علامات الخلود
تمهيد
وفد
صاحب الجلالة المعري
عالم السريرة
أبو العلاء هو أبو العلاء
بساط الريح
حكم السيف
المستشرقون
مع المشيعين
صفحة غير معروفة
في بلاد الشمال
جر الذيول
المرأة
الحكيمان
حكم وحكمة
خليفة دانتي
لعب العبقرية
الاختراع
أقصى المغرب
أقصى المشرق
صفحة غير معروفة
زعيم الصين
زهدان
في مصر
نشيد وداع
علامات الخلود
تمهيد
وفد
صاحب الجلالة المعري
عالم السريرة
أبو العلاء هو أبو العلاء
صفحة غير معروفة
بساط الريح
حكم السيف
المستشرقون
مع المشيعين
في بلاد الشمال
جر الذيول
المرأة
الحكيمان
حكم وحكمة
خليفة دانتي
صفحة غير معروفة
لعب العبقرية
الاختراع
أقصى المغرب
أقصى المشرق
زعيم الصين
زهدان
في مصر
نشيد وداع
أبو العلاء
أبو العلاء
صفحة غير معروفة
تأليف
عباس محمود العقاد
علامات الخلود
ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حق في الخلود:
فرض الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجو من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على الأدمية، فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي، وتارة إلى السحر والكهانة، وتارة إلى فلتات الطبيعة إن كانوا لا يؤمنون بما وراءها.
وهذه العلامات الثلاث مجتمعات لأبي العلاء على نحو نادر في تاريخ الثقافة العربية، لا يشركه فيه إلا قليل من الحكماء والشعراء؛ فهو في ضمان الخلود منذ أحبه من أحب، وكرهه من كره، وتحدث عنه من تحدث كأنه بعض الخوارق والأعاجيب. •••
بلغ من منزلته بين مريديه أن وقف على قبره نيف وثمانون شاعرا يرثونه بعيد وفاته، فكان بلاغ قولهم مطلع قصيدة لأحدهم - أبي الفتح الحسن بن عبد الله بن حصينة - حيث يقول:
العلم بعد أبي العلاء مضيع
والأرض خالية الجوانب بلقع
وهو مثل من أمثلة الإعجاب الذي اتفق عليه أولئك الشعراء، وكانوا فيه ترجمانا لمئات، أو ألوف من المعجبين، لم ينظموا الرثاء ولم يقفوا على ثراه.
صفحة غير معروفة
وبلغ من إنكار حساده والجاهلين به أنهم جعلوه من أهل الجحيم، وألحقوه بأحقر ما يسب من الحيوان، واستجهلوه غاية الجهل، واتهموه في فهمه وذكائه!
قال رجل وقد عثر به : من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما!
وذكر ياقوت بعض كلامه في معجمه ثم قال: «كان المعري حمارا لا يفقه شيئا، وإلا فالمراد بهذا بين!»
وسئل عنه علي بن الحسن المعروف بشميم وهو من نحاة القرن السادس، فغضب وقال لسائله ناهرا: «ويلك! كم تسيء الأدب بين يدي؟ من ذاك الكلب الأعمى حتى يذكر بين يدي في مجلسي؟!» •••
وهناك أناس استعظموه ولكنهم لم يفهموه ولا حقدوا عليه! وحسبوا أن قدرة الإنسان لا ترتقي هذا المرتقى، وأن سر بني آدم لا يخفى هذا الخفاء، فألحقوه بعالم المجهول ووصلوا بينه وبين سيطرة الفلك وقضاء الأقدار.
