فالذين يزعمون أن الرحمة ضعف أو مرض، إنما يلتبس عليهم الأمر بين هذه الحالة الهستيرية التي هي ضعف، وبين الرحمة التي هي قوة؛ لأنها حماية لضعف الآخرين.
وإن الرجل الذي يبطش بالضعفاء لأقوى من الضعفاء، ولكن أقوى منه وأرجل منه، وأرفع منه ذلك الرجل الذي يغلب الأقوياء؛ لينقذ الضعفاء من أيديهم، ويريهم قوة أكبر من قوتهم؛ لأنها لا تكتفي بالقسوة على الضعيف، ولا تحجم عن زجر القوي، وزجره أحوج إلى القوة وأدل على الاستغناء.
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
نعم، وأرجل منه من يعول كل الرجال عليه، ومن يبسط جناحيه على كل من حواليه. •••
وآية أخرى من آيات الطبيعة في هذا المعنى أنك لا تجد مزدريا بالرحمة إلا وهو محتاج إلى رحمة الرحماء. «فردريك نيتشه»: رسول القسوة وأكبر الناعين على الرحمة في العصور الحديثة، قد عاش سنوات ولا سند له في الحياة غير رحمة امرأة عجوز، وهي أمه.
وروي عن الوزير ابن الزيات أنه كان يقول: «إن الرحمة خور في الطبيعة.»
فلما نكب وعذب بالتنور الذي كان يعذب به الناس، إذ به يرثي لنفسه ويستدعي الرثاء لها ، ويجري في ضعفه أمثولة لمن يسترحمون الأقوياء والضعفاء، و«لم يزل - كما جاء في الطبري - أياما في حبسه مطلقا، ثم أمر بتقييده فقيد وامتنع عن الطعام، وكان لا يذوق شيئا، وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير ... وكان قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول: يا محمد يا ابن عبد الملك! لم تقنعك النعمة الفره، والدار النظيفة، والكسوة الفاخرة، وأنت في عافية، حتى طلبت الوزارة! ذق ما عملت بنفسك ...»
ومن شوهد عليهم من القساة أنهم كانوا أصلب من ذلك عودا وأخشن مسا، وأقرب إلى التمرد والعتو والأنفة من الشكوى، فكثيرا ما يكون تمردهم ضربا من التخبط، أو عرضا من أعراض التشنج، أو ثورة عصبية، هي مرض لا شك فيه كمرض الخنوع والولع بالشكاية، وإن اختلف مظهرها كاختلاف النقيضين.
فالذي نراه من المشاهدات الطبيعية أن القسوة هي العجز والمرض والنقصان، وأن الرحمة هي القدرة والفضل والزيادة.
نامعلوم صفحہ