تقدمة‏

1 - الأعور‏

2 - الأنف‏

3 - الكلب والجواد‏

4 - الحسود‏

5 - الكريم‏

6 - الوزير‏

7 - الاستقبالات والخصومات‏

8 - الغيرة‏

9 - المرأة المضروبة‏

10 - الرق‏

11 - التحريق‏

12 - العشاء‏

13 - الموعد‏

14 - الرقص‏

15 - العيون الزرق‏

16 - قاطع الطريق‏

17 - الصائد‏

18 - الباسليك‏

19 - المبارزة‏

20 - الناسك‏

21 - الألغاز‏

تقدمة‏

1 - الأعور‏

2 - الأنف‏

3 - الكلب والجواد‏

4 - الحسود‏

5 - الكريم‏

6 - الوزير‏

7 - الاستقبالات والخصومات‏

8 - الغيرة‏

9 - المرأة المضروبة‏

10 - الرق‏

11 - التحريق‏

12 - العشاء‏

13 - الموعد‏

14 - الرقص‏

15 - العيون الزرق‏

16 - قاطع الطريق‏

17 - الصائد‏

18 - الباسليك‏

19 - المبارزة‏

20 - الناسك‏

21 - الألغاز‏

زديج

زديج

تأليف

فولتير

ترجمة

طه حسين

تقدمة

هذه قصة من قصص فولتير التي عني فيها ببعض المشكلات الفلسفية العليا؛ التي شغلت الناس دائما، وشغلت الفرنسيين بنوع خاص أثناء القرن الثامن عشر، وهي مسألة القضاء والقدر، ومكان الإنسان وإرادته منهما.

وما أريد أن أتعمق قضية القضاء والقدر في نفسها، ولا أن أتعمقها بالقياس إلى الفلاسفة والمثقفين الذين عاصروا فولتير، ولا أن أتعمقها بالقياس إلى فولتير نفسه، فنحن في فصل الصيف، وهو فصل لا يحتمل مثل هذا البحث الذي يكلف الكاتب والقارئ من العناء ما يحتاج إلى حياة رائقة شائقة، يستحب فيها النشاط، ولا يشق فيها الجهد الذهني.

وأنا بعد ذلك لم أفكر في تقديم هذه القصة إلى القراء في هذا الفصل الشديد إلا لأريح الزملاء الذين يشاركون في تحرير هذه المجلة، والقراء الذين يتفضلون بقراءتها، من تكليف أنفسهم عناء الجد في الكتابة، والجد في القراءة أثناء فصل القيظ، والراحة حق للكتاب كما هي حق للقراء، ولكن الراحة ألوان وأشكال: فهناك الراحة التي يستمتع بها الإنسان حين لا يعمل شيئا، وهي راحة بغيضة؛ لأنها عقيمة لا تنفع صاحبها ولا تنفع الناس، وهناك الراحة التي يستمتع بها الإنسان حين يتجه من العمل إلى ما يمتعه ويمتع الناس دون أن يشق على نفسه وعليهم، وهي هذه الراحة الخصبة التي يدل لفظها على معناها دلالة صادقة، والتي تعصم الإنسان من الفراغ الفارغ الجدب الذي يميت القلوب، وهي الراحة التي تلائم المثقفين من الكتاب والقراء جميعا.

فالرجل المثقف لا يبغض شيئا كما يبغض الفراغ الجدب العقيم، والراحة بالقياس إليه هي الانتقال من عمل مجهد مضن إلى عمل يجمع بين التسلية والمتاع ، وإلى هذه الراحة قصدت حين فكرت في أن أعفي محرري هذه المجلة من إنشاء بحوثهم المضنية، وقراءها من العكوف على تفهم هذه البحوث، وفي أن أعفي القراء في الوقت نفسه من الفراغ الذي كانوا قد يضطرون إليه ساعات من نهار أو أياما من شهر لو لم تقدم إليهم المجلة شيئا، وفي أن أترجم لهم آية أدبية رائعة يجدون في قراءتها ما يرضي حاجتهم إلى التفكير، وحاجتهم إلى الراحة، وحاجتهم إلى المتعة الأدبية الرفيعة في وقت واحد، وأنا أحد الألوف أو الملايين من الناس - إن حسن ظننا بالناس - الذين يعجبون بآداب فولتير، وينتهي بهم الإعجاب إلى الفتنة في كثير من الأحيان؛ لأن هذا الأدب لم يكتب له الخلود فحسب، وإنما كتب له الخلود والشباب جميعا، أو قل كتب له الخلود والشباب وملاءمة الحياة الإنسانية على اختلاف العصور والبيئات والأجيال، ولن أقيم الدليل على شيء من ذلك؛ فقد فرغ التاريخ الأدبي من إقامة الدليل عليه، وهذه القصة نفسها ستدل عليه في وضوح وجلاء وإقناع، وما أظن القراء يكلفونني أن أوثرهم بشيء لا أوثر به نفسي، أو أن أحتمل في سبيلهم من الجهد والمشقة ما لا أحب أن أحتمله في سبيل نفسي.

وقد قرأت هذه القصة مرات توشك أن تبلغ عشرا، وأكبر الظن أني سأقرؤها وأقرؤها، وقد وجدت فيها وسأجد فيها دائما متعة العقل والقلب والذوق، فإذا قدمتها إلى القراء فقد آثرتهم بما أوثر به نفسي، ولم يظلمك من سوى بينك وبين نفسه.

وقد كتب فولتير هذه القصة حين كاد القرن الثامن عشر ينتصف سنة 1748، وتكلف فنونا من الجهد والحيلة ليطبعها خارج فرنسا، ولينشرها في فرنسا بعد ذلك، وليستأنف طبعها في فرنسا، ولولا ضيق الوقت، وأني في باريس مشغول بما يشغل به الإنسان حين يلم بباريس ليقيم فيها وقتا قصيرا، وليرحل عنها بعد ذلك، لولا هذا لقصصت على القراء من جهد فولتير وحيلته في نشر هذه القصة، ثم من جحوده إياها وتنصله منها؛ مخافة أن تجر عليه شرا ما فيه كثير من الفكاهة والتسلية، ولكني أرجو أن أعود إلى هذا كله في وقت قريب.

وقد مر بفولتير طور من أطوار حياته الأدبية قرأ فيها ترجمة «ألف ليلة وليلة»، فشاقته وراقته ووجهته إلى دراسة أمور الشرق، فغرق في هذه الدراسة إلى أذنيه، وأخرج للناس قصصا شرقية بارعة كثيرة، منها هذه القصة، وأرجو أن يتاح لي أن أترجم لقراء العربية طائفة من قصصه الشرقية الأخرى.

وبطل هذه القصة فتى من أهل بابل، يسميه فولتير «زديج» ونسميه نحن صادقا، وقد كدت أضع صادقا مكان زديج في القصة كلها، ولكني آثرت أن أحتفظ لفولتير باسم بطله كما أراد هو أن يكون، وهذا الفتى البابلي المثقف الممتاز قد اختلفت عليه الأحداث، وتعرض لكثير من المحن في وطنه أولا، وفي الأوطان التي تغرب فيها بعد ذلك، في مصر وفي بلاد العرب وفي جزيرة سرنديب وفي سوريا، وكانت هذه الأحداث والمحن كلها مخالفة لمنطق الأشياء وطبيعة الحياة كما يراها الناس، فقد كان يكافأ بالشر على الخير دائما، وكان يستقبل ذلك بالحيرة والإذعان وبالصبر والاحتمال؛ حتى كوفئ آخر الأمر بما يلائم ذكاءه ووفاءه وثقافته وبراعته وصبره واحتماله، فأصبح ملكا على الدولة البابلية العظمى.

ففي القصة إذن عرض لمشكلة القضاء والقدر كما يتصورها الشرقيون، أو كما خيل لفولتير أن الشرقيين يتصورونها، وفيها حل لهذه المشكلة على نحو ما تصوره الفلاسفة منذ أقدم العصور، وهو هذا الحل الذي لا يحل شيئا، والذي يلخص في أن الإنسان أقصر عقلا وأكل ذهنا من أن يفهم حكمة الخالق الذي أبدع العالم ووضع له ما يديره من القوانين، فما عليه إلا أن يكد ويجد ويعمل الخير ما وسعه أن يعمل الخير، ويجتنب الشر ما أتيح له أن يجتنب الشر، ولا عليه بعد ذلك أن تسره الأيام أو تسوءه، وأن تسخطه الأحداث أو ترضيه.

ولكن في القصة أشياء أخرى غير هذا العرض الفلسفي لمشكلة القضاء والقدر، هو الذي أتاح لها الخلود، وهو نقد الحياة الإنسانية من ناحيتها السياسية والاجتماعية والخلقية، والنفوذ بهذا النقد إلى صميم الطبيعة الإنسانية، وما ينشأ عن احتمالها للحياة وتصرفها فيها من الخطوب، وواضح جدا أن فولتير قد اتخذ قصته هذه كلها وسيلة إلى نقد الحياة الأوروبية عامة، والحياة الفرنسية خاصة، واتخذ مدينة بابل رمزا لمدينة باريس، وقصر بابل رمزا لقصر باريس؛ ومن أجل هذا أشفق من نسبة هذه القصة إليه، ومن أجل هذا فتن الفرنسيون بهذه القصة في عصر فولتير، وما زالوا يفتنون بها إلى الآن، ومن أجل هذا أعتقد أن قراء العربية سيجدون في قراءة هذه القصة ما يلائم حاجتهم إلى نقد الحياة الإنسانية من ناحية السياسة والاقتصاد والاجتماع، فليقرءوا، وليتفكروا، وليتذكروا، وليستريحوا إلى القراءة والتفكر والتذكر، ثم لينتفعوا بعد ذلك بما يقرءون وما يتفكرون وما يتذكرون.

طه حسين

باريس، يونيو 1947

الفصل الأول

الأعور

كان يعيش في بابل أثناء حكم الملك مؤبدار فتى يسمى «زديج»، وقد فطر على طبع كريم زادته التربية كرما، كان غنيا، وكان في ريعان الشباب، ولكنه كان على ذلك يعرف كيف يكبح جماح شهواته؛ لم يكن يتكلف، ولم يكن يحرص على أن تكون له الكلمة الأخيرة دائما، وكان يعرف كيف يقدر ضعف الناس، وكان الناس من حوله يدهشون لأنهم لم يروه قط - على ما كان يمتاز به من الذكاء - يهزأ بهذه الجمل الغامضة المتنافرة الصاخبة، ولا بهذه الغيبة الجريئة، ولا بهذه القرارات الجاهلة، ولا بهذه السخافات الفجة، ولا بهذا الضجيج الباطل، مما كان أهل بابل يسمونه حديثا، وكان قد تعلم من الكتاب الأول من آثار زرادوشت أن الاعتداد بالنفس كرة نفختها الريح، فأيسر ثقب فيها يخرج منها زوابع، وكان من أخص صفات زديج أنه لم يكن يفاخر بازدراء النساء أو اختلابهن، وكان كريما لا يكره أن يحسن إلى الجاحدين، يتبع في ذلك هذه الحكمة البالغة من حكم زرادوشت: «إذا أكلت فأطعم الكلاب، وإن أغراها ذلك بعضك.»

كان حكيما كأحسن ما يكون الحكيم؛ لأنه كان حريصا على معاشرة الحكماء؛ عرف علم القدماء من الكلدانيين، فلم يكن يجهل أصول الطبيعة التي كانت تعرف في ذلك الوقت، وكان يعرف مما بعد الطبيعة ما عرف الناس في كل عصر، أي قليلا من الأشياء، وكان مقتنعا كل الاقتناع بأن العام يشتمل على خمسة وستين وثلاث مائة يوم وربع يوم، على رغم الفلسفة الجديدة في عصره، وبأن الشمس هي مركز الكون، وكان يؤثر الصمت في غير غضب ولا ازدراء، إذا قال له كبار الكهنة إنه سيئ العقيدة، وإن من الخروج على الدولة أن يعتقد الإنسان أن الشمس تدور حول نفسها، وأن العام يأتلف من اثني عشر شهرا.

وقد اعتقد زديج أنه من الممكن أن يكون سعيدا، فقد كان يملك ثروة ضخمة، وكان له من أجل ذلك أصدقاء كثيرون، وكان جيد الصحة، رائق الوجه، مستقيم العقل، معتدل المزاج، له قلب مخلص نبيل، وكان يزمع التزوج من سمير التي كانت تمتاز من فتيات بابل جميعا بمولدها وجمالها وثروتها، وكان يعطفه عليها ميل نقي متين، وكانت هي تحبه حبا عنيفا، وكانا يدنوان من اللحظة السعيدة التي كانت ستجمع بينهما، ولكنهما ذات يوم كانا يتنزها معا عند باب من أبواب بابل في ظلال النخيل التي تزين شاطئ الفرات، وإذا هما يريان رجالا يقبلون عليهما مسلحين بالسيوف والسهام، وكانوا نفرا من أتباع الفتى أوركان قريب أحد الوزراء، الذي خيل إليه متملقو قريبه الوزير أن كل شيء مباح له، ولم يكن على شيء من ظرف زديج أو خلقه، ولكنه كان يرى نفسه خيرا منه، وكان مغيظا محنقا؛ لأنه لم يكن آثر عند الناس من زديج، وقد خيلت إليه هذه الغيرة التي لم تأته إلا من الغرور أنه يحب سمير، وقد اختطفها أتباعه وكانوا من العنف بحيث آذوها ببعض الجراحات، وأسالوا بذلك دم حسناء كان منظرها وحده خليقا أن يشيع الحنان في أنمار جبل إيمايوس، وكانت تشق السماء بصيحات الشكاة، وكانت تدعو: «أي زوجي العزيز، إني أنتزع انتزاعا من أحب الناس إلي.»

لم يكن يشغلها ما كانت تتعرض له من الخطر؛ لأنها لم تكن تفكر إلا في زديج العزيز، وقد دافع عنها زديج بما تتيح الشجاعة والحب من قوة ونجدة، ولم يكن يعينه إلا عبدان من رقيقه، وقد هزم المغيرين مع ذلك، ورد سمير إلى دارها دامية مغشيا عليها، فلما أفاقت وفتحت عينيها رأت محررها، فقالت له: «أي زديج، لقد كنت أحبك حب الزوج، فأما الآن فإني أحبك كما أحب من أنا مدينة له بالشرف والحياة.» ولم ير الناس قط قلبا أشد تأثرا من قلب سمير، ولا رأى الناس قط فما أشد سحرا يعرب عن شعور ساحر بألفاظ من نار يمليها الاعتراف بالجميل والاندفاع في الحب الذي يملؤه الحنان من فمها، وكان جرحها يسيرا فبرئت منه في وقت قصير، أما جرح زديج فكان أشد خطرا، أصابه سهم قريبا من إحدى عينيه فأحدث جرحا عميقا، ولم تكن سمير تطلب إلى الآلهة إلا شفاء عشيقها، وكانت عيناها غارقتين في الدموع آناء الليل وأثناء النهار، وكانت تنتظر الوقت الذي تستطيع فيه عينا زديج أن تستمتعا بتلقي لحظها، ولكن دملا ظهر في العين الجريحة فأنذر بخطر عظيم، فذهب الرسل وأبعدوا حتى وصلوا إلى منفيس يدعون الطبيب العظيم هرميس الذي أقبل تحف به حاشية ضخمة، وقد فحص المريض ثم أعلن أنه سيفقد عينه.

وتنبأ حتى باليوم والساعة اللذين ستقع فيهما هذه الكارثة قائلا: «لو قد أصاب الجرح عينه اليمنى لأبرأته، أما جراحات العين اليسرى فليس لها شفاء.» وقد رثت بابل كلها لزديج، وأعجبت مع ذلك بما امتاز به هرميس من علم عميق، ولم يمض يومان حتى انفجر الدمل من تلقاء نفسه وبرئ زديج برءا تاما؛ هنالك ألف هرميس كتابا أثبت فيه أنه لم يكن من حق زديج أن يظفر بالشفاء، ولم يقرأ زديج هذا الكتاب، ولكنه لم يكد يستطيع الخروج من داره حتى تهيأ لزيارة تلك التي كانت معقد أمله في السعادة، والتي كان حريصا من أجلها وحدها على أن تكون له عينان، وكانت سمير قد ذهبت إلى الريف منذ ثلاثة أيام، وقد عرف زديج في طريقه إليها أن هذه الحسناء لم تكد تعلم أن حبيبها قد يفقد إحدى عينيه حتى أعلنت أنها لا تطيق العور، وتزوجت أوركان من ليلتها تلك، فلما نمى إليه هذا الخبر خر مغشيا عليه، وانتهى به الألم إلى حافة القبر، وقد طالت علته، ولكن العقل تغلب على الحزن، بل وجد شيئا من العزاء في قسوة ما عانى من الآلام.

ثم قال لنفسه: «أما وقد لقيت هذا الجموح القاسي من هذه الفتاة التي نشأت في القصر، فسأتخذ لي زوجا من بيئات الشعب.» فاختار أزورا، وهي أحكم بنات المدينة وأحسنهن مولدا، فاقترن بها وعاش معها شهرا ملؤه العطف والحنان، ولكنه لاحظ فيها شيئا من خفة، وميلا شديدا إلى اعتقاد أن أعظم الشبان حظا من الجمال هم أصحاب الحظ العظيم من الفضيلة والذكاء.

الفصل الثاني

الأنف

وذات يوم أقبلت أزورا من نزهتها غاضبة ثائرة صاخبة، قال لها: «ما بك يا زوجي العزيزة؟ وما عسى أن يخرجك من طورك إلى هذا الحد؟» قالت: «وا حسرتاه! لو رأيت المنظر الذي رأيته لهاجك ما يهيجني من الغضب؛ لقد ذهبت أعزي الأرملة الشابة خسرو التي أقامت منذ يومين اثنين قبرا لزوجها الشاب، وقد عاهدت الآلهة أثناء حزنها على أن تقيم على هذا القبر ما جرى ماء هذا الجدول قريبا منه.» قال زديج: «هذه امرأة كريمة، قد أحبت زوجها حقا.» قالت أزورا: «آه لو عرفت ما كان يشغلها حين زرتها!» «ماذا كان يشغلها أي أزورا الحسناء؟» «كانت تحول الجدول من مجراه.» ثم اندفعت في لوم طويل وهجاء عنيف حتى ضاق زديج بهذه الفضيلة المتكلفة.

وكان له صديق اسمه كادور، وكان من بين هؤلاء الشبان الذين كانت أزورا تؤثرهم لأنهم على حظ عظيم من الأمانة والكفاية، فأظهره على جلية أمره، واستوثق من وفائه بما أهدى إليه من هدايا قيمة، ومضت أزورا لتنفق عند إحدى صديقاتها في الريف يومين، ثم عادت في اليوم الثالث إلى دارها، وهنالك أعلن إليها الخدم وهم ينتحبون أن زوجها قد مات فجأة من ليلته تلك، وأنهم لم يجرءوا على أن يحملوا إليها نبأ الفاجعة حين كانت تستجم، وأنهم قد فرغوا الآن من دفن زديج في قبر أسرته هناك في طرف الحديقة، فأجهشت بالبكاء وانتزعت شعرها، وأقسمت لتقضين على نفسها بالموت، فلما كان المساء استأذنها كادور في أن يتحدث إليها فبكيا معا، فلما كان الغد بكيا أقل مما بكيا أمس، وجلسا معا إلى الغداء، وأسر إليها كادور أن صديقه أوصى إليه بمعظم ثروته، ثم لمح لها بأنه يرى السعادة في أن يقاسمها ثروته، هنالك بكت السيدة ثم غضبت، ثم لانت، وكان العشاء أطول من الغداء، وكان الحديث أدنى إلى الثقة، وأثنت أزورا على الفقيد، ولكنها اعترفت بأنه لم يخل من بعض العيوب التي برئ منها كادور.

وفي أثناء العشاء شكا كادور ألما عنيفا في الطحال، فقلقت السيدة واهتمت، وأحضرت كل ما كان عندها من طيب؛ لعلها تجد من بينه ما يكون فيه شفاء للطحال، وأسفت أشد الأسف لأن هرمس العظيم لم يطل الإقامة في بابل، بل تفضلت فلمست موضع الألم من جسم كادور، قالت له في عطف: «أعرضة أنت لهذا الألم؟» قال كادور: «إنه ألم يدنيني غالبا من القبر، وليس له فيما علمت إلا دواء واحد يستطيع أن يرفه علي، وهو أن يوضع على جنبي أنف رجل مات من أمسه.» قالت أزورا: «يا له من دواء غريب.» قال كادور: «ليس أغرب من تمائم السيد أرنو

1

التي يعالج بها الفالج.» وكان هذا الرد مضافا إلى كفاية هذا الفتى مقنعا آخر الأمر للسيدة. قالت: «وأخيرا إذا عبر زوجي من حياة أمس إلى حياة غد على جسر تشينافار فلن يرده الملك عزرائيل عن العبور؛ لأن أنفه أقصر قليلا في حياته الثانية منه في حياته الأولى.»

ثم أخذت موسى ومضت إلى قبر زوجها فسقته بدمعها، ثم دنت تريد أن تجدع أنف زديج الذي رأته مستلقيا في قبره، هنالك ينهض زديج حاميا أنفه بإحدى يديه رادا الموسى باليد الأخرى قائلا: «سيدتي، لا تلومي الأرملة خسرو، فالتفكير في جدع أنفي كالتفكير في تحويل الجدول عن مجراه.»

الفصل الثالث

الكلب والجواد

وقد تبين زديج - كما هو مقرر في كتاب زند - أن الشهر الأول من شهور الزواج هو شهر العسل، وأن الشهر الثاني هو شهر الشيح، ثم اضطر بعد قليل إلى أن يطلق أزورا التي أصبحت بغيضة العشرة، وطلب السعادة في درس الطبيعة، وكان يقول: «ليس أسعد من رجل فيلسوف يقرأ في هذا الكتاب العظيم الذي نشره الله أمام أعيننا، وهو الطبيعة؛ فالحقائق التي يستكشفها القارئ خالصة له، يغذو بها نفسه ويرفعها، ويعيش هادئا مطمئنا، لا يخاف من الناس شيئا، ولا يتعرض لأن تدنو منه زوجه الرفيقة به لتجدع أنفه.»

وقد امتلأ بهذه الخواطر، واعتزل في دار ريفية على شاطئ الفرات، وفي هذه الدار لم يكن يشغل نفسه بحساب ما يجري تحت أقواس الجسور من الماء، ولا ما يسقط من خط مكعب من المطر في شهر الفأر أو في شهر الشاة، ولم يكن يتخيل أن يتخذ الحرير من نسج العنكبوت أو الخزف من حطام القوارير، ولكنه درس في عناية خصائص الحيوان والنبات، ولم يلبث أن انتهى إلى مقدار من الفطنة أظهره على ألف من الفروق بين أشياء لم يكن الناس يرون بينها إلا تشابها.

وذات يوم كان يمشي قريبا من غابة صغيرة، فرأى خصيا من خصيان الملكة يسرع إليه، ومن ورائه جماعة من الضباط يظهر عليهم قلق شديد، ويعدون هنا وهناك كأنهم قوم حائرون يبحثون عن شيء عظيم الخطر قد فقدوه، قال الخصي الأول: «ألم تر كلب الملكة يا فتى؟» قال زديج في تواضع: «إنما هي كلبة لا كلب.» أجاب الخصي الأول: «صدقت.» أضاف زديج: «إنها كلبة صغيرة جدا، وقد ولدت منذ وقت قصير، وهي تظلع برجلها الأمامية اليسرى، ولها أذنان مسرفتان في الطول.» قال الخصي الأول مجهدا: «فقد رأيتها إذن؟» أجاب زديج: «لا، لم أرها قط، ولم أعلم قط أن للملكة كلبة.»