قالوا إن محمود بن صالح صاحب حلب اتهمه بالزندقة، فأمر بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسا ليحملوه، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يا ابن أخي! قد نزلت بنا هذه الحادثة، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارا علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخ الذل والعار. فقال أبو العلاء: هون عليك يا عم! ولا بأس عليك، فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟ فقال في منزلة كذا وكذا ... فقال: زنه واضرب تحته وتدا، وشد في رجلي خيطا واربطه إلى الوتد. ففعل غلامه ذلك، وسمعوه وهو يقول: يا قديم الأزل! يا علة العلل! يا صانع المخلوقات وموجد الموجودات. أنا في عزك الذي لا يرام، وكنفك الذي لا يضام ... الضيوف الضيوف! الوزير الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم ... وإذا بهدة عظيمة! فسأل أبو العلاء عنها فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين ... وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمام على الوزير.
ومن لم يكن عندهم ساحرا أو قديسا من ذوي الكرامات كان خارقة من خوارق التكوين أو طرفة من طرف الزمان. •••
رووا عن تلميذه أبي زكريا التبريزي أنه كان قاعدا في مسجده بمعرة النعمان بين يدي الأستاذ يقرأ عليه شيئا من تصانيفه، وكان قد أقام عنده سنين لم ير أحدا من أهل بلده، فدخل المسجد بعض جيرانه فرآه وعرفه فتغير من الفرح وأحس أبو العلاء بشيء فسأله: أيش أصابك؟ فحكى له ما رآه.
قال أبو زكريا فيما رووا عنه: فقال لي أبو العلاء: قم وكلمه! فقلت: حتى أتمم السياق. فقال: قم. أنا أنتظر لك. فقمت وكلمته بلسان الأذربية - أهل أذربيجان - شيئا كثيرا، إلى أن سألت عن كل ما أردت. فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أي لسان هذا؟ قلت: هذا لسان أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته. غير أني حفظت ما قلتما. ثم أعاد علي اللفظ بعينه، من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه في جميع ما قلت. فتعجبت غاية التعجب! كيف حفظ ما لم يفهم؟
وحدث أبو الحسن الدلفي المصيصي الشاعر، قال: لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب. رأيت شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.
صفحة غير معروفة
تلك هي العلامات الثلاث مجتمعات لأبي العلاء: إطناب في الإعجاب، ونهاية في الزراية، وحيرة في كلام واصفيه كحيرة المتحدثين عن خوارق الغيب وعجائب الأساطير.
وإذا بلغ من تعدد الجوانب برجل واحد أن يقول قوم إنه فخر بني الإنسان، ويقول قوم إنه كلب وحمار، ويسلكه أناس في زمرة الشيطان ويحسبه أناس وليا مستجاب الصلاة، ويخيل إلى فريق أنه ساحر وإلى فريق أنه طرفة من الطرف وأسطورة من الأساطير؛ فذاك هو الأفق الواسع، وتلك هي العظمة الباقية ... ومن شهده في زمانه فلا حاجة به أن ينتظر ألف عام ليعلم أنه باق إلى ألف عام، وأنه محتفل به بعد ألف عام، أو ينبئ الدنيا بامتداد خبره ما بقي لعصره خبر بين سجلات العصور. •••
وها قد مضى اليوم ألف سنة هجرية على اليوم الذي ولد فيه أبو العلاء لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة وثلاث وستين. ولد كثيرون في هذه السنين الطوال كما ولد، ومات كثيرون كما مات، وتكررت الولادة والوفاة في الأمم العربية مئات الملايين من المرات، ولكن ذلك المولد النادر لم يتكرر قط في هذه السنين، ولم يزل مولد ذلك الوليد حادثا فردا بين ثمرات الأصلاب والبطون، يستحق أن يعاد إليه من سنة إلى سنة، ومن جيل إلى جيل، ومن ألف عام إلى ألف عام.
