آفة فإنما يحذر أن يدركه الخرف:
وما أتوقى والخطوب كثيرة
من الدهر إلا أن يحل بي الهتر
وإذا رثى أباه في صباه وهو يتخيل موقف الحشر ورهبة القيامة وزحام العطاش على الحوض فليس ينسى أن يسأل عن ذلك الأب:
ألا ليت شعري هل يخف وقاره
إذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الروي مبادرا
مع الناس أم يأبى الزحام فيستأني؟
فكأنه يقف بالدين والفلسفة عند باب العقل، ثم يقف بالعقل عند باب الوقار أو أدب اللياقة، ثم لا يسأل هذا السلطان الجائر سؤالا واحدا من تلك الأسئلة التي كان يشنها من كل جانب على جميع السلاطين وجميع الدولات وجميع الأحكام، ولو أنه سأل وأباح نفسه الجواب الصريح لما أخذها بكل تلك الصرامة ولا أحال عليها كل تلك القيود.
أما مرجع ذلك السلطان الجائر من حياة أبي العلاء فهو أسباب كثيرة وليس بسبب واحد:
مرجعه إلى تربية الأسرة:
فقد كان أبوه وأمه من ذوي الوجاهة والصلاح، وكان آل أبيه يتوارثون القضاء في بلده ويعيشون بين الناس كما يعيش رجال الدين ورجال الحكم على شعائر المروءة والتعفف والأنفة من غشيان مواقع الشبهات، وعلى الهيبة التي لا غنى عنها لمن يسوسون الرعية باسم الله واسم السلطان.
ومرجعه إلى الخليقة العربية:
فقد كان أبو العلاء عربي النجر عربي الطبيعة، يفهم أن العرض قوام الشرف والعزة، وأن الابتذال هو الهوان الذي ما بعده هوان، وأن الرجل الذي يجترئ عليه المجترئ بمذمة أو سخرية هو حمى مستباح، وأن من لا حياء له لا حياة له ولا خير فيه، وأن السنة ما سنه الآباء وجرى عليه العرف وسارت به الأمثال وحسنت به القدوة.
ومرجعه إلى فقد بصره:
فإن الضرير قد يصيبه السخر والملام لأمور يواقعها البصير ولا من يسخر به أو يلومه، وإن البصير قد يمارس من الشهوات ما يأمن الفضيحة فيه، لأمانه من أن يطلع عليه أحد غيره، وليس ذلك في مقدور الضرير؛ فإما الفضيحة والعار وإما الزهد والوقار.
ومرجعه إلى كبريائه وعزة نفسه:
فإن الأعمى قد تهون عليه الفضيحة في سبيل الشهوة، إلا أن تكون له كبرياء تأبى له المهانة والابتذال، فيهون عليه فقد الشهوات واقتناء الكرامة.
ولقد رأينا أن أبا العلاء كان لا يرضى من الدنيا إلا بالسيادة عليها أو بالإعراض عنها، فإما الملك وإما الرهبانية ولا توسط عنده بين الأمرين، فلا يحسبن أحد أن «فكرة الملك» عارضة في ذهنه كما يعرض الخاطر في خلد الشاعر، فإن «للمجد الدنيوي» لنزعة مكبوتة في قرارة ضميره يدل عليها شعره ونثره، ولا تزال غالبة عليه في جمحات الأهواء وفلتات اللسان. فسرعان ما يثب إليها كلما عرضت لها لمحة ظهور، وله في ذلك أبيات تعد بالعشرات منها:
لا ملك لي وأرى الدنيا تحاصرني
وما حججت وقد لاقيت إحصارا
ومنها:
ما سرني بقناعة أوتيتها
في العيش ملكا غالب وذمار
ومنها:
لو شاء ربي لصاغني ملكا
أو ملكا، ليس يعجز القدر!
ومنها:
وزهدني في هضبة المجد خبرتي
بأن قرارات الرجال وهود
ومنها:
لا كانت الدنيا فليس يسرني
أني خليفتها ولا محمودها
ومنها:
محمودنا الله والمسعود خائفه
فعد عن ذكر محمود ومسعود
ملكان لو أنني خيرت ملكهما
وعود صلب، أشار العقل بالعود
ومنها:
ما سرني أني إمام زمانه
تلقى إلي من الأمور مقالد
ومنها:
أسر إن كنت محمودا على ضعتي
ولا أسر بأني الملك محمود
وقد أعجبه أن يراه راء في الكرى يلبس تاجا فقال:
رآني في الكرى رجل كأني
من الذهب اتخذت غشاء راسي
قلنسوة خصصت بها نضارا
كهرمز أو كملك أولي خراس
فقلت معبرا: ذهب ذهابي
وتلك نباهة لي في اندراسي
ولعل الرائي هو أبو العلاء نفسه قد أظهر له المنام ما أخفاه العقل الباطن من نوازع الكبرياء، أو لعله صاحب خبيث قد استطلع طلعه وعرف شموخ طبعه فرأى المنام حقا أو لفقه له ليغنم رضاه.
وكأنه لما فاته التاج وسوس له «عقله الباطن» في المنام فرأى تلك الرؤيا، ووسوس له في اليقظة فقال في المفاضلة بين تاج الملك وتاج الزاهد:
والتاج تقوى الله لا ما رصعوا
ليكون زينا للأمير الفاتح
وأمثال هذه الأبيات وعشرات مثلها لا تبدر من رجل يمزح حين يقول: كن في الدنيا كثيرا أو قليلا، فإما مليكا أو راهبا ... ثم تدركه الأنفة أن يأكل من رزق غيره مع الرهبان فيقول:
ويعجبني فعل الذين ترهبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
كلا! ذلك الرجل قد تغلغلت الأنفة في أعماق طبعه، فما هي عنده كلمة مجاز أو كلمة مزاح أو شطحة خيال.
تلك مراجع شتى لعادة السمت أو «أدب اللياقة» في خلائق أبي العلاء.
ومرجع آخر نضيفه إليها ولا نحسبه قليل الأثر في تكوين تلك العادة: أنه كان ضعيف البنية ضعيف الخوالج الجسدية؛ فلم تغلبه شهوات اللحم والدم ولم يعسر عليه ضبطها في عنان السمت مدى تلك السنين الطوال.
على هذه المراجع جميعها قام «أدب اللياقة» في خلائق أبي العلاء، أو قامت تلك الشيمة التي قلنا إنها لو تغيرت قليلا لخرج أبو العلاء رجلا آخر: من يقرأه لا يهجس في خاطره ذكر المعري المعهود. ترى هل كان تغييرها من المستطاع؟
وماذا كان المعري صانعا لو قدر على تغييرها؟
عالم السريرة
قلنا في ختام الفصل السابق إن الخصلة التي لو تغيرت في أبي العلاء غيرت معيشته كلها أو غيرت مذهبه في الحياة كله، هي خصلة الوقار وكراهة السخر والمهانة، أو هي خصلة «اللياقة» كما نسميها في العصر الحديث.
وقلنا إن هذه الخصلة مردودة فيه إلى مراجع كثيرة، وهي التربية في بيت العلم والوجاهة، والسليقة العربية، وفقد البصر، والكبرياء، وضعف البنية ضعفا أتاح له أن يكبح نوازع اللحم والدم ويقمع دوافع الشهوات.
وسألنا: هل كان من المستطاع تغيير هذه الخصلة؟ وماذا كان المعري صانعا لو أنها تغيرت بعض التغيير أو كل التغيير؟ •••
وعندنا أن تغييرها كان مستطاعا كما يستطاع كل تغيير في عوارض الصفات.
فإن تلك المراجع التي أنشأت فيه حب الوقار ليس من شأنها أن تنزع بصاحبها إلى النسك والزهد في الحياة إلا إذا اجتمعت في وقت واحد.
أما إذا افترقت ولو بعض الافتراق فليس النسك لصاحبها بلزام، وليس حتما عليه أن يأنف من نعيم الحياة.
إذ ليس كل من تربى في بيت من بيوت العلم والدين والوجاهة بصادف عن اللذات والشهوات، أو بعاكف على الصوامع والدور التي يسميها المحابس، والأمثلة فيما نراه وفيما نقرأه كثيرات.
وليس كل عربي تمنعه صيانة العرض أن يعاقر الخمر ويستطيب المجون، فإن امرأ القيس وطرفة والأعشى عرب في الصميم من العروبة، ومجونهم مع ذلك كمجون الشعراء من أبناء الأمم الأخرى في عهود الجاهلية وعهود الأديان.
وليس كل ضرير عازفا من مواقع الشبهات، فإن بشارا قد ولد ضريرا وإنه لأسبق إلى الشبهات من المبصرين.
وليس كل ضعيف البنية معرضا عن حظوظ الأقوياء والأشداء؛ إذ ربما كان ضعف البنية سببا إلى الإفراط في التماس تلك الحظوظ، لأنه يضعف الإرادة فلا تقوى على كبح سورات الطبع ووساوس الإغراء، وكذلك ليس المتكبر مترفعا أبدا عن الطرب والسرور؛ لأنه إذا كان بصيرا لم يكن في طربه وسروره ما يجلب عليه السخر والمهانة، أو يعرضه للتغامز والتقريع بل لعله يرضي كبرياءه أحيانا من طريق غزوات الحب ومظاهر البذخ والثراء. •••
أما إذا اجتمعت هذه الأسباب كلها فمن الصعب أن يفلت الطبع الواحد من أوهاقها، ومن الصعب أن يوفق بينها جميعا إلا كما وفق بينها أبو العلاء، أي باجتناب الدنيا والتزام العزلة والقناعة.
لكن افتراقها كان ميسورا لا استحالة فيه، فلم يكن ضربة لازب أن يصاب أبو العلاء بالجدري في طفولته الباكرة، ولم يكن ضربة لازب إذا أصيب به أن يفقد بصره وأن يعيش بعد ذلك رهن المحبسين. وماذا يبقى من معيشة أبي العلاء أو من فلسفته في المعيشة إذا لم يكن رهن المحبسين؟
أكبر الظن في هذه الحالة أنه كان يجمع بين النواسية والخيامية في نمط واحد، أو كان يخرج لنا نمطا جديدا يضاف إلى نمط النواسي ونمط الخيامي في ديوان الآداب الشرقية، ويكون لا ريب نمطا بديعا خليقا بذلك الذهن الوقاد وذلك الطبع الأصيل.
وفي المعري جميع العناصر التي تخرج منه ذلك النمط البديع، ونعني به النمط الذي يذكرك عمر الخيام أو يذكرك الحسن بن هانئ قبل أن يذكرك أبا العلاء الذي عهدناه ودرسناه.
عنده الشك في أخلاق الناس وعقائدهم، فهو القائل:
ما فيهم بر ولا ناسك
إلا إلى نفع له يجذب
وهو القائل:
توهمت يا مغرور أنك دين
على يمين الله: ما لك دين!
وهو القائل:
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عمد مساء
وهو القائل:
وما يحجون من دين ولا نسك
وإنما ذاك إفراط من الأشر
وهو القائل وفيه كل سخرة بخلائق الناس وخلائق نفسه:
عرفتك فاعلم إن ذممت خلائقي
ورابك بعضي: أن كلك رائبي!
وعنده الرغبة في الحياة والشغف بمتاع الدنيا، وكلامه في ذلك كثير.
منه قوله:
تناهبت العيش النفوس بغرة
فإن كنت تسطيع النهاب فناهب
ومنه قوله:
والمرء ليس بزاهد في غادة
لكنه يترقب الإمكانا
ومنه قوله وهو أصرح مما تقدم:
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه
وعنده الشك في عقبى النفس وما يستتبعه ذلك الشك من قلة المبالاة والمساواة بين المحامد والمثالب، ولعل أوجز كلامه في هذا المعنى قوله:
وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى
فإن كان حقا فالنجاسة كالطهر
أما الخمر فلا أستبعد أن الشيخ قد ذاقها في بعض الأديرة التي كان يغشاها للدرس ومراجعة المذاهب، فإن أوصافه لها أوصاف من لا يقتصر في العلم بها على السماع.
بل لا أستبعد أنه كان يذوقها من حين إلى حين في بعض أيام العزلة كما ينم عليه قوله:
فلم تشربنها ما حييت، وإن تمل
إلى الغي فاشربها بغير نديم
وإنك لتقرأ نهيه الكثير من الخمر فتلمس فيه نزاعا شديدا إليها يغالبه ويعاوده في معظم أيامه كما يؤخذ من قوله:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
أو في قوله:
أيأتي نبي يجعل الخمر طلقة
فتحمل شيئا من همومي وأحزاني؟
وهيهات لو حلت لما كنت شاربا
مخففة في الحلم كفة ميزاني
أو من قوله:
لو كانت الخمر حلا ما سمحت بها
لنفسي الدهر لا سرا ولا علنا
أو من قوله:
لا أشرب الراح أشري طيب نشوتها
بالعقل أفضل أنصاري وأعواني
أو من قوله:
لو كان قدسا
1
ثم هبت ريحها
بهضابه لم يبق فيه وقار
لو يحمل الشرب الرواسي أوهموا
أن ليس فوق ظهورهم أوقار
أو من قوله:
وما قصرت لي أم ليلى بشربها
حنادس أوقات علي طيال
أو من قوله:
لا ينزلن بأنطاكية ورع
كم حلل الدين عقد للزنانير
بها مدام كذوب التبر تمزجه
للشاربين وجوه كالدنانير
أو من قوله:
لقد خدعتني أم دفر
2
وأصبحت
مؤيدة من أم ليلى بسلطان
إذا أخذت قسطا من العقل هذه
فتلك لها في ضلة المرء قسطان
أو من قوله:
لا أشرب الراح ولو ضمنت
ذهاب لوعاتي وأحزاني
مخففا ميزان حلمي بها
كأنني ما خف ميزاني
إلى أضعاف هذه الأقوال وما شاكلها في اللزوميات خاصة، وهي من بعض الوجوه أشبه الأشياء بمفكراته الشخصية، وهذا عدا ما جاء في رسالة الغفران من وصف مجالس الشراب ولذات الشاربين في الدنيا والآخرة.
فإن لم يكن في كل ما تقدم دلالة على أن الشيخ قد ذاق الخمرة وعاد إلى مذاقها بعد لزوم المحبسين ففيه دلالة على اشتهائها ومغالبة نفسه عليها، مغالبة ليس بالهين نسيانها وصرفها من ذهنه وهواجس ضميره. •••
ويرجح الظن بنزوع المعري هذا النزعة بين الخيامية والنواسية أنه كان يعيش في عصر فتنة واضطراب، وجزع على الأنفس والأعراض، وتلك عصور يشيع فيها الفساد وتندر فيها العصمة ويكثر فيها اغتنام الفرص والتهافت على اللذات، ولا سيما على ملتقى الطريق بين حضارة الروم وحضارة العرب وحضارة الفرس، وكلها في ذلك العهد حضارات أخذت في الزوال ولم تستبق من المناعة والتماسك ما يزجر النفوس ويعصم الأخلاق ويحيي شرائع الآداب.
لكن لماذا نقول الخيامية والنواسية ونفرق بين الطريقين وكلا الرجلين الخيام وأبو نواس معاقر كأس مقبل على متعة، مستخف بالذم والثناء؟
نقول ذلك لأنهما على اتفاقهما في العمل مختلفان في أسبابه ودواعيه وغاياته.
فالخيام يشرب وينعم لأنه عالج مشكلات الوجود فاستعصى عليه حلها فقنع بالساعة التي هو فيها وعمد إلى الكأس يغرق فيها شكوكه وأسفه على بطلان الحياة وعاقبة الحياة.
أما أبو نواس فلا شكوك عنده ولا مشكلات، وإنما هو شارب خمر لأنه يشتهيها ويتصدى لعقاب الآخرة في سبيلها، فالآخرة عنده حقيقة مفروغ منها وليست قضية في طريق الحل والجلاء، كما كانت في مذهب عمر الخيام.
أما أبو العلاء فهو قريب من أبي نواس في الثقافة العربية وقريب من الخيام في التفكير والبحث عن أصول الأشياء، فهو لا يكون كهذا ولا كذاك حين يستسلم لمتاع الحياة، ولكنه يكون نمطا وحده يأخذ من كليهما بما هو قريب إليه، وقد يترجم هذا النمط بعض الترجمة بقوله:
السيف والرمح قد أودى زمانهما
فهل لكفك في عود ومضراب
إلا أننا نسأل ويحق لنا السؤال: هل كان حتما لزاما على المعري إذا هو سلم من الجدري وعاش بصيرا بين أهل زمانه أن يدرس الدراسة التي تشككه وتدفع به إلى البحث في أصول الأشياء؟ ألم يكن من الجائز أن استغراقه في الدراسة إنما كان نتيجة لفقد بصره وانصرافه عن الدراسات الأخرى التي يشتغل بها طلاب المناصب والمساعي الدنيوية؟ ألم يكن من الجائز أن يدرس - وهو طفل بصير - تلك الدروس التي ترشحه للقضاء كما رشحت بعض أهله من قبله؟ ألم يكن من الجائز إذا علمه أهله ليرشحوه لوظيفة القضاء أن يكتفي بدروسه الفقهية ولا يسترسل في دروس الحكمة والفلسفة وشكوك الأديان؟
كل ذلك مما يجوز، وقد ذكر هو المراتب والتطلع إليها في مواضع من شعره، وذكر الفتيا فقال:
قلدتني الفتيا فتوجني غدا
تاجا بإعفائي من التقليد
وقال يخاطب أبناء بلده:
يا قوم لو كنت أميرا لكم
ذممتم في الغيب ذاك الأمير
فإذا قنع الطفل أبو العلاء بدروس الوظائف والمساعي الدنيوية فربما ولي القضاء وعاش عيشة القضاة في زمانه، فلا يطيل الدرس ولا يتشعب في مناحيه بعيدا من فقه الدين وفتاوى القضايا الشرعية، وإذا تمادى به البحث مرة ودعاه إلى ذلك بعض ما يسمع ويرى من حوله فما هي إلا خطرة عارضة، لا تلبث أن تذهب كما جاءت أو تنطوي في خبايا النفس مزوية عن الأسماع والأبصار.
لقد كان إذن يجد الوظيفة والبصر ولكنه يعيش بعد موته في ظلام التاريخ.
لقد كان يعيش إذن جاهلا حقيقة نفسه ويموت مجهولا بين عارفيه منذ قضى نحبه إلى أن يشاء الله.
أبو العلاء هو أبو العلاء
قال الرسول: ألم يجمع شيخنا العظيم رأيا فيما اختار من تلك الشخوص؟
قال أبو العلاء: شيخنا العظيم قد اختار وفرغ من اختياره.
قال الرسول: أفيأذن مولاي أن أسأله عما اختار منها؟
قال أبو العلاء: بل هو يسألك ماذا أنت مختار له من تلك الشخوص؟ فلعله يهتدي منك بهدى فيما يؤثره لنفسه، من شكول حياته وأحوال وجوده.
قال الرسول: عفوك اللهم وغفرانك! أفمثلي يهدي أبا العلاء؟ وفيم أهديه - تعاليت ربي وتباركت - فيما يأخذ من شأنه وفيما يدع؟! وفيما يؤثر لنفسه وفيما يأبى؟! ماذا أسمع منك مولاي؟ وهل بلغ من قدري أن أصبح هدفا لسخرك إن كنت ساخرا، وغرضا للتهكم منك إن طاب لك أن ترجع إلى تهكمك القديم؟
قال أبو العلاء: ولا كل هذا يا بني ... ما أنا بساخر منك ولا متهكم، وإنما يعجز الإنسان غاية العجز حين يختار لنفسه، ويقدر غاية القدرة حين يختار لغيره، وليس صاحب الحكمة بدعا في هذه السنة التي شملت أبناء آدم وحواء، بل لعل الحيرة أعظم والتردد ألزم حين يختار الحكيم وينظر في مختلف الشئون؛ قياسا على كثرة ما يرى وكثرة ما يستوعب من المزايا والنقائص، وكثرة ما يعلم للمسألة الواحدة من وجوه وأطوار. فلا جرم تكون أهلا للسؤال الذي سألتك وأنا أحوج إلى جوابه منك إلى جوابي، فإنما أنظر إلى شخوصي كما ينظر الأب إلى أبنائه، فلا أدري من منهم الأثير الراجح ومن منهم المزوي المرجوح. وأنا بعد صاحب الاختيار ومن يقع عليه الاختيار، وأنا بعد الشاهد والمشهود عليه، فما بالك تستغرب مني أن آنس إلى خاطر يخطر لك أو ظن يحوم في خلدك! قل يا بني ولا حرج عليك من حكمة حكيمك العظيم كما تدعوه. ما أنت بجاهل وما أنا بعليم:
وما العلماء والجهال إلا
قريب حين تنظر من قريب
قل الرسول وهو مأخوذ: ذلك علم أستفيده منك إذ أنت تنكر العلم يا مولاي على نفسك، وقصاراي أن أسألك عن شخص من شخوصك التي تعرض عليك، وأن تقول لي ما تحمده منها وما ليس عندك بحميد، وأنا الرابح بما أسمع، وإن لم يبلغ من رأيي أن يضاهي رأي الشيخ فيما يريده وما يأباه.
قال أبو العلاء: قل على بركة الله ...
قال الرسول: ذلك قاضي قضاة المعرة أول تلك الشخوص، أتمثله سيدا جليلا ينظر إلى الدنيا وتنظر الدنيا إليه، وينعم بنصيب من الحياة يعلن منه ما يعلن ويبطن منه ما يبطن، ويسأله الناس في العلم والدين، ويقصده القاصدون فيما يشكل عليهم من قضايا الفكر، وقضايا المصالح والحاجات ...