وفي الوقت نفسه بالضبط على نحو ما تجري عليه المصادفات الغريبة أفلت أجمل خيل الملك من يد سائسه، وهام في سهل بابل، وأقبل كبير الساسة ومن ورائه أصحابه يبحث عن هذا الجواد في لهفة تشبه لهفة الباحثين عن الكلبة، واتجه كبير الساسة إلى زديج يسأله: «أرأيت جواد الملك؟» قال زديج: «إنه أحسن الجياد ركضا، إنه يرتفع في الجو خمسة أقدام، وإن حذاءه صغير جدا، وله ذيل طوله ثلاثة أقدام ونصف قدم، وشكائم لجامه من ذهب معياره ثلاثة وعشرون قيراطا، وسنابكه من فضة معياره أحد عشر دانقا.» قال كبير الساسة: «أي طريق سلك؟ وأين يكون؟» قال زديج: «لم أره ولا سمعت به قط.»

فلم يشك كبير الساسة ولا الخصي الأول في أن زديج قد سرق جواد الملك وكلبة الملكة، فقاداه أمام جماعة القضاة الذين قضوا عليه بالجلد، وبأن ينفق ما بقي من حياته في سيبريا، ولم يكد الحكم يصدر حتى وجد الباحثون الجواد والكلبة، واضطر القضاة في ألم إلى أن يغيروا حكمهم، ولكنهم قضوا على زديج بغرامة قدرها أربعمائة مثقال من الذهب لإنكاره رؤية ما رأى.

ولم يكن بد من أداء الغرامة أولا، ثم يؤذن له بعد ذلك بالدفاع عن نفسه أمام القضاة، وقد دافع عن نفسه قائلا: «يا نجوم العدل، ويا كهوف المعرفة، ويا مرايا الحقائق. أنتم الذين لهم ثقل الرصاص، وصلابة الحديد، وإشراق الماس، وكثير من خصال الذهب. أما وقد أذن لي بالحديث أمام هذه الجماعة الجليلة، فإني أقسم بأورزماد ما رأيت قط الكلبة المحترمة التي فقدتها الملكة، ولا الجواد المقدس الذي فقده ملك الملوك، وإليكم ما عرض لي: لقد كنت أتنزه قريبا من الغابة الصغيرة حين رأيت الخصي الجليل والسائس العظيم البعيد الصوت، فرأيت على الرمل أثر حيوان، فتفرست في يسر أنها آثار كلب صغير، ورأيت خطوطا خفافا طوالا قد طبعت على مرتفعات صغار بين آثار الأرجل، فعرفت أنها كلبة قد حفلت أطباؤها فتدلت، وأنها لذلك قد ولدت منذ أيام، ورأيت آثارا في اتجاه آخر مجاورة لآثار الرجلين الأماميتين، فعرفت أن للكلبة أذنين مسرفتين في الطول، ولاحظت أن الرمل أقل تأثرا بإحدى الأرجل منه بالثلاث الأخرى، فتبينت أن كلبة ملكتنا الجليلة عرجاء شيئا ما إن أذن لي في أن أتحدث على هذا النحو.

أما جواد ملك الملوك، فقد كنت أسعى في طرق هذه الغابة، فرأيت آثار السنابك لجواد، ورأيتها كلها تقع على مسافات متساوية، فقلت لنفسي هذا فرس كامل الركض، وكان تراب الشجر في طريق عرضها سبعة أقدام؛ قد زال عن يمين وشمال في ارتفاع قدره ثلاثة أقدام ونصف قدم، فقلت لنفسي: «إن لهذا الفرس ذيلا بهذا الطول قد أزال بخطواته التراب عن هذه الأشجار.» ورأيت تحت الشجر الذي يمد من أغصانه مهدا يرتفع خمسة أقدام ورقا حديث عهد بالسقوط، فعرفت أن هذا الجواد قد مس الغصون، وأن ارتفاعه خمسة أقدام، أما شكيمته فيجب أن تكون من ذهب معياره ثلاثة وعشرون قيراطا؛ لأنه حك بها حجرا يقاس به الذهب وقد جربته، ثم عرفت آخر الأمر من آثار سنابكه على حجر من نوع آخر أن هذه السنابك من فضة معيارها أحد عشر دانقا.»

وقد أعجب القضاة جميعا بدقة زديج وفطنته، وارتفع أمر هذه القصة إلى الملك والملكة، فلم يكن للناس حديث في القصر إلا زديج، ومع أن جماعة من الكهنة قد أشاروا بتحريقه لأنه ساحر، فقد أمر الملك أن ترد إليه غرامة أربعمائة المثقال من الذهب التي فرضت عليه، وقد أقبل الكتاب والحجاب والنواب إلى داره في موكب عظيم، يحملون إليه المثاقيل أربع المائة، ولم يحتجزوا منها إلا ثلاثمائة وثمانية وتسعين مثقالا على أنها نفقات القضاء، وطلب خدامهم بعض العطاء.

وقد رأى زديج إلى أي خطر يتعرض الإنسان حين يكون واسع العلم، وعاهد نفسه على ألا يقول ما يرى حين تسنح له أول فرصة.

وقد سنحت هذه الفرصة بعد وقت قصير، فقد هرب سجين من سجن الدولة ومر من تحت نافذته؛ فلما سئل زديج أجاب بأنه لم ير شيئا، ولكن الحجة أقيمت عليه أنه كان ينظر من نافذته، وقضي عليه بغرامة قدرها خمسمائة مثقال من ذهب، وشكر هو قضاته لأنهم رفقوا به، كما جرت العادة في بابل أن يرفع المحكوم عليهم شكرهم إلى القضاة. قال زديج لنفسه: «يا لله! إن الإنسان لخليق بالرثاء حين يتنزه في غابة مرت بها كلبة الملكة وجواد الملك، وإنه لخطر أن ينظر الإنسان من نافذته، وإنه لعسير أن يسعد الإنسان في هذه الحياة.»

الفصل الرابع

الحسود

أراد زديج أن يتعزى بالفلسفة والصداقة عما جر الحظ عليه من الآلام، وكانت له في ضاحية من ضواحي بابل دار أنيقة قد زينت في ذوق، جمع فيها ألوان الفنون وضروب اللذات التي تليق بالمثقف الكريم، فكانت خزانة كتبه مفتوحة في الصباح للعلماء جميعا، وكانت مائدته في المساء ممدودة لكرام الرفاق، ولكنه لم يلبث أن تبين أن خطر العلماء شديد، فقد أثيرت خصومة عنيفة حول قانون من قوانين زرادوشت كان يحظر أكل العنقاء.

قال بعضهم: «كيف يحرم أكل العنقاء مع أنها غير موجودة؟» وقال بعضهم: «يجب أن تكون موجودة ما دام زرادوشت قد حرم أكلها.» وقد أراد زديج أن يوفق بين المختصمين فقال: «إذا وجدت العنقاء فلنتجنب أكلها، وإذا لم توجد فليس إلى أكلها سبيل، وكذلك نطيع جميعا أمر زرادوشت.»

وكان هناك عالم قد ألف كتابا من ثلاثة عشر مجلدا في خصائص العنقاء، وكان فوق ذلك من كبار أصحاب الكرامات، فأسرع إلى عظيم من الكهنة يسمى بيبور، وكان أشد الكهنة حمقا، وأشدهم من أجل ذلك تعصبا، فاتهم أمامه زديج، وكان هذا الكاهن خليقا أن يذيق زديج عذاب الهون تمجيدا للشمس، وأن يتلو في أثناء ذلك كتاب زرادوشت راضي القلب مطمئن الضمير، ولكن الصديق كادور - وصديق واحد خير من مائة قسيس - زار بيبور الشيخ وقال له: «لتحي الشمس، ولتحي العنقاء! احذر أن تعاقب زديج فهو قديس، يملك في داره ضروبا من العنقاء، ولكنه لا يأكل منها، وخصمه الذي يتهمه صاحب بدعة يزعم أن للأرنب رجلا مشقوقة، وأنها ليست حيوانا نجسا.» قال بيبور وهو يهز رأسه الأصلع: «هذا حسن، فلنعذب زديج لأنه ذكر العنقاء بالسوء، ولنعذب خصمه لسوء رأيه في الأرنب.» وقد استطاع كادور أن يصلح الأمر بواسطة غانية من غواني الشرف، كان قد أولدها ولدا، وكانت لها مكانة ممتازة عند جماعة الكهنة، ولم يعذب أحد، فجمجم لذلك بعض العلماء، وتنبئوا بسقوط بابل، وصاح زديج: «ما قوام السعادة؟ كل شيء في هذا العالم يضطهدني حتى الكائنات التي لا توجد.» ومقت العلماء وأزمع ألا يحيا إلا مع أصدقاء لذته.

ثم جعل يجمع في داره أشرف الرجال وأجمل النساء من أهل بابل، وكان يولم لهم ولائم أنيقة، ويقوم بين يديها بفنون من الموسيقى، وضروب من الأحاديث العذاب التي حرص على أن تبرأ من تكلف النكتة؛ لأن هذا التكلف هو أقرب الطرق إلى إفساد الذوق وإفساد الصلات بين الناس، ولم يكن للغرور أثر في تخير الأصدقاء ولا في تخير أصناف الطعام؛ لأنه يؤثر الحقائق على المظاهر، فيظفر من الإكبار والتقدير بما لم يكن يريد.

وكان يقيم في دار أمام داره أريماز، رجل كان منظره البشع يصور سوء سريرته، كان الحسد يأكل قلبه والكبر ينفخ جسمه، وكان على ذلك مملا لكثرة تكلفه في الحديث، لم يتح له النجاح قط، فكان يتعزى عن ذلك بالغيبة، وكان على ثرائه يجد أشق الجهد في أن يجمع حوله المتملقين، وكانت ضوضاء العربات التي تدخل دار زديج كل مساء تؤذيه، وكان الثناء على زديج يزيده حنقا إلى حنق، وكان يلم بدار زديج أحيانا، ويجلس إلى المائدة دون أن يدعى إليها، فكان يفسد بمحضره بهجة الجماعة، كما يقال عن بعض الطير البغيضة: إنها تفسد ما تمس من الطعام، وقد هم ذات يوم أن يولم تكريما لإحدى السيدات، ولكنه بدا له فلم يستقبلها، وتناول العشاء عند زديج، وكان مرة أخرى يتحدث إلى زديج في القصر وهما يسعيان، فلقيهما أحد الوزراء، وإذا هذا الوزير يدعو زديج إلى طعامه دون أن يدعو صاحبه، وأشد أنواع العداوة لا يعتمد غالبا على أسباب أعظم خطرا من هذه الأسباب التافهة.

وقد أزمع هذا الرجل الذي كان يعرف في بابل كلها بالحسود أن يهلك زديج؛ لأن الناس كانوا يلقبونه بالسعيد، وفرص الإساءة تسنح مائة مرة في اليوم على حين لا تسنح فرصة الإحسان إلا مرة واحدة في العام كما يقول زرادوشت.

وقد زار الحسود ذات يوم زديج، فلقيه يتنزه في الحديقة مع صديقين وسيدة حسناء كان يوجه إليها بين حين وحين بعض الغزل، لا يريد به أكثر من قوله، وكان الحديث يدور حول حرب انتصر فيها الملك على أمير من عماله في أركانيا، وكان زديج قد أشاد بشجاعة الملك، وجعل يثني عليه ويثني على هذه السيدة، وقد أخذ لويحة وكتب عليها أبياتا أربعة دفعها إلى السيدة لتقرأها، فطلب إليه أصدقاؤه أن ينشدهم إياها، فمنعه من ذلك التواضع أو شيء من الاعتداد بالنفس، كما يكون عند الرجل الكريم، وكان يعلم أن الشعر المرتجل لا يلائم إلا من وجه إليه من الناس، فحطم لويحته التي كتب فيها هذه الأبيات شطرين، وألقاهما بين جماعة من الورد، ثم طال البحث عنهما في غير غناء، وقد تلبث الحسود في الحديقة بعد انصراف الجماعة، وألح في البحث حتى وجد شطرا من شطري اللويحة، وكانت اللويحة قد حطمت بحيث أصبح كل شطر من أشطر الأبيات مستقلا يدل على معنى خاص، وأرادت المصادفة الغريبة أن تدل هذه الأبيات المشطورة القصار على معنى يصور أبشع هجاء للملك، فقد كان يقرأ فيها:

بأقبح جريمة

ثبت على العرش

من هو في السلم العام

عدو وحيد.

وقد سعد الحسود لأول مرة في حياته، فبين يديه ما يمكنه من أن يهلك رجلا خيرا محببا إلى النفوس، وقد ملأته هذه السعادة القاسية، فأوصل إلى الملك هذا الهجاء الذي خطته يد زديج، وإذا زديج يلقى في السجن ومعه السيدة وصديقاه، ثم نظرت قضيته على عجل دون أن يؤذن له بالدفاع عن نفسه، فلما أحضر ليسمع الحكم عليه مر في طريقه بالحسود الذي قال له إن شعره سخيف لا قيمة له، ولم يكن زديج يزعم أنه شاعر مجيد، ولكنه كان غارقا في اليأس لأخذه بجريمة هجاء الملك، ولأنه يرى سيدة وصديقين يظلون في السجون مع أنهم لم يقترفوا إثما، ولكن كذلك كانت قوانين بابل، وقد سيق إلى العذاب، فجعل يسلك طريقه بين جماعة من المستطلعين لا يستطيع أحد منهم أن يظهر رثاء له أو عطفا عليه، وإنما كانوا يسرعون إليه لينظروا في وجهه وليتبينوا أيستقبل الموت مبتسما له مرتاحا إليه، وكانت أسرته وحدها حزينة؛ لأنه لم يترك لها ميراثا، إذ كانت ثلاثة أرباع ثروته مصادرة لخزانة الملك، وربعها مصادرا مكافأة للحسود.

وبينما كان زديج يتهيأ للقاء الموت طارت ببغاء الملك من إحدى شرفات القصر إلى حديقة زديج، فوقعت على جماعة من الورد، وهناك كانت خوخة قد سقطت من إحدى الأشجار، فأصابت قطعة من لويحة من لويحات الكتابة فلصقت بها، واحتملت الببغاء الخوخة وما لصق بها، ومضت حتى وضعت ذلك في حجر الملك، وكان الملك طلعة، فقرأه في هذه القطعة من اللويحة كلمات لا تدل على شيء، ولكنها تشبه أن تكون قوافي لبعض الشعر وكان يحب الشعر، وللملوك الذين يحبون الشعر حظ من سعة الحيلة، فدعته مغامرة ببغائه إلى التفكير، وكانت الملكة تذكر ما كتب على القطعة التي حملها حاسد زديج فأمرت بإحضارها، فعورضت القطعتان وتبين أنهما تتفقان اتفاقا تاما، وهنالك قرئت الأبيات كما كتبها زديج فإذا هي كما يأتي:

لقد رأيت الأرض تملؤها اضطرابا أعظم الجرائم

وقد ثبت الملك على العرش قادرا على ضبط كل شيء

وإذا وسعت السلم كافة الناس، فالحب وحده هو الذي يثير الحرب

وهو العدو الوحيد الذي يجب أن يخاف.

وما هي إلا أن يأمر الملك بإحضار زديج ليمثل بين يديه، وبأن يخرج من السجن صاحباه والسيدة الجميلة، فلما مثل زديج بين يدي الملك والملكة قبل الأرض بين أيديهما، وتوسل إليهما أن يغفرا له لهذه الأبيات الرديئة التي اقترفها، وقد تحدث في ظرف ولباقة وذكاء، فرغب الملك والملكة في أن يرياه، وقد عاد فازداد إعجابهما به، وقد أهديت إليه ثروة الحسود الذي كاد له بغير الحق، ولكن زديج رد هذه الثروة إلى الحسود الذي لم يتأثر إلا بأن ثروته قد ردت إليه، وقد جعل رضا الملك عن زديج يزداد من يوم إلى يوم؛ فكان يحضره كل لذاته ويشاوره في كل أعماله، وجعلت الملكة منذ ذلك الوقت تنظر إليه في شيء من العطف كان خليقا أن يصبح خطرا عليها وعلى زوجها الملك العظيم وعلى زديج وعلى الدولة كلها، وجعل زديج يظن أن ليس من العسير أن يكون الإنسان سعيدا.

الفصل الخامس

الكريم

وقد أقبل العيد الذي كان يقام في بابل كل خمسة أعوام، وكانت العادة قد جرت بأن يعلن في بابل كل خمس سنين اسم الرجل الذي أتى عملا يدل على الكرم والفضل، وكان العظماء والكهان هم القضاة، وكان محافظ المدينة يعرض أمام القضاة أحسن ما أبلى الناس من بلاء أثناء ولايته للحكم، ثم يتداول القضاة وينطق الملك بالحكم، وكان الناس يأتون إلى هذا الحفل من أقصى الأرض، وكان الفائز يتلقى من يد الملك كأسا من الذهب الخالص مرصعة بنفيس الجوهر، ويسمع من الملك هذه الكلمات: «تقبل جائزة الكرم هذه، وليكثر الله بين رعيتي من أمثالك.»

فلما كان يوم العيد ظهر الملك على عرشه يحف به وجوه الدولة وكهانها ونواب الأقاليم الذين أقبلوا يشهدون هذا اليوم الذي لا يكتسب فيه المجد بسباق الخيل ولا باصطراع المصطرعين، وإنما يكتسب بالاستباق إلى الفضيلة والتنافس في الخير، وقد عرض محافظ المدينة بصوت جهوري الأعمال النبيلة التي تؤهل أصحابها لهذه الجائزة السامية، فلم يذكر كبر النفس الذي أتاح لزديج أن يرد على الحسود ثروته، فلم يكن هذا العمل من الأعمال التي تهيئ صاحبها للاشتراك في هذه المسابقة.

وإنما قدم أول الأمر اسم قاض دفع في بعض القضايا إلى خطأ لم يكن مسئولا عنه، فنزل عن ثروته كلها للخصم الذي خسر قضيته بهذا الخطأ، وكانت ثروة القاضي تعدل ما خسر الخصم.

ثم قدم بعد ذلك اسم فتى كان يحب فتاة أشد الحب ويريد أن يتخذها له زوجا، ولكنه علم أن لها محبا يكاد يهلكه الحب فنزل له عنها، ثم لم يكتف بهذه المكرمة، وإنما أدى المهر من ماله الخاص.

ثم قدم بعد ذلك اسم جندي أبلى في حرب هيركانيا بلاء حسنا، يتضاءل بالقياس إليه بلاء سابقيه، فقد اختطف جنديان من جيش العدو خليلته، وكان يدافع عنها ليستردها منهما، وإذا النبأ يصل إليه بأن جنودا آخرين من جيش العدو يريدون أن يختطفوا أمه غير بعيد منه، فترك خليلته باكيا، وأسرع فاستنقذ أمه، ثم عاد إلى خليلته فوجدها تحتضر، فهم أن يقتل نفسه حزنا، ولكن أمه بينت له أنه وحيدها وليس لها عائل غيره، فكان له من الشجاعة ما أعانه على احتمال الحياة في سبيل أمه.

وكان القضاة يميلون إلى هذا الجندي، ولكن الملك قال: «إن بلاءه وبلاء من سبقه حسن، ولكنه لا يدهشني، أما زديج فقد أبلى أمس بلاء راعني، فقد غضبت منذ أيام على وزيري وعلى أثيري كوريب، وكنت ألومه في عنف شديد، وكانت الحاشية كلها تؤكد لي أني كنت به رفيقا، وكانوا جميعا يستبقون أيهم يكون أشد إساءة في القول إلى كوريب، فسألت زديج عن رأيه فيه، فإذا هو يجترئ فيثني عليه، وأعترف أني قرأت في تاريخنا أن الناس كثيرا ما أصلحوا خطأهم بإنفاق أموالهم كلها، وأنهم كثيرا ما نزلوا عن خليلاتهم وآثروا أمهاتهم على عشيقاتهم، ولكني لم أقرأ قط أن رجلا من أهل القصر استطاع أن يثني على وزير مقال قد غضب عليه ملكه غضبا شديدا، وإني أمنح كل واحد من هؤلاء الأبطال عشرين ألف دينار ذهبا خالصا، ولكني أخص بالكأس زديج.»

قال زديج: مولاي! إن جلالتك وحدها هي التي تستحق الجائزة؛ لأنها أتت عملا لا نظير له في الروعة، فأنت يا مولاي ملك، وأنت مع ذلك لم تغضب على عبدك حين اجترأ على أن يعارضك وأنت مغيظ.

وقد أعجب الناس بالملك وبزديج، وتلقى القاضي الذي نزل عن ثروته، والعاشق الذي زوج خليلته من صديقه، والجندي الذي آثر سلامة أمه على عشيقته هدايا الملك، ورأوا أسماءهم تسجل في سجل الكرماء، وتلقى زديج الكأس، واشتهر الملك بأنه ملك عظيم خير، ولكنه لم يحتفظ بهذه الشهرة وقتا طويلا، واختص هذا اليوم بأعياد أطول مما قرر القانون، وما زال الناس يذكرون هذه الأعياد في آسيا إلى الآن، وكان زديج يقول: «إني إذن لسعيد.» ولكنه كان مخطئا.

الفصل السادس

الوزير

وقد فقد الملك وزير الأكبر فاختار زديج ليشغل هذا المنصب، وصفقت لهذا الاختيار حسان بابل جميعا، فلم تعرف الدولة منذ إنشائها وزيرا له هذا الشباب، وحزن رجال القصر جميعا حتى انتهى الأمر بالحسود إلى السل الذي انتهى به إلى أن يبصق دما، وورم أنفه ورما مروعا.

أما زديج فقد رفع شكره إلى الملك والملكة، ثم ذهب ليهدي شكره إلى الببغاء قائلا لها: «أيها الطائر الجميل، لقد أنقذت حياتي، وجعلتني وزيرا أكبر، ما أكثر ما أساءت إلي كلبة الملكة وجواد الملك، وما أكثر ما قدمت إلي أنت من الإحسان! وكذلك يتعلق مصير الناس بأوهى الأسباب.» ثم أضاف إلى ذلك قوله: «ولكن هذه السعادة الغريبة خليقة أن يكون أمدها قصيرا.» قالت الببغاء: «نعم!» فوجم زديج هذا الجواب، ولكنه على ذلك كان عالما بطبائع الأشياء والأحياء، وكان يعرف أن الببغاء لم تطلع قط على علم الغيب، فلم يلبث أن عاد إلى الثقة والاطمئنان، ونهض بأعباء الوزارة على أحسن وجه ممكن.

فأشعر الناس جميعا بما للقوانين من سلطان مقدس، ولم يشعر أحدا ما بثقل كبريائه الخاصة، ولم يفرض رأيه على الديوان، وإنما كان لكل وزير أن يجهر برأيه دون أن يسوءه أو يتعرض لسخطه، وكان إذا جلس للقضاء لم يقض هو، وإنما كان يترك القضاء للقانون، ولكنه كان يلطف القانون إن آنس فيه قسوة أو غلوا في العنف، وكان إذا حدثت واقعة لم يعرض لها القانون قضى فيها بالعدل حتى كأنه زرادوشت.

