209

فهو يشتري الأرض، ويتجر بتربية الخنازير، ويسخر العمال، ويتكلم عن الاشتراكية التي تحرم الملك وتحارب سلطان رأس المال.

وهو يعيش من التقتير عيشة القرون الوسطى في الأحياء العتيقة، ويتكلم عن التجديد والمعيشة العصرية.

وهو ينعي الحضارة الآسيوية، وإنه لفي طواياه يذكرنا بخلائق البدو المغول في البراري السيبيرية.

ومن لغطه بالتجديد ذلك اللغط الذي لا يفهمه، قوله الذي رد عليه الأستاذ الحوفي وهو: «التفت إلى عبارة قالها الأستاذ العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا، إذ هم يدعون على غير ما يجب إلى اللغة العامية، وقد حسب عليهم هذه الدعوة في فاتحة رذائلهم؛ لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية، وهي أن الاشتراكيين شعبيون يمتازون بالروح الشعبي ويعملون لتكوينه، وهم لهذا السبب أيضا مستقبليون وليسوا سلفيين ... في حين أنه هو سلفي الذهن في لغته وأسلوبه وتفكيره وسلوكه ...»

وهذا كلام عن السلفية والمستقبلية ببغاوي العبارة لا يعقل قائله ما يقول: لأن الكتابة في الموضوعات التاريخية ليست هي مقياس السلفية أو المستقبلية، وإلا كان المؤرخون كلهم سلفيين؛ لأنهم ما كتبوا ولن يكتبوا في غير العصور السالفة، وفي غير الماضي البعيد أو القريب، وإنما المقياس الصحيح هو طريقة الكتابة في الموضوعات التاريخية والأبطال التاريخيين، وبهذا المقياس يحسب الإنسان سلفيا رجعيا ولو كتب عن المستقبل الذي يأتي بعد مئات السنين؛ إذ هو قد يكتب عنه بروح الجهل القديم والعصبية الرجعية، وهي العصبية التي عششت في دماغ ذلك الكاتب الببغاوي، فلا ينساها في موضوع قديم ولا حديث.

ومن أصدق المقاييس للمستقبلية الإيمان بالحرية الفردية والتبعة الشخصية.

فليس في التاريخ الإنساني كله مقياس للتقدم أصدق ولا أوضح ولا أكثر اطرادا في جميع الأحوال من مقياس حرية الفرد بين أمة وأمة، وبين زمان وزمان، وبين خليقة وخليقة، وبين تفكير وتفكير.

فإذا قابلت بين عصرين اثنين، فأرقاهما ولا ريب هو العصر الذي يعظم فيه نصيب الفرد من الحرية والتبعة الشخصية.

وإذا قابلت بين أمتين في عصر واحد، فأرقاهما ولا ريب هي التي تدين بالنظم القائمة على تقرير حرية الفرد، وتحميله التبعة في السياسة والأخلاق.

وهذا الفارق الحاسم هو أيضا مقياس الفارق بين العالم والجاهل والرفيع والوضيع والرجل والطفل، والرئيس والمرءوس وكل فاضل وكل مفضول.

نامعلوم صفحہ