ومضى الرسول يطنب في مآثر قاضي القضاة وهو ينظر إلى وجه أبي العلاء فيراه يبتسم ويصغي في غير قليل من الرحمة والحدب، وغير قليل من العجب والاستجهال، ويتأنى الرسول في كلامه ويكفكف بعض الشيء من إطنابه وغلوائه، فيعمد الشيخ إلى الكلام كمن لا ينشط إليه، ويقول للرسول سائلا: في أقاليم الهند والصيد ألوف وألوف من أجيال البشر الأحياء في هذا الزمان، أفتراني لو عدمت الحياة أحسب نفسي حيا لأنهم أحياء، وأزعم أنني أعيش لأنهم يعيشون؟
قال الرسول: كلا يا مولاي، فإن لهم حياتهم وللشيخ حياته، ولهم أعمارهم المعدودة وللشيخ عمره المعدود.
قال شيخ المعرة: فتح الله عليك. فما أنا وذلك القاضي الذي وصفت؟ وما نصيبي من الحياة إن عاش هو وسمى نفسه أبا العلاء؟ هو رجل من أهل الصين ما سمعنا به في الأولين!
إنما أبو العلاء هو أبو العلاء حين يمعن في أغوار ضميره فيلمح هناك هواجس قلبه وشكوك عقله، ومادة علمه واختباره وآثار نعمته وحرمانه، وما حصل أو ضيع من أحلامه وأشجانه، وغاية ما ينتهي من ظنه أو يقينه، فما أنا وقاضي قضاتك يا بني؟ ذره وما اختاره يعيش كما اختار له أمراؤه وطلاب عدله وإنصافه، فإن الصلة بيني وبينه كما قلت لك كالصلة بيني وبين ألوف ممن عاشوا أو يعيشون في أرجاء الهند والصين، فما اجتاز صاحبنا من حقيقة أبي العلاء عتبة الدار، ولا صعد منها إلى ذروة ولا هبط إلى قرار.
قال الرسول: فما قول شيخنا أفاده الله في الشاعر النواسي يحيا حياته وينعم نعيمه، ويرتع في لذات العيش كما رتع، وينظم الشعر كما نظم، ولا يحرم الشهرة بعد زمانه، ولا الحظوة بين معاصريه وأقرانه؟
قال أبو العلاء متهانفا مستكرها: لو سرني أن أعيش عيشه لسرني أن أخلد خلوده وأن اشتهر اشتهاره في زمانه وبعد زمانه: ذاك نديم يا بني وتلك غاية مرتقاه، فكيف تراني أوثر مكان النديم ومن فوقه مكان من ينادمه ويرجو مسرته ويبتغي صلاته وعطاياه؟
رحم الله ابن هانئ، ما اقترب من الأفق إلا حين قال:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
ثم أبى أن يمتحنها وامتحنتها أنا في كل يوم، وشرب من يدها الخمر لذة للشاربين وكرهت أنا أن أقبل الضيافة من عدو بغيض، ولو لقيته لسألته: ما بالك لم تمتحنها يرحمك الله تركتها محنة لك لا تألوك امتحانا في ليل ولا نهار؟
خذه يا بني إلى جانب قاضيك فما كان لي من أرب في هذا ولا ذاك. •••
فوجم الرسول التلميذ هنيهة، ثم قال وهو يقدم ويحجم: هل أسأل الشيخ عن الفارسي عمر الخيام؟
فهش أبو العلاء وقال: نعم تسأل، فبماذا تخالني مجيبا إن سألت عنه؟
قال التلميذ: أحسب أنني فطنت لاختيار أستاذنا من تلك الشخوص التي عرضت عليه.
إن أستاذنا ليختار الفيلسوف الفارسي وإنه ليرضى عن بحثه وزهده، وإنه ليقنع كما قنع برغيفه وقدحه وحبيبه، وإنه لينظر بعد ذلك في السماوات والأرضين بعلم المنجم وخبرة الحكيم، وإنه ليتبوأ من سيرة الخلف بعد زمانه مكان الهداية والتعليم، لا مكان السمير والنديم!
فبدا على وجه الحكيم الضرير قطوب يسير، ولكنه قطوب الروية والمراجعة لا قطوب الكدر والانقباض، وهمس بين شفتيه كأنه في حديث نجوى: أتراني أكون نسخة منقولة من أحد كائنا ما كان؟
ثم جهر قائلا: كلا يا بني! لقد كنت أختاره لو أنني خيرت فيه قبل ميلادي وميلاده، أما اليوم فما لي في هذا الشبه من أرب: رضي الله عنه فهو أقرب من آثرت وأصعب من أبيت.
ثم عاد يقول: لئن حظي بلذة التعاطي لما حظي بقوة الامتناع، ولئن سكر بخمر الدعة لما سكر بخمر الأنفة، ولئن جرب اتباع الدنيا خطوة واحدة لما جرب الإعراض منها خطوات، له طريق ولي طريق، وربما التقينا في بعض الطريق!
ثم صاح الشيخ بتلميذه ورسول القوم إليه: ما بالك يا بني ترضى لي كل صورة إلا الصورة التي رضيتني من أجلها؟
قال التلميذ: تعني يا مولاي صورة أبي العلاء؟
قال الشيخ: نعم، إياها أعني ولا أعني سواها.
فعجب التلميذ عجبا لم يدر له منفذا ولا منصرفا: أيقضي الشيخ حياته في التبرم والإنكار ثم لا يختار حين يختار إلا ما تبرم به وأغرق في إنكاره؟
هذا والله لهو العجب العجاب والحيرة جد الحيرة في قضاء الناس مع الأقدار وقضاء الأقدار مع الناس.
وكأنما أدرك الشيخ ما يهجس به ضمير التلميذ، فقال له: تراه عجيبا؟ أليس كذلك؟
قال التلميذ: لا أكتمك عجبي فأنت به أعلم، وما أدري كيف شكوت الدنيا ثم كيف تختار اليوم ما كنت تشكوه؟
قال: أضرب لك مثلا، فإنما بالأمثال تنجلي المشكلات والمشابهات:
هبك خرجت إلى العالم العريض الرحيب فجعلت لا ترى مزية ولا حسنا ولا فضيلة في أحد من الناس إلا تمنيت ذلك لنفسك، هبك تمنيت من هذا عينيه، ومن هذا أنفه، ومن هذا قوامه، ومن هذا فكره، ومن هذا عافيته، ومن هذا أرزاقه وأمواله، ومن هذا ماضيه، ومن هذا حاضره ومستقبله، ومن هذا ملكة الشعر أو ملكة الغناء أو ملكة الحكم أو ملكة التدبير.
وهبك جمعت كل هذا في شخصك فأين تكون أنت بين جميع هذه الشخوص؟
لا تجب فإني مغنيك يا بني عن الجواب: إنك يومئذ لا تكون.
إنك تكون أنف زيد وعين بكر ولون خالد وسطوة فلان ومال آخرين، ولكنك أنت لن تكون وأنت أنت الذي يعنيك أن تكون جميع هؤلاء، وإذا كنت جميع هؤلاء فلا أنت ولا هؤلاء كائنون.
وقال التلميذ: ألا يتسنى لي أن أحتفظ بأساس وجوهر ثم أتمنى النوافل والعروض؟
قال الشيخ: ذلك خطؤكم القديم. فما من عرض إلا وهو داخل في صميم الجوهر، وما من شرفة في أعلى البناء إلا وللأساس منها عماد، وإن بصري الذي فقدته لجزء من تكويني لا أنزعه إلا انتزعت كلي معه فلم يبق لي ما أختار به ولا ما أختاره ... ولقد يكون من عوارض الحياة مال يذهب ومال يجيء، ودار تسكنها هنا ودار تسكنها هناك، ولكنك إذا كسبت المال وفيك طبع الفقير فكأنما وقع الدرهم في يمين غير يمينك. وإذا سكنت الدار وخلفت فيها ذكريات شبابك فأنت ساكنها وإن تحولت منها إلى العدوة الأخرى، وإذا وجدت مرة فلن توجد إلا على صورة واحدة في هذه المرة، وكل ما تختاره بعد ذلك فإنما هو من وحي تلك الصورة، ليس منه محيص ولا محيد.
كلا يا بني، لن يكون أبو العلاء إلا أبا العلاء!
بساط الريح
قال الشيخ: الحمد لله استطعنا وفعلنا.
قال الرسول: إن الفضول ذميم في كل شيء يا مولاي إلا في طلب العلم والسؤال عنه. أفيأذن لي أستاذنا في سؤال؟
قال الشيخ: أحسبك تسألني عما استطعت وفعلت؟
قال الرسول: نعم. هو ذاك!
فصمت الشيخ قليلا كمن يستحضر نغما بعيدا أو كلاما منسيا ثم أنشد:
وماء بلادي كان أنجح مشربا
ولو أن ماء الكرخ صهباء جريال
فيا وطني إن فاتني بك سابق
من الدهر، فلينعم لساكنك البال
فإن أستطع في الحشر آتك زائرا
وهيهات لي يوم القيامة أشغال
هذا الذي استطعناه وفعلناه: عودة إلى الوطن وزيارة للمعرة في هذا الحشر الذي حشرتمونا إليه.
فأخذت الرسول شيطنة التلاميذ في كل سن وفي كل مقام، وراح يقول لأبي العلاء: ومع هذا أنت القائل:
فيا ليتني هامد لا أقو
م إذا نهضوا ينفضون اللمم
فأدار الشيخ رأسه ناحية وزم شفتيه قليلا ثم أجابه: نعم! ليتني هامد لا أقوم. أما وقد قمت فأي مكان أحق بالحنين من:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
بل أصبح جسمي من ترابها، واختلط فوق صعيدها وبين أحشائها. هذه هي المعرة! نعم هذه هي المعرة عرفتها وما كدت أعرف غيرها؛ فالحمد لله على البعث فيها.
فهجم التلميذ بسؤال جديد، وعول على الإكثار من السؤال؛ إذ لا محيص من مساءلة الشيخ وإن ضجر بعض الأحيان، فربما كان ضجر الإجابة خيرا من ضجر السكوت سنوات، ريثما يعقد الاحتفال ويجتمع المقبلون إلى المعرة لتحية حكيمها في ذكراه.
قال التلميذ في سؤاله الجديد: أليس من عجب هذا الحب للمعرة ممن عاف الدنيا بأسرها؟
فأجاب الشيخ في غير ضجر ولا تأفف، كأنه كان يتوقع سؤالا كهذا من تلميذ: «ما أكثر عجب الناس مما لا عجب فيه! إنما يحب الوطن الصغير من يعاف الوطن الكبير، ومن كره الدنيا كره التقلب فيها وكره السعي وراءها في نواحيها؛ فإلى أي منقلب يصير غير المكان الذي لا عناء فيه يتجشمه، ولا جديد فيه يفجأه بما يسوءه، ولا يزال فيه قريبا من عهد صباه قبل أن يذوق مرارة العيش ويمتحن ببلواه؟ وما أحرى من اتخذ في المعرة محبسا لا يفارقه أن يتخذ في الدنيا بأسرها محبسا هو هذه القرية ولو فعل غير ذلك لعجبتم منه، فاعجبوا واخلقوا العجائب فلعلكم تستروحون الحياة ببعض ما تعجبون له، ولعلكم أطفال القدر يضحك منكم حين تسألون ثم يضحك منكم حين تقنعون بالجواب، أوتحسبون أنكم في غنى عن السؤال؟ يا بني سل ما بدا لك. فقد سألت الغيب كثيرا وسألني الناس كثيرا، وعالجت السؤال في الدنيا والآخرة، فلا أدري ماذا أصنع إن لم أكن سائلا أو مجيبا لسائل، وما أخالك ساكتا لو دعوتك إلى السكوت، فتكلم مأذونا فأنتم أزهد الخلق في مباح وأرغبهم في ممنوع، وقد يريحني الإذن لك أضعاف ما يريحني الإعراض عنك، فلو صدقني من قبلك حين قلت لهم إنني أجهل ما يجهلون لطمعت في تصديقك إياي حين ألوذ بالصمت أو أقر بالغباء.»
واضطرب الرسول لا يدري أهذا ترخيص في السؤال أم نهي عنه، وانقباض من الشيخ أم تبسط وانطلاق، وإنه لكذلك إذ عاد الشيخ يتكلم كأنما قد سرت في نفسه حرارة الثورة على الناس، وإنها لحرارة ترضي صاحبها عمن يثيرها ساعة تسخطه عليه، كما يعدو الجواد فزعا فيشعر بنشاط العدو وجفلة الفزع في آن، وأبو العلاء ثائر يرضيه الإعراب عن ثورة نفسه ولا يرضيه طول الكتمان لطباعه. فعاد يقول: ألا تنبئني يا بني ماذا تظنون حين تسألون رجلا متهما بالعلم فيعجز عن الجواب أو يأباه؟ أتحسبون الغيب سلطانا يجتبي بأسراره الحاشية المقربين؟ أتحسبون من يصحبه مطلعا لا محالة على كل أمره فلا يخفي شيئا إلا اتهمتموه بالضن أو الدهاء والروغان؟ إن كان هذا ما تحسبون يا بني فالغيب ليس بسلطان، والعلماء ليسوا بحاشية سلطان، وأحرى أن يكون العالم كالمدلج في الظلام يحمل مصباحه على قدر ضيائه فهو يرى ما هناك ولكنه لن يرى ما ليس هناك. فإن سألتم فاسألوا عما يجوز علمه أو ما يجوز وجوده حيث يراه المدلج وحيث يقع عليه شعاع المصباح. أما ما وراء ذلك فالعلماء والجهلاء فيه كما قلت لكم قريب من قريب.
فتنفس التلميذ الصعداء، وعلم أنها غضبة ليست من غضبات الجفاء والنقمة، وقال وهو يتلعثم: لقد علمت ما لم أسأل عنه، فما أسعدني بقربك أيها الحكيم سائلا وغير سائل، وسترى أيها الحكيم أنني لن أسألك إلا عما هو في علمك ولن أطلب منك إلا ما هو عندك. فهل أحسب الشيخ آذنا في هذه الساعة بسؤال، أو أعفيه حتى يأذن ويستريح إلى الجواب.
فتبسم أبو العلاء وقد راجع نفسه واسترجع حلمه وأناته، والتفت إلى تلميذه ملاطفا وهو يقول: إن كنت قد تعودت مني ما رأيت وفهمت أنني لا أغضب منك ولا عليك فنحن على وفاق. ولك إذن أن تسأل ولي أن أجيبك أو أغضب كما غضبت منذ هنيهة، ولا حرج علينا معا في هذا ولا في ذاك.
قال التلميذ: جزاء الله خيرا يا مولاي في غضبك ورضاك، فما قول الأستاذ في اقتراح لا يشق عليه أن يجيبه؟ ما قوله في رحلة بين آفاق الأرض ثم تعود إلى قريته العزيزة في موعد الوفود؟
فاعتدل أبو العلاء في مجلسه وهو يقول: أوتدعوني إلى الرحلة وما فرغنا بعد من الكلام على الوطن والقبوع فيه؟ إنك لا تضيع فرصتك يا بني، وإنك لسريع الهجوم.
فلم يحجم التلميذ ولم يتردد، بل راح يقول: إن يومك يا مولاي غير أمسك، وإن المعرة اليوم لعلى مسافة ساعات من بغداد، وإن الأرض كلها لتطوى الآن في أيام معدودات. فلو لم يكن في السفر إلا تجربة هذه العجيبة المستحدثة في زماننا لكان ذلك شفيعي في اقتراحه وشفيع الشيخ حفظه الله في قبوله.
فطال إنصات الشيخ كالمستريب المتوجس، وخطر له أن الفتى يغرر به ولا يصدقه المقال، ثم سأل في صوت خفيض: ماذا تقول؟ المعرة على مسيرة ساعات من بغداد! والأرض كلها تطوى في أيام معدودات؟! هل عادت المعجزات؟ وهل رجع بساط الريح؟ هل أصدقك والعقل أولى بتصديق؟
قال التلميذ: ما على الشيخ إلا أن يقبل الساعة وسيصدقني ويصدق العقل معا بعد ساعات.
قال الشيخ: قبلت، فأين بساط الريح؟ وأين سليمان بن داود؟
ثم مضى التلميذ يشرح للشيخ ما يريده، والشيخ مقبل عليه ظاهر العجب من كلامه، حتى فرغ من شرحه وهما على اتفاق أن يجوبا بقاع الأرض في مشرقها ومغربها، وأن يشهدا الأجيال التي لم يشهدها أبو العلاء ولم يسمع بخبرها، وأن يتعلم كلاهما من صاحبه ما عنده من علم، ويتخذه دليلا له فيما يجهل؛ فلا حرج من سؤال ولا حرج من جواب، وسنسمع - بعد - ما قال أبو العلاء وما قيل له في كل مكان وصلا إليه.
حكم السيف
ألم أقل لك يا بني إنني لا أملك أن أرى رأيا جديدا ولا أن أحيا حياة جديدة؟
قصارى ما يملك المرء في هذه الدنيا عمر واحد يعلم فيه كل ما قدر له من العلم ويعمل فيه كل ما وسعه من العمل؟ ويختبر فيه اختباره، ويستوفي منه أحواله وأطواره. فإذا قضاه فتلك حصته من الزمن لا حصة له بعدها، ولا نصيب له من أعمار الدنيا وراءها.
قال الرسول: والشهرة يا أستاذنا، أليست هي عمرا متجددا وحصة مزدادة؟
قال أبو العلاء: كلا يا بني الشهرة استطالة لعمر الشهير، فيها تكرار له وليس فيها تجديد لشيء منه. ختمت حصتي من الوقت فلا تنتظر مني قولا غير ما قلت، أو رأيا غير ما رأيت. ولو أطلعتني كل يوم من دنياك هذه على جديد. •••
فأحس الرسول شيئا من خيبة الرجاء، أولا يسمع من أبي العلاء كلمة فيها معنى من المعاني غير ما سطرته الأوراق وفرغ منه الحافظون والشراح؟ لقد كان يحسب أنه ظافر بأبي علاء جديد، أو بطبعة منقحة من أبي العلاء القديم، فإذا به يسمع مرة بعد مرة أن أبا العلاء هو أبو العلاء، وأن حجاب الزمن قد هبط بعده، فلا منفذ من ورائه إلى علم غير ذلك العلم، ولا إلى حكمة غير تلك الحكمة. وأوشك أن يقتضب الرحلة لولا أنه استدرك وتدبر، فعلم أن مشاهدة الدنيا في صورة علائية أمر يستحق النظر ومعرفة تستحق العرفان، فانطلق يقول: إذن يا مولاي أنا أعلم رأيك في هذه الحكومات العسكرية التي تركنا بلادها، أو هذه الأمم التي يجرون على وتيرة لا يشذون عنها ونظام لا يهاودون فيه. أنت تحمدها بعض الحمد لأنك تقول:
واخش الملوك وياسرها بطاعتها
فالملك للأرض مثل الماطر الساني
1
إن يظلموا فلهم نفع يعاش به
وكم حموك برجل أو بفرسان
وهل خلت قبل من جور ومظلمة
أرباب فارس أو أرباب غسان
وهذه الحكومات المجندة تحمي من الفوضى ولها نفع يعاش به في أزمان القلاقل، وهي تزعم ألا حرية للناس في قديم من الزمن أو حديث، ففي كل حكومة جور ومظلمة. والحكم هكذا يكون، أو لا فهو فتنة وظلم مكنون.
فأصغى أبو العلاء طويلا. ثم قال: ولكني كما قلت هذا كذاك:
ومن شر البرية رب ملك
يريد رعية أن يسجدوا له!
وهؤلاء الحاكمون يقولون إنهم معصومون وإنهم لا يحاسبون، وإنهم أرباب يدان لها بطاعة الساجدين الراكعين. فما أحمق هذا وما أحراه ألا يكون بين أناس يعقلون.
قال الرسول: الحق ما تقول مولاي، لولا أن الرعية تحب هؤلاء الحاكمين ولا تطيعهم إلا وهي راضية بما تطيع.
فلم يزد أبو العلاء على أن أعاد بيته القديم:
تلوا باطلا وجلوا صارما
وقالوا: صدقنا. فقلنا نعم
فعاد تلميذه يحاوره وكأنه ذو هوى في تعظيم مذاهب الحكم عند هؤلاء العسكريين، وقال فيما قال: إن هؤلاء القوم لا يخضعون على كره منهم، ولكنهم يخضعون لأنهم يؤمنون إيمان الحاكمين ويفكرون تفكيرهم ويريدون مرادهم ويفرحون بعظمتهم كأنها عظمة لهم فيها نصيب، وكأنهم شركاء في السيادة حين يخضعون لأولئك السادة.
قال أبو العلاء:
وما أعجبتني لابن آدم شيمة
على كل حال من مسود وسائد
ذلك أدهى وأمر، وليتهم فكروا وخالفوا وخضعوا مرغمين، فذلك أكرم لعقل الإنسان وأدنى إلى الرجاء في الخلاص، أما أن يسلب الإنسان الفكر حتى لا يفكر إلا بأمر حاكميه وعلى وفاق الهوى من رؤسائه، فذاك آلة من الآلات وحيوان من العجماوات، وليس بآدمي له عقل، والعقل إمام للآدميين أولى بالاتباع من كل إمام. •••
قال أبو العلاء ذلك وزوى وجهه كأنه قطع القول وحسم الجدل، وقال ما لا رجعة فيه ولا مزيد عليه.
إلا أن التلميذ قد طاب له أن يسترسل في النقاش والسؤال فانثنى يقول: أولا تغفر الطاعة من الرعية حتى لو أفلح الرعاة في سياسة الأمور وشاهد الناس فلاحهم آنة بعد أخرى، فعلموا أنهم راشدون وأنهم لا يخطئون، وأن خطأهم آمن في عقباه من خطأ الكثيرين؟
فسأل أبو العلاء: من القائل :
يسوسون الأمور بغير عقل
وينفذ أمرهم فيقال ساسة!
فأجاب التلميذ: كيف؟ إنك أنت قائل هذا يا مولاي!