فمنه تعلمت الأمم هذا المبدأ الخطير، وهو أن إنقاذ المجرم خير من الحكم على البريء، وكان يعتقد أن القوانين شرعت لإغاثة المواطنين كما شرعت لإخافتهم، وكان يمتاز بالحرص على إظهار الحقيقة التي يحرص الناس كلهم على إخفائها.

ولم يكد ينهض بأعباء الحكم حتى انتفع فيه بذكائه كله، وكان تاجر كبير من تجار بابل قد قضى نحبه في الهند، وكان قد قسم ثروته بين ابنيه قسمة عدلا على أن يزوجا أختهما، ثم ترك ثلاثين ألف دينار ذهبا على أن تكون منحة لأي ابنيه يظهر أنه أشد حبا لأبيه؛ فأما الابن الأكبر فاتخذ لأبيه قبرا، وأما ابنه الأصغر فزاد من نصيبه في الميراث مهر أخته، وكان الناس يقولون: «إن الابن الأكبر مؤثر أباه، على حين أن الابن الأصغر يؤثر أخته، فللابن الأكبر يجب أن تئول هذه الثلاثون ألفا من الدنانير.»

أما زديج فدعاهما إلى المثول بين يديه واحدا في إثر صاحبه، وقال للأكبر: «إن أباك لم يمت، وإنما برئ من علته الأخيرة، وعاد إلى بابل.» قال الفتى: «الحمد لله، ولكن هذا القبر قد كلفني كثيرا من المال!» قال زديج للابن الأصغر ما قاله لأخيه، فقال: «الحمد لله لأردن إلى أبي نصيبي من الميراث، ولكني أود لو ترك لأختي ما قدمت إليها منه.» قال زديج: «لن ترد شيئا، وستساق إليك الثلاثون ألفا من الدنانير، فأنت الذي تؤثر أباك بالحب.»

وكانت فتاة عظيمة الثراء قد وعدت كاهنين بالزواج، وبعد أن تثقفت أشهرا على الكاهنين أصبحت حاملا ذات يوم، وكان كلا الكاهنين يريد أن يتخذها لنفسه زوجا، أما هي فأعلنت أنها لن تختار منهما إلا الذي أتاح لها أن تمنح الدولة مواطنا جديدا، قال أحدهما: «فأنا الذي أتاح لها هذا المواطن.» قال الآخر: «بل أنا الذي أتيحت له هذه المزية.» قالت الفتاة: «فإني أختار منكما أيكما يكون أقدر على أن يربي الطفل تربية ممتازة.» وقد ولدت غلاما وتنافس الكاهنان في تربيته، وقد رفعت القضية إلى زديج، فدعا الكاهنين وقال لأولهما: «ماذا تريد أن تعلم الصبي؟» قال الكاهن: «سأعلمه الخطابة والمنطق والفلك وخصائص الشياطين، وسأعلمه حقيقة الجوهر والعرض والمجرد والمركب، والوحدات التي يتألف منها الكون والنظام الذي سبق به القضاء.» وقال الكاهن الآخر: «سأحاول أن أجعله عدلا خليقا بأن يكون له أصدقاء.» قال له زديج: «لتكن أباه أو لا تكن، فأنت الذي سيتزوج أمه.»

وكانت الشكوى ترتفع إلى القصر في كل يوم من حاكم ميديا، وكان يسمى إيراكس، فقد كان سيدا عظيما كريم الطبع، قد أفسده الغرور وحب اللذة، وكان لا يكاد يحتمل أن يتحدث إليه الناس، ولا يسمح بأن يخالفه مخالف، ولم يكن الطاووس أشد منه غرورا، ولم يكن الحمام أشد منه إيثارا للذة، ولم تكن السلحفاة أشد منه حبا للكسل، ولم يكن ينعم إلا بالمجد الباطل واللذة الكاذبة، وقد حاول زديج إصلاحه، فأرسل إليه من قبل الملك موسيقيا بارعا يصحبه اثنا عشر من المغنيين، وأربعة وعشرون من الموقعين، وأرسل إليه مع هؤلاء قيما على الخدمة ومعه ستة من السعاة وأربعة من الحجاب لم يكن يباح لهم أن يتركوه، وصدر أمر الملك باتباع النظام الآتي دون مخالفة عنه أو خروج عليه، وإليك كيف نفذ هذا النظام.

لم يكد إيراكس يفيق من نومه في اليوم الأول حتى دخل عليه أستاذ الموسيقى، ومعه المغنون والموقعون، فغنوا له أغنية استمرت ساعتين، وكان يتردد فيها كل ثلاث دقائق هذا الكلام:

ما أحسن بلاءه!

ما أجمله! ما أعظم خطره!

ما أجدر مولانا!

بأن يرضى عن نفسه!

فلما فرغ المغنون تقدم أحد الحجاب فألقى بين يديه خطبة استمرت ثلاثة أرباع الساعة، لم تشتمل إلا على الثناء عليه بما ليس فيه، فلما انتهت الخطبة قيد إلى المائدة على نغم الموسيقى، وقد اتصل الغداء ثلاث ساعات لم يكن يهم فيها بالكلام حتى يقول الحاجب الأول: «لن يقول إلا صوابا.» ولا يكاد ينطق بكلمات أربع حتى يقول الحاجب الثاني: «لقد أصاب.» ويضحك الحاجبان الآخران مما قال أو مما كان يمكن أن يقول، فإذا فرغ من غدائه أعيدت عليه الأغنية.

وقد وجد في يومه الأول لذة أي لذة، واعتقد أن الملك إنما أراد أن يعطيه حقه من التكريم، فلما كان اليوم الثاني وجد فيه من اللذة أقل مما وجد في اليوم الأول، فلما كان اليوم الثالث ضاق به شيئا، فلما كان اليوم الرابع لم يستطع له احتمالا، فلما كان اليوم الخامس وجد فيه عذابا شديدا، ثم ضاق آخر الأمر بكثرة ما كان يقال له من أنه خليق أن يرضى عن نفسه، وبكثرة ما كان يقال له لقد أصاب، وبكثرة ما كان يلقى بين يديه من الخطب في ساعة معينة من كل يوم؛ فكتب إلى القصر يتوسل إلى الملك في أن يتفضل فيسترد حجابه ومغنيه وخدامه، ويعد بأنه سيحرص على أن يكون في مستقبل أيامه قليل الغرور كثير النشاط، ثم أعرض عن الثناء الباطل واللذة الكاذبة وأصبح سعيدا، «فإن اللذة المتصلة ليست من اللذة في شيء» كما يقول الكتاب المقدس للبراهمة.

الفصل السابع

الاستقبالات والخصومات

وكذلك كان زديج يظهر في كل يوم دقة ذكائه وكرم نفسه، وكان الناس يعجبون به، وكانوا مع ذلك يحبونه، ويرون أنه أسعد الناس، وكان اسمه يملأ الدولة كلها، وكان النساء جميعا ينظرن إليه، وكان المواطنون جميعا يثنون على عدله، وكان العلماء يرون أن مكانه منهم مكان الوحي، وكان الكهنة أنفسهم يعترفون بأنه يحيط من العلم بأكثر مما يحيط به عظيمهم الشيخ بيبور، وكان العهد بعيدا بقضية العنقاء، ولم يكن الناس يقبلون إلا ما كان زديج يرى أنه خليق بالقبول.

وكانت في بابل خصومة عظيمة قديمة قد اتصلت منذ خمسة عشر قرنا، وانقسمت لها الدولة إلى فريقين متعاديين: أحدهما كان يرى ألا يجوز أن يتخطى الداخل عتبة المعبد لمترا إلا بقدمه اليسرى، والآخر كان يمقت هذه العادة أشد المقت، ولا يدخل المعبد إلا برجله اليمنى، وجعل الناس ينتظرون يوم العيد الأكبر للنار المقدسة ليروا أي المذهبين يؤثر زديج، وكانت أعين العالم كله تتجه إلى رجليه، وكانت هذه المدينة كلها مضطربة قلقة، ولكن زديج دخل المعبد وثبا فلم يقدم رجلا ويؤخر أخرى، ثم بين للناس في خطبة رائعة أن إله السماء والأرض الذي لا يختص أحدا بفضله لا يؤثر قدما على قدم سواء أكانت اليمنى أو اليسرى.

وقد زعم الحسود وامرأته أن خطبته لم تشتمل على مقدار ملائم من المجاز، وأنه لم يرقص فيها التلال والجبال، وكانا يقولان إن خطبته جافة لا براعة فيها، فليس يرى فيها البحر هاربا ولا النجوم متساقطة، ولا الشمس ذائبة كما يذوب الشمع، فليس له الأسلوب الشرقي الجميل، أما زديج فكان يكفيه أن يكون أسلوبه ملائما لعقله، وقد سار الناس كلهم على أثره، لا لأنه كان على الصراط المستقيم، ولا لأنه كان حريصا على موافقة العقل، بل لأنه كان الوزير الأول.

وهو كذلك قد قضى قضاء حسنا بين الكهنة البيض والكهنة السود، وكان البيض يزعمون أنه من الإثم أن يتجه الناس إلى المشرق إذا صلوا في الشتاء، وكان السود يؤكدون أن الله يكره الذين يصلون إلى المغرب في الصيف، فأمر زديج أن يولي الناس وجوههم في الصلاة حيث يشاءون، وقد نظم وقته، فكان يصرف الأعمال الخاصة والعامة في الصباح، وينفق بقية اليوم في تجميل بابل، وكان يأمر بتمثيل المأساة التي تبكي والملهاة التي تضحك، وقد أحيا هذه العادة بعد أن ماتت؛ لأنه كان عظيم الحظ من الذوق، ولم يكن يزعم أنه يعرف الفن خيرا من أهله، وإنما كان يكافئ أصحاب الفن بالمال وأنواع التمييز، ولا يخفي الغيرة من تفوقهم، فإذا كان المساء فرغ لتسلية الملك والملكة خاصة، وكان الملك يسميه الوزير الأكبر، وكانت الملك تسميه الوزير الظريف، وكانا يضيفان كلاهما أن الدولة كانت تتعرض بفقده لشر عظيم.

ولم يتح لوزير قط أن يستقبل السيدات بمقدار ما كان يستقبلهن، وكان أكثر من يسعين إليه يعرضن عليه أمورا لا تعنينهن ليحدثن بينهن وبينه أمورا ذات بال، وكانت زوج الحسود منهن في الطليعة، وقد أقسمت له بمترا وبالزند أفستا وبالنار المقدسة أنها كرهت سيرة زوجها معه، ثم أسرت إليه بعد ذلك أن هذا الزوج غيور عنيف، ثم لمحت له بأن الآلهة يعاقبونه على ذلك، فيحرمونه الاستمتاع بهذه النار المقدسة التي ترفع الناس إلى مكان الخالدين. ثم أسقطت رباط جوربها وقد التقطه زديج في أدبه المألوف، ولكنه لم يرده إلى موضعه من ساق السيدة، وكانت هذه الغلطة - إن صح أن تكون غلطة - مصدرا لخطوب منكرة شداد، لم يفكر زديج في هذه الغلطة، ولكن امرأة الحسود أطالت فيها التفكير.

وجعلت سيدات أخر يزرنه في كل يوم، وقد سجل التاريخ السري لمدينة بابل أنه هفا هفوة واحدة، ولكنه دهش أشد الدهش؛ لأنه لم يجد في هذه الهفوة لذة، ولأنه كان يقبل خليلته لاهيا عنها، وكانت المرأة التي ميزها بهفوته هذه وهو لا يكاد يلتفت إليها وصيفة من وصائف الملكة أستارتيه، وكانت هذه البابلية الرقيقة تقول لنفسها ملتمسة العزاء: «يجب أن يكون هذا الرجل كثير الهموم إلى حد أنه يفكر في همومه أثناء الحب.» وقد أفلتت من زديج في الساعة التي لا يقول الناس فيها شيئا أو لا يقولون فيها إلا ألفاظا مأثورة كلمة نطق بها في غير وعي، وهي: «الملكة»، فظنت البابلية أنه قد ثاب إلى نفسه آخر الأمر وأنه يدعوها ملكته، ولكن زديج مضى في ذهوله حتى نطق باسم الملكة أستارتيه، وخيل إلى السيدة في هذه اللحظة السعيدة أنه كان يقول لها: إنها أجمل من الملكة أستارتيه، وقد خرجت من قصر زديج ومعها طرف كثيرة، فما هي إلا أن تزور زوج الحسود وكانت لها صديقا حميما، فتقص عليها مغامرتها تلك، وتغار هذه لأن زديج آثر عليها صاحبتها.

قالت: «إنه لم يتنزل حتى إلى أن يضع لي رباط الجورب هذا في موضعه، ولقد كرهت هذا الرباط منذ ذلك اليوم.» قالت السيدة السعيدة للسيدة الحسود: «إنك لتتخذين لجواربك نفس الرباط الذي تتخذه الملكة، لعلكما تشتريانه من صانعة واحدة.» ففكرت زوج الحسود طويلا ولم تقل شيئا، ثم أظهرت زوجها الحسود على القصة كلها.

وكان زديج في أثناء ذلك يلاحظ أن شيئا من الذهول يصيبه حين يقضي وحين يستقبل، ولم يكن يعرف كيف يعلل هذا الذهول.

وقد رأى فيما يرى النائم كأنه كان مستلقيا على عشب جاف فيه شوكات تؤذيه، ثم كأنه بعد ذلك قد كان نائما على سرير من الورد، فخرج منه ثعبان لدغ موضع القلب منه بلسانه الدقيق الحاد المسموم، وكان يقول لنفسه: «وا حسرتاه! لقد نمت طويلا على العشب الشائك، ثم ها أنا ذا الآن أنام على سرير من الورد، فما عسى أن يكون هذا الثعبان؟»

الفصل الثامن

الغيرة

وقد جاء شقاء زديج من سعادته نفسها، ومن كفايته بنوع خاص، فقد كان يخلو في كل يوم إلى الملك، فيتحدث إليه وإلى زوجته الجليلة أستارتيه، وكان سحر حديثه يزداد لحرصه على أن يثير الإعجاب، ومكان هذا الحرص من النفوس مكانة الزينة من الأجسام، وقد أثر شبابه وظرفه في نفس أستارتيه تأثيرا لم تفطن له أول الأمر، فجعل حبها ينمو في ظل البراءة، وكانت أستارتيه تستمتع غير متحفظة بالنظر والاستماع إلى فتى عزيز على زوجها الملك، وأثير عند الدولة كلها، ولم تكن تكف عن الثناء عليه عند الملك، والتحدث عنه إلى وصائفها اللاتي كن يضفن إطراء إلى إطراء، وكان كل شيء يعين على أن ينفذ في قلبها ذلك السهم الذي لم تكن تشعر به، وكانت تهدي إلى زديج من الهدايا ما يدل على الميل أكثر مما كانت تقدر، وكانت تظن أنها إنما تتحدث إليه كما تتحدث الملكة إلى وزير قد رضيت عن عمله، على حين أنها إنما كانت تتحدث إليه حديث امرأة رقيقة مرهفة الحس.

وكانت أستارتيه أروع جمالا وأبرع حسنا من سمير تلك التي كانت تكره العور، ومن تلك المرأة التي كادت تجدع أنف زوجها، وما هي إلا أن يثير تبسط أستارتيه مع زديج، وحديثها الرقيق الذي أخذ يسبغ على وجهها شيئا من حمرة، ولحظها الذي كانت تريد أن تحوله، ولكنه كان يستقر على لحظه هو فيذكي في قلبه نارا دهش لها دهشا شديدا، وقد قاوم واستعان بالفلسفة التي كانت تعينه كل ما التمس عندها العون، ولكنها في هذه المرة لم تمدده إلا بنور المعرفة دون أن تخفف من وجده شيئا، وكان الواجب وعرفان الجميل وجلال الملك، كل أولئك يتمثل له كأنه آلهة الانتقام، كان يقاوم وكان ينتصر، ولكن هذا الانتصار الذي كان يجب أن يظفر به كل ساعة كان يكلفه كثيرا من الأنين والدموع، وقد أصبح لا يجرؤ على أن يتحدث إلى الملكة في تلك الحرية الحلوة التي كانت تسحرهما جميعا، وكان إذا لقي الملكة غشيت عينيه سحابة وتقطع حديثه واختلط، فكان يغض بصره، فإذا تحول لحظه على رغمه نحو الملكة رأى عينيها يبللهما الدمع وتنطلق منهما في الوقت نفسه سهام من نار، وكأنما كان كل منهما يقول لصاحبه: «إن الحب يشغفنا ولكننا نخاف الحب، وإن نارا واحدة تحرقنا ولكننا نبغض هذه النار.»

وكان زديج يخرج من عندها هائما واجما قد أثقل قلبه عبء لا قبل له باحتماله، وقد تجاوز الهيام به حده، فأظهر صديقه كادور على مكنون سره، وكان يشبه في ذلك رجلا شق عليه الألم حتى أضناه؛ فانتزع منه صيحة شاكية، وأسال على جبهته عرقا باردا، فظهر من أمره ما كان مستورا.

قال كادور: «لقد تبينت هذا الشعور الذي كنت تريد أن تخفيه حتى على نفسك، فإن للعواطف الجامحة آيات ليس إلى الشك فيها سبيل، فقدر أيها الصديق العزيز - وقد استطعت أنا أن أقرأ في قلبك - كيف تكون حال الملك لو قرأ هذا القلب بعض ما يهينه! فليس للملك عيب إلا أنه أشد الناس غيرة. إنك تقاوم حبك في قوة أشد مما تبذل الملكة لمقاومة حبها، ومصدر ذلك أنك فيلسوف وأنك أنت زديج، أما أستارتيه فامرأة، وهي تبيح للحظها أن يتكلم في غير تحفظ؛ لأنها ما زالت تعتقد أنها غير آثمة، وهي مع الأسف قد اطمأنت إلى براءتها، فيدعوها ذلك إلى الإهمال في التحفظ والاحتياط بالقياس إلى أشياء خارجية لا ينبغي أن تهمل، وسأظل مشفقا عليها ما لم تقترف شيئا تلوم نفسها فيه، ولو قد اتفقتما لهان عليكما خداع الرقباء، فالحب الناشئ المكبوت لا بد من أن يفتضح، أما الحب الذي ظفر بالرضا فهو قادر على أن يستخفي.» وقد اضطرب زديج لهذه الفكرة التي تغريه بخيانة الملك وهو الذي أحسن إليه، ولم يبلغ من الوفاء لملكه قط مثل ما بلغ حين تبين أنه قد تورط في هذه الخطيئة عن غير إرادة منه، ومع ذلك فقد كانت الملكة تكثر من ذكر زديج، وكانت الحمرة تغشى وجهها كلما ذكرته، وكانت حين تتحدث إليه بمحضر الملك تتحمس حينا وتنقطع حينا، وكانت تغرق في التفكير العميق إذا خرج؛ حتى أثار هذا كله شيئا من الاضطراب في نفس الملك، فصدق كل ما رأى وتخيل كل ما لم ير، ولاحظ بنوع خاص أن حذاء امرأته كان أزرق، وأن حذاء زديج كان أزرق، وأن شرائط الملكة كانت صفراء، وأن قلنسوة زديج كانت صفراء، وكانت هذه الأشياء كلها آيات خطيرة بالقياس إلى ملك مترف، وما هي إلا أن يتحول الشك إلى يقين في نفسه الساخطة.

وخدام الملوك والملكات جميعا جواسيس على قلوبهم، فما أسرع ما تبين هؤلاء الخدام أن أستارتيه عاشقة، وأن مؤبدار غيران، وأغرى الحسود امرأته بأن ترسل إلى الملك رباط جوربها الذي يشبه رباط جورب الملكة، وكان هذا الرباط - لشقاء زديج - أزرق، فلم يفكر الملك بعد ذلك إلا في الانتقام، وأزمع في ذات ليلة أن يميت الملكة مسمومة، وأن يميت زديج مشنوقا إذا أسفر الصبح، ثم صدر الأمر بذلك إلى خصي قاس من خصيانه موكل بانتقامه، وكان في غرفة الملك حين أصدر هذا الأمر قزيم أخرس ولكنه سميع، وكان يخالط الملك ولا يخفى عليه من أمر القصر شيء كأنه بعض الحيوان المستأنس، وكان هذا الأخرس القزم وفيا للملكة ولزديج، فلما سمع الأمر بموتهما أحس دهشا لا يعدله إلا ما أحس من هول، ولكن كيف السبيل إلى اتقاء هذا الأمر الفظيع الذي يوشك أن ينفذ في ساعات قلائل؟ لم يكن القزم يحسن الكتابة، ولكنه كان يحسن التصوير، ويجيد المقاربة بين الصورة والأصل، فأنفق شطرا من الليل في رسم ما كان يريد أن يؤدي إلى الملكة من المعنى، وكان رسمه يصور الملك مغيظا محنقا مصدرا أمره إلى الخصي، ومائدة غير بعيدة قد ألقي عليها حبل أزرق ورباط جورب أزرق وشريط أصفر وقام عليها إناء، والملكة في وسط اللوحة تحتضر بين أذرع وصائفها، وزديج مخنوق تحت قدميها، وكان الأفق يصور طلوع الشمس ليدل بذلك على أن هذا الأمر المنكر سينفذ إذا أسفر الصبح؛ فلما أتم صورته أسرع إلى وصيفة من وصائف الملكة وأفهمها أن هذه الصورة يجب أن تصل إليها من الفور.

وفي أثناء الليل طرق باب زديج ثم أوقظ ودفعت إليه رسالة من الملكة، فيشك في أنه حالم أو عالم، ثم يفض الرسالة بيد مرتعشة، فأي دهش وأي حزن أصابه حين قرأ هذه الكلمات:

النجاء في هذه اللحظة وإلا فقدت حياتك! النجاء يا زديج إني آمرك بذلك وأستحلفك بحبنا وبشرائطي الصفر، لم أكن آثمة ولكني أشعر بأني سأموت مجرمة.

ولم يكد زديج يجد القوة على الكلام، فأمر بدعاء كادور، ولم يقل له شيئا وإنما دفع إليه الرسالة، فأكرهه كادور على الطاعة على أن يأخذ من فوره الطريق إلى ممفيس، قال له: «إن حاولت لقاء الملكة عجلت موتها، فإذا تحدثت إلى الملك عجلت موتها كذلك، فعلي أن أدبر أمرها؛ فدبر أنت أمرك، وسأذيع أنك سلكت طريقك إلى الهند، وسألحق بك بعد قليل وأنبئك بما يكون قد حدث في بابل من الخطوب.»

وفي الوقت نفسه أمر كادور بإعداد نجيبين خفيفين سريعين أمام باب خفي من أبواب القصر، وحمل على أحدهما زديج حملا فلم يكن يستطيع أن يسعى، وإنما كان يوشك أن يموت حزنا، وصحبه خادم واحد، وما هي إلا ساعة حتى كان كادور غارقا في حزن عميق وقد غاب صديقه عن بصره.

