أين هذه النوبة العصبية القصيرة الزمن، والمعروفة السبب، التى لا دعوة فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعى، إلا المدافعة عن الوطن عند الضيق التى هى مشتركة بين الإنسان والحيوان الأعجم التى لا حجّة تدعمها، ولا معجزة تؤيدها. التى اشتعلت بنفخة، وطفئت بنفخة؟.
أين هى من دعوة الأنبياء التى بيّن الأستاذ الإمام إنها حاجة طبيعية من حاجات الاجتماع البشرى، طلبها هذا النوع بلسان استعداده فوهبها له المدبر الحكيم (الذى أعطى كلّ شىء خلقه ثمّ هدى) فسار الإنسان بذلك إلى كماله، فلم يكن أدنى من سائر المخلوقات الحية النامية، بل أرقى وأعلى؟ وأين دليلها من أدلة النبوّة؟ وأين أثرها من أثر النبوة؟.
إن الأمم التى ارتقت بما أرشدها إليه تعليم الوحى إنما ارتقت بطبيعة ذلك التعليم وتأثيره. وإن فرنسا لم ترتق بإرشاد (جان دارك) وتعليمها، وإنما مثلها مثل قائد انتصر فى واقعة فاصلة بشجاعته، وبأسباب أخرى ليست من صنعه، واستولت أمته بسبب ذلك على بلاد رقتها بعلوم علمائها، وحكمه حكمائها، وصنع صناعها، ولم يكن القائد يعرف من ذلك شيئا ولم يرشد إليه، فلا يقال إن ذلك القائد هو الذى أصلح تلك البلاد، وعمّرها ومدّنها، وإن عدّ سببا بعيدا فهو شبيه بالسبب الطبيعى، كهبوب ريح تهيج البحر فيغرق الأسطول وتنتصر الأمة.
أين حال تلك الفتاة التى كانت كبارقة خفت (أى ظهرت وأو مضت) ثم خفيت وصيحة علت ولم تلبث أن خفتت، ومن حال شمس النبوّة المحمدية التى أشرقت فأنارت الأرجاء، ولا يزال نورها متألق السناء؛ أمى يتيم قضى سن الصبا وشرخ الشباب هادئا ساكنا لا يعرف عنه علم ولا تخيل، ولا وهم دينى ولا شعر ولا خطابة، ثم صاح على رأس الأربعين بالعالم كلّه صيحة؛ إنكم على ضلال مبين، فاتبعون أهدكم الصّراط المستقيم، فأصلح وهو الأمى أديان البشر؛ عقائدها وآدابها وشرائعها، وقلب نظام الأرض فدخلت بتعليمه فى طور جديد؟.
لا جرم أنّ الفرق بين الحالين عظيم، إذا أنعم النظر فيه العاقل الحكيم، ولا سعة فى جواب سؤال كهذا لتقرير الدليل على النبوة بالتفصيل، وإنما أحيل السائل على التأمل فى بقية بحث النبوة فى رسالة التوحيد، ومراجعة ما كتبناه أيضا من الأمالى الدينية فى المنار، ولا سيّما الدرس الذى عنوانه (الآيات البيّنات، على صدق النّبوات) وإن كان يصدق على
1 / 63