قال أبو العلاء: ذلك فحوى كل جواب على كل سؤال من قبيل ما سألت. فلا تنظر يا بني إلى فلاح هؤلاء الساسة حين ينفذ أمرهم ويستقر سلطانهم وتمضي مشيئتهم. بل انظر إليهم حين يفشلون وحين يريدون فلا يقدرون. انظر إليهم يومئذ تعلم أنهم يخطئون كما يخطئ سائر الناس وأكثر مما يخطئ سائر الناس، بل تعلم أن الناس يرون لهم من الخطأ يومئذ أكثر مما صنعوه وأكثر مما يستطيعونه أو استطاعوه. ولا تنس أبدا قول الحكيم القديم:
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
واذكر يا بني أن هؤلاء الجيوش المجندين يتعلمون الجبن حين يتعلمون ما تحسبه شجاعة، وإن أشجعهم لن يجرؤ على كلمة يغضب بها سيده وصاحب أمره، وما بقي بعد ذلك من إقدام على القتال أو الشجار فهو إقدام اضطرار أو إقدام مخمور بحميا الضجيج والفخار.
وما أبرئ نفسي يا بني. لقد عرفت هذا الجبن وقلت فيه:
لجأت إلى السكوت من التلاحي
كما لجأ الجبان إلى الفرار
ويجمع مني الشفتين صمتي
وأبخل في المحافل بافتراري
هؤلاء كلهم يا بني فارون من المنطق والكلام، جبناء يهربون من الميدان إلى السمت الذي تدعوه طاعة أو تدعوه شجاعة، وما هو من الطاعة والشجاعة إلا كالرجل وصورته في المرآة. •••
قال التلميذ: وإجمال ذلك كله في كلمة واحدة يا مولاي.
قال أبو العلاء: إجمال ذلك كله يا بني في بيت واحد، وهو:
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل أرض من الوالين شيطان
وانفض بذلك الجدال بين الشيخ وتلميذه، وهما قافلان من بلاد الحاكمين العسكريين.
المستشرقون
هؤلاء الذين استغربت أمرهم يا مولاي، هم من سميناهم نحن بالمستشرقين! وهم أناس لم يسمع بهم الأستاذ لأنهم نشأوا أول نشأتهم في عصره، فكان أقدمهم يتعلم العربية والحكمة على عرب المغرب يوم كان الأستاذ يملي دروسه القيمة في المعرة قبل عشرة قرون، وكانوا قسيسين ورهبانا يدرسون علوم العرب ليفقهوا أسرار القرآن ويستعدوا لها بالحجة والبرهان، ثم شاع أمر الدولة المسيحية وأمر الخلاف على الأناجيل بين حبرها الأعظم ومن خرجوا عليه واعتزلوه. فمن ثم كثرت طوائفهم في بلاد الجرمان ولا يزالون أكثر ما يكونون بين هؤلاء القوم، ولا سيما وهم قوم مشغوفون باللغات والبحث في الأصل واللهجات. فهذا علة ما استغربه الأستاذ من شيوع الاستعراب هنا حيث نحن الآن مقيمون، وأنهم من أجل هذا يحومون حول هذا الورد ويغتنمون هذه السانحة، ولا يريدون أن يعبر بهم حكيم المعرة دون أن يوسعوه حفاوة وسؤالا ويتخذوا من كلامه بيانا يعتصمون به ودعاية يدعون إليها. فإن شاء الأستاذ أن يصابرهم ويستقصي خبرهم فله الرأي الأعلى فيما يشاء.
ذلك كان حديث التلميذ لأستاذه بعد رحلة ليست بالقصيرة قضياها في بلاد الجرمان، ولقيا فيها فئات من المستشرقين سمعوا برهين المحبسين فزاروه واستزاروه، وسألوه وأجابوه، وعجب أبو العلاء من شأنهم في بلاد الغرب فسأل تلميذه عنهم على سبيل الاستطلاع أو على سبيل القصاص، لكثرة ما أطال عليه من سؤال، وكثرة ما التمس عنده من فائدة، وكثرة ما كلفه من تجوال.
فلما أنبأه التلميذ نبأهم قال أبو العلاء:
استعجم العرب في الموامي
بعدك واستعرب النبيط
ثم قال:
أين امرؤ القيس والعذارى
إذ مال من تحته الغبيط
وجعل يردد: أين؟ أين؟
ثم عاد يقول: هيهات! هيهات!
هذه فئة عهدنا لها أشباها بين رهبان زماننا، يدرسون العلم دراسة رهبان ولا يزالون رهبانا في كل ما يدرسون. فهم يحجون إلى العلم من طريق الدين، وقلما يعرفون العربية إلا بلسان أعجم ونفوس أشد عجمة، وأقربهم إلى البصر بها من كان للعلم قصده وكانت له في لغة قومه قدم، وهم جامعون ومحيطون، دأبهم كدأب كل محيط يقف عند الأطراف ولا ينفذ منها إلى القلب، ولهم على ذلك ما استحقوا من جزاء وثناء. •••
ثم قال: ومن هؤلاء الذين تسألني أو تأمرني أن ألقاهم الساعة؟
قال التلميذ: أستغفر الله يا مولاي، فالأمر والرأي لك، وإنما هو اقتراح أو رجاء، وأنت ما ترضاه من قبول أو إباء.
هؤلاء الصحفيون يسألون، وقد عرفت طريقتهم في السؤال، فإن أذنت لقيتهم جميعا مرة واحدة وأفضيت لهم بخبر ما هم مستخبرون، فلا نجاة منهم قبل أن نرحل من هذه الديار.
فاستسلم أبو العلاء، وأومأ قائلا: علي بهم مجتمعين! فما أتمها حتى كان واحد منهم على الباب، وكان يتلو خطابا قد استظهره وتصنع لإلقائه، وجاء منه بعد كلام طويل:
إننا نستقبل منك في بلاد الجرمان رجلا من أهل الشمال وإن كان مولده في الجنوب، وعقلا من عقول الآريين وإن كان منسوبا إلى الساميين، وشاهدا جديدا على صدق علم الأجناس الذي كشف لنا حقيقة النبوغ ودخيلة المزايا والأخلاق بين الشعوب. فلا فضل ولا عبقرية ولا ارتقاء في الآداب والفنون، ولا في العقائد والأخلاق إلا أن يكون مردها جميعا إلى أبناء الشمال، وإن خفيت مصادر النسب واختلفت مواقع الميلاد.
ولو لم تكن أيها الرجل العظيم من سلالة الآريين لما اتصل الروح بينك وبين الهند فرأيت ما رآه البوذيون وحرمت ما يحرمون، وأبحت ما يبيحون، فأنت الناهي عن أكل الحيوان وجناه حيث تقول:
تق الله حتى في جنى النحل شرته
فما جمعت إلا لأنفسها النحل
وأنت الناصح بإحراق الموتى وإن عجبت منه حيث تقول:
فاعجب لتحريق أهل الهند ميتهم
وذاك أروح من طول التباريح
إن حرقوه فما يخشون من ضبع
تسري إليه ولا خفي
1
وتطريح
والنار أطيب من كافور ميتنا
غبا وأذهب للنكراء والريح
وأنت المنكر كل ما ذهب إليه البشر إلا مذهب الهند حيث تقول:
عجبت لكسرى وأشياعه
وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يضا
م ويظلم حيا ولا ينتصر
وقول اليهود إله يحب
رشاش الدماء وريح القتر
2
وقوم أتوا من أقاصيى البلاد
لرمي الجمار ولثم الحجر
فوا عجبا من مقالاتهم
أيعمى عن الحق كل البشر؟!
ولاح على الرجل أنه منطلق في تحيته إلى غير نهاية؛ فلم يمهله أبو العلاء حتى يأتي على شواهده وأمثاله ويستطرد إلى نتائجه وغاياته. ومال إلى تلميذه ورسوله يقول وكأنه يساره: أين يذهب عن هذا الثرثارة قولي: «وغسل الوجوه ببول البقر» أليس لأهل الهند فيه نصيب؟ ثم قاطع الصحفي الخطيب قائلا: ماذا تعني بساميين وآريين وأهل شمال وأهل جنوب؟
فأسرع التلميذ يجيبه قبل إجابة الصحفي: «إنهم يا مولاي يعتقدون اليوم في بلاد الجرمان أن البشر جنسان: جنس مخلوق للسيادة والحكم، وجنس مخلوق للطاعة والتسخير. وإن أهل السيادة منبتهم في الشمال ثم انحدروا منه إلى الهند، فهم المعروفون بالهنديين الآريين، وأن أهل الطاعة والتسخير منبتهم في الجنوب فهم الساميون أبناء سام أو الحاميون أبناء حام، ومن شاكلهم في السحنة والسواد، وأنه ما من نابغ عظيم إلا وهو مردود إلى أهل الشمال في معدنه وعنصره القريب، وإن ظهر بين أبناء الجنوب. ولعل شبهتهم في انتمائك إلى الشماليين يا مولاي، إنك مولود على مدرجة الصقالبة والروم ...»
فانتفض أبو العلاء انتفاضة العربي المسبوب في نسبه وصاح بالتلميذ: ويح الرجل! ماذا عساه أن يريد مني بعد هذا التخليط؟ قل له إن كان لا يسمع مني. قل له أنا القائل:
لا يفخرن الهاشمي
على امرئ من آل بربر
فالحق يحلف ما علي
عنده إلا كقنبر
وذلك حسبه من جواب. •••
ثم هجم صحفي آخر يبدو عليه الاغتباط بما سمع من زجر زميله، وأقبل يقول: تحية الإخوان إلى العربي العظيم، أنا ابن من أبناء سام.
فهم أبو العلاء بالنهوض وهو يكاتم السخط والضجر، وقال: أما فرغنا بعد من سام وحام؟ من هذا يا بني؟ وهو يوجه السؤال إلى التلميذ الحائر بين أستاذه وبين طلاب الزيارة والسؤال، من صحفيين ومستشرقين ومستطلعين، فبادر الصحفي الآخر إلى جواب أبي العلاء، وتلطف في تسكين غضبه والترفيه في ضجره، وأنبأه أنه من أبناء إسرائيل، وأنهم والعرب أبناء عمومة، وأنه يريك منه كلمة الفصل في خصومة الآريين والساميين، وأنها قلما تنفع في بلاد الجرمان وقلما يجسر على نشرها بينهم أو نشر كلام يخالف ما يروجونه من أقوالهم، ولكنه يبعث بها خفية إلى أناس يذيعونها في الخافقين، ويعتزون بها في خصومة الجنسين، وفي كل خصومة بين طرفين، أحدهما آل إسرائيل !
وهنا أدركت أبا العلاء فكاهته المطبوعة وسخره من (تزاحم الأضداد) على قديم الأجداد، أو على ميراث المال والعتاد، وهم يلهجون بميراث الآباء والأولاد، وقال وقد تهيأ للمسير وتلميذه يعتذر بموعد القطار ووشك الرحلة وخوف التأخير: يا أخي، تلك خصومة لا يفصل فيها غير الله! أنتم شعب الله المختار في القديم، والجرمان شعب الله المختار في الحديث، فاسألوه ولا تسألوني أيكما صاحب الحظوة الآن؟
مع المشيعين
هبطت السكينة على نفس أبي العلاء.
وقيل له: إنك في أمان، ليس لأحد عليك من سلطان، وإنك ممن قيل فيهم
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، خرجت من العالم الفاني فلا تمتد إليك يد ولا ينالك أحد من الناس بعدوان. فقل ما بدا لك من رأي، ولا تطل همسك إن نطقت بالحق ولا ترفع رأسك إن نطقت بالمحال. أنت اليوم غيرك بالأمس: أنت اليوم من الخالدين!
وإنما قيل له ذلك لأنه صارح بعض الجرمان وهو في بلادهم بمذهبه في اختلاف الأجناس وتفاوت الأقوام، فشجبوه وهموا أن يبطشوا به على تخوم بلادهم، لولا أن ردتهم عنه هذه الحصانة التي لا حصانة مثلها للمجالس النيابية ولا للهيئات الوزارية، وهي حصانة الخلود.
لهذا كان مسلكه مع جماعة المشيعين أو الشيوعيين حين نزل بأرضهم غير مسلكه المعهود من التقية والمداراة والصمت والفرار، فقال ما أراد أن يقول، ولم يعبأ منهم بزمجرة ولا صخب ولا وعيد.
وقف رفيق من رفقائهم يخطب في حفل جمعوه للترحيب بأبي العلاء، أو للشيوعي العربي القديم كما أسموه، فقال بعد إسهاب وترديد: هذا أيها الرفاق رجل منا قد سبقنا بكل رأي من آرائنا وكل دعوة من دعواتنا، فنحن ننكر التفاوت في قسمة الأرزاق وهو ينكره في كل صورة من صوره، وكل منحى من مناحيه، فيقول عن التفاوت بين العاملين وأصحاب الأموال:
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
فقير معرى أو أمير مدوج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة
ويحرم قوتا واحد وهو أحوج
ويقول عن التفاوت بين الشاب الفقير وهو أولى بالمال وبين الشيخ الموسر وهو مدبر عن الحياة:
يعيش الفتى في عدمه عيش راغب
ويثري مسن للمعيشة سائم
ونحن ندعو إلى التآزر الاجتماعي والتكافل بين العاملين في الأمة، وهو قد نادى بذلك من قبل فقال:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
ونادى بخدمة الحاكمين للرعية فقال:
إذا ما تبينا الأمور تكشفت
لنا وأمير القوم للقوم خادم
وقال:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستباحوا كيدها
وعدوا مصالحها، وهم أجراؤها
واستطرد إلى أبعد من هذا في التكافل بين أعضاء المجتمع الإنساني فقال:
وكل عضو لأمر ما يمارسه
لا مشي للكف، بل تمشي بك القدم
بل استطرد إلى أبعد من هذا المساواة فقال:
إن شقا يلوح في باطن البر
ة قسم بيني وبين الضعيف
ولقد بينا نحن للناس أن الآداب والعقائد إنما هي مصالح الطبقة الحاكمة تصوغها على هواها لتدعم سلطانها والغلبة على من دونها، وهذا الحكيم العربي قد بين ذلك حق بيانه حين قال:
إنما هذه المذاهب أسبا
ب لجلب الدنيا إلى الرؤساء
وحين قال في إظهار سطوة المال وقدرته على تحويل الآداب وتخويل الحقوق:
المال يسكت عن حق وينطق في
بطل، وتجمع إكراما له الشيع
وجزية القوم صدت عنهم، فغدت
مساجد القوم مقرونا بها البيع
ونحن بشرنا بدين العقل، وهو مبشر به في قوله:
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدا
وأخرج منها ما أمامي سوى عقلي
ومثل ذلك قوله وهو يسير من كثير:
كذب الظن لا أمام إمام سوى العق
ل مقيما في صبحه والمساء
بل نحن قررنا تفسير التاريخ «تفسيرا ماديا» كما سميناه وهو قد أشار إلى ذلك فقال:
الناس للأرض أتباع إذا بخلت
ضنوا وإن هي جادت مرة جادوا
وألمع إلى ذلك مرة أخرى في هذا البيت على سبيل الرواية:
قالوا البرية فوضى لا حساب لها
وإنما هي مثل النبت والشجر
وزاده توضيحا وتقريرا حيث قال:
لم تجدبوا لقبيح من فعالكم
ولم يجئكم لحسن التوبة المطر
ولا أبالغ إذا قلت إنه ذكر الاشتراكية بلفظها في اللغة العربية ببيت من أبياته العامرة يقول فيه:
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
من البسيطة خلت الأمر مشتركا
وأنه قد أنحى على طبقات الفضوليين المتطفلين على المجتمع الإنساني بغير عمل ينفعونه به حيث قال:
ويعجبني دأب الذين ترهبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
وأطيب منهم مطعما في حياته
سعاة حلال بين غاد ورائح
فهو يأنف من التطفل الاجتماعي أيا كان المتطفلون ولا يبيح القوت إلا لمن يكسبونه ويستحقونه، وهو قد فرق في قصائده ما اجتمع من مبادئ المذهب الاشتراكي في كتب الأساطين ومباحث الدعاة العلميين، وتلك مرتبة ترفعه على أبناء عصره درجات، وتجعله من أئمة الفكر في تاريخ الإصلاح بين الأقدمين والمحدثين.
ثم اقترح الخطيب على سامعيه أن يقفوا جميعا ليشربوا نخب الشاعر الذي جمع من مبادئهم في منظوماته ومنثوراته ما لم يجتمع قط في كلام أحد من الشعراء.
فنهضوا جميعا وشربوا أقداحهم وقوفا، ثم جلسوا يترقبون وقفة الشيخ بينهم ليجيب على التحية والتكريم ويجيب على بحث الخطيب بجديد من مقاله أو قديم، والشيخ لا يعلم أنه مطالب بالوقوف أو مطالب بالتعقيب، حتى نبهه الرسول الذي يصاحبه في كل مكان إلى ما يترقبه القوم، ثم أخذ بيده إلى المنصة فنزل الصمت على الحاضرين، وانقضت هنيهة لم يسمع بعدها إلا شيخ المعرة وهو يقول بصوت رقيق ولكنه ليس بالضعيف: أنتم مشكورون على جميل ثنائكم واحتفائكم بهذا العاجز الماثل بين أيديكم. لكنه حائر في موقفه هذا لا يدري ما تبغونه بمذهب الاشتراكيين أو بمذهب التفسير المادي للتاريخ، فأما قوله:
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
من البسيطة كان الأمر مشتركا
فإنما يعني به التوحيد الإلهي ويريد به أن الناس أغنياءهم وفقراءهم على حد سواء لا يملكون في جانب الله أرضا ولا يستعبدون أحدا، وهو من قوله:
ويقول داري من يقول، وأعبدي
مه؛ فالعبيد لربها والدار
أو هو من قوله:
ما في بني آدم من غني
فكلهم مقتر عديم
يغنى الذي ما له فناء
وذلك الواحد القديم
أو هو من قوله:
فقير كل من في الأر
ض؛ إن العبد لا يملك
أو هو من قوله:
إله الأنام ورب الغما
م لنا الفقر دونك والملك لك
فما أدري من أين تسربت «الاشتراكية» إلى معناه كما تصفونها فيما سمعت من خطب وقرأت من بحوث وشروح.
ما أردت إلا الرفق بالناس، بل ما أردت إلا الرفق بجميع الأحياء؛ فكنت أوصي السيد أن يرفق بعبده. وأقول له:
إذا كسر العبد الإناء فعده
أذاة له، إن الأناء إلى كسر
وكنت أوصي العبد والفقير أن يرفقا بالبهيمة الخرساء. ويريبني منهما ما قلت إنه يريبني:
لقد رابني مغدى الفقير بجهله
على العير ضربا. ساء ما يتقلد
وما دار في خلدي يومئذ إلا الزكاة يؤديها أهل السعة للمضيقين.
إذا وهب الله لي نعمة
أفدت المساكين مما وهب
جعلت لهم عشر سقي الغما
م وأعطيتهم ربع عشر الذهب
وكنت أعجب:
كيف لا يشرك المضيقين في النع
مة قوم عليهم النعماء
وأوصي بما وصى به دين الحنيفية:
وأحسب الناس لو أعطوا زكاتهم
لما رأيت بني الإعدام شاكينا
أما أن يأتي زمان ينقطع فيه الفقر ويبطل فيه الغنى وتئول فيه السيادة إلى العاملين المستضعفين على سنة التساوي وشرعة المزاملة فذلك ما أنبأ به بعض المنبئين في زماننا فقلت راويا ومجيبا:
يقال أن سوف يأتي بعدنا عصر
يرضى، فتضبط أسد الغابة الخطم
1
هيهات هيهات. هذا منطق كذب
في كل صقر زمان كائن قطم
2
ما دام في الفلك المريخ أو زحل
فلا يزال عباب الشر يلتطم
يلتطم وأقولها اليوم مرات: هيهات هيهات! وما أنتم فيه مصدق لما أقول، وإن أعجبكم أن تسمعوا مني خلاف المعقول والمنقول. وأين لومي الرؤساء على اتخاذهم المذاهب أسبابا لجلب الدنيا إليهم من قولكم إن المذاهب لا ينبغي أن تكون إلا كذاك؟ إنما أقول على سبيل الإنكار وأنتم تقولون على سبيل الإقرار، وشتان ما أردتم وما أريد.
بل ما لكم لا تدعون أنني ناديت بمذهب الفوضى حين قلت:
إن أكلتم فضلا وأنفقتم فض
لا فلا يدخلن وال عليكم
لا تولوا أموركم أيدي النا
س إذا ردت الأمور إليكم
وما ناديت بالفوضى ولكني أردت اتقاء الوالين بالعفة والزهادة.
قال المعري ذلك وكأنما كان متجليا عليه في تلك الساعة قوله:
إن عذب المين بأفواهكم
فإن صدقي بفمي أعذب
ولم يكن متجليا عليه قوله إنه يفر بالصمت في المحال.
أما ما حدث من أثر هذا الجواب في نفوس السامعين من معاشر الشيوعيين فغني عن السرد والإفاضة، وحسبك منه صيحة الرسول في أذن الحكيم: كفى كفى أيها الأستاذ الرحيم! فإنك إن كنت على نجوة في حصانة الخلود، فما أنا بين القوم من الناجين!
في بلاد الشمال
خرج المعري وتلميذه من أرض الشيوعيين وهما يلعنان الديار والديارين، وأصبح التلميذ ولا هم له بعد إفلاته من براثن القوم إلا الوصاة بالتقية والمحاذرة، قائلا ومعيدا ما قال: مولانا الشيخ! إنك في حرز من ضيم الأقوياء، وأمان من سطوة أبناء الفناء. أما تلميذك ومريدك فلا حرز له منهم ولا قوة له معهم، ولا أمان أن يبطشوا به بطشة واحدة، فإذا أنت يا مولاي قد فقدته في منتصف الطريق. وكان الشيخ يداعبه فيظهر الإصرار على المناقشة والمناوشة ويردد ما أنشد في سابق أيامه بدار الفناء:
إن عذب المين بأفواهكم
فإن صدقي بفمي أعذب
قائلا: يا بني! ما أنا بصاحب الرحلة بل أنت؛ فاصبر على بلائك واحتمل عاقبة رأيك. فينتفض التلميذ خوفا وحيرة ويعيد الوصاة والرجاء، مناشدا مولاه الرحمة التي أرادها لبني الإنسان وبني الحيوان.