ومضى هذا الهارب العظيم، حتى إذا بلغ تلا مشرفا على بابل التفت إلى قصر الملكة ثم أغمى عليه، ولم يفق من إغمائه إلا ليسفح الدمع ويتمنى الموت، فلما قضى حق الملكة التي هي أحب النساء إلى القلوب، وأبعد الملكات صوتا في الآفاق، وفكر فيما قضى عليها من شقاء، عاد إلى نفسه وفكر في أمره، ثم صاح قائلا: «ما حياة الناس إذن؟ أيتها الفضيلة بماذا نفعتني؟ لقد خانتني امرأتان، وهذه الثالثة لم تقترف إثما وقد قضى عليها الموت، كل ما في من خير كان مصدر شقاء لي، ولم أرتفع إلى أرقى المراتب إلا لأهوى إلى الدرك الأسفل من الشقاء، ولو قد كنت شريرا ككثير من الناس لظفرت بما يظفرون به من السعادة.» ومضى في طريقه إلى مصر تثقله هذه الخواطر المهلكة، ويغشى عينيه سحاب الألم، وتعلو وجهه صفرة الموت، وقد هوت نفسه من أعماق اليأس إلى قرار سحيق.

الفصل التاسع

المرأة المضروبة

مضى زديج يهتدي بالنجم في طريقه، وكانت الجوزاء والشعرى تقودانه نحو كانوب، وهو يعجب بهذه الكرات الضخمة من الضوء التي لا تظهر لأعيننا إلا كمستصغر الشرر، على حين تظهر الأرض لمطامعنا شيئا عظيما جليل الخطر، مع أنها ليست في حقيقة الأمر إلى نقطة ضئيلة في هذا الكون، وكان يرى الناس كما هم في الواقع جماعات من الحشرات، يأكل بعضها بعضا على ذرة ضئيلة من الطين، وهذه الصورة الصادقة كانت تلغي شقاءه إلغاء؛ لأنها تضائل من شخصه ومن مدينة بابل نفسها، وكانت نفسه تتجرد من شخصيته، وتثب نحو آفاق اللانهاية، وتلاحظ هذا النظام المستقر الذي يمضي عليه الكون، ولكنه حين كان يثوب إلى نفسه ويتعمق دخيلة قلبه، لم يكن يستطيع إلا أن يفكر في أن أستارتيه قد تعرضت لأعظم الخطر، ولعلها قد لقيت الموت، هنالك كان العالم كله يستخفي، ولم يكن هو يرى إلا أستارتيه تحتضر وزديج يتجرع كأس الشقاء!

وبينما كان يتردد بين هذا المد والجزر من فلسفة رفيعة إلى ألم ممض، جعل يتقدم نحو حدود مصر، وكان خادمه الأمين قد سبق إلى إحدى الضواحي ليلتمس له منزلا، وجعل زديج يتنزه في الحدائق التي تحيط بهذه الضاحية، فرأى غير بعيد من الطريق العامة امرأة مولهة تستغيث بالأرض والسماء، ورجلا يتبعها وقد أخرجه الغضب عن طوره، وقد لحقها الرجل وهي تستعطفه لاثمة ركبتيه، والرجل يشبعها شتما وضربا، فقدر زديج لمنظر هذين المصريين أن الرجل كان غيورا وأن المرأة كانت خائنة، ولكنه حين نظر إلى هذه المرأة ورآها ذات جمال مؤثر، وفيها ملامح من أستارتيه، رق لها وسخط على الرجل، أما هي فأعولت والعبرات تخنقها قائلة لزديج: «أعني، أنقذني من هذا الرجل الذي ليس له نظير في الغلظة والجفاء، أنقذ حياتي.»

هنالك أسرع زديج فألقى بنفسه بينهما ليرد عنها عنف هذا الرجل، وكان له شيء من العلم بلغة المصريين، فقال له في هذه اللغة: «إن كان لك حظ من رحمة، فإني أتوسل إليك أن تحترم الجمال وترفق بالضعف، أتستطيع أن تهين إلى هذا الحد آية من آيات الطبيعة، قد جثت أمامك وليس لها عاصم منك إلا الدموع؟» قال الرجل العنيف: «فأنت تحبها أيضا؟ ومن حقي أن أنتقم منك.» ثم أرسل شعر المرأة الذي كان يجذبه، وصوب إلى الغريب رمحه يريد أن يشق به صدره، وكان زديج محتفظا بهدوئه، فاستطاع أن ينحرف عن الطعنة في يسر، وأخذ بسنان الرمح يجذبه إليه، والمصري يريد أن يحتفظ به، فيتحطم الرمح بين الرجلين، ويسل المصري سيفه فيسل زديج سيفه، ويسعى كلاهما إلى صاحبه، فأما المصري فيرسل ضرباته في غير نظام، وأما خصمه فيتقيها في مهارة، والمرأة جالسة على العشب تصفف شعرها وتنظر إليهما، وكان المصري أقوى من خصمه، وكان زديج أمهر من المصري، أحدهما يقاتل ورأسه يدير ذراعه، والآخر يقاتل وقد ملك الغضب عليه أمره كله، ثم يهجم عليه زديج فيجرده من سلاحه، ولكن المصري يبلغ من الغضب أقصاه، فيهجم على زديج الذي يأخذه فيضغطه فيلقيه على الأرض فيضع ذباب السيف على صدره ويعرض عليه الحياة، هنالك يفقد المصري صوابه، فيستل خنجرا ويجرح به زديج في نفس الوقت الذي كان يهدي إليه العفو فيه، وقد ثارت حفيظة زديج فأغمد سيفه في صدر خصمه، ويدفع المصري صيحة هائلة ثم يلفظ الروح.

ثم يتقدم زديج في خضوع إلى هذه المرأة قائلا لها في صوت هادئ: «لقد أكرهني على أن أقتله، فأنت الآن صرت طليقة قد أمنت شر هذا الرجل الذي لم أر مشبها له في العنف، فماذا تريدين مني الآن يا سيدتي؟» قالت المرأة: «أريد أن تموت أيها المجرم، أريد أن تموت! لقد قتلت حبيبي! وددت لو أمزق قلبك تمزيقا.» قال زديج: «إن لك في الحق لمزاجا غريبا يا سيدتي! لقد كان يضربك ضربا مبرحا، ولقد كاد يسلبني حياتي لأنك طلبت إلي النجدة، فاستجبت لك.» قالت معولة: «وددت لو يضربني الآن ضربا مبرحا! لقد كنت أهلا لما كنت ألقى منه، لقد دفعته إلى الغيرة، وددت لو يضربني الآن وأنت ملقى مكانه.» قال زديج، وقد أخذ منه الدهش والغضب مأخذا عظيما: «سيدتي، إنك لرائعة الحسن، ولكنك أهل لأن أضربك أنا أيضا؛ لأنك شاذة الأخلاق، ولكني لن أكلف نفسي هذا الجهد.» ثم جلس على جمله وسعى نحو الضاحية، ولكنه لا يكاد يمضي إلا قليلا ثم يسمع نبأة، فليتفت وإذا سعاة أربعة من أهل بابل قد أقبلوا مسرعين، فيرى أحدهم هذه المرأة ويصيح: «هذه هي، إنها لتشبه الصورة التي وصفت لنا.» ثم لا يلتفتون إلى الميت، وإنما يحيطون بالسيدة فيخطفونها خطفا، وهي تصيح: «أنقذني مرة أخرى أيها الغريب! إني لنادمة على الإساءة إليك، أنقذني، إني لأعتذر إليك بأني شكوت منك! أنقذني وأنا لك إلى أن أموت.» ولكن زديج كان قد فقد الميل إلى أن يقاتل في سبيلها، فأجابها: «اطلبي المعونة من غيري، فلن تخدعيني مرة أخرى.»

على أنه كان جريحا وكان دمه ينزف، وكان محتاجا إلى بعض العناية، وقد ملأه منظر هؤلاء البابلين الأربعة قلقا، فهم رسل الملك مؤبدار، فيسرع نحو القرية غير متخيل للسبب الذي من أجله يختطف البابليون هذه المرأة، وغير فاهم لأخلاق هذه المرأة نفسها.

الفصل العاشر

الرق

ولا يكاد يدخل القرية المصرية حتى يرى الناس قد أحاطوا به، وهم يتصايحون: «هذا هو الذي اختطف ميسوف الحسناء، وقتل كليتوفيس.» قال زديج: «أيها السادة، ليعصمني الله إلى آخر الدهر من أن أختطف حسناءكم ميسوف، فإنها جانحة مسرفة في الجماح، أما كليتوفيس فإني لم أقتله عن عمد، وإنما دافعت عن نفسي حين اعتدى علي، لقد كان أراد أن يقتلني لأني طلبت إليه في أرفق الرفق أن يكف أذاه عن ميسوف، وكان يضربها ضربا مبرحا، وإنما أنا رجل غريب قد أقبل لاجئا إلى مصر، وليس مما يلائم العقل أن أسعى إليكم مستجيرا بكم، ثم أبدأ بخطف امرأة، وقتل رجل.»

وكان المصريون في ذلك الوقت أولي عدل ورحمة، فقد قاد الشعب زديج إلى المركز، وهناك ضمدت جراحه قبل كل شيء، ثم حقق معه ومع خادمه كل على حدة لاستجلاء الحقيقة، فتبين أن زديج لم يتعمد القتل، ولكنه قد أراق دم إنسان، وكان القانون يقضي عليه بالرق، فبيع جملاه لمصلحة القرية، وفرق ما كان يحمل من ذهب على أهلها، وعرض هو وخادمه للبيع في سوق الرقيق، وقد تنافس فيهما المشترون، وتمت الصفقة لتاجر عربي يسمى سيتوك، على أن ثمن الخادم قد كان أرقى من ثمن سيده؛ لأن الخادم أقدر على العمل وأجدر أن يحتمل من المشقة ما لم يكن سيده يقدر على احتماله، ولم ينظر إلى ما بين السيد وخادمه من تفاوت في العقل والمنزلة، فأصبح زديج إذن عبدا خاضعا لخادمه، وقد قرن كلاهما إلى صاحبه في حبل واحد من رجليهما ثم دفعا إلى بيت سيدهما الجديد، وكان زديج في أثناء الطريق يعزي خادمه ويرغبه في الصبر، ولكنه كان على عادته يفكر في حياة الإنسان ومصيره، وكان يقول لخادمه: «إن الشقاء الذي كتب علي يمتد إليك، فقد دارت الأشياء كلها بالقياس إلي دورة غريبة إلى الآن، فقد قضي علي بالغرامة لأني رأيت كلبة تمر، وأشرفت على الموت من أجل العنقاء، وأرسلت إلى العذاب لأني صنعت شعرا أثنيت فيه على الملك، وكدت أشنق لأن شرائط الملكة كانت صفراء، وها أنا ذا أدفع معك إلى الرق لأن رجلا عنيفا ضرب خليلته، فلنحتفظ بشجاعتنا، فقد يكون لألمنا حد يقف عنده، ولا بد لهذا التاجر العربي من أن يملك الرقيق، ولم لا أكون أنا رقيقا كغيري من الرقيق ما دمت رجلا كغيري من الرجال؟ ولن يكون هذا التاجر قاسيا، فقد ينبغي أن يرفق بعبيده إن كان يريد أن ينال منهم خيرا.» كذلك كان يقول لخادمه على حين كان قلبه مشغولا بمصير الملكة أستارتيه.

وقد ارتحل سيتوك العربي بعد يومين مستصحبا خادميه وإبله إلى صحراء بلاد العرب، وكانت قبيلته تسكن قريبا من صحراء أوريب، وكانت الطريق طويلة شاقة، وكان العربي أثناء السفر يؤثر الخادم على سيده؛ لأن الخادم كان يحسن وضع الأثقال على ظهور الإبل، فكان العربي يخصه بالعناية، وقد نفق أحد الجمال على مسيرة يومين من أوريب، فوزع حمله على الخدم، وحمل زديج نصيبه، وكان سيتوك يضحك حين يرى عبيده جميعا يمشون وقد انحنوا لثقل ما كانوا يحملون، وقد استباح زديج لنفسه أن يبين له سبب هذا الانحناء ففسر له قوانين التوازن، فدهش التاجر وجعل ينظر إليه نظرا جديدا، ولما رأى زديج اهتمامه بما سمع استحث حبه للاستطلاع، فتحدث إليه في أشياء كثيرة كانت تتصل بتجارته، كالثقل النوعي للأشياء التي تختلف مادة وتستوي حجما، وخصائص بعض الحيوان التي تنفع الناس، وطرائق الانتفاع بما لا يظهر فيه نفع؛ فتبين لسيتوك أن خادمه حكيم، فآثره وقدمه على خادمه الذي كان يفضله عليه من قبل، ثم أحسن معاملته، ولم يندم فيما بعد على ما قدم إليه من معروف.

ولم يكد سيتوك يصل إلى مضارب القبيلة حتى استقضى يهوديا خمسمائة مثقال من الفضة، وهو دين كان اليهودي قد اقترضه منه أمام شاهدين، ولكن الشاهدين كانا قد فارقا الحياة، فالتوى اليهودي بالدين حامدا لله أن أتاح له هذه النعمة التي مكنته من أن يجحد دين رجل من العرب، فأفضى سيتوك بهمه هذا إلى زديج الذي كان قد أصبح له مستشارا، قال زديج: «في أي مكان أقرضت مثاقيلك لهذا الكافر؟» قال التاجر: «على صخرة ضخمة قريبا من جبل أوريب.» قال زديج: «وما أخص ما يمتاز به مدينك؟» أجاب سيتوك: «يمتاز بالغدر.» قال زديج: «ولكني أسألك أنشيط هو أم كسل، أحذر هو أم أخرق.» قال سيتوك: «هو بين الذين يلتوون بالدين أعظمهم حظا من النشاط.» قال زديج: «أتأذن أن أكون محاميك أمام القضاة؟» ثم دعا اليهودي أمام المحكمة، وتحدث إلى القضاة على هذا النحو: «يا وسائد العرش الذي يستقر عليه العدل، إني أطلب إلى هذا الرجل نيابة عن سيدي خمسمائة مثقال من الفضة قد التوى بها وأبى أن يؤديها.» قال القاضي: «أعندك بينة؟» قال زديج: «لا! لقد مات الشاهدان، ولكن هناك صخرة عريضة عدت عليها المثاقيل، فإذا أذنت المحكمة بحمل هذه الصخرة، فقد أرجو أن تشهد لي، وسنبقى نحن هنا حتى تحمل الصخرة، وسأرسل من يحملها على نفقة سيدي سيتوك.» قال القاضي: «لا بأس.» وجعل ينظر في قضايا أخرى.

فلما كان آخر الجلسة قال لزديج: «ألم تأت صخرتكم بعد؟» فتضاحك اليهودي قائلا: «تستطيع عظمتكم أن تبقى في الجلسة إلى غد دون أن تحضر الصخرة، فهي تقوم على بعد ستة أميال، ولا يستطيع أن يحولها عن مكانها أقل من خمسة عشر رجلا.» فصاح زديج: «ألم أقل لكم إن الصخرة ستشهد لي؟ فما دام هذا الرجل يعرف مكانها فهو يقر بأن المثاقيل قد عدت عليها.» فبهت اليهودي واضطر آخر الأمر إلى الاعتراف، وأمر القاضي بأن يشد هذا الرجل إلى الصخرة ولا يقدم إليه طعام ولا شراب حتى يؤدي الدين.

ومنذ ذلك الوقت أصبح العبد زديج والصخرة موضع ثقة وثناء في بلاد العرب.

الفصل الحادي عشر

التحريق

وبلغ الرضا من سيتوك أن جعل من عبده لنفسه خليلا، وأصبح لا يستطيع أن يستغني عنه كما كان ذلك شأن الملك في بابل، وكان زديج سعيدا لأن سيده لم يتخذ لنفسه زوجا، وكان يتبين في سيده طبعا ميالا إلى الخير، وكثيرا من الاستقامة في السيرة والإصابة في التقدير، وساءه أن سيده كان يعبد جيش السماء؛ أي الشمس والقمر والنجوم، كما جرت بذلك عادة العرب، وكان يتحدث إليه في ذلك متحفظا أشد التحفظ، ثم قال له آخر الأمر: «إن هذه الكواكب والنجوم ليست إلا أجساما كغيرها من الأجسام، وليست أحق بالتعظيم من شجرة أو صخرة.» قال سيتوك: «إنها كائنات خالدة تحقق لنا منافعنا كلها، فهي تشبع الحياة في الطبيعة، وتدبر فصول العام، وهي بعد ذلك بعيدة عنا بحيث لا نستطيع إلا تقديسها.» قال زديج: «إن البحر الأحمر يحقق لك من المنافع أكثر مما تحقق لك هذه الكواكب، حين يحمل تجارتك إلى الهند، وما يمنعه أن يكون قديم العهد كالنجوم؟ وإذا لم يكن بد من أن تعبد ما بعد عنك، فقد يجب أن تعبد أرض جنجاريد التي هي في أقصى العالم.»

قال سيتوك: «كلا! إن النجوم مشرقة إشراقا يفرض علي عبادتها.» فلما جن الليل أشعل زديج عددا ضخما من المصابيح في الخيمة التي كان يجب أن يجلس فيها إلى العشاء مع سيتوك، فلما أقبل مولاه جثا أمام هذه المصابيح قائلا: «أيها الضوء المشرق الخالد، وفقني دائما لما أريد.» ثم جلس إلى المائدة دون أن ينظر إلى سيتوك، قال سيتوك مدهشا: «ما خطبك؟» قال زديج: «إنما أصنع صنيعك، فأعبد هذه المصابيح وأهمل سيدها وسيدي.» هنالك فهم سيتوك فحوى هذه الإشارة، ونفذت حكمة عبده إلى نفسه، فأعرض عن عبادة المخلوقات وعبد الخالق الخالد الذي فطرها.

وكانت تتحكم في بلاد العرب لتلك الأيام عادة منكرة نقلت إليها من بلاد السيتيين بعد أن استقرت في الهند بفضل البراهمة، وكادت تعم الأرض كلها، وكانت هذه العادة تقضي إذا مات رجل وأرادت امرأته أن تكون قديسة أن تحرق نفسها على جسم زوجها بمشهد من الناس، وكان ذلك يجري في حفل عظيم يسمى حريق الترمل، وكانت القبيلة التي تعد كثيرا من النساء المحرقات تمتاز بحسن الذكر وبعد الصوت، وقد مات عربي من قبيلة سيتوك، فقررت زوجته ألمونا وكانت صالحة أن تتبعه، وأعلنت اليوم والساعة اللذين اختارتهما لتلقي نفسها في النار على قرع الطبول ودعاء المزامير، وقد أظهر زديج لسيتوك أن هذه العادة البشعة مسيئة أشد الإساءة إلى النوع الإنساني، فهؤلاء النساء اللاتي يتركن نهبا للحريق في كل يوم خليقات أن يمنحن الدولة عددا ضخما من المواطنين، وأن يربين أطفالهن على أقل تقدير، وما زال به حتى أقنعه بأن من الخير إلغاء هذه العادة إن كان ذلك ممكنا، قال سيتوك: «لقد مضى أكثر من خمسمائة وألف عام والنساء يحرقن، فأينا يجرؤ على أن يغير قانونا قدسه الزمن؟ هل يوجد شيء أجدر بالاحترام من ظلم بعد به العهد؟» قال زديج: «إن العقل أقدم من هذه العادة، فتحدث أنت إلى شيوخ القبيلة، وسأذهب أنا إلى هذه الأرملة الشابة.»

فتلطف حتى قدم إليها، ثم جعل يتملقها بالثناء على جمالها، ثم بين لها أن مما يحزن ويسوء أن يحرق سحرها العظيم للنار، ثم أثنى على ثباتها وشجاعتها، ثم قال لها: «أكنت تحبين زوجك إذن حبا جما؟» قالت: «أنا؟ كلا لم أحببه قط! لقد كان عنيفا غيورا لا سبيل إلى احتماله، ولكني على ذلك مصرة على أن أحرق نفسي في أثره.» قال زديج: «يجب أن تكون هناك لذة لا نظير لها في أن يحرق الإنسان نفسه حيا.» قالت السيدة: «هذا شيء ترتعد له الفرائص، ولكن لا بد مما ليس منه بد، إني تقية، وما أحب أن أشتهر بالسوء، ولا أن أتعرض للسخرية لاجتناب هذه النار.» فبين لها زديج أنها إنما تحرق نفسها إرضاء لغيرها، وأن الغرور هو الذي يدفعها إلى ذلك، ثم ما زال يرفق بها حتى حبب إليها الحياة شيئا ما، بل استطاع أن يعطفها قليلا على هذا الذي كان يتحدث إليها، ثم قال لها: «ما عسى أن تصنعي لو برئت من هذا الغرور الذي يدفعك إلى النار؟» قالت السيدة: «وا حسرتاه لو برئت من هذا الغرور، لطلبت إليك أن تتخذني لنفسك زوجا.»

ولكن زديج كان مشغولا بحب أستارتيه، فلم ير بدا من أن يروغ عن هذا الدعاء، ثم سعى إلى شيوخ القبيلة، وطلب إليهم أن يصدروا قانونا يحظر على كل أرملة أن تحرق نفسها دون أن تخلو ساعة كاملة إلى فتى من الفتيان، ومنذ ذلك الوقت لم تحرق عربية نفسها، ودانت بلاد العرب لزديج بهذه المكرمة التي ألغى بها في يوم واحد عادة مضت عليها القرون، وأصبح زديج محسنا إلى بلاد العرب كلها.

الفصل الثاني عشر

العشاء

وقد أصبح سيتوك حريصا على ألا يفارق زديج هذا الذي استقرت الحكمة في قلبه، فاستصحبه إلى سوق البصرة؛ حيث كان يلتقي أكبر التجار في جميع أقطار الأرض التي يسكنها الناس، وكان لقاء عدد ضخم من الناس على اختلافهم في الوطن والمنزلة والطبقة مصدر عزاء لزديج عن بعض همه، وقد خيل إليه أن العالم إنما هو أسرة كبيرة قد اجتمعت في البصرة.

فلما كان اليوم الثاني من إقامته في البصرة جلس إلى مائدة العشاء مع جماعة فيهم المصري والهندي من جنجاريد، والنازح من أرض كتاي، واليوناني، والكلتي، وآخرون من الغرباء، وكل هؤلاء الناس قد تعودوا الرحلة إلى شط العرب؛ حتى تعلموا شيئا من العربية كانوا يديرون به الحديث فيما بينهم، وكان المصري يظهر شديد الغضب، وكان يقول: «ما أقبح البصرة من بلد! إن أهلها يأبون أن يقرضوني ألف مثقال من ذهب على أن يرتهنوا بها أقوم عين في الدنيا.» قال سيتوك: «وكيف كان ذلك؟ وما هذه العين التي لم يرتهنوها بهذا المال؟» قال المصري: «جثة عمتي، وكانت أرضى نساء مصر خلقا، وكانت ترافقني دائما، فماتت في بعض الطريق، وقد اتخذت منها أحسن ما عرفت مصر من المومياء، ولو رهنتها في وطني لأخذت عليها كل ما طلبت من مال، وإنه لغريب أن يضن علي بألف مثقال مع أني أقدم في سبيلها هذا الرهن القيم الخطير.» وكان في أثناء غضبه يتهيأ لأكل دجاجة سليق، فأخذ الهندي بيده وصاح متألما: «ماذا تريد أن تصنع؟» قال صاحب المومياء: «أريد أن آكل من هذه الدجاجة.» قال الهندي: «إياك أن تفعل! فقد يجوز أن يكون روح عمتك قد تقمص هذه الدجاجة، وما أراك تحب أن تأكل عمتك، وإن في طبخ الدجاج لإهانة بالغة للطبيعة.» قال المصري الغضوب: «ماذا تريد أن تقول حين تحدثنا عن طبيعتك ودجاجك؟ إنا نعبد الثور ونأكل منه مع ذلك.» قال ساكن شاطئ الجانج: «أيمكن أن تعبدوا ثورا؟» قال المصري: «لا غرابة في ذلك، فنحن نعيش على عبادة الثورة منذ خمسة وثلاثين ومائة ألف من السنين، لم ينكر ذلك أحد منا.» قال الهندي: «خمسة وثلاثون ومائة ألف! هذا غلو في الحساب، فلم تسكن الهند إلا منذ ثمانين ألف سنة، ونحن مع ذلك أقدم منكم، ليس في ذلك شك، وقد حرم علينا براهما أن نأكل من الثور قبل أن تضعوه أنتم على المذابح لتعبدوه، وفي النار لتأكلوه.»