وبين الذين كررتهم الدنيا ألوف من أمثال ذلك المسكين المغرور الذي أغضبه السؤال عن أبي العلاء بين يديه، ورأى من سوء الأدب في مجلسه أن يعاد له اسم على مسمع منه، ولكن التاريخ الذي كررهم كثيرا ومل من تكرارهم طويلا لم يدركه الملال من ترديد اسم أبي العلاء المغضوب عليه وعلى من سأل عنه. ولم ير من سوء الأدب أن يصبح ويمسي بتمجيده، وأن يحصي الأحقاب بعد الأحقاب لملاقاته في يوم عيده. بل رأى من سوء الأدب أن تمضي ألف سنة ولا يستوقف الزمن الماضي محتفلا بذكراه، مستعيدا لميلاده، مشيرا إلى مطلعه كما يشار إلى ظواهر الكون التي تستعاد، لأنها قلما تعود.
ولقد وقف على قبره - يوم وفاته - ثمانون شاعرا أو يزيدون، وتقف على قبره اليوم أمم العروبة جمعاء، وأمم شتى من جميع الأقطار والأنحاء، مئين أو فوق المئين، ينوب منها الشاهدون عن الغائبين.
وإذا عدل الزمان، فهذا الوفاء هو سواء الميزان، بين أناس وسموه بعزة القدر، وأناس وصموه بخسة الحيوان. •••
تسلفت هذه الذكرى قبل ست سنوات.
وكانت الصحف السورية قد نقلت إلينا في ذلك الحين أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، وكما نشير إليه بعد سطور.
فخطر لنا أن أبا العلاء قد دعي من حظيرة الخلود إلى شهود ذكراه، وأن الأمد لا يزال فسيحا بيننا وبين ذلك اليوم المشهود؛ ففي ذلك الأمد متسع لرحلة علائية حول الكرة الأرضية، يرى فيها ما يعنينا أن يراه، ويقول فيها ما ينبغي أن يقول، أو نقول نحن على لسانه ما يشبه مقاله في أوانه، قياسا على ما صنع هو في السماء حين حدثنا في رسالة الغفران بلسان الأدباء والشعراء، وجعل لهم من كلامهم وأخبارهم دليلا له في كلامه وأخباره.
فكتبنا يومئذ سلسلة هذه الفصول التي سميناها «رجعة أبي العلاء»، وعرضنا فيها حوادث الدنيا كما تتمثل له ولمن ينظرون إلى أمور العصر الحاضر مثل نظرته في سائر الأمور. ونحسب أننا أتينا بصفوة الآراء التي توافقه وتستخلص من جملة تفكيره، ما لم يكن قد تغير نظره بعد موته، وهو مستحيل!
صفحة غير معروفة
ونحسب كذلك أننا لم ننحله رأيا ينكره لو أنه عاد إلى هذه الحياة الدنيا في زماننا هذا، لأننا شفعنا آراءه الحاضرة بأقواله المحفوظة فيما عرض له من خطوب زمانه، فتشابهت الأقوال وتقاربت الأحكام، وبقي على من يخالفنا أن يزعم أن هذه الآراء غريبة عن منحى أبي العلاء في تفكيره، ويثبت ذلك بكلامه وآرائه في مثل ما نحلناه. ويومئذ يظهر أن الإنكار هو الدعوى التي تفتقر إلى الشواهد والبينات. •••
وقد مضى الآن زهاء ست سنوات منذ كتبنا هذه الفصول، دارت فيها الأيام دورتها واضطربت فيها الحوادث اضطرابها. فلا شك أننا حين وصفنا الحوادث كما وصفناها واستطلعنا العواقب كما استطلعناها، لم نقحم على حكيم المعرة رأيا كذبه الواقع وأنكره الحق الصادع، ولم ننحله قولا يزري بصائب فهمه أو يقدح في صادق حكمه. فإن كنا وافقناه فقد أرضيناه، وإن كنا خالفناه فما أخجلناه.
ومن محاسن الاتفاق أن تحتفل الأمم العربية بتمجيد أبي العلاء وهي تتطلع إلى استقلال كريم يرضي الحكيم العربي الصميم، وتنهض إلى مجد طريف يستجد لها معالم المجد القديم، وأن تعاد «رجعة أبي العلاء» في طبعتها الثانية والدعوة إلى الاحتفال جارية إلى مجراها، ووفود الحجيج المعري مستبقة إلى ملتقاها، فهي تحية في الأوان، وقربان على ذلك المحراب ... مزاجه الشكر والعرفان.
