تقدمة
هذه قصة من قصص فولتير التي عني فيها ببعض المشكلات الفلسفية العليا؛ التي شغلت الناس دائما، وشغلت الفرنسيين بنوع خاص أثناء القرن الثامن عشر، وهي مسألة القضاء والقدر، ومكان الإنسان وإرادته منهما.
وما أريد أن أتعمق قضية القضاء والقدر في نفسها، ولا أن أتعمقها بالقياس إلى الفلاسفة والمثقفين الذين عاصروا فولتير، ولا أن أتعمقها بالقياس إلى فولتير نفسه، فنحن في فصل الصيف، وهو فصل لا يحتمل مثل هذا البحث الذي يكلف الكاتب والقارئ من العناء ما يحتاج إلى حياة رائقة شائقة، يستحب فيها النشاط، ولا يشق فيها الجهد الذهني.
وأنا بعد ذلك لم أفكر في تقديم هذه القصة إلى القراء في هذا الفصل الشديد إلا لأريح الزملاء الذين يشاركون في تحرير هذه المجلة، والقراء الذين يتفضلون بقراءتها، من تكليف أنفسهم عناء الجد في الكتابة، والجد في القراءة أثناء فصل القيظ، والراحة حق للكتاب كما هي حق للقراء، ولكن الراحة ألوان وأشكال: فهناك الراحة التي يستمتع بها الإنسان حين لا يعمل شيئا، وهي راحة بغيضة؛ لأنها عقيمة لا تنفع صاحبها ولا تنفع الناس، وهناك الراحة التي يستمتع بها الإنسان حين يتجه من العمل إلى ما يمتعه ويمتع الناس دون أن يشق على نفسه وعليهم، وهي هذه الراحة الخصبة التي يدل لفظها على معناها دلالة صادقة، والتي تعصم الإنسان من الفراغ الفارغ الجدب الذي يميت القلوب، وهي الراحة التي تلائم المثقفين من الكتاب والقراء جميعا.
فالرجل المثقف لا يبغض شيئا كما يبغض الفراغ الجدب العقيم، والراحة بالقياس إليه هي الانتقال من عمل مجهد مضن إلى عمل يجمع بين التسلية والمتاع ، وإلى هذه الراحة قصدت حين فكرت في أن أعفي محرري هذه المجلة من إنشاء بحوثهم المضنية، وقراءها من العكوف على تفهم هذه البحوث، وفي أن أعفي القراء في الوقت نفسه من الفراغ الذي كانوا قد يضطرون إليه ساعات من نهار أو أياما من شهر لو لم تقدم إليهم المجلة شيئا، وفي أن أترجم لهم آية أدبية رائعة يجدون في قراءتها ما يرضي حاجتهم إلى التفكير، وحاجتهم إلى الراحة، وحاجتهم إلى المتعة الأدبية الرفيعة في وقت واحد، وأنا أحد الألوف أو الملايين من الناس - إن حسن ظننا بالناس - الذين يعجبون بآداب فولتير، وينتهي بهم الإعجاب إلى الفتنة في كثير من الأحيان؛ لأن هذا الأدب لم يكتب له الخلود فحسب، وإنما كتب له الخلود والشباب جميعا، أو قل كتب له الخلود والشباب وملاءمة الحياة الإنسانية على اختلاف العصور والبيئات والأجيال، ولن أقيم الدليل على شيء من ذلك؛ فقد فرغ التاريخ الأدبي من إقامة الدليل عليه، وهذه القصة نفسها ستدل عليه في وضوح وجلاء وإقناع، وما أظن القراء يكلفونني أن أوثرهم بشيء لا أوثر به نفسي، أو أن أحتمل في سبيلهم من الجهد والمشقة ما لا أحب أن أحتمله في سبيل نفسي.
وقد قرأت هذه القصة مرات توشك أن تبلغ عشرا، وأكبر الظن أني سأقرؤها وأقرؤها، وقد وجدت فيها وسأجد فيها دائما متعة العقل والقلب والذوق، فإذا قدمتها إلى القراء فقد آثرتهم بما أوثر به نفسي، ولم يظلمك من سوى بينك وبين نفسه.
وقد كتب فولتير هذه القصة حين كاد القرن الثامن عشر ينتصف سنة 1748، وتكلف فنونا من الجهد والحيلة ليطبعها خارج فرنسا، ولينشرها في فرنسا بعد ذلك، وليستأنف طبعها في فرنسا، ولولا ضيق الوقت، وأني في باريس مشغول بما يشغل به الإنسان حين يلم بباريس ليقيم فيها وقتا قصيرا، وليرحل عنها بعد ذلك، لولا هذا لقصصت على القراء من جهد فولتير وحيلته في نشر هذه القصة، ثم من جحوده إياها وتنصله منها؛ مخافة أن تجر عليه شرا ما فيه كثير من الفكاهة والتسلية، ولكني أرجو أن أعود إلى هذا كله في وقت قريب.
وقد مر بفولتير طور من أطوار حياته الأدبية قرأ فيها ترجمة «ألف ليلة وليلة»، فشاقته وراقته ووجهته إلى دراسة أمور الشرق، فغرق في هذه الدراسة إلى أذنيه، وأخرج للناس قصصا شرقية بارعة كثيرة، منها هذه القصة، وأرجو أن يتاح لي أن أترجم لقراء العربية طائفة من قصصه الشرقية الأخرى.
وبطل هذه القصة فتى من أهل بابل، يسميه فولتير «زديج» ونسميه نحن صادقا، وقد كدت أضع صادقا مكان زديج في القصة كلها، ولكني آثرت أن أحتفظ لفولتير باسم بطله كما أراد هو أن يكون، وهذا الفتى البابلي المثقف الممتاز قد اختلفت عليه الأحداث، وتعرض لكثير من المحن في وطنه أولا، وفي الأوطان التي تغرب فيها بعد ذلك، في مصر وفي بلاد العرب وفي جزيرة سرنديب وفي سوريا، وكانت هذه الأحداث والمحن كلها مخالفة لمنطق الأشياء وطبيعة الحياة كما يراها الناس، فقد كان يكافأ بالشر على الخير دائما، وكان يستقبل ذلك بالحيرة والإذعان وبالصبر والاحتمال؛ حتى كوفئ آخر الأمر بما يلائم ذكاءه ووفاءه وثقافته وبراعته وصبره واحتماله، فأصبح ملكا على الدولة البابلية العظمى.
ففي القصة إذن عرض لمشكلة القضاء والقدر كما يتصورها الشرقيون، أو كما خيل لفولتير أن الشرقيين يتصورونها، وفيها حل لهذه المشكلة على نحو ما تصوره الفلاسفة منذ أقدم العصور، وهو هذا الحل الذي لا يحل شيئا، والذي يلخص في أن الإنسان أقصر عقلا وأكل ذهنا من أن يفهم حكمة الخالق الذي أبدع العالم ووضع له ما يديره من القوانين، فما عليه إلا أن يكد ويجد ويعمل الخير ما وسعه أن يعمل الخير، ويجتنب الشر ما أتيح له أن يجتنب الشر، ولا عليه بعد ذلك أن تسره الأيام أو تسوءه، وأن تسخطه الأحداث أو ترضيه.
نامعلوم صفحہ