قال المصري: «إنك لتضحكني حين تذكر براهما لتوازن بينه وبين آبيس، وماذا تظن أن براهما قد صنع من غرائب المعجزات؟» قال البراهمي: «هو الذي علم الناس القراءة والكتاب، وهو الذي تدين له الأرض كلها بلعبة الشطرنج.» قال كلداني كان يحاورهما: «لقد أخطأت! إنما يونس الحوت هو الذي أسدى إلى الناس هذه المكارم، فينبغي أن يرد إليه حقه ويعرف له فضله، والناس جميعا ينبئونك بأنه كان كائنا إلهيا له ذيل مذهب ورأس إنسان، وأنه كان يخرج من الماء ليعظ أهل الأرض ثلاث ساعات في كل يوم، وقد ولد له بنون كثيرون وكلهم كان ملكا كما يعرف الناس جميعا، وإن عندي صورة له أعبدها كما ينبغي لها أن تعبد، وللناس أن يأكلوا من لحم الثور ما أحبوا، ولكن ليس لهم أن يطبخوا السمك، ومع ذلك فأنتما تنتميان إلى أصل حديث العهد قليل الحظ من الشرف، فما ينبغي لكما أن تجادلا، فالأمة المصرية لا تعد إلا خمسة وثلاثين ومائة ألف عام، والهند لا تفاخر إلا بثمانين ألف عام، أما نحن فإن تقاويمنا تسجل أربعة آلاف من القرون؛ فاسمعا لي وأعرضا عن هذا الهذيان، وأنا زعيم أن أهدي إلى كل واحد منكما صورة من صور يونس.»

قال ساكن كمبالو: «إني أكبر المصريين، والكلدانيين، واليونان، والكلتيين، وبراهما، والثور آبيس، والحوت العظيم يونس، ولكن ربما كان «اللي» وهو نور الطبيعة أو «القيان» وهو السماء والإله أحق بالتكرمة من الثور والسمك، ولن أقول شيئا عن وطني، فهو أكبر من مصر وبلاد الكلديين والهند جميعا، ولن أجادل في قدم العهد، فحسب الإنسان أن يكون سعيدا، وليس أهون من أن يكون قديم الأصل، وإذا لم يكن بد من ذكر التقاويم فإني أقول إن آسيا كلها تستعير تقاويمنا، وإننا أحسنا وضع التقاويم قبل أن يتعلم الكلدانيون الحساب.»

هنالك صاح اليوناني: «إنكم جميعا لجاهلون! ألا تعلمون أن الكاووس هو أصل كل شيء، وأن المادة والصورة هما اللتان جعلتا العالم كما هو الآن؟» وقد تكلم اليوناني فأطال الكلام، ولكن الكلتي الذي أسرف في الشرب أثناء هذا الحوار ظن أنه أعلم منهم جميعا، وصاح قائلا إنه ليس غير توتة والبلوط شيء يستحق التكريم والإجلال، وإنه هو يحمل دائما من هذا الزهر في جيبه، وإن أجداده السيتيين هم وحدهم أهل الخير في الأرض كلها، وإنهم في الحق ربما أكلوا جسم الإنسان، ولكن ذلك لا يمنع من أن من الحق على الناس أن يعرفوا لهم قدرهم، وأن من ذكر توتة بسوء فسيعلمه كيف ينبغي أن يعيش.

وقد اشتدت الخصومة حينئذ، ورأى سيتوك أن المائدة توشك أن يصبغها الدم، وكان زديج قد احتفظ بالصمت أثناء هذا الحوار كله، فنهض إذ ذاك ثم اتجه إلى الكلتي؛ لأنه كان أشد القوم غضبا، وقال له: إنه مصيب، وطلب إليه بعض زهره، وحمد لليوناني بلاغته، وهدأ النفوس الثائرة، ولم يقل لصاحب كتاي إلا قليلا لأنه كان أعقل القوم جميعا، ثم قال لهم جميعا: «أيها الأصدقاء، لقد كدتم تختصمون في غير طائل؛ لأنكم جميعا متفقون.» هنالك تصايح القوم، قال للسيتي: «أليس من الحق أنك لا تعبد الزهر والبلوط، وإنما تعبد صانعهما؟» قال الكلتي: «لا شك في ذلك.» «وأنت يا سيدي المصري إنما تعبد في بعض الثيرة من خلق لك الثور.» قال المصري: «نعم.» «ويونس الحوت يجب أن يذعن لمن خلق البحر والسمك.» قال الكلداني: «أوافق على ذلك.» قال: «والهندي والكاتي يعترفان من غير شك بالمبدأ الأول لكل شيء، ولم أفهم هذا الكلام الرائع الذي تكلم به اليوناني، ولكنه واثق بأنه يسلم بوجود كائن عظيم هو الذي أنشأ المادة والصورة.» قال اليوناني وقد أحس الإعجاب به إن زديج قد فهم عنه حق الفهم، قال زديج: «فأنتم إذن على رأي واحد، وليس هناك ما يدعو إلى الخصومة.» فأقبل القوم عليه يعانقونه؛ ثم باع سيتوك تجارته بيعا رابحا وعاد مع صديقه إلى قبيلته، ولكن زديج عرف عند وصوله أن قضيته قد نظرت أثناء غيبته، وأن الحكم قد صدر عليه أن يحرق في نار هادئة.

الفصل الثالث عشر

الموعد

وكان كهنة الكواكب قد أزمعوا أثناء رحلته إلى البصرة أن يعاقبوه، فقد كانت جواهر الأرامل اللاتي يرسلن إلى النار وحليهن تئول إليهم، فلم يكن أقل من أن يحرقوا زديج عقابا له على ما جر عليهم من خسارة، فاتهموه إذن بسوء رأيه في جيش السماء، ورفعوا القضية، وأقسموا على أنهم قد سمعوه يقول: إن نجوم السماء لا تغرب في البحر، وقد ارتعد القضاة لهذا الكفر الشنيع، وكادوا يمزقون ثيابهم حين سمعوا هذا المنكر من القول، وقد كانوا أحرياء أن يفعلوا لو علموا أن لزديج من المال ما يعوض عليهم ثيابهم، ولكنهم حين انتهى بهم الألم إلى أقصاه اكتفوا بالحكم عليه أن يحرق في نار هادئة، وقد جزع سيتوك وأنفق ما كان يملك من جهد لينقذ صديقه، ولكنه أكره على الصمت إكراها، هنالك أزمعت الأرملة الشابة ألمونا أن تنقذه، وكانت قد أحبت الحياة بفضل زديج، فأرادت أن تعصمه من النار التي بين لها ما فيها من الظلم، فأدارت رأيها في رأسها دون أن تتحدث به إلى أحد، وكان مقررا أن يحرق زديج من غده، فلم يكن أمام الأرملة إلا الليل لإنقاذه، وإليك الخطة التي دبرتها في رحمة ورفق وحذر.

تعطرت وازينت حتى جعلت جمالها ساحرا فاتنا، ثم طلبت لقاء خاصا إلى رئيس كهنة النجوم، فلما مثلت أمام هذا الشيخ الجليل قالت له: «أيها الابن البكر للدب الأعظم، يا أخا الثور، وابن عم الكلب الأكبر - وكانت هذه ألقاب رئيس الكهنة - لقد أقبلت أفضي إليك بذات نفسي، إني لمشفقة أن أكون قد وقعت في خطيئة عظيمة حين لم أحرق نفسي في أثر زوجي العزيز، وعلى ماذا أردت أن أبقي جسم هالك قد أخذت فيه السن!» قالت ذلك وهي تخرج من كمها الحريري ذراعها العارية ذات الصورة الرائعة والبياض الخلاب، قالت: «انظر، ما أهون هذا وما أقل خطره!» ووجد زعيم الكهنة في دخيلة نفسه أن هذا شيء عظيم الخطر، قالت ذلك عيناه وأكد ذلك فمه، فقد أقسم أنه لم ير قط في حياته أجمل من هذه الذراع، قالت الأرملة: «وا حسرتاه! لعل الذراع أن تكون خيرا من سائر الجسم، ولكنك توافقني على أن النحر لم يكن خليقا بعنايتي.» ثم أظهرت أجمل ثدي صنعته الطبيعة لو قرن إليه زر من الورد على تفاحة من العاج لأذى بها، ولو قرنت إليه الحملان بعد غسلها لظهرت بالقياس إليه صفراء مشبعة بالسمرة، هذا النحر وهاتان العينان الكبيرتان الفاترتان المشرقتان بنار رفيقة وهذان الخدان اللذان يزدهيان بأجمل الأرجوان قد خالطه بياض اللبن النقي، وأنفها الذي لم يكن كبرج جبل لبنان، وشفتاها اللتان كانتا كطرفي محارة من مرجان تضمر أجمل ما في بحر العرب من اللآلئ،

1

كل هذا مجتمعا أشعر الشيخ بأنه ابن عشرين، فأعلن إليه حبه متلعثما، ولما رأته ألمونا ملتهبا سألته العفو عن زديج، قال: «وا حسرتاه! أيتها السيدة الحسناء، لو أجبتك إلى ما تطلبين لما أغنى عفوي عنه شيئا، فقد يجب أن يمضي هذا العفو ثلاثة آخرون من الزملاء.» قالت ألمونا: «فأمض أنت.» قال الكاهن: «مع السرور بشرط أن يكون عطفك ثمنا لعفوي.» قالت ألمونا: «إنك لتغلو في تشريفي، فتفضل بزيارتي إذا غربت الشمس، وأشرقت في الأفق النجمة شيت، فستجدني على إيوان وردي اللون، وستصنع بخادمتك ما تشاء!» ثم خرجت ومعها الإمضاء، وتركت الشيخ يصرعه الحب ويخيفه الشك في قوته، وأنفق سائر اليوم في حمامه، واحتسى شرابا مزاجه من قرفة سيلان وبهار تيدوروترنات، وانتظر وقد كاد يفقد الصبر أن تظهر النجمة شيت في الأفق.

وفي أثناء ذلك مضت ألمونا الحسناء فلقيت الكاهن الثاني، فأكد لها أن الشمس والقمر وكل ما في السماء من نجوم ليست إلا نارا موهومة بالقياس إلى سحرها، فطلبت إليه العفو نفسه، وطلب إليها أن تؤدي ثمنه، فأظهرت الإذعان وضربت موعدا للكاهن الثاني حين تشرق النجمة الجنيب، ثم مضت إلى الكاهن الثالث وإلى الكاهن الرابع، ظافرة دائما بالإمضاء، ضاربة موعدا من نجم إلى نجم. ثم طلبت إلى القضاة أن يلموا بدارها لأمر ذي بال، فلما حضروا أظهرت لهم الأسماء الأربعة، وأنبأتهم بأي ثمن باع الكهنة عفوهم عن زديج، وأقبل كل واحد من الكهنة في موعده، ودهش كل واحد منهم حين رأى زملاءه وبنوع خاص حين رأى القضاة الذين تبينوا خزيهم واضحا، وكذلك نجا زديج، أما سيتوك فقد فتنته مهارة ألمونا فاتخذها له زوجا.

الفصل الرابع عشر

الرقص

وكان على سيتوك أن يذهب بتجارته إلى جزيرة سرنديب، ولكن الشهر الأول لزواجه - وهو كما يعلم الناس جميعا شهر العسل - لم يسمح له بفراق امرأته، ولا بتخيل أنه يستطيع فراقها إلى آخر الدهر، فتقدم إلى خليله زديج أن يقوم عنه بهذه الرحلة، وكان زديج يقول لنفسه: «وا حسرتاه! أيجب أن أمعن في السفر حتى أجعل بين أستارتيه وبيني أبعد الآماد! ولكن يجب أن أخدم من أحسنوا إلي.» قال ذلك ثم بكى ثم ارتحل.

ولم يمض عليه قليل من الوقت في جزيرة سرنديب حتى نظر إليه على أنه رجل متفوق ممتاز، وقد أصبح حكما بين كبار التجار وصديقا للحكماء، ومشيرا على هذه القلة من الناس الذين يحبون أن يستشيروا، وقد أراد الملك أن يراه ويسمع منه، فما أسرع ما عرف قيمته ووثق بحكمته واتخذه خليلا، وقد اضطرب زديج لما وجد عند الملك من إلف ومودة، فقد كان في أثناء الليل والنهار مروعا بما جرت عليه عشرة مؤبدار من شقاء، وكان يقول لنفسه: «لقد أعجبت الملك، أفلا يمكن أن يسوقني هذا إلى التهلكة؟» ولم يكن من الممكن مع ذلك أن يتخلص من لطف الملك، فيجب أن نعترف بأن نابوسان ملك سرنديب ابن نوسناب ابن نابسون ابن سنبوسنا كان من خيرة ملوك آسيا، وكان عسيرا على من تحدث إليه ألا يحبه.

وكان هذا الملك الكريم ممدحا دائما، مغشوشا دائما، مسروقا دائما، وكان صاحب بيت المال في سرنديب قدوة في ذلك يتبعها الموظفون جميعا، وكان الملك يعلم ذلك، وقد غير صاحب بيت ماله غير مرة، ولكنه لم يستطع تغيير السنة المقررة التي تقتضي أن يقسم دخل الملك إلى قسمين غير متساويين، يبقى أصغرهما لجلالته، ويئول أكبرهما إلى الموظفين.

وقد أفضى الملك نابوسان بهمه هذا إلى زديج. قال له ذات يوم: «إنك تعرف أشياء كثيرة قيمة، فهل تعرف الطريق إلى أن أجد خازنا للمال لا يخون؟» قال زديج: «ليس في ذلك شك، إني أعرف السبيل الأمينة إلى أن أجد لك خازنا نقي اليدين.» قال الملك مأخوذا وهو يقبله: «ما عسى أن تكون هذه السبيل؟» قال زديج: «إنما هي أن تدعو المرشحين لهذا المنصب جميعا إلى الرقص، وأيهم كان رقصه خفيفا نشيطا فائتمنه على بيت مالك.» قال الملك: «إنك لتمزح! وإنها لطريقة رائعة يختار بها الأمين على بيت المال، ماذا! أتزعم أن أحسن الناس وثبا وعبثا بقدميه هو الخازن الأمين النقي؟» قال زديج: «لا أزعم لك أنه سيكون أمهر الخزان، ولكني أؤكد لك أنه سيكون أعظمهم حظا من الأمانة.»

وكان زديج يقول هذا في ثقة وحزم، حتى خيل إلى الملك أن لديه سرا خارقا يعرف به دخائل المديرين للأموال، قال زديج: «إني لا أحب الخوارق، وقد ضقت دائما بأصحابها وبالكتب التي تخوض فيها، فإذا أذنت جلالتك لي في تنظيم الامتحان الذي اقترحته فستعلم أن السر يسير لا عسر فيه ولا التواء.» وقد دهش نابوسان ملك سرنديب حين سمع أن هذا السر يسير سهل أكثر مما كان خليقا أن يدهش لو قيل له إن السر خارق لقوانين الطبيعة، قال لزديج: «هو ذاك، فنظم الامتحان كما تشاء.» قال زديج: «دعني أفعل، وستربح من هذا الامتحان أكثر مما تقدر.» وفي اليوم نفسه أعلن باسم الملك أن من يرشح نفسه لإدارة بيت المال للملك نابوسان بن نوسناب فعليه أن يتخذ ثوبا من حرير رقيق، وأن يسعى إلى قصر الملك في اليوم الأول من شهر التمساح، وقد سعى المرشحون إلى القصر، وكان عددهم أربعة وستين رجلا، وكانت قد أعدت في الحجرة المجاورة جوقة موسيقية، وقد أعد للرقص كل شيء، ولكن باب الحجرة ظل مغلقا، وكان من أراد الوصول إلى الحجرة سلك إليها ممرا ضيقا مظلما بعض الشيء، وأقبل حاجب فقاد المرشحين واحدا في إثر واحد إلى الحجرة من هذا الممر، وجعل يترك كل واحد منهم فيه منفردا دقائق، وكان الملك قد عرف سر زديج فعرض كنزه كله في هذا الممر، فلما انتهى المرشحون جميعا إلى الحجرة أمر الملك بترقيصهم، ولم ير أحد قط راقصين رقصوا في غير ظرف ولا خفة كهؤلاء الناس الذين كانوا يرقصون، وقد خفضوا رءوسهم وحنوا ظهورهم وألقوا أذرعهم بجيوبهم، وكان زديج يقول همسا: «يا لهم من خونة!» وكان واحد منهم ليس غير يرقص رقصا خفيفا مرفوع الرأس مطمئن الحظ مستقيم القد ممدود الذراعين ثابت الساقين، وكان زديج يقول: «يا له من رجل شريف! يا له من رجل كريم!» وقد قبل الملك هذا الراقص المجيد، وجعله على خزائنه، وعوقب الآخرون وفرضت عليهم الغرامات في أدق العدل وأقومه؛ فقد كان كل واحد منهم أثناء اجتيازه للممر قد ملأ جيوبه حتى أثقله ما حمل، فلم يكن يرقص إلا في جهد شديد.

وقد حزن الملك على الطبيعة الإنسانية؛ إذ رأى بين أربعة وستين راقصا ثلاثة وستين سارقا، وسمي الممر المظلم دهليز الإغراء، ولو وقع هذا الحادث في فارس لسيق الثلاثة والستون رجلا إلى العذاب، ولو وقع هذا الحادث في بلد آخر لحوكم هؤلاء الناس أمام محكمة ينفق عليها ثلاثة أمثال المال المسروق دون أن تعيد إلى خزانة الملك شيئا، وفي بعض البلاد الأخرى كان هؤلاء السارقون يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم أحسن الدفاع، وأن يصبوا غضب الملك على هذا الراقص الخفيف؛ أما في سرنديب فلم يقض على هؤلاء الناس إلا بإغناء بيت المال؛ لأن نابوسان كان رجلا حليما عفوا.

وكان ذلك عارفا للجميل، فأهدى إلى زديج مالا عظيما أعظم مما سرق أي سارق من خزانة الملك، وقد انتفع زديج بهذا المال، فأرسل رسلا إلى بابل ليعلموا له علم أستارتيه، وقد اضطرب صوته حين أصدر أمره إلى الرسل وعاد دمه إلى قلبه، وغشيت عينيه سحابة من ظلمة، وكادت نفسه تفارقه، وقد أبحر الرسل ورآهم زديج يبحرون، فعاد إلى قصر الملك، ولما لم ير أحدا ظن نفسه في خلوة، فنطق لسانه بلفظ الحب، قال الملك: «الحب! إنه هو الذي يشغلني، لقد استطعت أن تعرف مصدر حزني، إنك لرجل عظيم، وإني لأرجو أن تدلني على الطريق التي أعرف بها امرأة أمينة شريفة كما دللتني على الطريق التي أهديت بها إلي خازنا أمينا.» وقد ثاب زديج إلى نفسه ووعد الملك بأن يعينه على الحب كما أعانه على تدبير المال، وإن كان أمر الحب أشد عسرا.

الفصل الخامس عشر

العيون الزرق

قال الملك لزديج: «الجسم والقلب ...» فلم يستطع البابلي إلا أن يقاطع الملك قائلا: «ما أشد شكري لك؛ لأنك لم تقل العقل والقلب! فإنا لا نسمع إلا هاتين الكلمتين في أحاديث البابليين، وما أكثر ما نقرأ من الكتب التي تتحدث عن القلب والعقل، وقد أنشأها قوم لا حظ لهم من قلب أو عقل، ولكن تفضل يا مولاي فأتمم حديثك.» قال نابوسان: «إن جسمي وقلبي قد خلقا للحب، وقد رضي الأول، ففي قصري مائة امرأة قد خصصت لخدمتي، وكلهن حسان طائعات سابقات إلى ما أريد، بل محبات للذة أو متكلفات هذا الحب ابتغاء مرضاتي، ولكن قلبي بعيد أشد البعد عن السعادة، فقد تبينت أكثر مما ينبغي أن هؤلاء النساء يمتعن ملك سرنديب، ولا يفكرن في نابوسان، ولست أظن بنسائي خيانة أو إثما، ولكن أود لو أجد نفسا تخلص لي، ولو قد ظفرت بهذا الكنز لافتديته بهذه المائة من الحسان اللاتي يمتعنني بسحرهن، فانظر هل تجد في هذه المائة من السلطانات واحدة أستطيع أن أثق بأنها تحبني؟»

فأجابه زديج على نحو ما أجابه حين ذكر له الخزان: «مولاي، دعني أفعل، وأذن لي في أن أتصرف في الكنوز التي عرضتها في الممر، وسأرفع إليك حسابها ولن تفقد منها شيئا.» فترك له الملك الأمر كله، وتخير هو من بين أهل سرنديب ثلاثة وثلاثين رجلا كلهم أحدب، وكلهم قد مني بقبح بشع، وتخير كذلك ثلاثة وثلاثين من خدم القصر كلهم رائع الجمال، وثلاثة وثلاثين كاهنا كلهم فصيح وكلهم قوي، وترك لهم جميعا الحرية في أن يدخلوا على السلطانات في مقاصيرهن، وأتيح لكل أحدب أربعة آلاف دينار يغري بها، فلم يمض اليوم الأول حتى كان الحدب جميعا سعداء، أما خدم القصر الذين لم يكن لديهم ما يعطون إلا أنفسهم فلم ينتصروا إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام، أما الكهنة فقد وجدوا مشقة أشد، ولكن ثلاثة وثلاثين من الصالحات أسمحن لهم آخر الأمر، وكانت للملك نوافذ يشرف منها على هذه المقاصير، فرأى هذا الامتحان كله وبلغ منه العجب أقصاه، وقد رأى تسعة وتسعين من نسائه يسقطن بمنظر منه، وبقيت واحدة شابة حديثة لم يدن منها الملك قط، فأرسل إليها أحدب وأحدبان وثلاثة عرضوا عليها أكثر من عشرين ألف دينار، ولكنها ثبتت على الشرف، وضحكت من هؤلاء الحدب الذين قدروا أن المال يبلغهم ما يشاءون، ثم قدم إليها خادمان هما أروع الخدم جمالا، فقالت: إنها ترى الملك أجمل منهما، ثم أغري بها أفصح الكهنة ثم أقواهم، فوجدت أولهما ثرثارا ولم تلتفت إلى ثانيهما، وكانت تقول: «إن القلب هو كل شيء، ولن أستسلم آخر الدهر لأحدب من أجل ماله، ولا لشاب من أجل جماله، ولا لكاهن من أجل فتنته، إنما أحب نابوسان بن نوسناب، وسأنتظر أن يتنزل فيحبني.»