عباس محمود العقاد
تمهيد
منذ سنة وشهور نشرت الصحف من أنباء سورية «أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاته، أو على ميلاده كما هو الأصوب ...» فالمعري كاره الحياة يعاد طوعا أو كرها إلى الحياة كرة أخرى!
خطر لي هذا الخاطر فأحببت أن أتخيل «رهين المحبسين» يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر، فماذا هو قائل؟ وماذا هو فاعل؟
لا شك أن أحوالا كأحوال العصر الحاضر قد كانت مشهودة معهودة في أيام أبي العلاء، ولا شك أننا واجدون في كلامه حكما مكشوفا أو ملفوفا على جميع تلك الأحوال، فأما ما يختلف من شئون زماننا وزمانه فهل يستطاع قياسه والنفاذ إلى رأي أبي العلاء فيه وفاقا لذلك القياس؟ وهل في مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم للجهر برأيه فيه؟
ذلك ما قد حاولناه في هذه الصفحات،
1
صفحة غير معروفة
ونحسب أننا قد أصبنا فيه بعض التوفيق، إن تعذر التوفيق كله في مجال الفرض والتخمين.
ومضت فترة ولم نسمع خبرا عن المحفل المنظور: هل تم بناء الضريح؟ وهل تم نحت التابوت؟ وهل تمت العدة؟ وهل شريت الدور التي تحجب قبر الحكيم؟ الأرجح أن هذا كله ماض في طريق التمام، وأن المحفل المنظور قائم في موعد قريب، لكن أبا العلاء الذي بعثناه وأطفناه بالعالم كله مع بعض تلاميذه قد بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، وأحب أن يثوب إلى داره وأن يقر في قراره. فنحن هنا مثبتون قصيدا لأبي علائنا يودع به من سوف يستقبلونه، ويعتذر به لمن يمسكونه في الدنيا ولا يرسلونه، ويقول أو نقول في مكانه، ما ينبغي أن يجري على لسانه. وذلك هو نشيد الوداع في ختام هذه الصفحات، أنابنا في نظمه على سنة اللزوميات، فله الحسنة منه، وعلينا نحن السيئات. •••
قيل إن بعض المكتبات الإيطالية أهابت بالأدباء من العرب أن يوافوها باسم الأديب الذي تجتمع فيه خصائص العبقرية العربية، فأجمعت الآراء على أنه هو أبو العلاء.
وقواعد الانتخاب ليست بمقطع الرأي في مزايا الفنون والآداب، ولكنا نراها في هذه الفتوى قد حكمت بالصواب، وأجابت أحسن الجواب، إذ الحقيقة أن حكيم المعرة خير من يمثل الذهن العربي والسليقة «السامية» غير مستثنى في ذلك أحد حتى صاحبه أبو الطيب؛ لأن تمثيل الذهن غير تمثيل «الطبيعة العملية» التي يرشح فيها أبو الطيب للمكان الأول بين شعراء الضاد. وأبو العلاء هو الذي يمثل الذهن العربي في تفكيره وفي مقاييسه وفي نظرته إلى الدنيا، دون سائر المفكرين من الشعراء. •••
وعسى أن تكون هذه الآراء التي وضعناها على لسانه وقسناها إلى المعهود من كلامه هي ترجمان الذهن العربي حين ينظر إلى حقائق العالم في زماننا الحديث.