فلما أطال التلميذ في وصاته قال الشيخ: ما بالك يا هذا تخاف وتوصي وتلحف في الوصاة؟ ألعلك ذاهب بنا إلى معشر من الناس كأولئك الذين كنا بينهم؟ إن كان ذاك فعد بنا إلى المعرة واختصر بنا مسافة هذه السياحة، فلا طاقة لي بسخافة قوم آخرين كأولئك الذين فارقناهم في بلاد الشيوعيين ولا بسخافة قوم كأولئك الذين فارقناهم في بلاد الطغاة العسكريين.
قال التلميذ: كلا يا مولاي الجليل. ما إلى هذه البلاد وأمثالها نرحل وإنما أخاف ما ليس في الحسبان. إنما رحلتنا بعد اليوم إلى أقوام يحجرون على المقال حجر أولئك الأقوام، ولا يقسرون الناس على رأي واحد وضمير واحد، ولكنهم يقولون ما يشاءون ويفكرون كما يشاءون؛ فإن خامرني الخوف ونحن مقبلون عليهم فذلك يا مولاي خوف الحبل بعد خوف الثعبان.
وطالت الرحلة في تلك البلاد بلاد الشمال، وتقلب المعري وتلميذه بين أهل النرويج وأهل السويد وسائر تلك الأنحاء، فحمدا كثيرا من الأحوال، وشهدا أنماطا من الحكم والعلم لم يشهداها في البلدان الغربية كافة، فطاب السرى وطاب المقام.
ونزلا آخر المطاف ببلاد الدانيين أو الدنمركيين، فهما الآن في مدرسة جامعة دعي إليها حكيم المعرة بأمر من مليك البلاد ووزرائها، على عادة القوم في اغتنام كل فائدة وتسجيل كل شاردة وواردة، ليسألوا الشيخ ويستطلعوا طلعه، ويساجلوه القول ويظفروا بما شاء من جواب.
قال طالب علم: أيأذن الشيخ في سؤال عن حكومة ذلك المعشر الذي كان بينهم قبل أن يرحل إلى أقطار الشمال، وأعني بهم معشر الشيوعيين؟
قال الشيخ: تلك حكمة كلها ظواهر تخفي ما دونها من البواطن، كاتبها يفعل فيها ما يريد، ولو جرى أمرها على القول الصراح لما كان لهذا الكاتب من صولجان، إلا القلم والقرطاس.
فعاد الطالب يسأل: أوليس الأمر بين ذلك الكاتب وزملائه على سنة الشورى والمساواة؟
فامتعض الشيخ وأدرك الطالب بالجواب قبل أن يسترسل في السؤال: مه يا بني مه! أي شورى وأية مساواة؟ لقد سمعنا بعضهم يلوم من يخاطب ذلك الكاتب بكاف الخطاب كما يخاطب سائر الناس! أعندك يا صاحبي قصيدة شاعر القازاق الذي أنشده مديحه ونحن هناك؟ قال الشيخ هذا والتفت إلى التلميذ الرسول. فوقف التلميذ الرسول مائلا على المنصة وقال: نعم يا مولاي! ... ثم مضى ينشد قصيدا يقول فيه ناظمه:
هل أشبهك بالأنبياء؟ كلا فبعض الأنبياء يكذبون.
هل أشبهك بالبحر المحيط؟ كلا! ففي البحر المحيط صخور يتصدع عليها السفين.
هل أشبهك بالجبال؟ كلا! فما من جبل إلا وقمته في مرأى العيون.
هل أشبهك بالقمر؟ كلا! فالقمر لا يضيء إلا في لياليه.
هل أشبهك بالشمس؟ كلا! فالشمس إنما تشرق في يوم صحو لا غمام فيه ...
وفرغ التلميذ الرسول من إنشاده فعاد المعري يقول لطالب العلم الذي سأله ذلك السؤال: أوسمعتم أعجب من هذا الدهان في مديح عاهل أو سلطان؟ ما أخالكم سمعتموه، وما أخالكم تذكرون في الملوك ملكا واحدا كان له من الأمر النافذ في الرقاب والأذهان، ما يأمر به كاتب الشيوعيين فيطاع.
وسأل سائل: أولم ينصفوا الأجراء من أصحاب الثراء؟
قال المعري: لا يا بني. إنهم ظلموا أصحاب الثراء ولم ينصفوا الأجراء، ولقد أخذوا المال من ذويه ثم أفرغوه في مصانع الدولة، وما الفرق بين مال في أيدي التجار ومال في أيدي الولاة؟
ورجع السائل إلى سؤال لاحق بما تقدم فقال: لكنهم على ما يقولون قد عدلوا في الأجور بين العاملين، فأجر اليوم واحد لا اختلاف فيه.
قال المعري: أجر اليوم واحد لا خلاف فيه ولكن العامل المحظوظ عندهم قد يعطى عدة أجور، فهي مساواة من ناحية واختلاف من عدة أنحاء.
وفرغ السائلون عن معاشر الشيوعيين فنهض السائلون عن أمم الشمال.
قال طالب علم: ألعل الأستاذ قد حمد من قومنا ما ليس يحمده من أولئك الأقوام؟
قال المعري: نعم ولا أداجيك يا بني؛ فقد رأيت أنكم أبعد الناس عن مداجاة، وإن بقيت منها أثارة في جميع بني حواء.
قال الطالب: وماذا حمد الأستاذ مما شهد فينا؟
قال المعري وهو يوجز في جوابه: حمدي منكم يا بني تجارتكم التي بنيتموها على التعاون بين البائعين والشارين، فما منكم إلا من يأخذ كفايته ويعطي كفاية الآخرين، ولا ربح لأحد منكم خاصة، بل أنتم جميعا رابحون، لأنكم بائعون شارون.
ذلك يا بني سبيل قوام بين احتكار المحتكرين وبين اشتراك الشيوعيين، فإذا اهتدى إليه الناس جميعا فلعلهم يستريحون من تفريط هؤلاء ومن إفراط هؤلاء.
وحمدت منكم يا بني أنكم لا تفتحون البلدان ولا تقتحمون الأسواق، وأنتم مع هذا غانمون رائجون، لكل سلعة من أرضكم طالب غير مغبون.
وحمدت منكم يا بني تعليم الفقير وتعليم الضعيف، فما من طفل بينكم إلا وله مدرسته وله معلموه، وإن أهمله أناس في بلاد أخرى لضعف فيه أو لقصور ظاهر عليه.
وحمدت منكم نظافة وصحة ورخاء تعم الأكثرين ولا يحرمها إلا القليل.
وحمدت منكم رعاية الشيخ الكسير، فلا يقلى عندكم ولا تبخلون عليه بالرزق الكفاف.
وحمدت - وعرشكم أعرق العروش في أرض المغرب الحديث - تواضعا في الملك لا يرى من أحدث العروش.
حمدت منكم هذا كله فهل هو كثير أو يسير؟
فصاحوا جميعا: بل هو كثير كثير، من الشيخ الكبير.
قال المعري وهو يبتسم: أفتأذنون لي - بعد - أن أحمد منكم شيئا آخر فوق ما حمدت؟ أتأذنون لي أن أحمد منكم الإيجاز في السؤال والقصد في المقال؟
فكان سكوت، وكان ضحك ودعاء، وكان ذلك جواب الشيخ الكبير من سائليه.
جر الذيول
قال أبو العلاء: ما كنت أحسب أن سأرى هذا يوم قلت في مساوئ ذرية البنات:
وإن تعط البنات فأي بؤس
تبين في وجوه مقسمات
يردن بعولة ويردن حليا
ويلقين الخطوب ملومات
ولسن مدافعات يوم حرب
ولا في غارة متغشمات!
فها نحن أولاء في أرض أندلس نراهن مدافعات يوم حرب، ومتغشمات في غارة، بل غارات.
كنا نسمع عن هذه الأرض - أرض أندلس - فنحضر في أخلادنا الجنة وحورها ونعيمها، فاليوم نشهدها شهادة القرب فإذا هي جحيم مسجور، وإذا بالحور فيها زبانية يقذفون بالشرر ويتقلدون السيوف. ما أعجب ما تريني يا بني! وما أعجب الظباء يقطعن بأظافر النمورة وينهشن بأنياب الذئاب!
قال التلميذ: أوحق يا مولاي أنه عجيب؟ ألم يقل به أفلاطون في الحكمة القديمة؟ حسبت يا مولاي أنك على ذكر مما قال حكيم يونان ومعلم أرسطاليس!
فتأوه الشيخ في استذكار طويل ثم قال لتلميذه: ما سمعت بهذا من كلام يونان وحكمائها. فلعل من عجائب زمانكم أن يكون هذا الزمان أقرب إلى أفلاطون من زماننا نحن السابقين الأقدمين! ماذا قال معلم أرسطاليس في حرب النساء أصلحك الله؟
فترجم له التلميذ كلمة من قوانين أفلاطون، يقول فيها:
على البنات أن يتعلمن صناعة الحرب بأجمعها، وعلى النساء أن يعالجن الرياضة ونظام الجيوش واستخدام السلاح ، ليستطعن - بين أسباب شتى - أن يحرسن ديارهن وأطفالهن حين يندب الرجال للحرب في أرض بعيدة، وقد يقتحم البلاد جيش مغير كما يتفق في كثير من الأجيال، فيكون خزيا للدولة أن يبلغ من جهل النساء بفنون الحرب أن يعجزن عن القتال والاستماتة في الذود عن الأطفال، وألا يكون لهن من عمل في هذه الغارة إلا أن يهرعن ناحبات ناجيات إلى الهياكل والمحاريب!
فأوشك أبو العلاء أن يؤمن بصدق ما قال الفيلسوف، ونزعت فيه نوازع العقل مرة فكادت أن تطغى على نوازع الطبع والعادة، لولا أن غلبته النحيزة العربية وغلبه تراث الشرق العريق فالتفت إلى تلميذه منشدا:
وحمل مغازل النسوان أولى
بهن من اليراع مقلمات!
نعم وأولى من الحديد والنار. •••
ثم استرسل منشدا:
إن من أكبر الكبائر عندي
قل حوراء غادة عطبول
كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
ذلك يا بني حكم ابن أبي ربيعة، وهو أولى بالحكم في هذه القضية من معلم يونان. أكثير يا بني أصحاب هذا الرأي في زمانكم الحديث؟
فأجابه التلميذ وقد لبس لبوس الأستاذ هذه المرة: هم غير قليلين في المغرب والمشرق ... فمنهم في أرض الصقالبة ومنهم في أرض الصين وما وراءها وكل من يؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة خليق أن يرى ما رآه هؤلاء. فما بال المرأة لا تحارب والحرب اليوم آلات تدار أسهل من إدارة المغزل ومن شكة الإبرة في الثياب؟
قال الشيخ: هي صناعة قتل سهلت أو صعبت، فما لكم لا تتركون للمرأة صناعة الولادة وتدعون صناعة القتل لغيرها كما قال أخو مخزوم؟ وما لكم لا تجعلون جيشها كله على مثال تلك الجيوش التي حدثتني أنهم يحشدونها في بعض البلاد، لتقويم الأبدان والصولة ببأس الجمال؟
فأسرع التلميذ يقول: لعلها الضرورة يا مولاي! لعل المقاتلين لا يستغنون عن مدد من النساء إذا قل الرجال.
فأدركه الشيخ قائلا: بل إذا قلت الرجولة وأصبحت الحرب وليست هي من الفروسة ولا من البطولة، ما أحسب الآفة عندكم أن النساء أصبحن كالرجال، وإنما الآفة فيما أخال أن الرجال أصبحوا كالنساء، فلا حرج إذن من المساواة في القتال!
ثم سأل الشيخ: ما هذا الغرام بالحرب في كل شعب من شعوبكم حتى استنفدت رجالكم وجارت على نسائكم، واستنفدت سلاحكم وجارت على أدوات السلم في أيديكم؟ ما هذه الحاجة الملحة إلى إزهاق الأرواح وتمزيق الأبدان؟ أهي فرط كراهة منكم للحياة أم هي فرط خوف من المنية؟ أم أنتم مدفوعون إلى حيث لا تعلمون وأنتم تحسبون أنكم تعلمون؟ •••
وكأنما خشي التلميذ أن يحاسبه الحكيم على سيئات عصره، وأن يسأله في هذا السؤال المتهم عن وزره، فأجابه وهو لا يفقه ما يعنيه: عن هذا أسألك أيها الحكيم العليم! فهي معضلة من معضلات الزمن الأخير تسأل عنها وليس لها من مجيب!
فشك الشيخ غير قليل. وغاب عن صاحبه في تأمل طويل، وكأنما أفاق من غيبوبة علوية حين أقبل يقول: إنما الحرب يا بني حيلة من ليست له حيلة، يقدم عليها من يأمن شرها أو من يخاف جميع الشرور فلا يبقى له ما يأمن ... وإنما يستميت في الخصومة من يخاصم الأقدار وإن حسب أنه يخاصم إخوانه من بني الإنسان. إنما يستميت في خصومته من يطلب الدوام لشيء لا يمكن دوامه أو يطلب التبديل لشيء لا يمكن تبديله، فهم يحاربون القدر ولا يحاربون أبناء آدم، ومن حارب القدر يا بني لم يحاربه بنصف عزمه ولا بنصف سلاحه ولا بنصف رأيه. من حارب القدر فأيسر جهده أن يستجمع، وأن يستميت، وأن يخسر في الجانبين وينهزم في الصفين.
وهؤلاء أبناء أندلس يريد فريق أن يعيد أمس، ويريد فريق أن يستعجل الغيب، وليس هذا ولا ذاك في يد إنسان، ولو كان في يد إنسان لكان، ولم يستعر بينهم كل هذا الشنآن.
قال التلميذ: ألا دواء لهذا الشنآن بين الفريقين؟ قال الحكيم: حتى يفقد كلاهما كل قوته، أو يفقد كلاهما نصف اعتقاده. فإذا انقصم السيف الأخير في أيدي هؤلاء وهؤلاء فهناك رجاء في سلام! وإذا شك كلاهما في حقه واعتقد أن نصف الحق معه ونصف الحق مع خصمه فهناك رجاء في سلام. أما وهناك بقية من قوة في الصفين، وإيمان بالحق الكامل في الجانبين فلا سلام ولا رجاء فيه! •••
قال التلميذ وكأنه يمزح: أولا يسفر الشيخ بينهما ليظهر لكليهما نصف باطله ونصف الحق عند خصومه؟
ففطن أبو العلاء لموضع المزاح من كلامه وتمتم بين شفتيه:
بعثت شفيعا إلى صالح
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحما
م وأسمع منه زئير الأسد
ولأفسد من ذاك أن أذهب شفيعا في حرب الأقدار، وسفيرا بين الإعصار والنار.
المرأة
نشط الشيخ في ذلك اليوم للبحث والمساجلة، فأقبل على تلميذه يسأله: ألا تحدثني يا بني عن تلك الفلسفات التي ذكرت لي أنهم يدورون بها حول المرأة في الغرب الحديث، وفي زمانكم هذا الأخير؟ فقد أنبأتني بالقليل منها يوم حدثتك برأيي في جنديات الأندلس المقاتلات، وقد لاح لي مما أنبأت أن فلسفات القوم في هذا المجال تشتمل على كثير، وإن آراءهم اليوم توشك أن تنصرف كلها إلى فلسفة الزواج وفلسفة العشق وفلسفة الإباحة وما شاكل ذلك من الفلسفات. وإني - كما تعلم - امرؤ قد عنيت بهذا الأمر وأفرطت في العناية به حتى لزمت الرهبانية، فماذا يقول القوم فيه؟ وعلام يقع الخلاف؟ وكيف يختلفون؟
قال التلميذ: إني لأستحي أن أقوم من الشيخ مقام الأستاذ ولو في هداية الطريق، فكيف بالهداية في الحكمة وأقاويل الحكماء!
قال أبو العلاء: اعتبرها يا بني هداية طريق في بلد أنت به أعلم وأنا فيه غريب. فالغربة قد تكون في الزمان كما قد تكون في المكان، وأنت صاحب الدار يا بني في زمانك، فقل ولا عليك من مقام الأستاذ ومقام التلميذ. ألست أنا القائل:
رب شيخ ظل يهديه إلى
سبل الحق غلام ما احتلم
فقل يا بني ولا تتحرج. وإن أبيت إلا مقام التلمذة فاقنع منها اليوم بالطاعة فيما أدعوك إليه.
فلم يسع التلميذ إلا أن يجيب سؤال الشيخ، وأنشأ يقول وهو متلعثم في المقال: هذه الفلسفات يا مولاي كثيرة كما لاح لك من بوادر الإشارة العارضة، فمن أصحابها من يجعل حب المرأة الحب كله ومرجع الأهواء بحذافيرها. ويزعم أنه حب يضمره الطفل في طبعه وهو يرضع من ثدي أمه أو يحبو إلى لعبته أو يتواثب مع لداته، وإنه ما من خبيئة يبطنها الإنسان إلا ومناطها هوى من هذه الأهواء مكبوت، ونزعة من هذه النزعات يختلف فيها التفسير والتأويل، وقد تفصح عنها الأحلام يناجي بها الإنسان سريرته في المنام، وإن كانت المناجاة هنالك بالرموز والأشكال دون المعاني والأفكار.
ومن أصحاب هذه الفلسفات من نشأ على المذهب الأول ثم عدله ونقحه بإضافة حب القوة إلى حب المرأة، أو بإضافة المجد والجاه إلى الشهوة والغرام. •••
ومنهم من يقول إن الأخلاق ينبغي أن تختلف بين أفراد الرجال والنساء كما تختلف أنواع الغذاء، فالناس في حاجة إلى غذاء متشابه العناصر متقارب التركيب، وليس من طعام مع هذا هو صالح لجميع الأبدان مطلوب في جميع الأحوال، فكذلك الأخلاق في جملتها من عمل الخير والدعوة إلى الصلاح قريبة العناصر متشابهة الأوصاف، ولكنها قد تختلف مع اختلاف المزاج كما يختلف الطعام على حسب البنية، حتى يكون دواء لهذا ما هو سم قاتل لذاك. فليس لجميع الناس قانون واحد ولا خلق واحد ولا طعام واحد، بل ينبغي أن يحرم على أناس ما يباح لآخرين. •••
ومن أصحاب هذه الفلسفات من يدعو إلى الإباحة لأنها حالة الطبيعة، ومنهم من ينكر عليه هذا الزعم فيقول إن الإباحة هي أبعد الأحوال عن طبيعة الأحياء: ألا ترون إلى العجماوات تمانع وتقاتل ثم تعتصم بالعفة والزهادة طوال العام؟ ألا ترون إلى قبائل الفطرة الأولى كيف تحوط العلاقة بين الرجل والمرأة بالمراسم والشعائر وكيف تحفها بالتمائم والشعوذات؟ فالطبيعة أحجى أن تكون إلى جانب الامتناع والاعتصام دون الإباحة والانطلاق، ولا سيما في غرائز الحب ودوافع الشهوات. والحضارة قد علمتنا أنه حيث تكون القيود في الحب تكون نهضة الشعوب، وحيث تكون الإباحة في الحب يكون الركود ثم الدثور. •••
ومن أصحاب هذه الفلسفات من يدعو إلى الإباحة لأنها الحل الصالح عنده لمشكلات الأمم في العهد الحديث. فالناس يتقاتلون لأنهم يتنافسون على المال، والناس يتنافسون على المال لأنهم يشترون به الشهوات والمظاهر التي هي كالأشراك لاقتناص النساء. فإذا بطلت قيود الجنسين بطل في زعمهم كل ذاك وخفت حدة الزحام والعداء وقلت بواعث الفتنة والإغراء. •••
ومنهم - وقد كان رئيسا لحكومة كبيرة في دولة عظيمة - من يوصي الرجل أن يجرب كثيرا من النساء ويوصي المرأة أن تجرب كثيرا من الرجال قبل الإيواء إلى حرم البيت وحصن الزواج. فإن الرجل والمرأة إذا قضيا الشطر الأول من الحياة في التطواف والتجوال سكنا إلى الزواج وهما جانحان إلى استقرار يعين على الوفاء، وقناعة تعين على العصمة، وأصبحا زوجين رشيدين وأبوين صالحين مدى الحياة.
قال المعري: حسبك! حسبك!
قال التلميذ: نعم حسبي حسبي. فقد تعبت من «دور» الأستاذ وشاقني أن أصغي إليك إصغاء التلميذ؛ فخذ دورك الساعة يا مولاي وقل لنا ماذا ترى في هذه الآراء، وماذا تقول في هذه الأقاويل؟
ووجم الشيخ قليلا ثم أنشد من كلامه القديم:
لو أن كل نفوس الناس رائية
كرأي نفسي تناءت عن خزاياها
وعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا
ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها
ثم راح يقول: إن ما سمعته يا بني بعضه سديد، وبعضه حق، وبعضه هراء.
حق أن المرأة هوى النفوس وفتنة المطامع:
والمرء ليس بزاهد في غادة
لكنه يترقب الإمكانا
وإنها تفتن من هجر الدنيا كما تفتن من غاص في غمارها وتقلب في أوزارها.