هنالك غلب الفرح والدهش والحنان على الملك، فأخذ كل ما قدم الحدب إلى النساء من مال، وقدمه هدية إلى السلطانة الشابة، وكانت تسمى فاليد، ثم أهدى إليها قلبه وكانت خليقة به، ولم ير قط زهرة الشباب أشد إشراقا ولا سحر الجمال أشد فتنة للقلوب كما رآهما فيها، والدقة التاريخية لا تسمح بأن تخفي أنها لم تكن تحسن التحية، ولكنها كانت ترقص رقصا رائعا، وتغني كبنات البحر، وتتحدث كآلهة الجمال، وكان حظها عظيما من الفضيلة والذكاء.

وقد أحبت نابوسان، وعبدها هو، ولكن عينيها كانتا زرقاوين، وكانت زرقة عينيها مصدر شقاء عظيم، وكان في بابل قانون قديم يحظر على الملك أن يحب امرأة من هؤلاء النساء التي سماهن اليونانيون فيما بعد ذوات عيون المها، وكان زعيم الكهنة قد شرع هذا القانون منذ خمسة آلاف سنة أراد بذلك أن يستأثر بخليلة الملك الأول بجزيرة سرنديب، وجعل هذا القانون جزءا من دستور الدولة، فما هي إلا أن تسعى طبقات الدولة كلها إلى الملك لترفع إليه احتجاجها، وجرى على الألسنة كلها أن ساعة المملكة قد اقتربت، وأن الشر قد بلغ أقصاه، وأن الطبيعة كلها معرضة لخطر عظيم؛ لأن نابوسان بن نوسناب يحب عينين كبيرتين زرقاوين، وقد امتلأت المملكة بشكاة الحدب ورجال المال والكهنة والنساء السمر.

وانتهز الشعب المتوحش الذي يسكن شمال الجزيرة فرصة هذا السخط العام، فأغار فجأة على مملكة نابوسان الخير، وطلب الملك إلى رعيته مالا، فاكتفى الكهنة الذين يملكون نصف الدولة برفع أيديهم إلى السماء، وأبوا أن يدخلوها في خزائنهم ليعينوا الملك، وأعلنوا صلوات موسيقية رائعة، وتركوا الدولة نهبا للمغيرين المتوحشين.

قال نابوسان: «أيها العزيز زديج، أمنقذي أنت من هذه الورطة أيضا؟» قال زديج: «حبا وكرامة، ستظفر من أموال الكهنة بكل ما تريد، فدع الأرض التي أقاموا عليها قصورهم ودافع عن أرضك وحدها.» وقد استجاب نابوسان إلى زديج، فما أسرع ما أقبل الكهنة إليه ضارعين يلتمسون معونته! وقد أجابهم الملك بصلاة موسيقية رائعة، توسل فيها إلى السماء أن تحمي أرضهم من العدوان، هناك قدم الكهنة أموالهم، وانتهى الملك بالحرب إلى غاية سعيدة، وكذلك جر زديج على نفسه بمشورته الحكيمة الموافقة وخدمته العظيمة عداوة لا هوادة فيها من أكبر رجال الدولة، فأقسم الكهنة والنساء السمر ليهلكنه، وتحالف الحدب ورجال المال على أن ينغصوا عليه الحياة، وما زالوا به حتى شككوا فيه الخير نابوسان، وقد قضى زرادوشت بأن ما يؤدى من خدمة يظل في حجرة الانتظار، وبأن الشك والريبة ينفذان إلى ما وراء الأبواب، وكان كل يوم يتكشف عن اتهام جديد، فأما التهمة الأولى فتدفع، وأما التهمة الثانية فتمس مسا رفيقا، وأما الثالثة فتجرح، والرابعة هي التي تقتل.

وكان زديج قد ارتاع لما رأى، وكان قد باع تجارة صديقه سيتوك وحصل أمواله، فلم يفكر منذ ذلك الوقت إلا في الرحيل، وأزمع أن يذهب بنفسه ليعلم علم أستارتيه، وكان يقول لنفسه: «إن أقمت في سرنديب دفعني الكهنة إلى العذاب، ولكن إلى أين أذهب! سأكون رقيقا في مصر، وسأحرق في أكبر الظن إن ذهبت إلى بلاد العرب، وسأشنق في بابل، ومع ذلك يجب أن أعلم مصير أستارتيه، فلنرتحل ولننظر ماذا ادخر لي القضاء الكئيب.»

الفصل السادس عشر

قاطع الطريق

بلغ زديج الحدود التي تفصل بين بتراء وسوريا، فرأى قصرا عظيما خرج منه أعراب مسلحون، ورأى نفسه وقد أحيط به والأعراب من حوله يتصايحون: «كل ما معك من مال فهو لنا، أما شخصك فلسيدنا.» وقد أجاب زديج فاستل سيفه، وكان خادمه شجاعا فصنع صنيعه، وما هي إلا أن يصرعا من الأعراب أول من تقدم إليهما ليضع عليهما يده، ثم تضاعف العدد فلم يدهشهما ذلك، وإنما أزمعا أن يموتا محاربين، وكان رجلان يقاتلان جماعة ضخمة من الناس، وموقعة كهذه لا يمكن أن تطول، وكان صاحب القصر واسمه أربوجاد ينظر من إحدى النوافذ، فلما رأى بلاء زديج ونجدته أحبه، فنزل مسرعا وأقبل حتى فرق عنه الجماعة وقال: «كل ما مر بأرضي فهو لي، وكل ما وجدت بأرض غيري فهو لي أيضا، ولكني أراك رجلا شجاعا، فقد وضعت عنك ثقل هذا القانون العام.» ثم أدخله القصر، وأمر أصحابه أن يحسنوا العناية به، فلما كان المساء دعاه إلى مائدته.

وكان سيد القصر رجلا من هؤلاء الأعراب الذين يسمون لصوصا، ولكنه كان أحيانا يأتي قليلا من الحسنات بين كثير من السيئات، كان يسرق في كثير من الطمع وحب المال، وكان يعطي في كرم وسخاء، كان شجاعا في الحرب، حلو العشرة، ماجنا على المائدة، مرحا في مجونه، وكان على هذا كله شديد الصراحة، وقد أعجبه زديج إعجابا شديدا، وقد كان حديثه نشيطا حيا، فطال جلوسه إلى المائدة، ثم قال أربوجاد: «إني أنصح لك بأن تنضم إلى جندي، فذلك خير ما تستطيع أن تصنع، فإن هذه المهنة لا بأس بها، وجائز أن تصل ذات يوم إلى ما وصلت أنا إليه.» قال زديج: «هل لي أن أسألك منذ كم مارست هذه المهنة الشريفة؟» أجاب: «منذ شبيبتي الأولى، فقد كنت خادما لعربي ماهر، وكنت أبغض مكاني منه أشد البغض، وكنت شديد الحنق لما كنت أرى من أن هذه الأرض التي سخرت للناس جميعا لم يتح لي منها نصيب؛ فأفضيت بهمي إلى عربي شيخ، فقال لي: يا بني، لا تيأس، فقد كانت في قديم الزمان حبة من رمل تشكو مر الشكوى من أنها ذرة ضئيلة في الصحراء، فلما مضت عليها سنون أصبحت ماسة، وهي الآن أبهى ما يزدان به تاج ملك الهند، وقد أثر في هذا الحديث، كنت حبة الرمل فأزمعت أن أصبح ماسة، وقد بدأت فسرقت فرسين ثم جمعت حولي بعض الرفاق، وتهيأت للسطو على صغار القوافل، وكذلك ألغيت قليلا قليلا ما كان بين الناس وبيني من الفروق، وقد أخذت حظي من متاع هذه الدنيا، ولعلي أن أكون نلت من الخير أضعاف ما احتملت من الحرمان، وقد ارتفعت مكانتي بين الناس وأصبحت أميرا قاطع طريق، وأخذت هذا القصر عنوة، وقد هم حاكم سوريا أن ينتزعه مني، ولكني كنت قد بلغت من الغنى حدا لا أخاف معه شيئا، ثم بسطت سلطاني على جزء عظيم من الأرض، وعهد إلي أن أكون جابيا للإتاوة التي تؤديها بتراء إلى ملك الملوك، وقد جبيت الإتاوة ولكن لم أؤد منها شيئا.

وقد أرسل خازن بيت المال للملك مؤبدار في بابل حاكما ما ليشنقني، وقد أقبل هذا الرجل ومعه الأمر بشنقي، وكان يعلم كل شيء، وقد شنقت بين يديه الأشخاص الأربعة الذين استصحبهم لشنقي، ثم سألته ما عسى أن يغل عليه شنقي من المال؟ قال: نحو ثلاث مائة دينار، فبينت له أنه يستطيع أن يكسب عندي أكثر من ذلك، ثم جعلته لصا مساعدا، وهو الآن من خيرة رجالي، وإنك لخليق إن أطعتني أن تنجح كما نجح، فلم تكن الظروف قط مواتية للسطو كما هي الآن بعد قتل مؤبدار.»

قال زديج: «قد قتل مؤبدار؟ وإلام صار أمر الملكة أستارتيه؟» قال أربوجاد: «لا أدري! وكل ما أعرفه هو أن مؤبدار قد جن ثم قتل، وأن بابل قد أصبحت موطنا للجرائم، وأن الدولة كلها قد ظهر فيها الفساد، وأن هناك سبلا إلى العمل، وأني قد أبليت بلاء حسنا وحقيقا بالإعجاب.» قال زديج: «ولكن أضرع إليك في أن تنبئني ألا تعلم من أمر الملكة شيئا؟» قال أربوجاد: «لقد حدثت عن أمير لأركانيا، وأحسب أنها بين إمائه إن لم تكن قد قتلت في الموقعة، ولكني أحرص على الغنيمة مني على الأنباء، وقد أخذت في غزواتي نساء كثيرات وبعتهن جميعا، وأنا أغالي بالحسان منهن دون أن أحتفظ بواحدة منهن أو أسأل عن أنبائهن، وليس من سبيل إلى شراء المراتب، وإن الملكة القبيحة لخليقة ألا تجد مشتريا، ولعلي قد بعت الملكة أستارتيه، ولعلها قد ماتت، لا يعنيني شيء من ذلك، وأنت خليق ألا تعنى بشيء من ذلك.» وكان يقول ذلك ويمعن في الشرب حتى اختلط عليه كل شيء، ولم يستطع زديج أن يعلم منه شيئا.

فلبث ذاهلا واجما قد أثقلته الهموم، وكان أربوجاد ممعنا في شربه ملحا في حديثه، معلنا دائما أنه أسعد الناس، ملحا على زديج أن يجعل نفسه سعيدا مثله، ثم دفعته الخمر إلى نوم هادئ هنيء، وأنفق زديج ليلته مضطربا أشد الاضطراب، وكان يقول لنفسه: «ماذا! لقد جن الملك وقتل! إني لأرثي له أشد الرثاء، لقد مزقت الدولة، وقاطع الطريق هذا سعيد، يا للحظ! يا للقضاء! إن اللص لسعيد، وإن أجمل من صورت الطبيعة يمكن أن يكون قد مات أبشع الموت، أو أن يكون قد كتبت عليه حياة شر من الموت! أي أستارتيه إلام صار أمرك؟»

فلما أسفر الصبح جعل يسأل كل من لقيه في القصر، ولكن الناس جميعا كانوا عنه في شغل فلم يرجع عليه أحد جوابا، وكان القوم قد أغاروا وغنموا أثناء الليل؛ فكانوا يقتسمون الغنائم، وكل ما استطاع أن يظفر به في هذا الاضطراب والاختلاط هو الإذن له بالسفر، فأسرع إلى الرحيل غارقا في تفكيره الأليم.

ومضى زديج أمامه مضطربا قلقا، فقد شغل عقله بالبائسة أستارتيه، وبملك بابل، وبخليله كادور، وباللص السعيد أربوجاد، وتلك المرأة الجامحة التي اختطفها البابليون على حدود مصر، ثم كل المصاعب والمصائب التي ألحت عليه.

الفصل السابع عشر

الصائد

فلما كان على مراحل من قصر أربوجاد، وجد نفسه على شاطئ جدول صغير، وهو يندب حظه ويرى أنه صورة صادقة للشقاء، ولكنه رأى غير بعيد منه صائدا نائما على الشاطئ ممسكا في فتور وبيد كسلى شبكته التي كان كأنه يهملها، وقد رفع عينيه إلى السماء وهو يقول:

إني لأشقى الناس جميعا، ما في ذلك من شك، لقد كنت عند أهل بابل أعظم باعة الجبن الأبيض، ثم حل بي الخراب، ولقد كانت زوجي أجمل امرأة أتيحت لرجل وقد خانتني، وقد بقيت لي دار ضئيلة حقيرة، فرأيتها تنهب وتدمر، وأنا الآن لاجئ إلى كوخ صغير، لا أجد سبيلا إلى الرزق إلا الصيد، ولكن لا أظفر بسمكة واحدة، أيتها الشبكة لن ألقيك في الماء بل سألقي نفسي فيه.

ثم ينهض ويسعى في هيئة الرجل الذي يريد أن يلقي نفسه في الماء ليختم حياته.

قال زديج لنفسه: «ماذا؟ أفي الناس من يعدل شقاؤهم شقائي!» ثم كان نشاطه إلى إنقاذ هذا الرجل سريعا كخاطره هذا، فيجري إليه فيمسكه ويسأله في لهجة يشيع فيها الرفق والحنان والتعزية، والناس يزعمون أن الشقاء يخف على الإنسان إذا لم يكن وحيدا، ولكن مصدر ذلك فيما يقول زرادوشت ليس هو الدهاء، وإنما هي الحاجة، فالإنسان يشعر حينئذ بأنه مجذوب إلى إنسان شقي كما يجذب النظير إلى نظيره، بحيث يصبح ابتهاج الرجل السعيد كأنه إهانة للبؤس، ولكن الشقيين إذا التقيان كانا أشبه بشجيرتين تعتمد كل واحدة منهما على صاحبتها؛ فتثبتان بذلك للعاصفة.

قال زديج للصياد: «لماذا تستسلم للشقاء؟» قال الصياد: «لأني لا أجد لي منه مخرجا، لقد كنت أرفع الناس مكانة في قرية دير لباك قريبا من بابل، وكنت أصنع مستعينا بامرأتي أجود ما في الدولة من الجبن الأبيض، وكانت الملكة أستارتيه والوزير المشهور زديج يحبان هذا الجبن أشد الحب، وقد قدمت إلى قصريهما ستمائة قطعة منه، وذهبت ذات يوم إلى المدينة لأقبض الثمن، فلما وصلت إلى بابل عرفت أن الملكة وزديج قد استخفيا؛ فأسرعت إلى قصر زديج ولم أكن عرفته قط، وإذا أنا أرى جند صاحب الخزانة ومعهم أمر ملكي ينهبون القصر ويدمرونه كأحسن ما يكون النهب والتدمير، فأسرعت إلى مطبخ الملكة وهنالك أنبأني بعض القائمين على طعامها أنها ماتت، وقال آخرون إنها في السجن، وزعم آخرون أنها لاذت بالفرار، ولكنهم جميعا أكدوا لي أن ثمن الجبن لن يؤدى إلي، فذهبت ومعي امرأتي إلى الأمير أوركان وكان أحد عملائي وطلبت إليه أن يحمينا من هذه المحنة، فمنح حمايته لامرأتي ورفض أن يمنحني إياها، وكانت أنصع بياضا من هذا الجبن الذي كان أصل شقائي، ولم يكن إشراق الأرجوان الذي تصدره مدينة صور أشد بهجة مما كان يشرب بياضها من الحمرة، وهذا هو الذي أغرى أوركان باحتجازها وطردي من قصره، فكتبت إلى امرأتي العزيزة رسالة من بلغ به الحزن حد اليأس، فقالت لمن أدى إليها الرسالة: «إني لا أعرف صاحبها! لقد سمعت الناس يتحدثون عنه، يقال إنه يصنع جبنا متقنا فليحمل إلي بعض هذا الجبن وليؤدى إليه ثمنه.»

فلما اشتد بي الشقاء أردت أن ألجأ إلى القضاء، ولم يكن بقي لي إلا ستة مثاقيل من ذهب، فلم يكن بد من أن أدفع اثنين منها إلى رجل القانون الذي استشرته، واثنين للنائب الذي تولى قضيتي، واثنين لأمين القاضي الأول، فلما فرغت من هذا كله لم تكن قضيتي قد ابتدئت، وكنت قد أنفقت من المال أكثر مما يساوي جبني ومما تساوي امرأتي، فعدت إلى قريتي وأنا أريد أن أبيع داري لأسترد امرأتي.

وكانت داري تقوم بستين مثقالا من الذهب، ولكن الناس كانوا يرونني فقيرا حريصا على البيع، فساومني أول من عرضت عليه الدار ثلاثين مثقالا، وعرض علي الثاني عشرين والثالث عشرة، وكنت مستعدا لإمضاء البيع لكثرة ما كان يشغلني عن التبصر في أمري، ولكن أمير أركانيا أقبل مغيرا على بابل ودمر في طريقه كل شيء، ونهبت داري أول الأمر، ثم أشعلت فيها النهار.

فلما فقدت مالي وامرأتي وداري؛ أويت إلى هذه الأرض حيث تراني، وحاولت أن أعيش من صناعة الصيد، ولكن السمك يسخر مني كما يسخر مني الناس، فلا آخذ منه شيئا، وقد كاد الجوع أن يهلكني، ولولا أنت أيها المعزي الكريم لأغرقت نفسي في هذا النهر.»

لم يسق الصياد قصته هذه على نسق واحد، فقد كان زديج يقاطعه من وقت إلى وقت متأثرا محزونا قائلا: «ماذا؟ ألا تعلم شيئا عن مصير الملكة؟» كان الصياد يجيبه: «لا يا سيدي! ولكني أعلم أن الملكة وزديج لم يؤديا إلي ثمن الجبن، وأن امرأتي قد أخذت مني، وأني قد صرت إلى اليأس.» قال: «أنا أزعم لك أنك لن تفقد مالك كله، فقد سمعت الناس يتحدثون عن زديج هذا وهو رجل شريف، وأنه إذا عاد إلى بابل كما يأمل أن يعود إليها لمؤد إليك أكثر مما لك عنده، أما امرأتك التي ليست على هذا الحظ من الوفاء فإني أنصح لك أن تتخذ مكانها زوجا أخرى، صدقني وعد إلى بابل، وسأبلغها قبل أن تصل أنت إليها، فأنا فارس وأنت راجل، فإذا بلغت المدينة فاذهب إلى كادور المشهور وقل له إنك لقيت صاحبه في بعض الطريق، وانتظرني عنده حتى ألقاك، امض فعسى ألا تكون شقيا دائما.»

ثم مضى زديج قائلا: «أيها القوي العظيم أوروزماد، إنك لتسخرني لتعزية هذا الرجل، فمن عسى أن تسخر لتعزيتي؟» قال ذلك ودفع إلى الصياد نصف المال الذي احتمله من بلاد العرب كلها، وجعل الصياد الدهش السعيد يقبل رجليه ويقول: «إنك أنت ملك منقذ.»

وكان زديج مع ذلك يطلب الأنباء ويذرف الدموع، قال الصياد: «ماذا يا سيدي! أيمكن أن تكون شقيا إلى هذا الحد، وأنت الذي يبذل المعروف؟» قال زديج: «إني لأشقى منك مائة مرة.» قال الصياد: «ولكن كيف يمكن أن يكون من يعطي أشد شقاء مما يأخذ؟» قال زديج: «لأن معظم شقائك يأتي من الحاجة، أما شقائي فمصدره القلب.» قال الصياد: «أيمكن أن يكون أوركان قد اغتصب منك زوجك؟» فأثارت هذه الكلمة في نفس زديج ذكرى مغامراته كلها، وجعل يعدد ما ألم به من المصائب، مبتدئا بكلبة الملكة ومنتهيا بوصوله إلى قصر أربوجاد، ثم قال للصياد: «إن أوركان خليق أن يعاقب، ولكن العادة جرت بأن أمثاله هم أحسن الناس حظا، ومهما يكن من شيء فامض إلى قصر السيد كادور، وانتظرني هناك.» ثم افترقا، ومضى الصياد يثني على حظه، وعاد زديج يلعن حظه لعنا.

الفصل الثامن عشر

الباسليك

وانتهى زديج إلى مرج جميل، فرأى جماعة من النساء يبحثن عن شيء ويمعن في البحث، فاستباح لنفسه أن يدنو من إحداهن وسألها: ألا يستطيع أن يشرف بمعونتهن على التماس ما يبحثن عنه، قالت السورية: «إياك أن تفعل، فإن ما نلتمسه لا ينبغي أن يمسه إلا النساء.» قال زديج: «هذا شيء غريب! هل لي أن أسألك عن هذا الذي لا ينبغي أن يمسه إلا النساء؟» قالت: «إنه الباسليك.» قال زديج: «الباسليك يا سيدتي! وفيم تبحثن عن الباسليك؟» قالت السورية: «إنما نبحث عنه لمولانا أوجول صاحب هذا القصر الذي تراه على شاطئ النهر في أقصى المرج، فنحن إماؤه، وقد أصابته علة، فوصف له الطبيب الباسليك مطبوخا في ماء الورد، وهذا الحيوان نادر لا يستسلم إلا للنساء، فقد أزمع مولانا أوجول أن يتزوج ممن تظفر له بالباسليك، فدعني أبحث إن شئت، فقد ترى ما أتعرض له إن ظفرت إحدى صاحباتي من دوني بالباسليك.»