وفد
نقلت الصحف من أنباء سورية أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر حكيمها وحكيم العرب أبي العلاء، وأنها تعد العدة من اليوم للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاة الشيخ، والصواب على مولده كما هو ظاهر، فإن الأمد لا يزال بعيدا بيننا وبين ذكرى وفاته، إلا إذا كان الغرض التقريب لا التحقيق، ولا حاجة إلى ذاك لقرب ذكرى الميلاد. •••
تمثلت مندوبي الحكومة السورية يحملون قرارها إلى شيخ المعرة، ويبلغونه أنه سيبنون تابوتا على قبره، وأنهم سيدعون علماء المشرق والمغرب إلى موطنه للاحتفال بذكرى ميلاده. فماذا يقول؟ وماذا يقولون؟
إن الشيخ ليتململ في مضجعه بعد أن استراح فيه مئات السنين، وإنه ليخاطب جدثه اليوم كما خاطبه وهو في قيد الحياة وقيد المحبسين:
يا جدثي حسبك من رتبة
صفحة غير معروفة
أنك من أجداثهم معزلا
أملني الدهر بأحداثه
فاشتقت في بطن الثرى منزلا
ثم يسأل متثاقلا: من أنتم؟ وماذا تبغون؟ فلا يعلمونه من هم وماذا يبغون حتى يتهاتف قائلا: أتبنون لي تابوتا؟ أما قرأتم أو سمعتم قولي:
إن التوابيت أجداث مكررة
فجنب القوم سجنا في التوابيت
فيحار الجماعة، ولا يدرون بماذا يجيبون. ولكنهم حريصون على إقامة التابوت، وعلى تمجيد الرجل وتشريف مدفنه وتشريف ذكره، وسيكون بينهم ولا ريب أناس ممن عركوا السياسة وحذقوا أساليب الخطاب والتدرج في المجاملة والإرضاء، فيقول قائل منهم: أيأبى مولانا الكرامة والتشريف ؟!
فيجيب الشيخ:
لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي
ريب المنون فلا فضيلة للجسد
صفحة غير معروفة
ثم يقول:
إذا أنا واراني التراب فخلني
وما أنا فيه، فالتراب مئونتي!
ثم يقول كما قال من قبل:
أأرغب في الصيت بين الأنام
وكم خمل النابه الصيت
وحسب الفتى أنه مائت
وهل يعرف الشرف الميت؟
فيلهم أحدهم أن يراجعه ببيت من كلامه، وأن يذكره أنه ليس بميت وإنما هو حي خالد، أوليس هو القائل:
وجدت الناس ميتا مثل حي
صفحة غير معروفة
بحسن الذكر أو حيا كميت
فيأنس أبو العلاء إلى ما سمع، ويعجبه أن يروى له شعره بعد مئات السنين، ويسألهم: وماذا تريدون الآن من جمع الجموع حول هذا التابوت الذي تبنونه؟ أتراكم تمدحونني وأنا القائل:
إن مدحوني ساءني مدحهم
وخلت أني في الثرى سخت
فيجيبه أريب كيس من القوم يعرف كيف يتسلل إلى كمين الرضى من سريرة الشيخ، ويقول له: بل نثني على أنفسنا وعلى بلادنا بما أنجبت من فضلك وأحيت من ذكرك وحفظت من أثرك، فإنما يعيبنا ولا يعيبك أن ننسى هذا ونتمادى في نسيانه، ولن يضيرك أن نكف عن مديحك وأنت القائل عرفانا بقدرك:
فلا وأبيك ما أخشى انتقاصا
ولا وأبيك ما أرجو ازديادا
ولكنه يضيرنا كل الضير أن يثني عليك الغرباء ونحن سكوت، وأن يمدح الناس من ملل الأرض حكماءهم وشعراءهم ولا نمدحك ونشيد بمناقبك وسجاياك.