راحت إلى القس بتقريبها
وبيتها أولى بقربانها
وزارت الدير وأثوابها
ضامنة فتنة رهبانها
وإنها مقياس الحياة لا يعافها إلا من عافته الحياة:
وإذا الفتى كره الغواني واتقى
مرضا يعود وضره ما يطعم
فقد انطوت عنه الحياة، وكاذب
من قال عنه يبيت وهو منعم
يقال أن سوف يأتي بعدنا عصر
يرضى، فتضبط أسد الغابة الخطم
وإنها خفية المسارب في دخائل الشهوات:
وإنما الخود في مساربها
كربة السم في تسربها
وإنه لا يؤمن منها على صغير ولا يؤمن عليها من صغير:
إذا بلغ الوليد لديك عشرا
فلا يدخل على الحرم الوليد
كل هذا حق وكل هذا سديد في مذهب صاحبكم الحديث وفي مذهب الحكمة القديم، إلا أن المرأة ليست كل ما يثير النفس ويوسوس في الضمائر وينبعث مع الغواية، وليست كل ما رامه الرجل:
وإنما رام نسوانا تزوجها
بما افتراه وأموالا تمولها
أو قل مرة أخرى:
وإنما رام عزا في معيشته
أو خاف ضربة ماضي الحد قلام
أو شاء تزويج مثل الظبي معلمة
للناظرين بأسوار وأعلام
ذلك قوام الرأيين ووفاق الخلافين. أما الرأي في الزواج:
فلا يتزوج أخو الأربعي
ن إلا مجربة كهلة
على أنني أقول كما كنت أقول:
إن الأوانس أن تزور قبورها
خير لها من أن يقال عرائس
وأقول كما كنت أقول:
تزوج بعد واحدة ثلاثا
وقال لعرسه يكفيك ربعي
فيرضيها إذ قنعت بقوت
ويرجمها إذا مالت لتبع
ومن جمع اثنتين فما توخى
سبيل الحق في خمس وربع
وأقول كما كنت أقول:
خير النساء اللواتي لا يلدن لكم
فإن ولدن فخير النسل ما نفعا
وأقول كما كنت أقول:
وأصبحت في الدنيا غبينا مرزءا
فأعفيت نفسي من أذاة ومن غبن
ثم أقول كما كنت أقول:
شر النساء مشاعات غدون سدى
كالأرض يحملن أولادا مشاعينا
ولا أكتمك مع هذا أنني:
تنازعني إلى الشهوات نفسي
فلا أنا منجح أبدا، ولا هي
فأسرع التلميذ يمتحن الأستاذ، ويهمس في أذنه قائلا: «وفيم المنازعة ونحن في بلاد الغرب والشيخ قد أفرط في الصيام.»
فقهقه الشيخ وهو يصيح به: إليك عني أيها الخبيث! قد خرجنا من هذه المحنة وصارعنا فيها أستاذك القديم إبليس. والله يعلم أكنا فيها صارعين أو مصروعين! ذلك سر مكتوم وحديث مختوم!
الحكيمان
كان آخر الخطباء في الجمع العظيم يقول:
إنها مصادفة عجيبة ولا ريب. فهل أقول إنها مصادفة سعيدة؟ أخشى أن أغضب الحكيمين المحتفى بهما إذا أنا قلت ذلك، فليس المعري حكيم المشرق ولا شوبنهور حكيم المغرب ممن يدينون بالسعادة، وليس اجتماعهما اليوم في عالم الذكرى من دواعي التفاؤل والاستبشار؛ فالعالم مقبل على خطوب وكروب وأهوال وحروب، ولم يكن مذهب التشاؤم قط أدنى إلى الصدق والإقناع مما كان في هذا العصر المرهوب الجوانب المحذور العواقب، فإذا سعد الحكيمان بتحقيق ما رأياه وإثبات ما قرراه وإنجاز الوعيد وتقريب البعيد، فهو اجتماع سعيد.
غد - وهو الثاني والعشرون من شهر فبراير - هو تمام مائة وخمسين عاما مضت على مولد الإمام الأكبر في مذهب التشاؤم بين الغربيين، وهو أرثر شوبنهور، فما أعجب المصادفة التي جمعت بينه وبين الإمام الأكبر في هذا المذهب، عند الناطقين بالضاد، على ملتقى ألف عام من مولده المجيد إن لم يأذن لنا أن نقول: السعيد.
أنقول إن روح العالم في شدائده وبأسائه قد استحضر روحيهما فحضرا، وقرب بين أفقيهما فاقتربا، أنقول إنها مؤاساة من عالم الخلود لعالم الشقاء والبأساء؟ أنقول إنهما نذيران أو بشيران؟
على أننا نكرم زماننا هذا ونكبره ونرفع من قدره إذا نحن وصفناه بزمان التشاؤم وإن حقق لنا مخاوف المتشائمين.
فالتشاؤم - كالتفاؤل - إنما يكون مع الحب والاهتمام، أو مع الظن الحسن والأمل المشبوب، تجيء خيبة الأمل حين يكون الأمل معقولا أو شبيها بمعقول. أما إذا غلب اليأس من البداية فلا تشاؤم ولا إخلاف ظنون.
الذي يهجو المرأة يحبها كالذي يثني عليها، والذي يملأه الغيظ منها كالذي يملأه الشوق إليها: كلاهما يعتد بها ويشتغل بأمرها ويحسب الحساب لإقبالها وإعراضها، أما الذي يلهو بها فلا شوق ولا غضب! ولا فرح بلقائها ولا حزن لغيابها، فليس ذلك من العشاق المدلهين ولكنه من طلاب الفراغ العابثين. •••
كذلك الحياة في زماننا قلما تتسع فيها النفس لتفاؤل أو تشاؤم، وقلما ترى فيها إلا مزجيا لفراغ أو لاهيا بحاضر مبتور، لا يرجع إلى ماضيه ولا يترقب عقباه.
كانت الحياة حليلة نحاسبها على الأمانة والخيانة، وكانت في بعض أجيالها عشيقة نحاسبها على العطف والمودة، فأصبحت عندنا بنتا من بنات الهوى لا نحاسبها على شيء ولا نغار عليها من أحد، ولا ننحي عليها بلوم ولا نخصها بثناء.
فنحن كما قلنا: نكرم زماننا هذا ونكبره ونرفع من قدره إذا نحن وصفناه بزمان التشاؤم. ليتنا كنا متشائمين، وليتنا نحفل بالحياة! ما أخالنا نخطئ إذ نقول إن تشاؤم أبي العلاء وتشاؤم زميله في الغرب سعادة بالقياس إلى ما نحن فيه.
كان هذا القائل آخر الخطباء في الجمع العظيم الذي التقى من بلاد المشرق والمغرب لتحية الحكيمين في إحدى العواصم. فكان في هذه التحية تزكية للمذهب المحتفى بصاحبيه، كما كان فيها مناقضة له وتشكيك فيه، لأنها جاءت في إبانها دليلا جديدا على اتساع أفق الحياة واستغراقها لجميع ما يقال فيها من تشاؤم وتفاؤل، كما تهضم البنية القوية ما ينفع وما يضير.
وقد خرج حكيم المعرة وهو يعجب ويسأل تلميذه من فرط العجب: أحق أن التشابه بيني وبين الرجل على هذا المدى من القرب والتجاور، مع ما بيننا من مسافة الزمان ومسافة العنصر ومسافة الفكر واللسان؟
قال التلميذ: بل هو أقرب من ذاك يا مولاي؛ فلا عجب أن يتفق الرجلان في النظرة إلى الدنيا على تباعد الجيرة وتفاوت السيرة، ولكن العجب العاجب أن يتفقا على التفصيلات ويتشابها في الدقائق والعرضيات، وفيما ليس هو من جوهر المذهب ولا من الضروريات التي يقضي بها التوافق في الأصول، والتماثل في العقول.
قال أبو العلاء مستفهما: ومثال ذلك؟
قال التلميذ: مثال ذاك أن الرجل يقول: إن المرء يعيش إلى السادسة والثلاثين من عمره كما يعيش التاجر الذي ينفق من ربحه ونوافله، ثم ينحدر وينقص ولا يزال في نقصه وهبوطه حتى ينفق من رأس ماله إلى يوم إفلاسه ووفاته. وأنت يا مولاي تقول:
إذا ما تقضى الأربعون فلا ترد
سوى امرأة في الأربعين لها قسم
فإن الذي وفى الثلاثين وارتقى
عليهن عشرا للفناء به وسم
زمان الغواني عصر جسمك زائد
وهن عناء بعد أن يقف الجسم
والرجل يقول بغلبة الإرادة على الفكرة، وضياع العقول مع الشهوات وأن العقل يكف عن العمل، وأن العمل لمن لا يعقلون، وأنت يا مولاي تقول:
وتفكر الإنسان يثني غربه
ويرد جامحه إلى الإقصار
وتقول:
اذا ما أشار العقل بالرشد جرهم
إلى الغي طبع أخذه أخذ ساحب
وتقول:
وقد غلب الأحياء في كل وجهة
هواهم، وإن كانوا غطارفة غلبا
وتقول:
والعقل زين ولكن فوقه قدر
فما له في ابتغاء الرزق تقدير
والرجل يرى أن النوم سلفة مستعارة من الموت، وهذا رأيك في أبيات كثيرة منها:
ونومي موت قريب النشور
وموتي نوم طويل الكرى
ومنها:
وموت المرء نوم طال جدا
عليه، وكل عيشته سهاد
ومنها:
وفضيلة النوم الخروج بأهله
عن عالم هو بالأذى مجبول
والرجل يعطف على الحيوان، ويؤثر صحبة الكلب على صحبة الإنسان، وأنت مع تحريمك أكل الأحياء تقول في الكلب خاصة:
سببت بالكلب فأنكرته
والكلب خير منك إذ ينبح
والرجل يقول إن الإرادة تورث من الآباء، وإن الذكاء يورث من الأمهات، وقد أوشكت يا مولاي أن تقول ذلك حين قلت:
كأن حواء التي زوجها
آدم لم تلقح بشخص أريب
قد كثرت في الأرض جهالنا
والعاقل الحازم فينا غريب
والرجل يرفع من أقدار نساك الهند، وأنت كذلك ترفع من أقدارهم، ويذكر مذاهب المجوس في الخير والشر، وأنت تذكرها كما جاء في قولك:
فكر «يزدان» على غرة
فصيغ من تفكيره «اهرمن»
والرجل يقول في الزمان: «نحن نسلب يوما كل مغرب شمس» ويقول فيه: «إن وجودنا مستقر على الحاضر الذي ما يني أبدا متسربا طائرا فلا بد له - أي لوجودنا - أن يتلبس بالحركة الدائمة الدائبة بلا أمل في الوصول إلى الراحة التي ينشدها، مثلنا في ذلك مثل المنحدر من جبل عال فهو يسقط إذا حاول الوقوف.»
وذلك شبيه يا مولاي بقولك:
نفس بعد مثله يتقضى
فتمر الدهور والأحيان
وقولك:
أما المكان فثابت لا ينطوي
لكن زمانك ذاهب لا يثبت
وغير ذلك التشابه كثير، يدل عليه تناقض التعبير بينكما كما يدل عليه التقارب في التفكير.
فالرجل يسأل: «ما هو التواضع إلا أن يكون ذلة مزيفة يلتمس بها المرء غفرانا لفضائله ومزاياه في عالم مكظوظ بالحسد والضغينة؟»
ومولاي قد تلفع بالتواضع كثيرا لاتقاء الشر والملاحاة، وخلع التواضع كثيرا في قصائد الفخر والمباهاة، وشغلته هذه المسألة من حيث شغلت صاحبه في جانبي الإقرار والإنكار.
قال أبو العلاء: إن هذا لعجيب، وإن الرجل إلي لجد قريب، وما أحسبها إلا قرابة في الطباع لا قرابة في الرأي والاطلاع، فإن تشابه الطباع هو الذي يوحي القول الواحد إلى أفواه الكثيرين، أما المتشابهون في العقول فقلما يتفقون، وقد يتنابذون، لأنهم متشابهون.
حكم وحكمة
كان أبو العلاء قد أقام في بلاد الإنجليز بضعة أيام، شهد في خلالها مجامع العلم والأدب ومعاهد الفن والرواية، وسمع الكثير من أنباء السياسة العالمية، وأنباء الأزمة التي أخرجت وزير الشئون الخارجية، وأعجبه نمط الحكم وانتظام الأمور بين الحكام والرعايا، فجلس يحاور تلميذه وتلميذه يحاوره، ويأبى التلميذ إلا أن البرلمان هو أساس هذا النظام وسبب هذا الاعتدال في تدبير الأحكام، ويأبى الحكيم إلا أن الأمة التي تنجب البرلمان تعرف الحكم الصالح بغير برلمان، فلو لم يكن فيها نواب وناخبون، لكان فيها الحكم كما ينبغي أن يكون، لأنها هي المرجع وهي الأساس، وكل ما عدا ذلك فهو صور وأشكال، يأخذها أناس وينبذها أناس.
قال التلميذ: بل الرأي هنا للكثرة من سواد الأمة، وما على الحكام إلا أن يطيعوا ما يأمر به هؤلاء.
قال أبو العلاء: وهل للكثرة من السواد رأي؟ إن الله يقول:
بل أكثرهم لا يعقلون
ويقول:
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله .
قال التلميذ: ويقول:
وأمرهم شورى بينهم .
قال أبو العلاء: ونسيت أنه جل جلاله يقول:
فاسألوا أهل الذكر
ويقول:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
قال التلميذ: فماذا يسمي الشيخ هذه الحكومة التي يسمونها هنا بالحكومة النيابية؟
قال الحكيم: أسميها الحكومة النيابية واختلف ما شئت في معنى النيابة وفيمن ينوب وفيمن ينيب. فالرأي لأهل الرأي والحكم لأولي الحكم، والطاعة لمن يستطيعونها، ولا مشقة في الطاعة على سواد الناس إذا صلحت الأحوال وتقابلت الأهواء، فلا غلبة من هنا ولا هزيمة من هناك، ولا بأس من تبدل الأمور كلما اشتدت سطوة فريق واشتدت معها شكاية فريق. •••
قال التلميذ: أكاد يا مولاي أن أتابعك في قولك وإن كنت تنظر إلى زمان غير زمانك، فالحق أننا هنا بين أمة توازنت جوانبها فقل فيها الجور وكثر فيها الاعتدال: إن طغى النبلاء صمد لهم كبار التجار، وإن تجبر العلية أو تمرد السفلة صمد لهم أوساط الناس، وإن تحكم رجال الدين قابلهم رجل العلم، وإن صال الجند والقادة في البر فهناك الجند والقادة في البحار؛ تقابل وتوازن لا يطغى فيه جانب على جانب، ولا فصل فيه لتدبير فئة على فئة، وإنما هو من صنع الجغرافية ومن صنع التاريخ ومن صنع الفئات كافة، وما داموا على هذا فهم في صلاح دائم، وأخشى أنهم لا يدومون.
وإن التلميذ ليوشك أن يمضي في مقاله إذا بحاجب الباب يحمل إليه رسالة من وزير الشئون الخارجية المستقيل، وإذا بالوزير يطلب الإذن في مقابلة الحكيم، وإذا بالحكيم يسأل التلميذ ويعجب: ما خطب الرجل وهو في أزمات محرجات لا يفرغ فيها الساسة للأدب والأدباء ولا للشعر والشعراء؟ والتلميذ يشرح له بعض ما يعلم من شأن ذلك الوزير، ومن شئون سائر الوزراء في تلك البلاد.
قال التلميذ فيما قال: إنه يا مولاي يعرف اللغة الفارسية.
قال أبو العلاء: ولكني لا أعرفها.
قال التلميذ: أعلم ذلك، ولكنه يا مولاي قد اطلع على شعر حكيم الفرس الخيام ويعنيه أن يلقى حكيم العرب أبا العلاء، وهو فيما يسحبه بعض أدباء الغرب أستاذ الشاعر الفارسي، وفاتح هذا الطريق في آداب المشرقيين.
قال أبو العلاء: أوكثير من وزراء هذا البلد من يعنى بهذه المطالب؟
قال التلميذ: غير قليل؛ فمنهم من يكتب في الحكمة والعلوم، ومنهم من يكتب في نظام الشعوب وتدبير الممالك، ومنهم من يكتب في الخطابة والتاريخ، ومنهم من يكتب في الطير والسمك، ومنهم من يكتب في مشاهد الطبيعة ومحاسن الفنون، ومنهم من ينقد أهل الفن والأدب فيتفق له من صائب النقد ما ليس يتفق لرجال هذا المقام وفرسان هذا الميدان كما يقولون. أيذكر مولاي تلك الروايات التي شهدناها في معاهد التمثيل فأعجب الأستاذ ببعضها وسأل عن كاتبها؟
قال المعري: تعني الرجل المسمى «برناردشو»؟
قال التلميذ: إياه أعني. •••
فعاد المعري يسأل: وما شأنه في هذا السياق ؟ أهو وزير من أولئك الوزراء؟
فأجابه التلميذ: كلا بل هو أديب كتب عنه عشرات من الأدباء، فلا أذكر أن واحدا منهم أصاب في نقده ما أصاب الوزير الذي قال في شخوص رواياته: «إنها تظهر في الحياة لا لما تعمل أو تكون، ومع هذا هي صالحة للحياة.»
قال أبو العلاء: صدقت يا بني فما أعرف لذلك الكاتب المقوال صفة أوجز ولا أصدق من هذه الصفة. فمن يكون الوزير القائل هذا؟ أهو زائرنا اليوم؟
قال التلميذ: ذاك يدعى شرشل وزائرنا يدعى إيدن، وكلاهما في ميدان الأدب ومناصب الحكم سواء، وإن كان هذا أدنى إلى المسالمة وذاك أدنى إلى الصرامة والنضال.
فأطرق المعري هنيهة ثم أدار وجهه إلى تلميذه وقد اطمأن إلى حديثه، وقال له: «ما أحسب اشتغالهم بهذه المطالب إلا من الخير؛ فإن التفرغ للحكم - بل لعمل واحد كائنا ما كان - سبيل إلى العنت وضيق النظر وقلة السماحة، ومن تعددت مطالبه كان خليقا أن يتسع أفقه للخصومة والخلاف، وأن يعود وهو أدنى إلى المودة والإنصاف.»
ثم هتف بالتلميذ: لقد أطلنا على الرجل لحظات الانتظار، فأسرع! أسرع إليه بالدعوة وبالاعتذار. •••
ويطول سرد الحديث الذي جرى بين الحكيم والوزير، فحسبنا منه ما استطردا من السياسة وتدبير الشعوب؛ فقد أفاض الرجلان في مقاصد القول حتى استنفذا منها كل ما يخوضان فيه ويشاركان في مناحيه، وإنهما ليهمان بالافتراق إذ يقحم التلميذ سؤالا كان من حقه أن يسأل لولا أن شغل عنه المتحدثان بأفانين الأدب والثقافة، ولعل التلميذ قد عز عليه أن يرى في سياسة العصر رأيا لا يقره عليه شيخه وأستاذه، فاندفع يقول: ألا يسأل مولاي زائرنا الكريم فيما طرقناه من حديث الحكومة والبرلمان؟ فما ينبئنا مثل خبير؟
ووافق السؤال هوى من نفس الحكيم فأوجز الأمر للوزير وأنصت يترقب منه الجواب.
قال الوزير: سر التوفيق في حكومة هذه الأمة أن يتم فيها الأمر الجليل كما يتم الأمر الصغير، وليس فيها من يعتقد أنه يريده كل الإرادة أو يأباه كل الإباء، وإنهم قد أحسنوا الخصومة في الجد ؛ فالغالب منهم والمغلوب في رياضة لا توغر الصدور ولا تحفظ القلوب.
خليفة دانتي
قضى المعري أياما في البلاد الإنجليزية وهو يستمع إلى الأنباء التي تفيض بها الصحف رثاء لشاعر الطليان «جبريل دننزيو» وتعقيبا على أدبه ومغامراته في الحب والحرب والسياسة. فسأل صاحبه: من يكون الرجل الذي يلغطون به هذا اللغط في بلاد ليس بينها وبين بلاده صفاء، ويوشك أن يستعر بينهما لهيب الجفاء والبغضاء؟
قال صاحبه: هو خليفة دانتي!
قال المعري: الآن زدتني به معرفة! ومن دانتي يرحمك الله؟
فثاب التلميذ إلى نفسه وهو يعتذر من فلتات وهمه! فقد طالما اقترن اسم المعري باسم دانتي في قراءاته حتى حسب أنهما متعارفان، وأن المعري لا يجهل اسم قرينه ولا يغيب عنه أثره وتاريخه، فقال: حسبتك يا مولاي تعرفه وتعرف الصفة بينك وبينه، فقد زعم بعض الأدباء من أبناء الأندلس المحدثين أنه تلميذك وأنه اقتبس منك روايته المقدسة؛ لما بينهما وبين رسالة الغفران من المشابهة. فهي رحلة بين الأرض والفردوس والجحيم، ومقابلة للأدباء وذوي الشهرة من الصالحين والغاوين، وحكاية لما يصنعون في الدار الآخرة قياسا على ما كانوا يصنعون في الدار العاجلة. وقد سبقني الوهم حتى كدت أسألك: أصحيح أنه أخذ منك تلك الرواية؟ وإنما الصواب أن أسأل «دانتي» لو لقيته كما لقيتك، فهو أقمن بجواب ذلك السؤال.