وقد ترك زديج هذه السورية وصاحباتها يبحثن عن الباسليك، ومضى في المرج يسعى أمامه، حتى إذا بلغ شاطئ الجدول رأى سيدة أخرى مستلقية لا تبحث عن شيء، وكان قدها يظهر فخما، وقد ألقي على وجهها نقاب، وكانت منحنية نحو الجدول ترسل من فمها زفرات عميقة، وقد أخذت بيدها عودا صغيرا جعلت تخط به حروفا على الرمل الدقيق المنبسط بين العشب والجدول، وقد أحس زديج الحاجة إلى أن يتعرف ما كانت هذه السيدة تخط من حروف، فدنا وتبين حرف الزاي، ثم حرف الألف، ثم ظهر حرف الدال، فأخذته رعدة، ولم يبلغ الدهش من أحد قط ما بلغه حين رأى الحرفين الأخيرين من اسمه؛ فلبث ساعة ساكنا، ثم قطع الصمت بصوت متهدج قائلا: «أيتها السيدة الكريمة، عفوك عن غريب بائس إذا اجترأ فسألك بأي مصادفة مدهشة يجد هنا اسم زديج.» فلما سمعت السيدة هذا الصوت وهذه الألفاظ رفعت نقابها بيد مرتعدة، ثم نظرت إلى زديج، ثم صاحت صيحة فيها الحنان والدهش والفرح، ثم صرعتها العواطف المختلفة التي أخذت نفسها من كل وجه؛ فخرت مغشيا عليها بين ذراعيه، وكانت هذه السيدة هي أستارتيه، هي ملكة بابل، هي التي كان زديج يعبدها ويلوم نفسه على عبادتها، هي التي بكى عليها ما بكى، وخاف عليها ما خاف، فظل ساعة لا يملك من أمر نفسه شيئا، وقد وجه لحظه إلى عيني أستارتيه اللتين كانتا قد أخذتا تتفتحان في فتور وخجل وحنان، هنالك صاح زديج: «أيتها القوة الخالدة التي تدبر مصير الناس، أيمكن أن تردي إلي أستارتيه؟ في أي زمان، في أي مكان، في أي جمال ألقاها.» ثم جثا أمام أستارتيه، ومرغ جبهته في التراب عند قدميها، فتنهضه ملكة بابل وتجلسه إلى جانبها على شاطئ الجدول، ثم تمسح غير مرة عينيها اللتين كانتا لا تجفان إلا لتستأنفا سكب الدموع، وكانت تستأنف عشرين مرة حديثها الذي كان يقطعه الأنين، وكانت تسأله عن المصادفة التي جمعت بينهما، ثم تصرفه عن الرد عليها بأسئلة أخرى تلقيها عليه، وكانت تبدأ قصة آلامها ثم تقطع ذلك لتعرف من آلام زديج ما كانت تجهل، ثم انتهيا آخر الأمر إلى تهدئة ما سيطر على نفسيهما من اضطراب، وقص زديج عليها في حديث موجز ما ألم به من الخطوب، ثم قال: «ولكن أيتها البائسة العزيزة، كيف أتيح لي أن ألقاك في هذا المكان المنعزل في زي الإماء؛ مرافقة نساء أخريات يبحثن عن الباسليك ليطبخ في ماء الورد تنفيذا لأمر الطبيب؟»

قالت الحسناء أستارتيه: سأدعهن يبحثن عن الباسليك، وسأنبئك بكل ما احتملت، وبكل ما أتجاوز عنه للأقدار بعد أن أتاح لي لقاءك، لقد علمت أن الملك زوجي قد أنكر أن تكون أحب الناس إلى النفوس، ومن أجل هذا أزمع ذات ليلة أن يشنقك ويسمني، وقد علمت كيف أذن الله للقزم الأخرس أن ينبئني بما دبر الملك العظيم، وما كاد الوفي كادور يكرهك على أن تطيع أمري وتفر من بابل حتى دخل علي بعد أن نفذ إلى القصر من باب سري، ومن هناك اختطفني وذهب بي إلى معبد أوروزماد؛ حيث خبأني أخوه الكاهن في جوف تمثال عظيم تستقر قاعدته عند أساس المعبد، ويبلغ رأسه قبته.

هنالك أقمت كالمدفونة، ولكن الكاهن كان يخدمني ويوفر لي كل حاجاتي، بحيث لم ينقصني شيء مما لا بد منه، ثم لم يسفر الصبح حتى دخل غرفتي صيدلي الملك يحمل شرابا مزاجه سم ناقع من البنج والأفيون والشوكران والخربق وخانق الذئب، وذهب موظف آخر إلى قصرك ومعه حبل من حرير أزرق، فلم يوجد منا أحد، وأزمع كادور أن يخدع الملك فأقبل إليه يشكوني ويشكوك، وزعم أنك اتخذت طريقك إلى الهند، وأني اتخذت طريقي إلى مصر، فأرسل السعاة في أثرك وفي أثري.

وكان الذين يطلبونني لا يعرفونني، ولم أكن قد أظهرت وجهي قط إلا لك بمحضر من الملك وبأمره، فمضوا يطلبونني على هدي الصورة التي وصفت لهم عليها، فصادفوا على حدود مصر امرأة لها قامتي، ولعلها أن تكون أجمل مني، وكانت باكية هائمة، فلم يشكوا في أنها ملكة بابل، فحملوها إلى مؤبدار؛ فلما رأى الملك خطأهم أخذه غضب عظيم، ولكنه تأمل ملامح هذه المرأة فرأى جمالها وبهجتها، فسكت منه الغضب وأسرع إليه العزاء، وكانت هذه المرأة تسمى ميسوف، وقيل لي بعد ذلك أن هذا الاسم معناه عند المصريين الجامحة الحسناء، وكانت جامحة حقا، ولكن مهارتها لم تكن أقل من جموحها، وقد أعجبت مؤبدار وتسلطت عليه، حتى أعلن أنها أصبحت له زوجا، وهنالك ظهر خلقها كله، فاندفعت في غير خوف إلى كل ما أوحى إليها خيالها من آيات الجنون، وقد أرادت أن تكره عظيم الكهنة - وكان شيخا كبيرا قد أخذه النقرس - على أن يرقص بين يديها، فلما أبى اضطهدته أشد الاضطهاد، وقد أمرت صاحب خيلها أن يصنع لها كعكة من الحلوى، وقد اجتهد صاحب الخيل في أن يقنعها بأنه ليس صاحب هذه الصناعة، ولكنها أبت إلا أن يطيع، ثم عاقبته بعد ذلك لأن كعكته أصابها بعض الحريق، وقد اختارت قزمها لمنصب صاحب الخيل، وجعلت سياسة الدولة إلى أحد خدم القصر.

وكذلك حكمت مدينة بابل، وكان الناس جميعا يذكرونني آسفين، أما الملك الذي كان رجلا شريفا مستقيما إلى اليوم الذي أزمع فيه أن يقتلني ويشنقك، فكان يظهر كأنما أغرق فضيلته فيما استأثر من حب عظيم للجامحة الحسناء، فلما كان يوم العيد المقدس سعى إلى المعبد، ورأيته جاثيا أمام التمثال الذي كنت أستخفي فيه، وهو يستنزل عطف الآلهة على ميسوف، فرفعت صوتي صائحة به: «إن الآلهة يأبون أن يسمعوا لملك أصبح طاغية، وهم أن يقتل امرأة عاقلة ليتزوج مكانها امرأة خرقاء.» وقد صدم مؤبدار بهذا الكلام حتى اختلط عقله، فكان الوحي الذي ألقيته وطغيان ميسوف كافيين ليفقد الرجل صوابه، فلم تمض أيام حتى انتهى إلى الجنون.

وكان جنونه الذي رأى الناس فيه عقابا من السماء أول بوادر الثورة، فثار الناس وطاروا إلى أسلحتهم، وأصبحت بابل التي طال عهدها بالبطالة والترف ميدانا لحرب أهلية منكرة، فأخرجت من جوف التمثال ووضعت على رأس أحد الأحزاب، وأسرع كادور إلى ممفيس ليردك إلى بابل، ولكن أمير أراكنيا لم يكد يعلم بهذه الأحداث حتى أقبل بجيشه، فكون حزبا ثالثا في بلاد الكلدانيين، وقد هجم على جيش الملك فأسرع الملك إلى لقائه في حماقته المألوفة ومعه مصريته الخرقاء.

فقتل مؤبدار مطعونا، وسقطت ميسوف بين أيدي المنتصرين، وأراد سوء الحظ أن يأخذني أنا أيضا جماعة من جند أركانيا، وأن أقاد أمام الأمير في نفس الوقت الذي قيدت إليه فيه ميسوف، وقد يتملقك فيما أظن أن تعلم أن الأمير وجدني أجمل من المصرية، ولكن قد يسوءك أن تعلم أنه أضافني إلى حريمه، وقال لي في عزم وتصميم إنه سيسعى إلي متى فرغ من غارة كان يريد أن يتمها، فقدر ألمي، لقد انقطعت الأسباب بيني وبين مؤبدار، وأصبح من الممكن أن أقترن بزديج، وهذه الأقدار تسلمني إلى أمير متوحش، وقد أجبته مع كل الكبرياء التي تتيحها لي منزلتي وعواطفي.

لقد سمعت دائما أن السماء تمنح أمثالي من الناس مزية تتيح لهم إذا نطقوا بكلمة أو نظروا نظرة أن يردوا إلى الضعة والاستخذاء كل جريء يحاول أن يريدهم بسوء، وكنت أتحدث حديث الملكة، ولكني عوملت معاملة الوصيفة، فلم يلتفت الأركاني إلي، وإنما قال لخصيه الأسود إنه يجدني وقحة، ولكنه يراني حسناء، ثم أمره أن يحسن العناية بي، ويحملني على خطة الحظايا في الطعام والشراب حتى يردني رخصة مشرقة، وحتى أصبح أهلا لرضاه حين يتفضل فيمنحني قربه.

وقد أعلنت إليه أني سأقتل نفسي، فأجاب ضاحكا إن الناس لا يقتلون أنفسهم، وإنه خبير بهذا النحو من الإباء، ثم انصرف عني وكأنه رجل قد وضع ببغاء في حظيرته التي خصصها لغرائب الحيوان، فإلى أي هوان دفعت أكبر ملكات الأرض! بل إلى أي حال دفع هذا القلب الذي كان موقوفا على زديج!»

هنالك جثا زديج أمامها وبلل ركبتيها بدموعه، فأنهضته أستارتيه في حنان ومضت قائلة: «فكنت أرى نفسي أسيرة عند همجي متوحش، وخصما لامرأة مجنونة قد حبست معي، وقد حدثتني بقصتها في مصر، وقد عرفت من الملامح التي ذكرتها ومن وصف النجيب الذي كان يحملك، ومن كل الظروف التي أحاطت بهذه القصة أن زديج هو الذي قاتل من أجلها، ولم أشك في أنك كنت مقيما في ممفيس، فأزمعت أن آوي إليها، فقلت لها: «أيتها الحسناء ميسوف، إنك أنضر مني جمالا، وأقدر مني على تلهية أمير أركانيا، أعينني على الهرب، فسيتيح ذلك لك أن تتسلطي وحدك، وأن تسعدي بالتخلص من منافسة.» وقد دبرت ميسوف معي وسيلة الهرب، فانسللت ذات يوم ومعي خادم مصرية.

وكنت قد قاربت بلاد العرب، ولكن قاطع طريق يسمى أربوجاد يعدو علي فيخطفني فيبيعني لبعض التجار، ويحملني هؤلاء إلى هذا القصر الذي يقيم فيه السيد أوجول، وقد اشتراني دون أن يعرف من أكون، وهو رجل صاحب لذة لا يعنيه إلا أن يعكف على الطعام، وهو يعتقد أن الله لم يخلقه إلا ليجلس على المائدة، وهو ضخم قد تجاوزت ضخامته الحد؛ حتى لتوشك أن تخنقه، وليس لطبيبه عنده خطر إذا حسن هضمه لما يلتهم، ولكنه يحكمه حكم الطاغية إذا أسرف على نفسه في الأكل، وقد ألقى في روعه أن سيبرأ من علته إذا أكل الباسليك مطبوخا في ماء الورد، وقد وعد السيد أوجول بالزواج أي إمائه تحمل إليه الباسليك، وها أنت ذا ترى أني أتركهن يجهدن في استحقاق هذا الشرف، وما أعرف أني زهدت في الظفر بالباسليك بمقدار ما زهدت فيه منذ أذنت السماء لي في أن ألقاك.»

ثم أفضى كل من العاشقين إلى صاحبه بكل ما توحيه العواطف التي طال كبتها، وبكل ما تلهم الآلام والحب للقلوب الكريمة من حنان نبيل، ورفعت الأرواح الموكلة بالحب حديثهما حتى بلغت به فلك الزهرة.

وقد عاد النساء إلى القصر دون أن يجدن شيئا، ومثل زديج بين يدي أوجول متحدثا إليه على هذا النحو: «لتهبط العافية الخالدة من السماء لتعنى بحياتك كلها، إنى طبيب، سمعت بعلتك فأسرعت إليك أحمل الباسليك مطبوخا في ماء الورد، ولست أطلب أن أقترن بك، وإنما أطلب أن تعتق أمة شابة بابلية حملت إلى هذا القصر منذ أيام، وأنا زعيم أن أكون في مكانها من الرق إن لم أشف الأمير العظيم أوجول.»

وقد قبل عرض زديج، وسافرت أستارتيه إلى بابل ومعها خادمة، وقد وعدته بأن ترسل إليه في أقرب وقت رسولا ينبئه بكل ما يجري في بابل من الأحداث، وكان وداعهما مفعما بالحنان كما كان لقاؤهما.

وقد جاء في كتاب الزند العظيم أن ساعة اللقاء وساعة الوداع هما أخطر ساعات الحياة، وكان زديج يحب الملكة بمقدار ما كان يؤكد لها حبه، وكانت الملكة تحب زديج أكثر مما كانت تعلن إليه.

ثم قال زديج لأوجول: «سيدي، إن الباسليك الذي أحمله لا يؤكل، وإنما تنالك خصائصه من طريق المسام، وقد وضعته في قربة منفوخة مغطاة بجلد رقيق، فيجب أن تدفع هذه القربة بكل ما تقدر عليه من قوة، وأنا أردها عليك، وإذا مضينا على هذا النحو أياما قليلة فسترى إلى أي حد يستطيع مثلي أن يصل.» فلما كان اليوم الأول وجد أوجول مشقة عظيمة في التنفس حتى ظن أنه ميت من الإعياء، ولما كان اليوم الثاني تعب أقل من أمس، ونام أحسن مما نام أمس، ولم تمض أيام ثمانية حتى استرد كل قوته وخفته ومرحه الذي ألفه في أعوامه السعيدة، قال له زديج: «إنما لعبت بالكرة وأخذت نفسك بالقناعة، فتعلم أن الباسليك لا يوجد في الطبيعة، وأن صحة الإنسان رهينة بالقناعة والتمرين، وأن الفن الذي يتيح للإنسان أن يجمع بين الصحة والشره إنما هو فن خيالي يشبه حجر الفلاسفة وطوالع النجوم وسحر الكهان.»

وقد أحس طبيب أوجول بأن زديج قد أصبح خطرا بالقياس إليه، فاتفق مع صيدلي القصر على أن يرسل زديج يلتمس الباسليك في العالم الآخر، وكذلك بعد أن عوقب زديج على إحسانه أصبح الآن معرضا للموت؛ لأنه أبرأ من العلة أميرا شرها، وقد دعي إلى وليمة فاخرة، وكان قد تقرر أن يوضع له السم في الدور الثاني من أدوار المائدة، ولكنه في الدور الأول تلقى كتابا من الحسناء أستارتيه، فترك المائدة ومضى لوجهه، وقد قال زرادوشت العظيم: «إن الإنسان الذي تحبه غادة حسناء، ينقذ دائما من المشكلات في هذه الحياة.»

الفصل التاسع عشر

المبارزة

كان استقبال الملكة في بابل مليئا بالعطف على ملكة حسناء بائسة، وكانت بابل في ذلك تظهر هادئة مطمئنة، فقد قتل أمير أركانيا في بعض المواقع، وقرر البابليون المنتصرون أن أستارتيه ستكون زوجا للأمير الذي يختارونه ليكون لهم ملكا، وقد أبوا أن يكون أرفع مكان في العالم وهو مقام الذي سيقترن بأستارتيه ويصبح ملكا على بابل موضوعا للدسائس والكيد، فأقسموا ليملكن على أنفسهم أعظم الناس حظا من الشجاعة والحكمة، وقد أنشئ على فراسخ من بابل ميدان عظيم أحاطت به مدرجات فخمة قد زينت أحسن زينة وأروعها، وكان على المصطرعين أن يذهبوا إليه مدججين بالسلاح، وكان لكل واحد منهم من وراء المدرجات بيت يعتزل فيه فلا يراه أحد ولا يرى أحدا، وكان عليهم أن يطاعنوا بالرماح أربع مرات، وكان على الذين يتاح لهم أن يقهروا أربعة فرسان أن يصطرعوا فيما بينهم، حتى إذا أتيح لأحدهم أن ينتصر على خصومه جميعا ويصبح سيد الميدان أعلن أنه هو الفائز في المسابقة، ثم وجب عليه أن يأتي بعد أربعة أيام مدججا بالسلاح ليحل الألغاز التي يعرضها عليه الكهان، فإذا لم يوفق لحلها لم يرق إلى العرش ووجب استئناف المبارزة من جديد؛ حتى تظفر المدينة بالمنتصر الذي يقهر الخصوم في الميدان، ويحل الألغاز أمام الكهنة؛ لأن البابليين كانوا يرون ألا يملك عليهم إلا من كان شجاعا حكيما.

وكان يجب أن تحرس الملكة في أثناء هذه الأيام حراسة شديدة دقيقة، ولا يسمح لها إلا بأن تشهد المبارزة وقد ألقت على وجهها نقابا، ولكن لا يؤذن لها أن تتحدث إلى أحد من المتنافسين حتى لا تكون محاباة ولا يقع جور.

بهذا كله كتبت أستارتيه إلى خليلها آملة أن يظهر في سبيلها من الشجاعة والذكاء ما لا يستطيعه أحد غيره، وقد وصل زديج إلى شاطئ الفرات قبيل ذلك اليوم العظيم، وقد سجل شعاره بين شعار غيره من المتنافسين ساترا وجهه مخفيا اسمه كما يقضي بذلك القانون، ثم ذهب إلى البيت الذي خصصته له القرعة، وكان صديقه كادور قد عاد إلى بابل بعد أن بحث عنه في مصر بغير طائل، فأرسل إلى بيته لأمة كاملة كانت الملكة قد بعثت بها إليه، وقاد إليه من عندها كذلك أجمل جواد من خيل فارس، وقد عرف زديج الملكة في هديتها، فاستمد من هذه المعرفة قوة وثقة وأملا.

فلما كان الغد أقبلت الملكة فجلست تحت مظلة يزينها الجوهر، واكتظت المدرجات بالسيدات وبالرجال من جميع الطبقات، وظهر المتنافسون في الميدان، وأقبل كل واحد منهم فوضع شارته عند قدم الكاهن الأعظم، ثم أجريت القرعة بين الشارات، فكانت شارة زديج هي الأخيرة، وكان أول من تقدم سيد يدعى إيتوباد، وكان عظيم الثراء كثير الغرور قليل الشجاعة، أخرق قليل العقل، وكان خدمه قد ألقوا في روعه أن رجلا مثله يجب أن يكون ملكا، فأجابهم: «إن رجلا مثلي يجب أن يملك .» فسلحوه من رأسه إلى قدمه، وكان يحمل لأمة مرصعة بالخضرة وعلامة خضراء ورمحا تزينه شرائط خضر، وقد لاحظ الناس حين رأوا سياسته لفرسه أنه ليس هو الرجل الذي قدر له أن يستأثر بصولجان بابل، وقد استطاع أول فارس سعى إليه أن يزعجه عن مكانه، واستطاع الثاني أن يكبه على عجز فرسه، وقد ارتفعت ساقاه في الهواء وامتدت ذراعاه، وقد استطاع إيتوباد أن يستوي في سرجه ولكن على نحو غريب أضحك منه الناس جميعا، وأقبل الثالث فلم يتكلف استعمال رمحه، وإنما مر إلى جانبه فأخذه من ساقه اليمنى وألقاه على الرمل إلقاء، وأسرع ساسة الميدان إليه ضاحكين فردوه إلى سرجه، ولكن المبارز الرابع يأخذه من ساقه اليسرى ويلقيه على الرمل من ناحيته الأخرى، ثم قيد تشيعه السخرية إلى بيته حيث كان يجب أن ينفق الليل بحكم القانون. وكان يقول وهو يسعى طالعا: «أي مغامرة بالقياس إلى رجل مثلي!»

وأدى الفرسان الآخرون واجبهم كأحسن ما استطاعوا، فكان منهم من هزم مبارزين متتابعين، ومنهم من وصل إلى أن يهزم ثلاثة، ولم ينتصر على أربعة إلا أمير أوتام، ثم برز زديج فأزعج عن خيلهم فرسانا أربعة في كل رشاقة ممكنة، ولم يبق إلا أن يعرف أيهما سيكون له الفوز: الأمير أوتام أم زديج، وكان الأول يحمل لأمة زرقاء مذهبة وعلامة من لونه، وكانت لأمة زديج بيضاء، وكانت أماني الناس كلهم مقسمة بين الفارس الأزرق والفارس الأبيض، وكان قلب الملكة يخفق، وكانت تتوسل إلى السماء لتنصر اللون الأبيض.

وقد تبادل الفارسان الكر والفر في خفة ورشاقة، وتبادلا طعنات رائعات بالرماح، وكانا جميعا ثابتين في سرجيهما، حتى تمنى الناس كلهم إلا الملكة أن يكون لبابل ملكان، ثم أجهد الفرسان وانحطم الرمحان، فعمد زديج إلى هذه الحيلة، وهي أنه أسرع فاستدبر جواد الفرس الأزرق، ثم وثب فأصبح رديفه على فرسه، ثم أخذه من خصره فانتزعه من سرجه فألقاه على الأرض، ثم يأخذ مكانه من السرج، ويدور حول أوتام الملقى صريعا على الأرض.

هنالك ضجت المدرجات كلها: «الفوز للفارس الأبيض!» ويستأثر الغضب بأوتام فينهض ويستل سيفه، ويثب زديج عن فرسه والسيف مصلت في يده، وها هما هذان في الميدان يختصمان خصومة تنتصر فيها القوة مرة والخفة مرة أخرى، وقد أخذ ريش خوذتيهما ومسامير مفغريهما وخرز درعيهما تتطاير إلى بعيد لعنف ما كانا يتبادلان من الضربات، وكلاهما يضرب بحد السيف وعرضه عن يمين وعن شمال، على الرءوس وعلى الصدور، وهما يتأخران ويتقدمان، ثم يتبادلان التحدي، ثم يلتحمان، ثم يأخذ كل منهما بصاحبه، ثم ينعطفان كأنهما الحيتان، ثم يهجم كل منهما على صاحبه كأنه الأسد، والنار تتطاير في كل لحظة من وقع ضرباتها، ثم يثوب زديج إلى نفسه ساعة فيقف، ثم يحتال، ثم يمر إلى جانب أوتام فيلقيه على الأرض ويجرده من سلاحه، ويصيح أوتام: «أيها الفارس الأبيض، أنت وحدك أهل لعرش بابل.» وقد بلغ الفرح بالملكة أقصاه، ثم يقاد الفارس الأزرق والفارس الأبيض كل إلى بيته شأن المتنافسين جميعا، كما قضى بذلك القانون، وأقبل خدم خرس يحملون إليهم الطعام، وتستطيع أن تقدر أن قزم الملكة الأخرس هو الذي حمل الطعام إلى زديج، ثم خلي بينهما وبين النوم ليقبل المنتصر إذا كان الغد فيحمل شارته إلى الكاهن الأعظم ليمتحنها ويعرف صاحبها.

وقد نام زديج وإن كان عاشقا؛ لأن الجهد كان قد بلغ منه غايته، أما إيتوباد الذي كان بيته قريبا من بيت زديج فلم ينم، وإنما نهض أثناء الليل ودخل بيت زديج؛ فأخذ لأمته البيضاء وشارته وترك له لأمته الخضراء، فلما ذر قرن الشمس ذهب إلى الكاهن الأعظم، وأعلن إليه أن رجلا مثله هو الفائز، ولم يكن الناس ينتظرون ذلك، ولكن فوزه أعلن على حين كان زديج لا يزال مغرقا في نومه، وقد عادت أستارتيه إلى بابل دهشة قد ملأ الألم قلبها، وكانت المدرجات قد كادت تخلو من النظارة حين استيقظ زديج فالتمس سلاحه فلم يجد إلا هذه اللأمة الخضراء، فاضطر إلى أن يدخل فيها؛ لأنه لم يجد شيئا آخر يستر به جسمه، وقد لبس هذا السلاح دهشا مغضبا، وتقدم في أداته الغريبة هذه.