وكأنما يطلق ألسنتهم إصغاء الشيخ وارتياحه وما يعهدونه فيه من حب الصراحة والفكاهة، فيقول منهم قائل: ثم ماذا يخيفك اليوم من المديح، وقصاراك من خوفه أن تحسب أنك سخت في باطن الأرض؟! لقد أصبح الخيال حقا والحسبان واقعا، وجربت بطن الثرى مئات السنين؛ فلا ضير عليك اليوم أن تسمع من المديح الدواوين والأسفار! •••
فيضحك الشيخ ويتفسح للحديث ويجري معهم في مجراهم فيقول: لا يغرنكم يا أبنائي أنني أزهد في المديح وأنني أسكن إلى الزهد فيه وفي المجد والسلطان، فما أبرئ نفسي من كبرياء، وما أزعم أنني اخترت العزلة والفاقة عن صغر في المطامع أو قناعة بالحظ الوضيع، ولكنني لا أرى لأحد عيشا في هذه الدنيا إلا أن يسودها أو يستخف بها ويعرض عنها:
صفحة غير معروفة
ذر الدنيا إذا لم تحظ منها
وكن فيها كثيرا أو قليلا
وأصبح واحد الرجلين: إما
مليكا في المعاشر أو أبيلا
وما أتيح لي أن أصبح مليكا في المعاشر، فأصبحت باختياري راهبا متبتلا أعرض عن الدنيا ولا أريها أنها هي التي أعرضت عني وبخست من حقي!
إذا كان هذا الترب يجمع بيننا
فأهل الرزايا مثل أهل الممالك
فيقول قائل منهم: نعم أيها الإمام. لقد كررناك حتى فهمناك كما قلت في بعض شعرك:
يكررني ليفهمني رجال
كما كررت معنى مستعادا
صفحة غير معروفة
فما تخفى علينا خافية من هواجس ضميرك ولا تغيب عنا خالجة من خوالج طبعك، وإنك لمناضل مكبوح ومغامر محبوس، وإن نفس الزاهد منك لمقرونة بنفس السيد الذي لا يدين في الحياة لغير حكمه، ويأنف أن يموت حتف أنفه، وقد عشت هكذا في عالم الرأي آمرا لا يأمرك الحاكمون، وأبيا لا يخضعك المغلوبون، وتمنيت يوما:
من السعد في دنياك أن يهلك الفتى
بهيجاء يغشى أهلها الطعن الضربا
فإن قبيحا بالمسود ضجعة
على فرشه يشكو إلى النفر الكربا
وترددت بين القلم والسيف فقلت:
وإن العز في رمح وترس
لأظهر منه في قلم ودرج
وما أختار أني الملك يجبى
إلي المال من مكس وخرج
صفحة غير معروفة
فدع إلفيك من عرب وعجم
إلى حلفيك من قتب
1
وسرج
سراجك في الدجنة عين ضار
وإلا فالكواكب خير سرج
ويقول الشيخ مبتسما: لقد أحصيتم علي فلتات اللسان وشوارد الأماني وشطحات الأوهام، وعملتم بوصيتي حين قلت:
اقرأ كلامي إذا ما ضمني جدثي
فإنه لك ممن قاله خلف
ولكني كنت أوثر لو نسيتم بعضه ومنه هذا الذي ذكرتموه، فما أحسب إلا أنني حاذفه من جملة كلامي لو تمكن من تلك الأوراق التي حفظتموه فيها، فاحذفوه! •••
صفحة غير معروفة
ثم يخطر لبعض الحاضرين أنها فرصة لا تضيع، فيسألونه: ألا نحمل إليك تلك الأوراق فنراجعك فيما تغير منها وما تأمر بمحوه، بعد أن تنظر في الدنيا نظرة وتطلع منها على ما استجد من حالها وتبدل من خلائق أهلها!
فإذا الشيخ يتجهم هنيهة وقد عاودته سوداؤه وانقباض صدره وذهب يقول: أما خلائق أهل الدنيا فإنما يتبدل الرأي فيها لمن يراهم على إحدى حالتين: فمن قال إنهم كانوا في غابر زمانهم أهل ورع وصلاح وأصحاب كرم وتقوى. ثم عدت عليهم عوادي الزمن فصدوا عن سبيل الخير؛ فذلك خليق أن يصف منهم شأنا، ثم يعود بهم إلى شأن غير الذي وصف.