قال المعري: وماذا فعل خليفته؟ أتراه كتب رسالة أخرى على نمط رسالة الغفران؟
قال التلميذ: كلا يا مولاي وإنما يسمونه خليفة «دانتي» لأنه أشهر شعراء الطليان في العالم الحديث كما كان أشهرهم في زمان. أما مادة الأدب فلا مشابهة فيها ولا مقاربة، بل لعلهما أقرب إلى المناقضة والمباينة في كثير من الأقوال والنزعات والأخلاق. •••
واسترسل التلميذ في شرحه وهو لا يحسب إلا أن الحكيم مسترسل في صمته ليستزيده من الشرح والتفصيل، فجعل يقول: لقد كان دانتي عذريا في هواه متدينا في شعره صارما في حياته. أما خليفته فمذهبه في الحب إشباع الشهوات واستنفاد متعة الحياة، ومذهبه في الدين مذهب أهل العصر من الشك والإباحة ، وسجيته أقرب إلى العربدة منها إلى الصرامة وإلى الضحك الثائر أقرب منها إلى العبوس الرصين. وكان دانتي أحرى بالحظوة عند النساء ولكنه لم يحظ منهن بطائل، أما خليفته فهو بين الصلع والقماءة، ولكنه مجدود عند الشواذ من بنات الفن ورائدات الغرائب والبدوات. على أنه كان من الشهوانيين بالأعصاب ولم يكن من الشهوانيين باللحم والجسم، وكانت لذاته رعدة تهز الأوصال ولم تكن أكلة يملأ بها ماضغيه ويحشو بها أحشاءه، فهي وليدة القلق والحركة وليست وليدة الترب والاستنامة، وكأنها قد أصبحت بذلك في زعمه أقرب إلى الطموح والمثل الأعلى، وأبعد من الغواية والإسفاف.
فقاطعه المعري منشدا:
جهلت أقاضي المصر أكبر مأثما
بما ناله، أم شاعر يتغزل؟
ألهذا يا بني قد شهروه وقدروه، وبهذا يا بني قد أكبروا ذكره وسيروه؟
فأحس التلميذ لهجة التأفف والاستنكار في سؤال الحكيم المعرض عن الشهوات واللذات، وجاراه من حيث لا يشعر قائلا: بل لعلهم قد شهروه لمغامراته في الحرب والسياسة كما شهروه بمغامراته في الحب والغواية.
قال المعري: وما ذاك؟
قال التلميذ: إنه كان من أهل بلد صغير فصلوه من موطنه الكبير، فلما كانت الحرب التي يسمونها بالحرب العظمى طمع في رجعة ذلك البلد وسعى إلى الوصل بين منشأ أهله ومستقر قومه، فحالت الحوادث دون ما طمع فيه وسعى إليه، فحمل السلاح وغزا ذلك البلد وأقام نفسه حاكما عليه وأبى أن يبرحه إلا وهو قتيل، بل جعل يصيح على مسمع العالم كله: إنه لن يبرحه وهو قتيل، لأنه أقسم ليموتن فيه وليدفن في ترابه، بل أقسم ليكونن هناك نصيرا لكل من أضاع وطنا أو غضب على وطن، ونادى بدعوته فإذا هي كما قال: «أعظم الدعوات وأجملها وأشدها نقمة على خسة العالم الشائخ وهتره وتخريفه في هذه الأيام، لأنها تمتد من أيرلندة إلى مصر، ومن مصر إلى الروسيا فأمريكا، ومن رومانيا إلى الهند: تجمع الشعوب البيضاء والشعوب ذات الألوان، وتصلح بين وحي الإنجيل ووحي القرآن، وتمشي بالوئام بين أتباع عيسى وأتباع محمد، وتمزج في إرادة واحدة كل ما وسعته الأمم في نخاعها وفي عروقها من ملح وحديد لإمداد النفوس بغذاء العمل والحركة. وسننتصر لا محالة! وسينضوي الثائرون من جميع الأمم بين جميع أبناء آدم إلى أعلامنا، وسينتضي العزل المظلومون سلاحنا، وسندفع العنف بالعنف والشدة بالشدة، ونشنها غارة جديدة كغارة الصليبيين لنصرة المساكين وإغاثة الأمم الفقيرة المنزوفة، ونرسلها شعواء على المرابين والمبتزين الذين غنموا بالأمس أسلاب الحروب ويغنمون اليوم أسلاب السلام.»
قال المعري: أضغاث أحلام، وشطحات أوهام. ثم ماذا كان من شأنه في ذلك البلد، وماذا كان من شأنه مع المظلومين والمستضعفين؟
فابتسم التلميذ وقال: هو ما تقول أيها الحكيم. فما هي إلا أضغاث أحلام وشطحات أوهام، وما هو إلا أن تبدل الوزراء في حكومة بلاده حتى خرج حيا من البلد الذي أقسم ليموتن فيه وليدفنن في ترابه، وما كان قد دخله من قبل إلا وهو على تواطؤ مع قادة الجيش ورجال الدولة، فلم يمنعوه، ولم يقفوا في طريقه.
فابتسم الحكيم ابتسامته المرة وعاد يسأل وكأنه يعلم جواب ما سأل عنه قبل الإفضاء به إليه: والمساكين المستضعفين؟
فقهقه التلميذ ناسيا أدبه ووقار شيخه، وقال: أما المساكين المستضعفون فقد جردت عليهم حكومته جيشا يزيدهم مسكنة وضعفا. •••
فتعجل الشيخ سائلا: فماذا صنع خليفة دانتي وخليفتي يرحمك الله؟ هل أعطاهم من سلاحه ما ينتضونه؟
قال التلميذ: بل أرسل عليهم شواظا من شعره يحض به الجيش الزاحف على حسن البلاء وتشديد النكير.
فوجم المعري مهموما ولم يزد على أن قال: صدق الله العظيم:
يقولون ما لا يفعلون .
لعب العبقرية
كان أبو العلاء في أيامه الأخيرة بين أمم الغرب كثير السآمة من لقاء الناس، كثير النفور من المجامع والمحافل، كثير الإعراض عن الجدل في المذاهب والآراء والفلسفات التي سمع من أخبارها في أيام ما لم يسمعه في أعوام كان بقيد الحياة. «ما النحو؟ ... ما الشعر؟ ... ما الكلام؟» كما قال في بعض أبياته
1
كلها ككل شيء في هذه الدنيا:
تعب غير نافع واجتهاد
لا يؤدي إلى غناء اجتهاد
وكانت للأمر في أول عهده بالقوم جدة وغرابة، فكان يحتمل المجامع والمحافل ما بقيت الجدة والغرابة، ثم نصلت الطلاوة وزالت الغشاوة فإذا الجديد كالقديم وإذا العجم كالعرب، وإذا الدنيا هي الدنيا والناس هم الناس والحياة هي الحياة! وكل يوم دعوة، وكل يوم خروج على غير طائل، أو على ضجة ما كان أغنى عنها تينك الأذنين اللتين حجبهما الرجل عن الصوت، بعد أن حجبت الأقدار عينيه عن الضياء.
قال يوما لصاحبه: كنت أحسب الدنيا بنية مطمورة في القدم فكلما غاص الإنسان فيها كان أدنى إلى حقائقها وأسرارها، فلما بعثت في هذا العصر الحديث حسبتها منجما مقبلا كلما أمعن الإنسان في غده بعد يومه كان أدنى إلى تلك الحقائق والأسرار.
فأسرع صاحبه يسأله: فالآن ماذا تحسبها؟
قال: أحسبها متاهة مغلقة، فكلما رجعت فيها أو تقدمت فأنت في مكان واحد من المدخل أو من المخرج، وقد أغلقت فلا مدخل ولا مخرج هناك.
وكان صاحبه أو تلميذه من أبناء العصر المنشئين على تربيته وعاداته: كل دعوة تأتيه فإما لحضور وإما لاعتذار، وكانت عنده دعوة من مؤتمر الفلسفة والأديان، ينتظر أصحابها الإجابة من حكيم العرب وحكيم القرون الوسطى، فبماذا يجيب؟ والحكيم لا يريد الحضور ولا يريد الاعتذار؟ •••
تلك فرصة سانحة يوم عرض الحكيم للدنيا وشبهها تارة بالبنية المطمورة وتارة بالمنجم المحفور، وتارة بالمتاهة المغلقة.
فعاد التلميذ إلى المفاتحة في أمر الدعوة إلى مؤتمر الفلسفة والأديان، وعاد الحكيم إلى الرفض والإعراض وزاد متهكما ساخرا: مؤتمر يشاور فيه بعضهم بعضا فيما يدينون به من عقيدة! ليوشك القوم غدا أن يتشاوروا فيما يحبون من وجه جميل وفيما يأكلون من فاكهة لذة! وهل يرجع المرء فيما يحبه من جمال وفيما يشعر به من لذاذة وفيما يعتقده من طمأنينة اليقين إلى مشاورة الآخرين؟
فعلم التلميذ أن نوبة النفور أصلح هنا للخوض في مسائل المؤتمر من نوبة الإقبال والموافقة، واقترح على الشيخ أن يسأله وأن يدون جوابه، وأن يستخلص من الحديث ما يلقيه على المؤتمرين، نائبا عن الشيخ، والشيخ معافى من مشقة الذهاب ومشقة السؤال والجواب.
قال التلميذ : أأنت من العقليين يا مولاي أم من الفطريين؟
فسأله مولاه: ما العقليون وما الفطريون هداك الله؟
فلخص التلميذ مذهب العقليين ومذهب الفطريين في كلمات موجزات، وقال إن العقليين يحسبون أن الإقناع هو سبيل الإصلاح والهداية، والفطريين يحسبون أن البداهة قبل التفكير وأن الإقناع قلما يغالب الأهواء، فمن أي الفريقين يا ترى يكون الشيخ الجليل؟
قال أبو العلاء: من كلا الفريقين!
أنا من العقليين حين أقول:
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء
وأنا من الفطريين حين أقول:
العقل يسعى لنفسي في مصالحها
فما لطبع إلى الآفات جذاب
وأنا لست من هؤلاء ولا هؤلاء حين أقول:
وبصير الأقوام مثلي أعمى
فهلموا في حندس نتصادم!
قال التلميذ: خرجنا من البنية المطمورة ومن المنجم المحفور ودخلنا المتاهة المغلقة يا مولاي. هذا تناقض والحق لا يتناقض. فماذا أقول للمؤتمرين من رأي الشيخ في حقيقة الحق بين هذه الأمور؟
فهتف به الشيخ ضاحكا وقد سرى عنه بعض السآمة: بل التناقض للحقائق يا بني لا للأباطيل. •••
إن الأباطيل تتغير وتتبدل فيسهل التوفيق بينها بقليل من النقص هنا وقليل من الزيادة هناك، أما الحقائق فهي التي تقف في سبيلنا وقفة الصخور. لا تحيد من يمين ولا من شمال، وعلينا نحن أن نسلك بينها ونتحول من حولها، فإن أردت أن أتحول بك في دروبها قليلا فاعلم إذن أننا نتبع العقل فيما هو للعقل من رأي وتفكير وتجربة ومشاهدة، وأننا نتبع الفطرة فيما هو للفطرة من ذوق وطمأنينة وتسليم، وأننا لا نطلب من الفطرة أن تصبح عقلا ولا من العقل أن يصبح فطرة، وإنما نستشير كليهما حيث يشير. •••
وبدا لأبي العلاء أن تلميذه المصغي إليه يستريح ويستقر على ما سمع، فأدركته عارضة من لعب العبقرية ولعب الطفولة الخالدة. وهل العبقرية الخالدة إلا حياة متجددة؟ وهل يلعب الطفل إلا لما يدركه من جدة الحياة وإقبالها؟ فكما يرى الطفل من ينامون إلى جانبه وهو يقظان فتأبى عليه شيطنة الحياة العارمة إلا أن يوقظهم معه ويعديهم بمساس من القلق الذي يشتمل عليه، كذلك العبقري لا يطيب له أن يأرق وحده والناس هادئون؛ فمن ثم إن شئت يقظات الأحلام والناس نيام، وشيطنة الخلود والفانون سادرون في موت الجمود، قل إن شئت إنها جدة تلطف جدها، وإنها حلاوة تخالط مرارتها، ولكنها - بعد كل ما يقال - لا تخلو من جانب اللعب فيها وجانب الرياضة، ولن يستحق الجد ما ليس فيه لعب ولا رياضة. •••
بدا ذلك لأبي العلاء فأومأ إلى تلميذه يسأله وقد كف هو عن سؤاله: أراك صدقت وآمنت. فما لك لا تسأل: ومن الذي يستشير العقل؟ ومن الذي يستشير الفطرة؟ أفي الإنسان شيء خارج العقل وخارج الفطرة فهو الذي يكون منه السؤال ثم يكون الجواب إما من العقل المسئول أو من الفطرة المسئولة؟ وما الرأي إذا كان السائل هو الفطرة والمجيب هو العقل؟
وما الرأي إذا وقع الخلاف على السؤال وعلى الجواب؟
وفوجئ التلميذ، ولكنها مفاجأة وقعت منه موقع السرور والتأهب، لأنه انتظر بعدها مزيدا من الاستفسار ومزيدا من التفسير. فقال: إذن أنت يا مولاي من الجبريين؟! ولا أدري كيف فاتني الساعة أن أذكر ذلك وأنت القائل:
والعقل زين ولكن فوقه قدر
فما له في ابتغاء الرزق تقدير
قال أبو العلاء ولا تزال فيه تلك العارضة من لعب العبقرية: ولا تدري أيضا كيف فاتك الساعة أنني لست من الجبريين ولا من القدريين لأنني أنا القائل:
لا تعش مجبرا ولا قدريا
واجتهد في توسط بين بينا
قال التلميذ وكأنما شملته تلك العارضة التي استولت على أستاذه في تلك الساعة:
وهل هذه إلا الجبرية بعينها؟ لا تريد أن تقول إن الإنسان مجبر ولا تريد أن تقول إنه مخير. ولا تفصل في المشكلة بل تدع الفصل فيها لعالم الغيب أو عالم الشهادة. ماذا يكون الجبريون إن لم يكونوا هكذا غير مختارين فيما يفكرون وفيما يعتقدون؟
فأصغى المعري وأعجبه ما سمع من تلميذه فأومأ موافقا: نعم هي الجبرية في أرجوحة ذاهبة آيبة. وهي خير من الجبرية في قيد مقيم.
قال التلميذ:
لقد عدم التيقن في زمان
حصلنا من حجاه على التظني
فهتف به المعري: ويحك إنك لتتعقبني بكلامي القديم تعقب المذنب بإقراره؛ فهلا أغناك حفظك عن مطاردتي بالسؤال والاستقصاء؟
فلاحقه التلميذ قائلا: المدى يا مولاي في هذه المسائل فسيح، والتعب لا يضير، وخطوة واحدة إلى الأمام أو خطوة واحدة إلى الوراء لن تضيق النطاق، ولن تقرب اللحاق.
قال الشيخ مترقبا: ثم ماذا؟
قال التلميذ مجاريا: ثم علام الجزاء إذا كنا فيما نحسن أو نسيء مجبرين مسيرين؟
قال الشيخ: إذا كانت النفس تعمل الخير مكرهة فما حقها في الجزاء؟
وإذا كانت النفس تعمل الخير مختارة لأنها تؤثره وترضاه وتجد فيه الغبطة وفي غيره الندم والحسرة فما حقها أيضا في الجزاء؟ فأحر بنا ألا نشغل بالنا بمثوبة أو عقوبة.
ولتفعل النفس الجميل لأنه
خير وأحسن لا لأجل ثوابها
إن الطفل يا بني يؤجر بالدرهم ليأكل الطعام وفيه مصلحته ونماؤه، فإذا كبر الطفل بذل هو الدرهم وصبر على بذله وتحصيله ليأخذ به طعامه ويشبع به نهمته وأوامه. وكذلك تصغر النفس فتؤجر على خيرها الذي تجهله، وتكبر النفس فتبدل هي الأجر على ما تعمل من خير، وذلك هو الجميل وذلك هو الثواب:
أدين برب واحد وتجنب
قبيح المساعي حين يظلم دائن
ثم أنشد:
وليس اعتقادي خلود النجو
م ولا مذهبي قدم العالم
ثم عاودت الشيخ تلك العارضة من لعب العبقرية الخالدة فصاح بالفتى: أسرع! أسرع يا بني مؤتمر الفلسفة والدين، أسرع إليهم فقد طال بهم الانتظار، في طلب هذا الحوار، والذي لا يستقر عليه قرار، ولا يزيد به عدد الأبرار، ولا ينقص به عدد الفجار.
ثم تمتم بين شفتيه: ما النحو؟ ما الشعر؟ ما الكلام؟
كلام في كلام في كلام.
الاختراع
السفينة في طريقها إلى المشرق والمعري وصاحبه على مقدمها يستقبلان الهواء، والمذياع يغني الأنشودة المشهورة على لسان امرأة لاهية تقول بالفرنسية:
عندما تضمني بين ذراعيك، أنا أعلم الكلمة التي ستقولها. ستقول إني أحبك! وهي كلمة كاذبة ولا شك، ولكني مع هذا أحب أن أسمع صوتك ...
والفيلسوف يسأل : ماذا تقول هذه المرأة؟ والتلميذ يترجم الأنشودة ويتخابث في سؤال الشيخ عن رأيه في هذه المناجاة العصرية، على لسان امرأة تخاطب رجلا، أو على لسان النساء يخاطبن الرجال.
والشيخ يتأمل باسما ويجيب تلميذه راضيا رضى القانطين المستسلمين: «هو الغرب كله يا بني ماثل في هذه الأنشودة اللاهية: هو الغرب الذي يأخذ من الحياة ما تعطيه، ويطلب السرور، ثم لا يسوم دنياه طلب الوفاء والكمال، هو الغرب الذي يأخذ كل شيء بقيمته وكل شيء على حقيقته، ثم يصقله ويحببه إلى نفسه ليستسيغه ويستمرئ مذاقه، هو الغرب ذو النفس الناطقة التي لا تقول كلمة في جدها ولا لهوها إلا جمعت فيها خلاصة ما عندها من حضارة وأخلاق وفلسفة وشعور.»
قال التلميذ: أوليست كل النفوس ناطقة؟ ألا تفصح كل نفس عن دخيلتها في غنائها ومناجاتها؟
قال الشيخ: بلى، ولكن شتان تعبير اللسان الذي يقول فيجمع حياته فيما يقول، وتعبير الثمرة التي ترى قشرتها فترى من لونها وتشم من رائحتها أنها ناضرة أو ذاوية، وصحيحة أو معطوبة: ذلك تعبير الفضل كله فيه للقائل، وهذا تعبير الفضل كله فيه للناظر، وكلاهما تعبير ولكن المسافة بينهما كالمسافة بين الحياة والجمود، والحركة والركود.
فصاح التلميذ: اليوم سيدي الشيخ عربي وهو يفارق الغرب إلى الشرق! فهلا كان غريبا وهو في بلاد القوم مستريح؟ أم كتب على الإنسان أن يحب ما يفارق ولا يزال ساخطا على ما هو فيه؟
فصمت الشيخ هنيهة، ثم راح يمضغ بين شفتيه:
يا ماء دجلة ما أراك تلذ لي
شوقا كماء معرة النعمان
اطمئن يا بني. ما أنا إلى الغرب ولا أنا إلى الشرق. أنا إلى معرة النعمان فهلا آن الأوان؟ •••
فأراد التلميذ أن يطاوله ويصرفه عما ورد على نفسه في تلك اللحظة من الحنين إلى وطنه، وعاد يحاوره وكأنما يتحداه ليستثيره ويجنبه غاشية السوداء التي هو مقبل عليها: أفي المعرة مثل هذه السفينة ومثل هذا المذياع ومثل هذا الصوت الجميل ومثل هذه الأعاجيب!
وكان المعري قد ركب السفائن والطائرات، وعرف مطايا الكهرباء ومطايا البخار، وقال في كل منها قولة عارضة وهو يركبها أو يترجل منها. إلا أنها رحلة العودة ففيها خلاصة المقال ونهاية المآل، فيما رأى من هذه الصنوف والأشكال، فقال: وما حاجة المعرة إلى سفائن البحار فيها السيارة وتحوم على فضائها الطيارة؟ ولو كان فيها بحر لكان فيها مثل هذه السفينة ومثل هذه الضوضاء.
قال التلميذ: وكلها من صنع الغرب الذي ما أدري أيبرم به الأستاذ أم هو مشوق إليه؟
قال المعري: الآن فهمت ما تريد، فهلا أنبأتني يا بني ماذا صنع الغرب من هذه الآلات يوم كنا نعيش حياتنا الدنيا في المعرة؟ لعمرك يا بني ما صنعوها اليوم إلا لأنهم قد احتاجوا إليها، وإلا لأنهم قد بنوا على أساس ما سبقها وهيأ أسبابها من صناعات القرون الأولى. يا بني لا تهولنك المظاهر ولا تعجبك كثرة الأعداد، فلعل مبتدع الشراع والدولاب أحذق من مبتدع البخار والكهرباء، ولعل القوس والسهم أبرع في اختراعهما من المدفع والقذيفة، ولعلهم كانوا يعيشون على عهد الشراع خيرا من هذه العيشة، ولعلهم كانوا يموتون على عهد القسي والسهام أكرم من هذه الميتة! ولعل متعة الحالم بالطيران أحب إليه من متعة الطائر بالجثمان. •••
قال التلميذ: ولا أحسبني مع هذا مخطئا إذا قلت إنني لمحت دلائل الدهشة على وجه الأستاذ يوم ركبنا الهواء أول ما ركبناه.
قال أبو العلاء: تلك دهشة تغني عن دهشات.
فسأل التلميذ: أيحب مولاي أن أفهم من هذا أن الكهرباء والبخار وما صنع الإنسان منهما لا تستحق دهشة الحكيم كما يستحقها الإنسان الطائر في الهواء؟
قال أبو العلاء: لا أحب أن تفهم هذا ولا أكرهه، ولكنني دهشت لمعنى ما رأيت حين رأيته أول لمحة، ثم أغناني ذلك عن دهشتي للمصنوعات المكررة والظواهر المختلفة، أتحسب أن من يدهش للطيران في الهواء خليق أن يدهش لكل متحرك بالبخار والكهرباء؟ أفمن شهد الشراع مرة خليق أن يدهش له مرات كلما حركته ريح شمال أو ريح جنوب؟ ذلك معنى واحد في ألفاظ شتى، أو ذلك جسد واحد في مختلف الثياب ، وحسبك أن تعلم أن تسخير القوى التي يسمونها بالقوى الطبيعية مستطاع لتزول عنك الدهشة من كل ما يستطاع من هذا الطراز.