وجعل كل من بقى في المدرجات والميدان يستقبلوه ساخرين منه، يحيطون به ويواجهونه بالإهانة، ولم يلق أحد قط مثل ما لقي من الإهانة المخزية، ففقد صبره وفرق الناس عنه بسيفه، ولكنه كان حائرا لا يدري ماذا يصنع، لم يكن يستطيع أن يرى الملكة، ولم يكن يستطيع أن يطالب بلأمته البيضاء التي سرقت منه، فلو قد فعل ذلك لفضح سر الملكة، وكذلك اجتمع عليه الألم والغضب والقلق، وجعل يمشي على شاطئ الفرات مقتنعا بأن القضاء قد كتب عليه شقاء محتوما لا مخرج منه، مستعرضا في نفسه مصائبه كلها من المرأة التي كانت تكره العور إلى نكبته في سلاحه، وكان يقول لنفسه: «هذا جزائي لأني استيقظت متأخرا، ولو قد نمت أقل مما نمت لأصبحت ملك بابل وزوج أستارتيه، وإذن فالعلم والأخلاق والشجاعة لم تنته بي إلا إلى الشقاء.»

ثم أفلت منه شيء من الاعتراض على القدرة الإلهية، وكاد يؤمن بأن العالم خاضع لقضاء قاس يظلم الأخيار ويسبغ النعمة على الفرسان الخضر، وكان مما يحزنه اضطراره إلى حمل هذه اللأمة الخضراء التي عرضت صاحبها لكثير من السخرية، وما هي إلا أن يمر به بعض الباعة فيبيعه سلاحه بثمن بخس، ويشتري منه ثوبا وقلنسوة، ويمضي في هذا الزي مصاحبا شاطئ الفرات ناعيا على القدرة الإلهية أنها تظلمه دائما.

الفصل العشرون

الناسك

وقد لقي في طريقه ناسكا قد انتشرت لحيته على صدره، وتدلت حتى بلغت حزامه، وكان في يده كتاب يقرأ فيه معنيا أشد العناية، فوقف زديج وانحنى له في إجلال، وقد رد الناسك تحيته في وقار ورفق؛ حتى رغب زديج في أن يتحدث إليه، فسأله في أي كتاب ينظر؟ قال الناسك: «هو كتاب القضاء، أتريد أن تقرأ فيه شيئا؟» ثم وضع الكتاب في يد زديج الذي جعل ينظر فيه دون أن يتبين حرفا من حروفه على علمه المتقن بكثير من اللغات، وكان هذا سببا في ازدياد حبه للاستطلاع. قال له هذا الأب الرحيم: «إني لأراك شديد الحزن.» قال زديج: «وا حسرتاه! ما أكثر ما يحزنني!» قال الشيخ: «أتأذن في أن أصحبك لعلي أن أنفعك، فقد استطعت أحيانا أن أشيع العزاء في نفوس البائسين.» وقد أحس زديج شيئا من الاحترام لمظهر الناسك ولحيته وكتابه، ووجد في حديثه نورا ممتازا، وكان الناسك يتحدث عن القضاء، والعدل، والأخلاق، والخير الأعظم، وضعف الإنسان، والفضيلة والرذيلة، في بلاغة قوية مؤثرة؛ حتى أحس زديج كأنما يجذبه إليه سحر لا يقهر، فألح عليه في ألا يتركه حتى يبلغ بابل، قال الشيخ: «إني أطلب إليك هذا الفضل، فأقسم لي بأوروزماد ألا تفارقني إلى أيام مهما أفعل.» فأقسم زديج ومضيا معا.

وانتهى المسافران مع المساء إلى قصر فخم، وهناك طلب الناسك الضيافة لنفسه وللشاب الذي يصحبه، فأدخلهما البواب الذي كانت تظهر عليه شارات السيادة إلى القصر في شيء من العطف المستخف، ثم قدما إلى رئيس الخدم، فأظهرهما على جناح صاحب القصر، ثم أذن لهما بشهود المائدة، وأجلسا في أقصاها دون أن ينزل صاحب القصر فيمنحهما طرفه، ولكنهما طعما كما طعم غيرهما، وأظهر الخدم لهما رقة وسماحة وسخاء، ثم قدم إليهما لغسل أيديهما طست من الذهب مرصع بالزمرد والياقوت، ثم قيدا إلى حجرة جميلة أنفقا فيها الليل، فلما كان الغد أقبل خادم فدفع إلى كل واحد منهما قطعة من ذهب ثم صرفهما.

فلما كانا في الطريق قال زديج: «يخيل إلي أن صاحب القصر رجل كريم، وإن كان فيه شيء من كبرياء، وهو على كل حال حسن الضيافة.» وبينما كان يقول هذا الكلام رأى جيبا عريضا كان يحمله الشيخ وقد انتفخ انتفاخا عظيما، فلما نظر تبين الطست الذهبي المرصع بالجوهر، وقد سرقه الشيخ، فلم يجرؤ أول الأمر على أن يقول شيئا، ولكنه كان في دهش مؤلم.

فلما انتصف النهار وقف الشيخ أمام دار صغيرة كان يسكنها رجل غني بخيل، فاستضافه ساعات من نهار، فتلقاهما خادم شيخ أشعث لقاء خشنا، ثم قادهما إلى الإسطبل، وقدم إليهما شيئا من زيتون فاسد وخبزا رديئا وجعة حامضة، فأكل الناسك وشرب راضيا عن طعامه الغليظ، كما رضي أمس عن طعامه ذاك الرقيق، ثم اتجه إلى الخادم الشيخ الذي كان يراقبهما ليرى لعلهما يسرقان شيئا، وليستحثهما على الرحيل، فوضع في يده الدينارين الذين تلقاهما مصبحا، وشكر له عنايته بهما، ثم قال: «أرجو أن تتيح لي التحدث إلى سيدك.» فأدخلهما الخادم دهشا، قال الناسك: «أيها السيد العظيم، ليس يسعني إلا أن أشكر لك في خضوع نبل لقائك لنا، فتفضل بقبول هذا الطست الذهبي آية على اعترافي بالجميل.» وقد كاد البخيل يصرع من الدهش، ولم يتح له الناسك أن يفيق من دهشه، وإنما مضى مسرعا يتبعه صاحبه الشاب.

قال زديج: «ما هذا الذي أراه يا أبت؟ ما أرى أنك تشبه غيرك من الناس، إن تسرق طستا ذهبيا من أمير تلقانا أحسن اللقاء، وتهبه لبخيل عاملك أحقر المعاملة!» قال الشيخ: «تعلم يا بني أن هذا الأمير العظيم الذي لا يستقبل الناس إلا غرورا ليظهرهم على ثرائه سيصبح منذ اليوم عاقلا حذرا، وسيتعود البخيل أن يكون مضيافا، فلا تدهش لشيء واتبعني.» فلم يدر زديج أيصحب أعظم الناس حظا من الجنون أم أعظمهم حظا من الحكمة، ولكن الناسك كان يتحدث في ثقة، وكان زديج مرتبطا بقسمه فلم يسعه إلا أن يتبع الشيخ.

فلما كان المساء بلغا دارا متقنة البناء، ولا يظهر عليها ما يدل على الإسراف ولا ما يدل على البخل، وكان صاحب الدار فيلسوفا قد اعتزل الناس، وعكف على الحكمة والفضيلة، وكان على ذلك لا يحس مللا ولا سأما، وكان قد راقه أن يقيم هذه الدار، وأن يستقبل فيها الغرباء لا مستعليا ولا مغرورا، فسعى من تلقاء نفسه إلى السائحين، وقادهما إلى حجرة وثيرة ليستريحا، ثم أقبل بعد حين فدعاهما إلى مائدة نظيفة وطعام متقن، وتحدث إليهما رفيقا متحفظا عن الثورة الأخيرة التي اضطربت لها بابل، وقد ظهر أنه مخلص للملكة أشد الإخلاص، وأنه كان يتمنى لو ظهر زديج في الميدان واستبق مع المستبقين ليظفر بالتاج، ثم قال: «ولكن الناس لا يستحقون أن يملك عليهم رجل مثل زديج.» وكان زديج يحمر خجلا ويشعر بأن آلامه تتضاعف، وقد اتفق القوم أثناء الحديث على أن الأشياء في هذا العالم لا تجري على ما يحب الحكماء، وقد أكد الناسك دائما أن الناس لا يعرفون طرق القدرة الإلهية، وأنهم يخطئون حين يحكمون على كل لا يعرفون إلا أيسر أجزائه.

ثم تحدثوا عن الشهوات، فقال زديج: «ما أشد خطرها!» قال الناسك: «إنما الشهوات هي الرياح التي لا تنشر قلاع السفينة، وهي تغرق السفينة أحيانا، ولكن السفينة لا تستطيع أن تجري من دونها، إن المرارة تدفع الإنسان إلى الغضب، وقد تجلب عليه العلة، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدونها، كل شيء في هذه الأرض خطر، وكل شيء في هذه الأرض ضروري لا بد منه.»

ثم تحدثوا عن اللذة، وأثبت الناسك أنها منحة من الآلهة قائلا: «إن الإنسان لا يستطيع أن يعطى الحس ولا الفكرة، وإنما يتلقى كل شيء تأتيه اللذة والألم من غيره كما يأتيه شخصه هو.»

وكان زديج يعجب حين يرى رجلا قد أتى تلك الأعمال الغريبة يفكر على هذا النحو الدقيق.

فلما أخذ القوم بحظهم من سمر ممتع لذيذ، قاد المضيف ضيفه إلى حجرتهما شاكرا لله أن أرسل إليه رجلين على هذا الحظ من الحكمة والفضيلة، ثم قدم إليهما شيئا من مال بطريقة سمحة كريمة لا تؤذي النفوس، فاعتذر الناسك وودع مضيفه زاعما أنه يريد أن يسافر إلى بابل قبل أن يشرق النهار، وكان وداعهم رقيقا، وكان زديج يشعر بشيء من الاحترام لهذا الرجل الحبيب إلى القلوب.

فلما صار الناسك وصاحبه في حجرتهما، أثنيا ثناء جميلا على مضيفهما، ثم أيقظ الشيخ رفيقه من آخر الليل قائلا له: «يجب أن نرحل، ولكني أرى قبل أن يستيقظ الناس أن أترك لهذا الرجل آية على ما أضمر له من حب وإكبار.» قال ذلك وأخذ مصباحا فأشعل النار في الدار، وقد روع زديج فجعل يصيح، وهم أن يمنع الشيخ من اقتراف هذا الإثم المنكر، ولكن الناسك كان يجذبه بقوة لا تقاوم على حين كانت النار تشتعل، والناسك ينظر إليها من بعيد في هدوء أي هدوء قائلا: «الحمد لله، هذه دار مضيفي قد دمرت تدميرا، ما أسعد هذا الرجل!» فلما سمع زديج هذا الكلام هم أن يضحك وأن يضرب الشيخ، وأن يسبه وأن يمضي لوجهه، ولكنه لم يصنع من ذلك شيئا، وإنما خضع لسلطان الناسك وتبعه كارها إلى المرحلة الأخيرة.

وقد انتهت بهما هذه المرحلة إلى أرملة محسنة فاضلة، يعيش معها فتى قريب لها في الرابعة عشرة من عمره وكان جميلا محببا، وكان أملها الوحيد، وقد ضيفتهما كأحسن ما استطاعت، فلما كان الغد أمرت قريبها أن يصحب المسافرين إلى جسر قد قطع منذ حين، فأصبح عبوره خطرا على الذين لا يعرفونه، ومضى الفتى أمامهم حفيا بهما، فلما بلغوا الجسر قال الناسك للفتى: «أقبل، فإني أريد أن أشكر لعمتك صنيعها.» ثم يأخذ بشعره ويلقيه في النهر، ويسقط الفتى ثم يطفو ثم يستخفي في لجة الماء.

هنالك لم يستطع زديج صبرا فصاح: «يا لك من وحش! يا لك من مجرم لم ير الناس مثله!» قال الناسك: «لقد وعدتني أن تصبر على ما ترى، فتعلم أن تحت هذه الدار التي دمرتها القدرة الإلهية كنزا عظيما قد ظفر به صاحبها، وتعلم أن هذا الفتى الذي قتلته القدرة الإلهية لو عاش لقتل عمته بعد عام، ولقتلك أنت بعد عامين.» قال زديج: «من أنبأك بهذا أيها الهمجي؟ وهبك قرأت هذا في كتابك، أمن حقك أن تقتل صبيا لم يسئ إليك؟»

وبينما كان البابلي يتكلم نظر فإذا الشيخ قد فقد لحيته، وظهرت على وجهه ملامح الشباب، وقد زال عنه ثوب الناسك ونبتت في جسمه المهيب أجنحة أربعة؛ قال زديج وهو يجثو: «أي رسول السماء أيها الملك الإلهي، فأنت إذن قد هبطت من أعلى عليين لتعلم إنسانا ضعيفا هالكا أن يذعن لسلطان القضاء الخالد.» قال الملك جسراد: «إن الناس ليقولون في كل شيء دون أن يعلموا شيئا، وقد كنت أشد الناس حاجة إلى أن تتعلم.» فاستأذنه زديج في أن يتكلم: «إني أتهم نفسي، ولكن أأجرؤ على أن أسألك أن تجلو لي شكا يقوم بنفسي؟ ألم يكن إصلاح هذا الصبي وتقويمه خيرا من إغراقه؟» قال جسراد: «لو قد أتيح له أن يكون خيرا وأن يعيش ويتخذ زوجا؛ لقتل وقتلت معه زوجه وقتل معهما ابنهما.» قال زديج: «ماذا؟ أليس من الجريمة والشقاء بد؟ أليس بد من أن يلم الشقاء بالأخيار؟» قال جسراد: «إن الأشرار أشقياء دائما، وإنهم محنة تمتحن بهم قلة من الأخيار مفرقة في الأرض، وليس من شر إلا وهو مصدر للخير.» قال زديج: «وما يمنع أن يوجد الخير ولا شر معه؟» قال جسراد: «إذن لتبدل الأرض غير الأرض، وتتابع الأحداث على أسلوب آخر من الحكمة، وهذا الأسلوب من الحكمة الكاملة لا يمكن أن يوجد إلا في الملأ الأعلى؛ حيث لا يستطيع الشر أن يرقى، وقد خلق الله ما لا يعين من العوالم ما ليس منها واحد يشبه الآخر، وهذا الاختلاف العظيم آية على قدرته التي لا حد لها، فليس من ورقتين في الأرض ولا كرتين في حقل السماء تشبه إحداهما الأخرى، وكل ما تراه على هذه الذرة الضئيلة التي ولدت عليها قد قدر له مكانه تقديرا حسب النظام الثابت الذي أبدعه القادر على كل شيء.

إن الناس يظنون أن هذا الصبي الذي هلك قد سقط في الماء مصادفة، وأن المصادفة نفسها هي التي حرقت الدار، ولكن المصادفة لا وجود لها، فكل شيء إما امتحان، وإما عقاب، وإما مكافأة، وإما احتياط، تذكر ذلك الصياد الذي كان يرى نفسه أشقى الناس، لقد أرسلك أوروزماد لتغيير مصيره، أيها الهالك الضعيف، لا تعترض على من يجب أن يعبد.» قال زديج: «لكن ...» وبينما كان يقول «لكن» كان الملك يرقى في السماء العاشرة، فجثا زديج ورفع إلى القدرة الإلهية عبادته وإذعانه، قال له الملك من أعلى السماء: «اسلك طريقك إلى بابل.»

الفصل الحادي والعشرون

الألغاز

مضى زديج في طريقه هائما، وقد خرج عن طوره كرجل سقطت الصاعقة منه غير بعيد، فدخل بابل في اليوم الذي اجتمع فيه المتنافسون في بهو من أبهاء القصر ؛ ليمتحنوا بتفسير الألغاز، وليجيبوا على أسئلة الكاهن الأعظم، وقد اجتمع الفرسان جميعا إلا صاحب اللأمة الخضراء، فلم يكد زديج يظهر في المدينة حتى اجتمع الشعب من حوله، ولم تكن العيون تشبع من النظر إليه، ولم تكن الأفواه تكف عن الثناء عليه، ولم تكن القلوب تكف عن أن تتمنى له الملك، وقد رآه الحسود فارتعش وحول وجهه، ثم حمله الشعب إلى مكان الاجتماع، وأنبئت الملكة بمقدمه فتنازعها الخوف والرجاء، وكان القلق ينهب نفسها نهبا، ولم تكن تفهم لماذا كان زديج مجردا من سلاحه، ولا لماذا كان إيتوباد يحمل اللأمة البيضاء.

فلما رأى المجتمعون زديج ارتفع بينهم ضجيج مختلط، وكان المجتمعون دهشين سعداء لمحضره، ولكن لم يكن يؤذن إلا للفرسان الذين شاركوا في المبارزة بشهود الاجتماع، قال زديج: «لقد بارزت كما بارز غيري، ولكن رجلا غيري يحمل سلاحي في هذا المكان، وإلى أن يتاح لي الشرف بإثبات ذلك أرجو أن يؤذن لي بالمشاركة في تفسير الألغاز.» وأخذت الأصوات، فلم يتردد أحد في قبوله لأن أمانته وصدقه وشرفه كانت لا تزال مستقرة في القلوب.

وقد بدأ الكاهن الأعظم فألقى هذا السؤال: «ما شيء هو أطول الأشياء في العالم وأقصرها، وأسرع الأشياء وأبطؤها، وأشد الأشياء استعدادا للانقسام وأشدها امتدادا، وأشد الأشياء تعرضا للإهمال وأشدها تعرضا للحزن عليه، بغيره لا سبيل إلى أن يصنع شيء، وهو يزدرد كل ما هو صغير، ويحيي كل ما هو كبير؟»

وكان على إيتوباد أن يتكلم، فأجاب بأن رجلا مثله لا علم له بالألغاز وحسبه أنه انتصر برمحه، قال بعض المتنافسين: إن جواب اللغز إنما هو الحظ، وقال بعضهم هو الأرض، وقال بعضهم هو النور، وقال زديج: «إنه الزمان، ليس شيء أطول منه لأنه مقياس الأبد، وليس شيء أقصر منه لأنه يقصر عن آمالنا، وليس شيء أبطأ منه للمنتظر، وليس شيئا أسرع منه للمبتهج، وهو يمتد في السعة إلى ما لا نهاية، وينقسم في الصغر إلى ما لا نهاية، والناس جميعا يهملونه، والناس جميعا يأسفون على ضياعه، لا يصنع شيء بدونه، وهو ينسى ما لا يستحق الخلود، ويخلد جلائل الأعمال.» فأجمع القوم على أن زديج قد أصاب.

ثم سئل بعد ذلك: «ما شيء يقبل ولا يشكر معطيه، وينعم الناس به دون أن يعرفوا كيف ينعمون به، ويعطونه غيرهم دون أن يعرفوا أين هم منه، ويفقده الناس على غير وعي منهم؟»

فأدلى كل بجوابه، وقال زديج: إنه الحياة، وفسر سائر الألغاز على هذا النحو من اليسر، وكان إيتوباد يقول: ليس شيء أيسر من هذه الألغاز، ولو قد أراد لأجاب عليها في غير مشقة، وقد ألقيت أسئلة حول العدل والخير الأعظم وفن الحكم، فكانت أجوبة زديج أقوم الأجوبة، وكان الناس يقولون من حوله: إن مما يحزن حقا أن يكون صاحب هذا العقل الممتاز فارسا غير ممتاز.

قال زديج: «أيها السادة العظام! لقد شرفت بالانتصار في الميدان، وإنما اللأمة البيضاء هي لأمتي، وقد أخذها السيد إيتوباد أثناء نومي، وقد رأى في أكبر الظن أنها أليق من لأمته الخضراء، وإني مستعد أن أثبت أمامكم بثوبي هذا وسيفي، على رغم كل ما يحمل هو من هذه اللأمة البيضاء التي اختلسها مني؛ أني أنا الذي انتصر على الأمير أوتام.»

وقد قبل إيتوباد هذا التحدي واثقا بنفسه أعظم الثقة، ولم يكن يشك في أنه وقد حمل الخوذة والدرع والمغفر سينتصر في غير عناء على خصم ليس عليه إلا ثوب وقلنسوة، وقد استل زديج سيفه وحيا الملكة التي كانت تنظر إليه يتنازعها الفرح والخوف، واستل إيتوباد سيفه ولم يحي أحدا، ثم تقدم إلى زديج كما يتقدم رجل لا يهاب شيئا، وكان يوشك أن يشدخ رأسه، وقد اتقى زديج هذه الضربة معارضا بقوة سيفه ضعف خصمه، بحيث انكسر سيف إيتوباد؛ هنالك هجم زديج على خصمه فأخذ بتلابيبه وصرعه على الأرض، ثم أنفذ ذبابة سيفه من ثنايا الدرع قائلا له: «دعني أجردك من سلاحك وإلا قتلتك.» وقد دهش إيتوباد لسوء الحظ الذي ألم برجل مثله، وخلى بين زديج وبين سلاحه، وقد بدأ فنزع خوذته، ثم درعه الفخمة، ثم مغفره الجميل ، ثم لبس هذا كله وجرى في لأمته هذه حتى جثا عند قدمي أستارتيه، وأثبت كادور في سهولة أن هذه اللأمة هي لأمة زديج، فنودي به ملكا عن رضا من الناس جميعا، وخاصة من أستارتيه التي نعمت بعد كثير من الشقاء بأن ترى عاشقها خليقا في رأي العالم كله أن يصبح لها زوجا، وعاد إيتوباد إلى قصره حيث يدعوه خدمه مولاي، وأصبح زديج ملكا وأصبح سعيدا، وكان يتمثل في نفسه ما قال له الملك جسراد، بل تذكر حبة الرمل التي أصبحت ماسة، وقد شكرت الملكة وشكر هو للآلهة هذا الفضل، وترك زديج الجامحة الجميلة ميسوف تطوف في أقطار الأرض، وأرسل يدعو قاطع الطريق أربوجاد فرفعه إلى مرتبة حسنة في جيشه، ووعده بأن يرفعه إلى أرقى المراتب إن سار سيرة الجندي الشريف، وأن يشنقه إن عاد إلى قطع الطريق.

ودعي سيتوك مع ألمونا الحسناء من أعماق بلاد العرب، فجعل على تجارة بابل، وأنزل كادور منزلة تلائم بلاءه ووفاءه، فأصبح صديق الملك، وأصبح زديج هو الملك الوحيد الذي استطاع بين ملوك الأرض أن يكون له صديق مخلص، ولم ينس زديج القزم الأخرس، ومنح الصياد دارا جميلة، وقضى على أوركان أن يؤدي إليه مقدارا ضخما من المال، وأن يرد إليه امرأته، ولكن الصياد وقد صار حكيما أبى أن يأخذ إلا المال.

ولم تتعز سمير الحسناء من خطئها حين ظنت أن زديج سيصبح أعور، ولم تكف أزورا عن البكاء؛ لأنها همت ذات يوم أن تجدع أنفه، وقد خفف زديج ألمهما بما أهدى إليهما من الهدايا، ومات الحسود غيظا وخزيا، واستمتعت الدولة بالسلم والمجد والرخاء، وكان هذا العصر أجمل عصر عرفته الأرض، فقد حكمها فيه الحب والعدل، وكان الناس يحمدون زديج، وكان زديج يثني على الآلهة.

وهنا تنتهي المخطوطة التي تقص تاريخ زديج، والناس يعلمون أنه تعرض لمغامرات كثيرة أخرى قد سجلت تسجيلا دقيقا، فنرجو أن ينشرها المستشرقون إن وصلت إليهم.

نامعلوم صفحہ