لها عن مسايرتهما، قوة رجال الدين في نجد المتمسكين أشد التمسك بتعاليم ابن عبد الوهاب والمتشددين أمام كل جديد، فكانوا يروا أن التلغراف السلكي واللاسلكي والسيارات والعجلات من البدع التي لا يرضى عنها الدين، وقوة التيار المدني الذي يتطلب نظام الحكم فيه كثيرا من وسائل المدنية الحديثة كما يتطلب المصانعة والمداراة، فاختطت لنفسها طريقا وسطا شاقا بين القوتين، فقد عدلت نظرها إلى الأقطار الإسلامية الأخرى وعدتهم مسلمين، وبدأت تنشر التعليم المدني بجانب التعليم الديني، وتنظيم الإدارة الحكومية على شيء من النمط الحديث، وتسمح للسيارات والطيارات واللاسلكي بدخول البلاد واستعمالها وما إلى ذلك، وما أشقه عملا، التوفيق بين علماء نجد ومقتضيات الزمن، وبين طبائع البادية ومطالب الحضارة.
لم تقتصر الدعوة الوهابية على الحجاز والجزيرة العربية، بل تعدتها إلى غيرها من كثير من الأقطار الإسلامية، وكان موسم الحج ميدانا صالحا وفرصة سانحة لعرض الدعوة على أكابر الحجاج واستمالتهم إلى قبولها. فإذا عادوا إلى بلادهم دعوا إليها. فنرى في زنجبار طائفة كبيرة من المسلمين يعتنقون هذا المذهب، ويدعون إلى ترك البدع، وعدم التقرب بالأولياء.
وقام في الهند زعيم وهابي اسمه السيد أحمد. حج سنة 1822م. وهناك آمن بالمذهب الوهابي، وعاد إلى بلاده، فنشر هذه الدعوة في بنجاب وأنشأ بها شبه دولة وهابية، وأخذ سلطانها يمتد حتى هدد شمال الهند، وأقام حربا عوانا
9
على البدع والخرافات، وهاجم الوعاظ ورجال الدين هناك. وأعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ويقبل دعوته، وأن الهند دار حرب، ولقيت الحكومة الإنجليزية متاعب كثيرة شاقة من أتباعه، حتى استطاعت إخضاعهم.
وكذلك حضر الإمام السنوسي مكة حاجا، وسمع الدعوة الوهابية واعتنقها، وعاد إلى الجزائر يبشر بها، ويؤسس طريقته الخاصة في بلاد المغرب كما سيأتي بيانه.
وفي اليمن ظهر أعلم علمائه، وإمام أئمته وهو الإمام الشوكاني المولود سنة 1172ه. فسار على هذا النهج نفسه، وإن لم يتلقه عن ابن عبد الوهاب، وألف كتابه القيم «نيل الأوطار» شارحا فيه كتاب ابن تيمية «منتقى الأخبار»، عارضا الأحاديث النبوية، مجتهدا في فهمها، وفي استنباط الأحكام الشرعية منها ولو خالف المذاهب الأربعة كلها، وحارب التقليد ودعا إلى الاجتهاد، وثارت من أجل ذلك حرب كلامية شعواء
10
بينه وبين علماء زمنه، كان أشدها في صنعاء. وألف في ذلك رسالة سماها «القول المفيد في حكم التقليد»، ودعا في قوة إلى عدم زيارة القبور والتوسل بها، فقال في نيل الأوطار
11 : «وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، (منها) اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجح المطالب، وسألوا منها ما يسأل العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. «ومع هذا النكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف، لا عالما ولا متعلما، ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ، وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على شركهم، قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين وثالث وثلاثة. «فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟».
نامعلوم صفحہ