12
يا بني، إن البغض قديم بيننا وبين أهل المال، وأساسه ليس في الإنجيل فقط؛ بل في قلب الإنسان. لماذا نبغض الحاكم المستبد والظالم المعتدي واللص والفاجر والشره والحسود؛ إنما نبغضه لأن غرضه الأول إشباع «أنانيته» أي تسخير كل ما في الوجود «للأنا» التي فيه. «فالأنا» هذه هي عنده كل شيء في كل شيء، ومن طبع البشر أن لا يتحملوا «أنا» كبيرة إلا إذا كانت في مصلحتهم العمومية.
13
فبعد تركي يا بني مساعدة إخواني الضعفاء والفقراء بجمع المال لهم انفتح أمامي باب آخر، وخيل لي حينئذ أن العناية الإلهية هي التي أغلقت في وجهي ذلك الباب لتفتح لي هذا. فإنني رأيت أن المساعدة التي كنت أقوم بها ليست مساعدة حقيقية؛ لأن المساعدة الحقيقية تقوم بانتشال المحتاج من وهدته وإيجاد عمل دائم له، وأي فائدة في جمع المال لمن ينفقه في يومه، ويبقى بعده محتاجا ضعيفا كما كان قبله. فخطر لي أن أبني بناء أرسخ من هذا وأعظم، ولكن إياك يا بني بعد قولي هذا أن تقع في الخطأ العظيم الذي يقع فيه غيرك من اعتبار العطاء مضعفا لقوى المعطى له ومعوده الكسل والبطالة. لا لا، انبذ هذا القول نبذا. فإنه إنما هو ستار خشن يقصد به تغطية أنانية الإنسان وقسوته وبخله، ومن حق الإنسانية الضعيفة أن تطلب من الإنسانية القوية عذرا للبخل والقسوة غير هذا العذر؛ لأن هذه إذا رامت ترك العطاء لأنه ليس بمساعدة حقيقية لزمها إذن المساعدة الحقيقية. لأن الذي لا يريد إعطاء الغريق خشبة ليبقى عائما عليها في البحر بدل أن يغرق يلزمه أن يرسل إليه زورقا ينتشله وينقذه، وإلا فإذا تركه يغرق دون هذا ولا ذاك لم يكن إنسانا.
وعلى ذلك حملت معولا يا بني بدل الفضة والذهب، وسرت إلى الأحراش والطرق والأكواخ، وكان كل من رآني بهذه الحالة يضحك ويظنني راهبا معتوها، ولما شاهدني من بعيد أصحابي الذي ألفوني هرعوا إلي كالعادة؛ فخرج الأطفال من أكواخهم لاستقبالي وهم يتسابقون إلي، وزحف المرضى والشيوخ والعجزة لملاقاتي، وتحرك الفقراء الجالسون في الطرق تحت السياجات ماشين نحوي؛ فصرت حينئذ أبكي لأنني ما كنت أحمل لهم هذه المرة ما اعتدت حمله، ولما وصلوا إلي وقفت والدموع في عيني وقلت لهم: يا إخوتي وأبنائي، إن خبث البشر قضى بحرمانكم من مساعدتكم الماضية، ولكن الله أرسلني إليكم بمساعدة جديدة. إن خبز البطالة خبز مالح مر يا أولادي، فهلموا إلى العمل رجالا ونساء وأولادا. إن العاجزين والشيوخ يعملون في الأكواخ عمل النساء، والنساء تنزل مع الرجال الأقوياء للعمل في الحقول، والله يبارك ثمرة أتعابنا جميعا؛ لأنه إله الجد والنشاط والعمل.
ومنذ هذا الحين انصببنا على الفلاحة والزراعة؛ فقلعنا الصخور، ومهدنا الآكام، وعزقنا الحجارة، وأزلنا الأحراش، وحرثنا الأرض على مسافات بعيدة. فلم يلبث أن قام في وسط مزارعنا قرى صغيرة عديدة يعيش أهلها في وسط الطبيعة وهم يتغذون من نباتات الأرض التي يزرعونها وألبان المواشي التي يربونها، وكانت أمور هذه القرى يدبرها عدة من الشيوخ معي؛ إذ بعثت كل قرية شيخا من قبلها ينوب عنها وينظر في حاجاتها وتوزيع الأرزاق والبذور عليها، وكان أكثر شغلي وشغلهم مصروفا إلى زيارة الأكواخ حيث كانت تقيم فيها تلك الإنسانية الصغيرة في أحضان الطبيعة الجميلة تحت حماية الله. يا بني، وكنت أدخل هذه الأكواخ النظيفة المرتبة التي كانت تخرقها الشمس طول النهار فتطهرها من مواد العفن برأس شامخ وسرور في القلب لا على الشفتين فقط؛ ذلك لأنني داخل لأعطي لا لآخذ، ولم يكن عطائي يومئذ فضة ولا ذهبا؛ بل ما هو أثمن وأجمل من الفضة والذهب. إنني يا بني كنت أعطي إخلاص قلبي وصدق ضميري وصحة اشتراكي. فإذا دخلت وكان في الكوخ ولد يبكي أو أم منزعجة لهموم منزلها أو شيخ عاجز مريض يئن من مرضه وعجزه فإنني كنت أبكي لبكائهم، وأتوجع لتوجعهم، وأقول لهم: يا أولادي فلنشكر الله؛ لأن مصائبنا أصغر من مصائب غيرنا، انظروا إلى العالم فيزداد بكاؤكم ولكن لا على أنفسكم بل على أهله. ففي هذه الساعة التي أخاطبكم بها كم من أم وأب وأخت وأخ يبكون وييأسون في العالم؛ إما من ضيق رزقهم أو فقد أعزائهم أو اضطهاد الأشرار لهم أو لأمراض هائلة يقعون فيها لسوء تدبيرهم أو لوراثتهم إياها من أهلهم أو لوقوع الأقدار عليهم. يا أولادي، فلنصل إلى الله من أجل هؤلاء التعساء ولنحمده؛ لأن تعاستنا لا تذكر بإزاء تعاستهم لأنها لم تنشأ إلا عن الضجر وضيق الخلق، ثم إننا كنا يا بني نرفع أيدينا وعيوننا إلى السماء ونصلي «أبانا» فقط. فلا نفرغ منها إلا والأمل قد عاد إلى نفس الشيخ، والأم ضحكت ونسيت انزعاجها وتعبها، والولد صار يضحك ويغرد كأنه هزار في بستان.