ومن قال إنهم اليوم جاهلون وغدا يعلمون، وإنهم اليوم على عوج وغدا يستقيمون، فذلك أيضا خليق بتبديل الرأي في الناس عصرا بعد عصر وأمة بعد أمة.
وما أنا هذا أو ذاك؟ أنا قد بلوتهم فعلمت أنهم هكذا كانوا منذ كانوا:
وهكذا كان أهل الأرض مذ فطروا
فلا يظن جهول أنهم فسدوا
ثم بلوتهم ورجوت صلاحهم واستأنفت الرجاء فيهم وعجبت من أمري معهم على شدة علمي بهم، وما زلت أستغرب من تلك الحال التي أحاولها وتحاولني:
وأعجب مني كيف أخطئ دائما
على أنني من أعرف الناس بالناس
حتى انتهيت إلى رأي لا يتبدل:
صفحة غير معروفة
فلا تأمل من الدنيا صلاحا
فذاك هو الذي لا يستطاع
نعم ذاك الذي ما استطعته ولن تستطيعوه، ولكن:
نزول كما زال آباؤنا
ويبقى الزمان على ما ترى
وتذهبون في كل مذهب وتطمعون في كل مطمع، ثم تعلمون بعد خطأ لا تزالون ترجعون إليه أنه:
حكم جرى للمليك فينا
ونحن في الأصل أغبياء!
فهو داء عياء ليس له شفاء، وكنت أزعم أن الموت يبرئ الخلائق منه فهأنذا معكم لم أكد أشعر بظل الحياة حتى استرجعت من دائها كل ما كنت أشكوه وأعالجه وأرجو الغلبة عليه. كلا يا أبنائي: لا تحذفوا حرفا مما كتبت في خلائق الناس، أو احذفوه كله فما هو بضائركم أن تجهلوه، وهو منا ومنكم في الصميم، وإنه لباق في النفوس إن زال من الطروس.
تمثلت هذا الحديث بين شيخ المعرة وبعثة الحكومة السورية إليه، وأخال أنني على صواب حين أزعم أن الشيخ في طليعة الحكماء الذين لا يغيرون ما قالوه في هذا المعنى بعد آلاف السنين، لأنه لم يؤمن بالنكسة بعد العلاج، ولم يؤمن بالتقدم والارتقاء، فيتطرق الخلاف من أحد البابين إلى مجمل ما قال. لكن شيمة واحدة في حكيم المعرة أخالها لو تغيرت قليلا لتغيرت فلسفته جميعا من الألف إلى الياء، ولألغى كثيرا من سقط الزند وكثيرا من اللزوميات، ولخرج بديوان يقرأه القارئ فلا يهجس في خاطره ذكر المعري المعهود؛ لأن تغيير تلك الشيمة يخرجه خلقا جديدا لا يمت بقرابة ذهن ولا بآصرة نسب إلى ذلك الحكيم الذي عرفناه.
صفحة غير معروفة
صاحب الجلالة المعري
قلت في ختام الفصل السابق: «إن شيمة واحدة في حكيم المعرة أخالها لو تغيرت قليلا لتغيرت فلسفته جميعا من الألف إلى الياء، ولألغى كثيرا من سقط الزند وكثيرا من اللزوميات ...»
فما هي تلك الشيمة؟
هي السمت والوقار، أو هي كما نقول في لغة العصر الحاضر أدب البيئة وأصول «اللياقة».
وهذه الشيمة في الواقع وازع قوي عظيم الهيمنة على جميع النفوس، وإن عدها بعضهم ثانية أو ثالثة أو رابعة في ترتيب الزواجر الأخلاقية والنفعية؛ لاعتقادهم أن الزواجر إنما تفعل في الطباع فعلها على مقدار ما يحيط بها من ضجيج وطنين، أو على مقدار ما لها من أسماء وعناوين، لا على مقدار بواعثها من الطبع ومن قوانين الاجتماع.