فاندفع التلميذ سائلا: أفكل هذه الآلات إذن ليست بالفتح الجديد؟ أليس فيها ما يستوقف الحكماء من تاريخ بني الإنسان فيما يرى سيدي الأستاذ؟
فلم يمهله أبو العلاء هنيهة، وأجاب: لا فتح ولا إقفال!
وربما فتحت هذه الآلات لإنسانك يا بني فتحا جديدا لو أنه سخر الآلات ثم أطلق نفسه من العقال، أو لو أنه ملك نفسه يوم ملك آلات الأرض والهواء، ولكنه سخر الآلات المصنوعة ليصبح شبيها بها، ثم ازداد في التسخير ليزداد في الشبه. فهو أسير ما صنع ورهين ما ابتدع، فإن سميت هذا فتحا فالله يفتح عليك. •••
ولم تخف لذعة السخر والمرارة في كلمة الشيخ الأخيرة على فطنة تلميذه الملحاح، فقال وهو لا يتعمد الإطالة في الحوار: أخال إنسان اليوم على جميع حالاته أطلق من آبائنا الأولين!
فتمتم أبو العلاء هامسا: أكذاك؟
ثم انثنى يقول: لأمر ما كان الأوائل يروضون الحيوان وكنتم في زمانكم هذا تروضون الجماد: كل قريب إلى ما يروض! وما أحسبكم تفلحون في رياضة حيوان واحد بعد الذي راضه آباؤكم المتقدمون، ولكنكم كلما قاربتم الآلات خرجتم من رياضتها في كل يوم بجديد. •••
وتعمد التلميذ المناوأة الخفية فقال: ومع هذا يغبط مولاي الجماد ويسبح الله الذي أعفاه من الطعام والكساء ومن الرحلة والشقاء.
ولم يرفض أبو العلاء هذه المناوأة بل جرى في مجراها فقال متمنيا أو متهكما على حد سواء: لو عوفيتم كما عوفي الجماد!
فأنس التلميذ إلى هذا التهكم الرقيق وراح يسأل: وهل عوفي الأقدمون؟
قال أبو العلاء: كلا. على هذا مضيتم ومضى السلف، إلا أنهم صبروا حيث تضجرون، وطلبوا من الدنيا دون ما تطلبون، فإذا كانوا مثلكم في الشقاء فلقد كانوا أقل منكم في الشكاة، وإذا كان نصيبهم كنصيبكم من الخير فالذي يطلب الألف ويجد المائة محروم، والذي يطلب العشرة ويجد الخمسين مجدود لا تحسبه من أهل الحرمان.
أقصى المغرب
قاتل الله المجاز !
كان هذا أول ما فاه به المعري لتلميذه بعد أن علم سبب الكارثة التي أودت بمئات النفوس من ركاب السفينة؛ إذ كانا يركبانها ويتحدثان فيها ذلك الحديث المروي في الفصل السابق، وكانا قد بلغا شواطئ الأندلس حين وقعت الواقعة. وما هي الواقعة؟ قذيفة أطلقتها على السفينة غواصة من غواصات الثوار فهبطت بها إلى القرار، ثم نجا المعري بعصمة الخلود، ونجا تلميذه ببعض المجهود، وهما الآن على متن سفينة أمريكية تمخر بهما بحر الظلام، إلى بلاد العم «سام».
ومال التلميذ إلى الأستاذ يسأله: أعلمت يا مولاي ما سبب الكارثة؟
فقال الأستاذ: وما سببها؟
قال: أنت يا مولاي!
قال: ويحك! وكيف أكون أنا سببا لإغراق سفينة أنا راكب فيها! أهي دعوة صائبة؟
قال التلميذ: بل هو مجاز خائب. كتبت بعض الصحف أن سفينة من السفن تفارق الشواطئ الأندلسية وعليها ذخيرة عربية نفيسة، ومن تكون الذخيرة العربية النفيسة غير أبي العلاء؟ فلما تواترت الأنباء بهذا المجاز النفيس حسب الثائرون على حكومة الأندلس أن هذه الحكومة تبعث بالتحف العربية الغالية إلى بلاد أجنبية، لتودعها أو ترهنها هناك فطاردتنا وأغرقتنا لتحرمها هذه الذخيرة، أو تستولي عليها إذا أدركتها قبل أن تبتلعها اللجة، فغرقت السفينة وهلك من هلك من جراء أبي العلاء.
قال أبو العلاء: قاتل الله المجاز، بل هو الذي أهلك القوم كما أهلك من قبلهم أمما خالية أغرقها المجاز في بحار من الكلام، وأنا مع ذلك القائل:
لا تقيد علي لفظي فإني
مثل غيري تكلمي بالمجاز
نعم وأنا القائل أيضا:
بني الدهر مهلا إن ذممت فعالكم
فإني بنفسي لا محالة أبدأ
ثم قال: وإلى أين تمضي سفينتنا الآن بالذخيرة العربية النفيسة؟ أتراني سأغرقها مرة أخرى؟
قال التلميذ: بل إلى بر السلامة إن شاء الله، إلى بلاد العم سام!
قال أبو العلاء: وما عسى أن نشهد هناك غير ما شهدنا؟ أو نسمع هناك غير ما سمعنا؟
قال التلميذ: كثيرا يا مولاي؛ سنرى قبل كل شيء ملكا عظيما على الطريقة الأمريكية.
فتمهل أبو العلاء قليلا ثم قال: أراني سأقضي منك ديون السؤال كلها في هذه الرحلة. فما هي هذه الطريقة الأمريكية التي نسمع بها في كل شأن من شئون هؤلاء الناس؟ وكيف يكون الملك العظيم ملكا عظيما على هذه الطريقة.
قال التلميذ: بالامتحان والكشف الطبي، كأنه موظف في الخدمة اليومية! فهذا الرجل الذي يحكم الدولة العظمى في الديار الأمريكية قد كان مشلولا في كهولته ثم تقدم إلى الشفاء، فلما أذاع خصومه أنه لا يصلح للحكم عرض نفسه على الأطباء الثقات ليشهدوا له بصحة العقل وصحة الضمير. وقد شهدوا له وجاز الامتحان عند أبناء وطنه فانتخبوه. أليست هذه طريقة أمريكية في الحكومة كالطرق الأمريكية في الصناعة والتجارة، وفي كل شأن من شئون هؤلاء الناس؟
قال أبو العلاء: وهل أفلح الرجل وصدق الأطباء؟
فأجاب التلميذ: نعم أفلح غاية ما يستطاع الفلاح، وعالج الشلل في قومه كما عالجه في جسمه.
فأدركه أبو العلاء متهانفا وصاح به: غرقة أخرى يا بني! ومجاز آخر يوشك أن يرسل بالسفينة إلى القرار! أفصح يا بني ودعنا من المجاز! •••
فاستضحك التلميذ، ولكنه شغل بالجد فيما هو فيه عن سخرية الشيخ وارتيابه، فطفق يقول:
لقد صعد «روزفلت» العظيم إلى كرسي الرئاسة والأمة الأمريكية كالجسم الذي له نصف محتقن بالدم الغزير ونصف منزوف مشلول لقلة الدم فيه، فكان كالقلب الذي لا تنتظم به دورة الدم في جميع العروق، وأخذ من النصف المحقون للنصف المشلول، فدار الدم دورته في جميع العروق، وأوشكت الحركة أن تعود إلى جميع الأعضاء.
قال أبو العلاء: أتراه أثار الفقراء على الأغنياء كما صنعوا في بعض الديار الأوروبية؟
قال التلميذ: لو صنع ذلك يا مولاي لكان من الفاشلين، فإن هذه البلاد على تقدم الصناعة فيها وكثرة الصناع بين أبنائها تعتصم من ثورة الفقراء على الأغنياء بشتى العواصم، وتحتمي منها بكثير من الحصون: منها يا مولاي أن باب الغنى مفتوح لكل فقير مستطيع، فكل فقير فيها يمني نفسه بالثروة بعد حين، ولا يشعر باحتكار الثروة في أيدي طائفة من الناس تتوارث المراتب وتتوارث الأموال ؛ فمن هنا يحسب الفقير أنه يثور على نفسه أو يثور على أمله حين يثور على الأغنياء.
ومنها أن الأمريكيين قوم ورثوا المغامرة والمراهنة من أجدادهم الأولين الذين غامروا بالهجرة إلى الغرب المجهول منذ قرون، فمن شغفهم بالمغامرة والمراهنة أنهم يحبون الانتخاب وينتظرون السباق فيه بين الأحزاب، ولا يلجأون من أجل ذلك إلى الإضراب والاغتصاب.
ومنها أن الزراعة عندهم توازن الصناعة، وأن الريف بينهم يوازن المدينة وأن ازدحام الحواضر لا يخلي القرى من الحارثين الحاصدين، وهؤلاء أقرب إلى جانب الاستقرار منهم إلى جانب الثورة والثوار.
ومنها أن حب الدين فيهم قديم؛ لأن آباءهم الأولين كانوا أناسا متنطسين متطهرين نقموا معيشة الفساد في أوروبا فهجروها إلى الغرب متعففين متورعين، وإنما يثور الإنسان على الأرزاق حين يثور على الأقدار. •••
قال أبو العلاء: أرحتني من الأستاذية في هذه الرحلة المباركة أراحك الله، غير أني أراك قد ذكرت لنا ما منع رئيس القوم أن يثور بالفقراء على الأغنياء ولم تذكر لنا ما صنع لعلاج ذلك الجسم المحقون المشلول، أتراه رجع فيه إلى الأطباء؟
قال التلميذ: عفوا يا مولاي. أحسبها غلطة من غلطات الحداثة في الأستاذية، أو أحسبها أسلوبا مبتكرا على الطريقة الأمريكية، ومن كان أستاذا لأبي العلاء فمغتفر له ما شاء من إمهال وإبطاء.
فاعلم يا مولاي إذن أنه أجزل من الأجرة والوقت للصناعين، وأكثر من الأرزاق للشيوخ والعاطلين، فأكثروا من الإنفاق وراجت بهم الأسواق.
فسأل أبو العلاء: ومن أين جاء بالمال؟
قال التلميذ: بعضه من أرباح الأغنياء والفقراء، وبعضه من الضرائب على رءوس الأموال.
فعاد أبو العلاء سائلا: وكيف رضوا بما فرض عليهم؟
قال التلميذ: رضوا كارهين أو كرهوا راضين، فإن كثرة البيع والشراء خير من كساد السلع والخوف الدائم من ثورة العاطلين والمطرودين، والمال الذي يذهب ويعود خير من المال الذي يفسده الركود. •••
فسأل أبو العلاء مرة أخرى: وهب التجار لم يخرجوا من بضائعهم إلا بمقدار، فأمنوا بذلك مغبة البوار، وقنعوا باعتدال الأسعار. فهل تزن الأرض غلاتها، وهل تحكم الحكومة نباتها؟
قال التلميذ يقرظ أستاذه العجيب: ما أعجبك يا مولاي من أستاذ وما أعجبك من تلميذ. إنك لتحسن السؤال كما تحسن الجواب. فاعلم إذن يا مولاي أن الأرض قد أخرجت ما شاءت وأن الحكومة قد أتلفت منه ما شاءت، وهو النصف من جميع الغلات.
قال أبو العلاء: وهل رضي الزارعون؟
قال التلميذ: رضوا كارهين أو كرهوا راضين، ثم حمدوا المغبة بعد حين. •••
وانطلقت السفينة في عبابها وأبو العلاء يقول وكأنه يحدث نفسه ولا يعنى تلميذه بما يقول: لئن نجح الرجل نصف نجاح لقد نجح في حقيقة الأمر كل النجاح، فما من الصواب أن نسوم إنسانا واحدا كل الصواب، وأن نمضي من حوله كلنا مخطئين.
أقصى المشرق
قل إنهم يحبون العجلة! قل إنهم يكرهون الوقت! قل إنهم حائرون فيما يحبون وما يكرهون. أما إنهم يحبون المال وكفى، فإن من يحب المال للمال لا يتحرك ولا يعيش، بل يجلس كما تجلس العجوز على القدر المدفونة، أو كما يجلس الصيرفي على خزانة الذهب، وهؤلاء لا يجلسون جلسة العجوز ولا جلسة الصيرفي، ولكنهم يتحركون ويعيشون.
كان ذلك حكم المعري على الأمريكيين أو قل «حكم المعري للأمريكيين» وهو خارج من بلادهم، وكان قد حضر مع تلميذه عيد الاستقلال في عاصمتهم ورأى بذخ القوم وإسرافهم في بذل أموالهم لإزجاء أوقاتهم والحفاوة بذكرياتهم، فلما برحا الشواطئ الأمريكية من أقصى المغرب واستويا على مكانهما في السفينة يعرضان ما عبرا وعبر بهما، ويجمعان ما تفرق من الوقائع والمشاهدات قال التلميذ: هذه أمة تحب المال ولا تعمل إلا للمال، فأبى المعري أن يجاري تلميذه في حكمه، وقال عن القوم ذلك المقال.
ولا ندري لم لم يطب المقام في بلاد الشمس المشرقة لرهين المحبسين كأنما كان هناك في حبس أشد عليه من محبسيه.
فكان في أرض «نيبون» يتأفف ويتبرم من كل شيء ومن غير شيء، ولم يزل مع تلميذه على حذر وامتعاض حتى هجرا أرض نيبون إلى أرض الصين، وأقاما فيها برهة بين الفتن والثورات والمجاعة تارة والقحط تارات، ولكنهما كانا أقرب شيء إلى راحة البال والإقبال على شهود الأحوال، لأنهما كانا يشهدان في الصين جهدا يسر الناظرين أن يبلغ تمامه. أما الجهد الذي كانا يشهدانه في أرض نيبون فقل أن يكون في تمامه سرورا للناظرين، ولا سيما الحكماء.
قال التلميذ يستفز أستاذه للكلام: أوليس القوم في أرض نيبون على جانب من الشجاعة عظيم؟ قال المعري: بلى! إن كنت تعني شجاعة الغريزة ولا تعني شجاعة النية والإرادة.
قال التلميذ متجاهلا: وما شجاعة الغريزة وما شجاعة النية والإرادة يا مولاي؟!
فأجابه الحكيم غير متأفف ولا متبرم: إن الشجاع الحق هو من يعرف الخطر ويخشاه ثم يغلبه بعزيمة هي أعظم من الخطر وأعظم من الخشية. أما الشجاع الذي يقتحم الخطر لأنه مدفوع إليه بعادات الأقدمين وسنن الآباء والأجداد فذلك أسير لا فرق بينه وبين من يقتحم النار مسوقا إليها بسلسلة من الحديد، ولا فرق بينه وبين الأسير الذي يقدمه آسروه في الطليعة وهو لا يملك الفرار، وقد توجد هذه الشجاعة في الحيوان كما توجد في أبناء آدم، فهي من أصول لا ارتفاع فيها ولا تعلق لها بالتكليف والضمير. •••
وقال التلميذ: لو أن الأستاذ قد شهد أسراب الطير وهي تعبر البحر المحيط كل عام فيغرق منها من يغرق ويسلم منها من يسلم ثم تعود إلى الهجرة ولا تخاف الموت ولا تعرف ما هو لحسبت أنه يعني هذه الشجاعة حين يذكر شجاعة الغريزة وشجاعة الحيوان.
فقال المعري: ما رأيت هذه الأسراب، ولا أحسبنا في حاجة إلى رؤيتها لنعرف أن الشجاعة التي تتعلق بالعادات الموروثة غير الشجاعة التي تتعلق بإرادة المريد، وكل من شهدنا في أرض نيبون من باقري بطونهم وباخعي أنفسهم فإنما هم قالب واحد لا يختلف باختلاف البيئات ولا باختلاف الأفراد، وليست هكذا تكون الصفات التي مرجعها إلى مزية في الإنسان ومزية في الخلق والتكليف. •••
قال التلميذ: أوليس القوم خيرا من هؤلاء الصينيين الذين ترضى عنهم ولا تضيق ذرعا بعشرتهم ومراقبة أحوالهم؟
قال المعري: أما إن أردت أنهم أفلحوا حيث أخفق الصينيون فأنت على صواب، وأما إنهم يفلحون هكذا لو كانت أرضهم هي أرض الصين وأحوالهم هي أحوال الصينيين فذلك هو البعيد؛ إن القوم قد أخذوا قديمهم من الصين وأخذوا حديثهم من الغرب ووجدوا في عزلتهم من وراء بحرهم وعلى خصاصة عيشهم متسعا من الوقت يأخذون فيه ما يأخذون ويدعون ما يدعون. فإن أردت الإنصاف فضعهم حيث وضعت الدنيا أبناء الصين وأنت ترى الفرق بين الأمتين! •••
قال التلميذ: يعني الأستاذ الفرق بين المنتصرين والمنهزمين؟
قال المعري: نعم! وما يدريك لعل أهل نيبون يخدمون أهل الصين بهذه الهزيمة وهم لا يشعرون؟ لقد كان هؤلاء المنهزمون شتيتا من الخلق فجمعتهم الهزيمة فأصبحوا أمة تنضوي إلى لواء واحد، فإذا بالمنتصرين يخافونهم بعد خمس سنوات تجردوا فيها لاتخاذ الأهبة وتوحدوا أو كادوا، فكيف يكون شأنهم لو تجردوا لاتخاذ الأهبة متوحدين خمسين سنة لا خمس سنوات، ومن ذا الذي يهزمهم في المشرق أو المغرب لو تهيأ لهم الوقت كما تهيأ لأعدائهم المنتصرين؟ علم الله لولا أن أهل نيبون يخافونهم ويفزعون من غدهم لما عاجلوهم بالعدوان، وما أخالهم مع ذلك آمنين عقبى الأمور. •••
قال التلميذ: من يسمعك يا مولاي يحسبك من دعاة «الكومنتاج» أو من غلاة المتشيعين لإنجيل «سون ياتسين».
ولو كان أبناء نيبون قد أساءوا استقبالك لزعمت أن في نفسك أثارة من سوء ما استقبلوك، ولكنهم جمعوا لك المسلمين في عاصمتهم واستمعوا لك في معبدهم ومسجدهم، وصحبوك وبجلوك، ومللتهم ولم يملوك، فأعجب العجب أن تبغضهم هذه البغضاء وأن تألف الصينيين هذه الألفة.
فقاطعه الحكيم قائلا: لعلهم أساءوا من قبل هذه الحفاوة!
فابتدره التلميذ مستغربا: كيف أيها الحكيم؟ أيأبى مولاي الكرامة وهو كريم؟!
فأجاب المعري: نعم آباها إذا كانت تجارة وكنت أنا فيها سلعة من السلع المعروضة أو ذريعة من ذرائع الترويج والخديعة، هؤلاء الناس لم ينشئوا مسجدهم لله ولا للعبادة ولا للمسلمين ولا لأبي العلاء، ولكنهم أنشأوه للبيع والتجارة، وما نحن بالسلعة الرخيصة في أسواق التجار. •••
فقال التلميذ متسائلا: وحفاوة المسلمين في الصين ما شأنها وما شأن التجارة والكرامة فيها؟
قال أبو العلاء: تلك حفاوة قريب بقريب. وأظن المحتفين بنا هنا قد كانوا مسلمين منذ قرون!
فصاح التلميذ كأنما فوجئ بكلام لم يخطر له على بال: تظن يا مولاي؟ لقد حسبت أن عندك من خبر المسلمين هنا ما ليس عندنا، وأننا نسمع من تاريخهم لديك فوق ما سمعنا!
قال: وما سمعتم؟
قال: سمعنا حديثا يشبه الأحاجي والأساطير، سمعنا أنهم دخلوا الصين قبل زمان مولاي بعهد طويل، وأن قتيبة بن مسلم الباهلي قد غزا أطرافها في عهد بني أمية، فكتب إليه ملك الصين أن ابعث إلي رجلا شريفا يخبرني عنكم وعن دينكم، فانتخب قتيبة عشرة رجال لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي، فقال لهم: إذا دخلتم عليهم فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم.
فقال لهم ملك الصين: قولوا لصاحبكم ينصرف فإني قد عرفت قلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قالوا: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل؛ لسنا نكرهه ولا نخافه. وقد حلف أميرنا ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم وتعطوا الجزية.
قال ملك الصين: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه بعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها.
ثم أجازهم وبعث بما ذكر إلى قتيبة فقبل الجزية وختم الغلمان وردهم ووطئ التراب، وأنشد شاعر في ذلك:
لا عيب في الوفد الذين بعثتهم
للصين أن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على القذى خوف الردى
حاشى الكريم هبيرة بن مشمرج
أدى رسالتك التي استدعيته
فأتاك من حنث اليمين بمخرج
فأصغى أبو العلاء ثم قال: ولا كل هذا سمعنا! فلا تعجب أن يكون المحدثون أعلم بالزمن القديم من الأقدمين.
زعيم الصين
جلس الشيخ في فرضة الصين الكبرى «شنغهاي» وإلى جانبه تلميذه يترجم له الخطاب الذي ألقاه زعيم الصين الكبير شيانج كاي شيك عن السيد المسيح صلوات الله عليه.
وكان الشيخ - وهو من المعنيين بأمر الأديان والمشغولين بعقائد ذوي الآراء - قد سمع أن الزعيم الصيني تحول عن عقيدة آبائه وأجداده مع حرص أهل الصين على تراث الآباء والأجداد، وآثر المسيحية كما آثرها من قبله أستاذه وأستاذ الصين الحديثة «سون ياتسين»، فعجب لهذا التحول واشتاق أن يعرف أسبابه وبواعثه من السياسية أو من خطرات الضمائر وبدوات النفوس. فلما أنبأه تلميذه أن الزعيم يتكلم عن السيد المسيح أصغى إليه وقال: أسمعني ما يقول!
