ذا عفة فلعلة لا يظلم
فإن بيت المتنبي معناه أن الظلم أيسر الوسائل وأقربها: أيسرها لمن لا يتيسر له ما هو أصعب منها، وهذا هو بعينه ما نذهب إليه حين نقول: إن القادر على الصعب لا يهبط إلى ما دونه، وإن القادر على الرحمة مستغن عن التقتيل والتخويف.
إن الماء لا يحتاج إلى تدبير وإتقان لينحدر من الأعلى إلى الأسفل.
ذلك هو أيسر الطرق أمامه وأقربها إليه؛ ولكنه محتاج إلى التدبير والإتقان ليصعد من الأسفل إلى الأعلى.
فالظلم كانحدار الماء، قريب؛ والرحمة كارتفاع الماء، صعب، ولكنه أدل على الاقتدار. •••
ومن آيات الطبيعة التي نستفيدها منها في هذا المعنى أن الرحمة تزداد في الأحياء، كلما ازداد الشبه بينها وبين الإنسان في الغريزة الاجتماعية.
فالرحمة معروفة بين الحيوانات الاجتماعية في العلاقة بين والدها ومولودها، وفي العلاقات بين الفرد منها وسائر أفرادها، وفي العلاقات بينها وبين الآدميين.
ومؤدى هذا أن الرحمة وغريزة الاجتماع متلازمتان، فكيف تكون مرضا وهي أصل من أصول الأخلاق الاجتماعية؟ وكيف يتركب في البنية ما هو مرض، أو انحراف مناقض لأساس التكوين؟
على أننا خلقاء أن نميز بين الرحمة وبين الاضطراب الجسدي، الذي يعجز صاحبه عن احتمال المؤلمات والمشقات، فيخور ويبكي حين يرى ما يؤلم أو يتعرض لما يشق عليه، وليس من الضروري مع هذا أن يرحم المتألم أو يعينه أو ينفعه بعطفه، وإنما هو عجز عن احتمال الآلام المشهورة كالعجز عن احتمال الآلام المشهودة، كالعجز عن احتمال الهواء والاضطلاع بالمتاعب، وبين الرحمة وهذا النقص بون بعيد.
إن المرأة الهستيرية التي يغشى عليها حين ترى جريحا يتألم، ليست بأرحم لذلك الجريح من الطبيب الذي يفتح جراحه ويزيده ألما على ألمه.
نامعلوم صفحہ