إن جميع الزواجر والأوامر والنواهي لا تخرج دانقا ولا سحتوتا من كنز المرأة العجوز الذي تجمعه من الدوانيق والسحاتيت، ليكون لها بعد وفاتها مشهد «يليق» ويجري مع العرف الشائع بين البيوت.
وإن الرجل ليقدم على جميع المحظورات غير حافل بالعقاب أو سوء المآب، حاشا المحظور الذي «يسقطه» في نظر الناس ويخل بقواعد المروءة في البيئة التي هو منها، فذلك حد لا يتخطاه إلا وقد تخطى قبله جميع الحدود واجترأ على جميع المنكرات.
وإن الخمر والزنا والسرقة لفي درجة واحدة من التحريم في بعض الشرائع السماوية، ولكن الناس يجانبونها أو يستبيحونها على حسب نصيبها من الزراية في البيئات التي يعيشون بينها، ونعني بها بيئة المعيشة وبيئة المعاشرة وبيئة التفكير. وربما وجد من الناس من يباهي ببعض تلك المحظورات في بعض بيئاته، وإن كانت في بيئات أخرى مجلبة العار والمذمة والنفور.
وربما استخف المرء أو المرأة بكل منكور وممنوع، إلا أن يزف بنته أو بنتها مثلا في شوار أقل من الشوار المصطلح عليه، مع أنه غير ممنوع في دين ولا في قانون ولا في شرع معقول، ولكنه ممنوع في أدب البيئة أو أدب اللياقة ... فهو إذن أصعب الممنوعات. •••
والخلاعة هي غاية السقوط عند العرب أو عند المتكلمين باللغة العربية، وإنما الأصل في الخليع أنه الرجل الذي يخلعه أهله ويبرأون منه، فهو من ثم يجلب على نفسه أكبر العار، وإن لم يقارف شيئا من معاصي الدين والقانون على حسب العرف الحديث.
صفحة غير معروفة
وإنهم ليجدون متسعا من القول في كل عاص، وكل جارم، وكل آثم، إلا الخليع فلا متسع فيه من القول بعد الخلاعة. وما عسى أن يقول القائل في خليع؟ تلك غاية الغايات وقصارى الموبقات، فلا ملامة ولا عتاب!
المعري مثل من الأمثلة البالغة على سلطان البيئة أو على سلطان أدب «اللياقة» وأدب العرف والتقاليد.
فهذا الحكيم الذي عرض على فكره كل أصل من أصول الحكمة وكل مذهب من مذاهب الدين، فلم يقبل منها إلا ما ارتضاه برهانه، ولم يتخذ له إماما غير العقل في صبحه ومسائه، هو بعد هذا كله أسير «أدب اللياقة» يمنعه هذا الأدب ما ليس يمنعه شرع ولا فلسفة ولا عقيدة، وهذا القائل:
وسيان من أمه حرة
حصان ومن أمه زانية!
هو هو الذي يأبى أن يدخل الوليد على النساء بعد بلوغه العاشرة، ويأبى أن تذهب المرأة إلى الحمام، ويخشى على عرضها أن تخرج إلى الحج فلا يعده فريضة على عجز النساء ولا العذارى!
ذلك هو «السمت اللائق» بالمرأة في شريعة البيئة؛ فالسيدة الحصان تنجبها الأسرة الوقور لن تكون إلا على هذه الصفة، ومتى وصلنا إلى السمت اللائق أو إلى أدب اللياقة فأبو العلاء وسائر أبناء البيئة سواء، والفيلسوف الذي قال:
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مقيما في صبحه والمساء
لا يعنيه من إمامة العقل هنا إلا ما يعني قعائد البيوت وعجائز الأمهات والجدات، ذوات البنات يلتمسن الأزواج في ستر وحشمة وصيان! •••
صفحة غير معروفة