وانطلق التلميذ يترجم ما عدده الزعيم من أسباب حبه المسيح وإيثاره عقائد النصرانية وهي: أن المسيح كان قائد ثورة وطنية نهض بأمته فأحياها بعد أن أماتها طمع الرومان وعسف الطغاة من الأمراء والكهان. وأن المسيح كان قائدا لثورة الإصلاح الاجتماعية كما كان قائدا لدعوة النهضة السياسية، فأنحى على الفساد والمفسدين وبشر بالطهارة من الرجس والرجاء في الخير والاستقامة. وأن المسيح كان مع دعوته القومية والاجتماعية داعيا إلى الثورة الدينية متمردا على الشعائر البالية والخرافات الموروثة والرياء الشائع بين أئمة الدين وأحباره، وأنه قد استطاع ما استطاعه وهو رجل فقير من بيت فقير في بلد فقير، فلم يكن وارث ألقاب وأموال، ولم يكن سليل أحبار وأقطاب، ولا كان له مظهر من مظاهر الدراسة الخاوية ولا التعليم الموقر بالنفايات والقشور، بل كان صاحب قلب كبير يستوحي العناية الربانية ويستلهم الفطرة السليمة، ويروي عن صفحات الكون ولا يروي ما حشيت به الأوراق وامتلأت به قماطر الهياكل.
قال المعري: أرأيت؟
قال التلميذ: ماذا أيها الحكيم؟
قال: إن الرجل قد دان بالمسيحية لأنه قد آخى بين حياته وحياة المسيح. واعتد نفسه مسيحا جديدا قام من سلالة الفقراء ومن لا يحسبون بين العلماء واختاره الله لإحياء الصين بما ابتعثه فيها من ثورة قومية على الطغاة والمغيرين ومن ثورة اجتماعية فيما سماه «الحياة الجديدة» وأوصى فيه بالتطهر والاستقامة والفداء، ومن ثورة دينية فيما أنكره على الكهان والشيوخ، فهو قد آمن بالمسيح لأنه يؤمن بنفسه، وهو قد أبغض الرومان لأنه يبغض «المانشو» واليابان وزمرة المتجرين بالأديان. •••
قال التلميذ: أوتأذن أيها الحكيم بإضافة قليلة؟
قال المعري: أو كثيرة؟
قال التلميذ: لعله آمن بالمسيح لأنه آمن بنفسه وآمن معها بزوجه.
فسأله المعري: وماذا تعني؟!
قال: أعني أن «شيانج كاي شيك» يتيم تكفلت به أمه وأنفقت عليه من سم الخياط ومن فضل الطوى والقناعة، رجت فيه الخير يوم يئس منه الأقربون ونفضوا الأيدي من حاضره ومؤتنف أمره. وما زال يستمدها العون حتى بعد أن كبر وتولى القيادة وباء بالهزيمة وفر إلى اليابان وهو لا يملك قوت أيام. فللمرأة شأن أي شأن في قلبه وعقله، وخليق بمن كان كذلك ثم رزق الزوجة الصالحة الرشيدة أن يركن إليها ويطمئن إلى عطفها وخلوص طويتها، ويحسب الصلاح في صلاحها، والدين في دينها والإيمان في إيمانها، فإذا كانت مسيحية فما أقربه مع الأيام أن يتسلل إلى الإيمان بالمسيحية، وإذا كانت من أسرة قديرة على المذهب المسيحي فما أولاه أن يعيش في كنف الأسرة وأن يشعر بشعورها! ولقد كانت لأستاذه «سون ياتسين» زوجة مسيحية فحسن على يديها إيمانه بدينها. وما كانت زوجة الأستاذ العظيم إلا شقيقة زوجة المريد العظيم. فما أعجب هذه الأسرة التي أنجبت بنتين يدين بدينهما زعيمان من زعماء الصين كبيران، ورجلان من رجال العالم خطيران، عدا من أنجبت من أبناء وبنات كلهم علم من أعلام هذا الجيل في هذه البلاد! •••
قال المعري: لا عجب إذن أن يؤمن الرجل بالعقيدة التي توافق إيمانه بنفسه، وإيمانه بزوجته، وإيمانه بأستاذه، وإيمانه برجاء بلاده.
فعاد التلميذ يسأل: وما رأي الحكيم في رجاء بلاده؟
قال المعري: إن نقصت مساحات أرضها فقد تزيد قوة نفوسها، وإن تقاربت مسافاتها وأطرافها فقد تتقارب علاقات سكانها وأواصر أبنائها، وإن غلبوها بالسلاح فقد تغلبهم بالكثرة، وإن طال الزمن على رجائها فما هو بأطول من أزمانها في القنوط والجمود، هي ناجحة فيما أرجوه ويرجوه لها المنصفون.
قال التلميذ: تلك بشرى يفرح بها القوم إذا سمعوها فهل من وصاة أوصيهم بها، وهل من آفة أحذرهم عواقبها؟
قال المعري: آفة القوم أنهم بين الحضر والبادية، فلا هم جادون في الحضارة ولا هم جادون في البداوة. فليجدوها في إحداهما فذلك خير من حيرة المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
قال التلميذ: لكأنك يا مولاي قد عشت في الصين منذ عشت في الدنيا. لو رأيت بناءهم لرأيت قصورا في أشكال خيام. وذلك شأن كل «بناء» في الصين.
زهدان
شتان زهد الهند وزهد نجد.
ذاك زهد السآمة من الوفر والإغراق والابتذال، وهذا زهد الأنفة في وجه الضنك والضرورة.
زهد الهند الذي اكتظ من صنوف المائدة حتى عافها وأعرض عنها.
وزهد نجد زهد الذي لم ير المائدة وأنف من مذلة الحاجة إليها. •••
كان هذا حديث المعري لتلميذه وقد وصلا إلى جدة وقفلا من مدن الحجاز، بعد طواف طويل في الصين والهند وفارس والعراق.
وكان التلميذ يسأل أستاذه عن شظف النجديين من أتباع عبد الوهاب، إذ يحرمون على أنفسهم كل ما يعز عليهم وجوده في الصحراء النجدية. وهو ينتظر رأي المعري في هذا الشظف، وقد علم أنه أخذ نفسه بمثله أيام الحياة.
فلما قال المعري إن القوم في الصحراء يزهدون زهد الأنفة في وجه الضرورة فهم أن حكيم المعرة يستكبر أن يساويه في زهده مئات وألوف، وأحب أن يحسب القوم مضطرين غير مخيرين، أو مسوقين غير سائقين، فرجع إليه سائلا: أفترى كل محتاج زاهدا فيما يحتاج إليه، آنفا من الإقرار بالحاجة والحرمان؟
قال الشيخ: كلا، إنما تفعل ذلك الأمم التي لها عزة وليست لها وفرة. فهي إذن تفرض على نفسها القناعة وتنفض عنها شعور المذلة، ولو ضعفت ولانت لجمعت على نفسه حرمان الفقر وحرمان الذل والاستكانة، فترى أنها محرومة وأنها دون من يستمتعون بالخير والبذخ والرفاهة، ولا ترى كما يرى هؤلاء النجديون أنهم محرومون وأنهم مع ذلك خير من المستمتعين.
قال التلميذ: لا غرو. إنني لأسمع المعري الهندي!
قال الشيخ: ويحك! هل عدنا إلى قديم هذه الدعوى؟ فمن ذاك المعري الذي ولد في الهند أو الهندي الذي ولد في المعرة؟
قال التلميذ: هو الذي قال:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتسمع أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما
ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
ولا بيض أمات أرادت صريحه
لأطفالها دون الغواني الصرائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافل
بما وضعت فالظلم شر القبائح
ودع ضرب النحل الذي بكرت له
كواسب من أزهار نبت فوائح
فما أحرزته كي يكون لغيرها
ولا جمعته للندى والمنائج
مسحت يدي عن كل هذا فليتني
أبهت لشأني قبل شيب المسائح
بني زمني هل تعلمون سرائرا
علمت ولكني بها غير بائح
سريتم على غي فهلا اهتديتم
بما خبرتكم صافيات القرائح
وصاح بكم داعي الضلال فما لكم
أجبتم على ما خيلت كل صائح
متى ما كشفتم عن حقائق دينكم
تكشفتم عن مخزيات الفضائح
فإن ترشدوا لا تخضبوا السيف من دم
ولا تلزموا الأميال سبر الجرائح
ويعجبني دأب الذين تراهبوا
سوى أكلهم كد النفوس الشحائح
وأطيب منهم مطعما في حياته
سعاة حلال بين غاد ورائح
فما حبس النفس المسيح تعبدا
ولكن مشى في الأرض مشية شائح
أليس في بعض هذا ما ينسب الرجل إلى أمة الهند ودين البرهميين؟ ألست يا سيدي قد رضيت أن تهلك ولا يهلك فروج من بنات الطير لتتداوى بالسليق من لحمه ومائه، وقلت لهم: «استضعفتموه فتداويتم به، ولو كان شبل أسد لما وصفتموه؟»
فجرى السخط في مجراه من قلب الشيخ الكظيم، ومن مجراه في قلبه أن ينقلب هزؤا كلما أوشك أن ينفجر غضبا. وقال: لو صح هذا لما بقيت أمة في الأرض إلا نسبت إليها. ما لكم لا تصدقون أنها الفاقة وأنها الرحمة؟ أبلغ من سوء ظنكم بأنفسكم ألا تفرطوا في أكلة إلا خوفا من غضب معبود؟ وماذا يضيرني من برهما إن غضب وما هو بصاحب نار ولا بصاحب نعيم؟ وما لي ولدين أناس يؤمنون بقداسة بعض الحيوان ونجاسة بعض الإنسان؟ ذلك لا يلمسونه من هيبة ووقاية وهذا لا يلمسونه من كبر وزراية! ويحك! أينسب إلى الهند من يحقن الدماء؟ فما قولكم في الحسام وهو من الهند في المعادن والأسماء؟
ثم قال: ماذا تقولون فيما قلت:
وجدت الشر ينفع كل حين
ومن نفع به حمل الحسام
وليس الخير في وسع الليالي
فكيف نسومها ما لا لا يسام؟
إنني إذن لمن أتباع صاحبكم نيتشه؟ أو من أتباع أصحابه الفاشيين؟ وما لك لا تحسب على إنكاري لزعم الهند حين أنقض ما يقولون:
يقولون إن الجسم ينقل روحه
إلى غيره حتى يهذبها النقل
فلا تقبلن ما يخبرونك ضلة
إذا لم يؤيد ما أتوك به العقل
وأشفق التلميذ أن تكون غضبة فسكون، وقد علم أن صاحبه أصعب ما يكون مراسا إذا سكن بعد غضبة. فيومئذ لا كلام ولا حوار ولا جواب غير الوجوم والازدراء، ولكنه إذا انتقل من ثورة إلى ثورة أو تدرج من سخرية إلى فكاهة ففي استطالة الحديث معه رجاء.
قال التلميذ: أمن النسبة إلى الهند ينفر مولاي كل هذه النفرة؟ فمن قال إنه من الفرس كيف يجاب؟ ومن زعم أنه من المجوس ماذا يسمع من زجر وعقاب؟
قال المعري: يقال له صدقت وبررت، وإنه مع ذلك لعلى دينهم لأنه يعجب منهم إذ يقول:
عجبت لكسرى وأشياعه
وغسل الوجوه ببول البقر
فمن التقية أن ينكر الإنسان ما به يدين، وأن يكون نكرانه علامة اليقين. أليس كذاك؟ •••
وتلطف التلميذ اللبق في نقل الحديث إلى فارس والفرس وما كان فيه ما وما يكون، وتذاكر ما مر بهما ومرا به في تلك البلاد، فسري عن الشيخ بعض ما اعتراه من غضب وامتعاض لنسبته إلى البراهمة والمجوس. وضحك الشيخ وتلميذه كثيرا حين ذكرا ذلك الكرسي الذي كان يجلس عليه بعض الشاهات - عند قضاء الحاجة - فيعزف النشيد الملكي تحية للجالس عليه! وقال الشيخ: حسنا صنع عاهل الفرس الجديد أعانه الله على ما تصدى له من خير وتهذيب. إنه أراح أمته من هذه المراسم وهذه التفخيمات التي أفسدت عليهم ما أفسدت، ونسوا كل شيء ليذكروها وحدها حتى حين ينسى الإنسان كل تفخيم وتبجيل. إن المراسم آفة هذه الأمة الطيبة الرضية، فلا أدب لهم ولا علم ولا دين ولا شريعة إلا وفيها آية المراسم ظاهرة، وتحية المراسم ناطقة، وديوان المراسم معقود ومشهود. ولئن خلصوا منها لقد خلصوا من قيود تحبس الرءوس قبل الأعضاء والأقدام. •••
فسأل التلميذ: وماذا بقي منها فيستحب لهم الخلاص منه؟
قال المعري: إنهم يقتدون بالأمم الكبرى في أزيائها وشعائرها، وإن أخوف ما نخاف عليهم أن يحسبوا القوة والمنعة في هذه الأزياء وفي هذه الشعائر، فيتقيدوا بها من جديد ويخلصوا من تقليد إلى تقليد، ولئن هداهم عاهلهم السديد في مسعاهم المجيد، لقد بلغ بهم ما لم يبلغه الأكاسرة ولا الهرامزة الأولون.
في مصر
على مقربة من سيناء قال حكيم العربية لتلميذه كأنما هو الذي يقوده: هذه هي البادية!
قال التلميذ: أوقد عرفتها؟ قال: كيف لا أعرفها. وإن الشمس لتتغير وما غير الله البادية منذ خلقها، ولا يغيرها حتى يطويها مع الأرض والسماء!
قال التلميذ: فعلى اليمين بيت المقدس وعلى الشمال أرض مصر، فأيهما يؤثر الأستاذ بالزيارة؟
وكان شيخنا قد سمع شيئا عن متاعب فلسطين والشرق العربي، وسمع شيئا عن عجائب مصر. فأنشد:
أما الحجاز فما يرجى المقام به
لأنه بالحرار الخمس محتجز
والشام فيه وقود الحرب مشتعل
يشبه القوم شدت منهم الحجز
وبالعراق وميض يستهل دما
وعارض بلقاء الشر يرتجز
ثم قال: لا أدخل أرضا يجلى عنها العرب، فلندخل مصر آمنين.
قال التلميذ: إن أبيت أن تدخل أرضا يجلى العرب عنها فهلا بعثت إليهم بتحية أو نصيحة!
قال الشيخ: النصيحة لهم أن يصاولوا بالقوة والمال من يغلبونهم بالقوة والمال؛ فهم هم الظافرون، قصر الزمان أو طال.
وسأله التلميذ: ومن أين لهم بقوة ومال؟
قال: من العزم والإباء. من أبى ما هو فيه استمد العزم من إبائه، وجاءته القوة والثروة إلى موطئ قدميه.
قال التلميذ: وهبهم بلغوا منهما جهد الطاقة أفيبلغون منهما يا مولاي مبلغ الدول الكبار؟
فأجابه الشيخ: بل يبلغون منهما ما يتعب الدول الكبار، وحسبهم أن يتعبوها فيستريحوا، أو يرجعوا إلى حال خير من قبول الضياع والفناء. •••
ودخلا مصر فقضيا أياما بين ترحيب وتسليم، وبين ربوع وآثار، وسأل الشيخ بلسان أبي الطيب الذي كان يتعصب له ويستعيد شواهده:
أين الذي الهرمان من بنيانه
ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
ثم أنشد:
تتخلف الآثار عن أصحابها
حينا ويدركها الفناء فتتبع
ثم قال: أشهد وأنا بينهما أنهما لم يفنيا ولم يتبعا. فما أعظم يقين أبي الطيب بفعل الزمن ودولة الفناء!
قال التلميذ: ما هو بأعظم يقينا بالزمن والفناء ودولته من القائل:
زحل أشرف الكواكب دارا
من لقاء الردى على ميعاد
ولنار المريخ من حدثان ال
دهر مطف وإن علت في اتقاد!
فرد عليه الشيخ خاشعا وهو يجمجم بين شفتيه: نعم، وتهون الأعمار عند ذاك ويهون الخلود.
واسترسل التلميذ في نغمته الأولى فقال: هذا لحد أبى أن يصير لحدا مرارا، وأبى أن يضحك من تزاحم الأضداد.
قال الشيخ وهو في جمجمته الأولى: لقد دخله الأحياء فأبى أن يكون لحدا مرة بله المرات، وضحك من صاحبه الأول قبل أن يضحك من أضداده. وإني والله لأسأل عن هذا الطور المشيد كما سألت عن الورقاء:
أبكت تلكم الحمامة أم غن
نت على فرع غصنها المياد
فما أدري هنا أهو عنوان غلبة الموت أم عنوان غلبة الحياة، إنما هو على الحالين عنوان شقاء الإنسان، وعبث الطغيان.
وعاود الشيخ وجومه على أشد ما يكون بين أطلال الفراعنة ومروج وادي النيل، وإنه ليروض نفسه على إقامة أيام إذ حانت له الطرفة التي سماها أعجب العجائب في بلاد العجائب، فانتوى الهجرة من قريب. •••
كان ذلك في ناحية من الصحراء وقد تردد عليه رجل من كتاب الصحف فسأل الشيخ تلميذه: ماذا عساه يريد؟
قال التلميذ: إنه يعتذر.
قال: ومم الاعتذار؟
قال: إن الرجل لكاتب المقال الذي أطلعتك عليه تفكهة وعبرة يوم وصلنا إلى هذه الديار.
قال: تعني الرجل الذي نعى على حكومة هذا البلد أنها احتفلت بمن سماه إمام الملحدين وشيخ الكافرين، وأنها من أجل ذلك خليقة بإغضاب المسلمين والمروق من حظيرة الدين.
قال التلميذ: هو بعينه.
فعجب الشيخ وسأل: وما اعتذاره اليوم؟
قال: اعتذاره أنه سيلقي عليك المقال الذي أعده للإنحاء على الحكومة لو أنها قصرت في لقائك، وأحجمت عن استقبالك. فهم خصوم الحكومة ينعون عليها كل ما تفعل ويقدحون في كل ما تنوي، فإن هي أكرمت وفادتك قالوا ما قد علمت، وإن هي قصرت في حفاوتها فهم قائلون ما ستسمعه الآن.
قال المعري: أحسبهم كانوا قائلين يومئذ إن هذه الحكومة تنكرت للعرب وآداب العرب، وقطعت ما بينها وبين لغة القرآن من سبب، وباعت نفسها للفرنجة، وحادت عن سواء المحجة، وغير ذلك مما ينتظم في هذا النظام!
قال التلميذ: أحسنت يا مولاي. إنك اليوم لفي طليعة المرشحين للكتابة في الصحب السيارة، وعلى رأس المقدمين للخوض في غمار السياسة المصرية. هكذا كتبوا، وعلى هذا دأبوا، ولهذا أقبلوا يعتذرون وفي هذه اللجاجة تنقضي عليهم الأيام والسنون.
فردد المعري قوله القديم:
ما خص مصرا وبأ وحدها
بل كائن في كل أرض وبأ
لكن هذا هو الطاعون الذي يحمد عنده كل وباء.
إلى المعرة يا بني فقد ختمنا المطاف، وشبعنا من المضيفين والأضياف.
وكان «كاتب هذه الأسطر» في محضر الفيلسوف فقال: إن أسوان تدعوك أن تجعل الأوبة من طريق الجنوب، وإن طالت المسالك واختلفت الدروب.
فدارت على لسان الفيلسوف نوبة الاستشهاد بكلامه القديم، وأجابه ببيت من لزومياته يذكر فيه أسوان إذ يقول:
أسوان أنت لأن الركب نيتهم
أسوان أي عذاب دون عيذاب؟!
لقد زرتك فيها قبل اليوم يا بني، فاحتسب دعوة اليوم في تلك الزيارات، وخلنا في عالم الفكر من هذه المجاملات والمصانعات. أما دعوتني فيها وأنت يافع تحسب أنك تكره الحياة لأنك مملوء اليدين بالحياة؟ أما دعوتني فيها وأنت فتى تثور وتحسب أنني معك حين تثور؟ أما دعوتني فيها وأنت كهل تصالح الدنيا لأنك أنفت من مخاصمة الدنيا؟ أما دعوتني فيها وأنت تزعم أنك تناقضني بإنكار الأحزان وما أنكرتها إلا ترفعا عن الشعور بالحرمان؟ إنك دعوتني كثيرا وإنني أجبتك كثيرا، وإنني لألقاك حيث أنت خير لقاء، إنك لتلقاني وتسمعني حين تشاء.
نشيد وداع
بناة ضريحي طال بالصخر إبطاء
فهل وطأوه أو تعداه إيطاء؟
وهل لان أو يأبى على اللين نخوة؟
وهل رقطوه أو سرت فيه رقطاء؟
عرفت انتظار الموت. أما منية
وطول انتظار، فهو للقصد أخطاء «متى ينقضي الوقت والله قادر»
فتغطيني الدنيا ويحمد إغطاء
1
أراني لديكم كالمعرى معرضا
لمن شاء والركبان حولي خبطاء
2
أقمتم لذكراي المآدب فاستوى
بمأدبة النسيان منع وإعطاء
وما نضجت تلك الثمار فما لكم
دعوتم ولم تخرج من الزرع أشطاء
3
ذروني فلي فيكم كتاب وسيرة
جديد صباها وهي في الدهر شمطاء
إذا حان يومي بينكم فهي عندكم،
وعندي لكم شكر لراعيه طأطاء
4
وهذا وداعي لازم غيري لازم
5
إذا عاب بعض الشعر عي وإيطاء
6
لعلي أراكم بعد ألف وبينكم
ألوف لهم ذكرى من الحمد عيطاء
7
عن المعري
عباس محمود العقاد
صفحة غير معروفة