وإنه لينطق في هذه الحملة العنيفة إذا برجل قوي ينحني أمامه ويدعوه إلى المبارزة.
وسأله الفيلسوف: ولم يا صاح؟
قال الرجل: لأنني إنجليزي، وأنت منذ ساعة تهين بلادي على مسمع من هؤلاء.
ولا ننسى أن الفيلسوف الذي كان يقتحم الأخطار الكبار بشجاعته الأدبية لم تكن له قدرة كهذه القدرة في مبارزات السلاح، ولم يعرف السلاح قط في حياته التي قضاها بين المعاهد والمكتبات، وكان هذا المارد الفكري قزما لا تزيد قامته على خمس أقدام، وقلما تقوى رجلاه على حمله برأسه الكبير.
ولكنه لم يتلجلج ولم يتلعثم أمام دعوة المبارزة، وقال له إنه يختار سلاحه ويبارزه بسلاح البرهان؛ لأنه هو السلاح الذي وقعت به الإهانة، أو وقع به العدوان!
وغني عن القول أن صاحبنا قد اختار سلاحه وهو عارف بقوته فيه، فلم يلبث خصمه أن اعترف بالهزيمة، وطاب له حديثه فاسترسل معه فيه، ولم يشعر بنفسه إلا وهو على مقربة من مسكن الفيلسوف، والفيلسوف يدعوه إلى زيارته! فكانت هذه الزيارة فاتحة الصداقة الطويلة بين الخصمين!
في أوانه بالسنة واليوم
ومن المصادفات التي تتفق كثيرا في سير نوادر العبقريين، أن هذا الحكيم العظيم الذي يقال عنه بحق إنه سابق لأوانه في علمه وتفكيره، قد كان مرهونا بوقت معلوم في رسالته الفكرية، وكاد هذا الوقت المعلوم أن ينطبق على أيام عمله بالسنة واليوم، فلو تقدم قليلا أو تأخر قليلا لضاع في الظلمات وذهب اسمه بين غمار المنسيين والمجهولين.
قال شوبنهور: «إن عمانويل كانت كان الجوهرة العليا في تاج فردريك الكبير، فما كان لمثل كانت أن يعمل أستاذا بمرتب من الدولة في ظل حكومة أخرى من حكومات الكرة الأرضية، ثم يؤذن له بما قاله في كتبه عن الملوك، ولو أنه تقدم قليلا أو تأخر قليلا، لما كان عندنا ذلك الشخص المسمى باسم عمانويل كانت، ويندر أن يكون الحكام من الرجال العظام، فإذا بلغ من عظمتهم أن يدركوا عظمة الآخرين، فهم جدراء بالحمد من بني الإنسان.»
ولقد حدث فعلا بعد موت فردريك الكبير أن ابنه غضب على الفيلسوف ونقم عليه جرأته في آرائه ومعتقداته، ولكن الفيلسوف كان قد فرغ من أهم كتبه وأدى أمانته لتلاميذه ومريديه، وكان قد شاخ وبلغ السبعين وأحب الإخلاد إلى الراحة ، فكف عن الكتابة المثيرة واعتذر بطرفة من طرف المعاذير، لا نذكر لها نظيرا غير اعتذار فرنسيس باكون من نوع آخر، قبل ذلك بنحو مائتي سنة.
نامعلوم صفحہ