ولما كنت أخرج من هذا الكوخ بعد تحويل الضعف والضجر فيه إلى قوة وسرور، كانت نفسي في حالة لا أقدر على وصفها لك، إنما يكفي أن أقول لك: إنني كنت حينئذ سعيدا سعيدا إذا كان في هذه الأرض سعادة. فكنت أذهب مشروح الصدر إلى كوخ آخر، وهناك أسمع قهقهة الضحك والسرور من الباب، وبعد دخولي كنت أجد الأم والجدة والجد مثلا حول موقد النار وأمامهم طفل لهم يلاعبونه ويداعبونه وهموم العالم في معزل عنهم. فكنت أدخل ضاحكا باشا فآخذ الطفل بين ذراعي وأجلس مخاطبا الطفل وأهله بقولي: أسأل الله يا ولدي أن يبقي لك ولأهلك هذه البشاشة وهذا السرور، فإنها غنى النفس الحقيقي وثروتها العظمى وقوة هذه الحياة. أجل يا أولادي، إن البشاشة قوة إلهية إذا كانت ناشئة عن الرضى بأحكام الله والتسليم إلى إرادة الله، ولكن فلنذكر الذين يحزنون ويهتمون ويتعبون، ولنفتكر بهم، ولنصل إلى الله من أجلهم. إن الإنسان الكريم في هذه الحياة يخجل أن يكون سعيدا بإزاء تعاسة باقي الناس
14
فليكن من الكرام يا أولادي، لنشكر الله لإعطائه إيانا قوة البشاشة والصبر والمسرة، ولنسأله أن يقينا من طوارئ المستقبل، ويقوينا على احتمالها حين وقوعها علينا؛ إذ لا بد منها يوما من الأيام - فبعد هذه الكلمات يا بني كنت أرى أولئك السعداء قد هدأت نفوسهم بعد خفتها وترقرقت عيونهم بدموع ذكراهم تعاستهم الماضية والآتية، ولم أكن لآسف على هذا لأنني إنما كنت أقصده؛ لأن غرضي كان في كوخ التعيس تذكيره بشقاء الناس لتخف عليه تعاسته وأريه أنها سنة على الجميع، وفي كوخ السعيد أذكره بالتعاسة والمصائب لئلا يقسو قلبه وتبطره النعمة فيشرس ويخشن وينسى الله والناس، وهكذا كنت بيسير من العناية والتدريب والإخلاص أجعل أولئك التعساء والسعداء بشرا هادئين راضين باشين مسلمين أمورهم إلى باريهم لا تبطرهم نعمة، ولا تسحقهم نقمة، ولا غرض لهم غير مساعدة بعضهم بعضا على عبور نهر هذه الحياة.
يا بني، هنا وصلت إلى ما لا يزال تذكاره مزعجا لنفسي، ولكن لا بد من إتمام حديثي. فبعد مدة انتشر خبر مزارعنا في البلاد كلها؛ فكان الفلاحون والناس يفدون علينا من كل جانب للانضمام إلينا، فكأن قرانا الهادئة اللطيفة ومعيشتنا الطبيعية الإنجيلية الاشتراكية كانت مغناطيسا يجذب النفوس إلينا في وسط هذا العالم المضطرب، ولكن وا أسفاه يا بني، إن شيطان الحسد والطمع والبغض كان يترصدنا، وهذا من أقبح مفاسد الحياة. فإنه لا يكفي الإنسان أن يخلص في عمله ويفرغ جهده ويشق نفسه ليتقنه ويقوم بواجباته؛ بل عليه أيضا أن يفكر في أن يصرف عنه حسد الناس حين نجاحه، وإلا أودى هذا الحسد به وبعمله، وهذا ما حدث لنا، فإنه لم يلبث أن انتشر عنا في المدن والقرى أخبار هائلة؛ فقوم قالوا: إننا كنا نؤلف جمعيات سرية غرضها محالفة الفرس لطرد اليونان من سوريا، وقوم قالوا: إننا أردنا أن نبرز «جمهورية أفلاطون» من حيز القوة إلى حيز الفعل فننشئ هيئة اجتماعية لا تتألف من العائلة، ولا يعرف الأولاد أنسابهم فيها
نامعلوم صفحہ