المقدمة
مدخل
1 - عيد الميلاد في بيت لحم سنة 636
2 - يهودي ... يهودي
3 - على الطريق
4 - البطريرك صفرونيوس
5 - النبي أرميا ومشروعه العظيم
6 - أمام دير العذراء
7 - العرب في بيت المقدس
8 - تاريخ حياة إيليا
نامعلوم صفحہ
9 - عقل الشيخ ينبه ضمير الشاب
10 - أنا أعرف الله
11 - الصليب أهون من هذا
12 - بين مسيحي ويهودية
13 - حلم أستير
14 - الكتاب
15 - حصر بيت المقدس
16 - بين أستير وأرميا وإيليا
17 - مخابرات الصلح
18 - الخليفة عمر بن الخطاب
نامعلوم صفحہ
19 - بين الإمام عمر والبطريرك صفرونيوس
20 - في حيز هيكل سليمان القديم
21 - في قبر المسيح
22 - حديث سياسي للشيخ سليمان
23 - أستير في البيت الأحمر
24 - الخاتمة
المقدمة
مدخل
1 - عيد الميلاد في بيت لحم سنة 636
2 - يهودي ... يهودي
نامعلوم صفحہ
3 - على الطريق
4 - البطريرك صفرونيوس
5 - النبي أرميا ومشروعه العظيم
6 - أمام دير العذراء
7 - العرب في بيت المقدس
8 - تاريخ حياة إيليا
9 - عقل الشيخ ينبه ضمير الشاب
10 - أنا أعرف الله
11 - الصليب أهون من هذا
12 - بين مسيحي ويهودية
نامعلوم صفحہ
13 - حلم أستير
14 - الكتاب
15 - حصر بيت المقدس
16 - بين أستير وأرميا وإيليا
17 - مخابرات الصلح
18 - الخليفة عمر بن الخطاب
19 - بين الإمام عمر والبطريرك صفرونيوس
20 - في حيز هيكل سليمان القديم
21 - في قبر المسيح
22 - حديث سياسي للشيخ سليمان
نامعلوم صفحہ
23 - أستير في البيت الأحمر
24 - الخاتمة
أورشليم الجديدة
أورشليم الجديدة
تأليف
فرح أنطون
المقدمة
أهم أنواع الروايات ثلاثة (الأول) الروايات الاجتماعية والأخلاقية وهي أفضلها؛ لأنها تبحث في إصلاح أخلاق الأمة وتكوينها، وتنبيه نفسها إلى ما فيه منفعتها، (والثاني) الروايات التاريخية؛ وغرضها بسط تاريخ الأمم، أي ذكر أسبابه ومسبباته لاستخلاص النتائج منها بحرية تامة بلا تزلف ولا تحامل للوقوف على الفواعل في تقدم الأمم وتأخرها، (والثالث) الروايات البسيكولوجية؛ وتدخل فيها الروايات الحبية التي يصور فيها احتكاك العواطف وتنازع القلوب والأهواء.
على أن هنالك نوعا آخر من الروايات أفضل من هذه الأنواع الثلاثة وهو الذي جمع بينها في سياق واحد؛ فيكون تاريخيا لمحبي التاريخ، فلسفيا اجتماعيا لمحبي الفلسفة والاجتماع، أدبيا حبيا لمحبي الأدب والعواطف الحبية الطاهرة المنزهة عن الخلاعة والغرام البارد، ومن هذا النوع أشهر الروايات الخطيرة التي كان ظهورها عبارة عن حادثة وطنية كبرى؛ لأنها رفعت مبادئ وخفضت مبادئ «كالميزارابل» لفيكتور هيغو و«الجحيم» لدانتي وغيرهما.
ولقد سلكت «الجامعة» هذا المسلك في روايتها الجديدة «أورشليم الجديدة» فجمعت فيها بين الفلسفة والاجتماع والتاريخ والحب والأدب، وفوق ذلك ضمت إليها «الدين» لأن العصر الذي نبحث هنا في شئونه عصر ديني محض، سواء كان ذلك عند المسيحيين أو عند المسلمين. فالكلام عنه يشمل الدين بالطبع والضرورة، وبدونه يكون الكلام ناقصا أهم وجوهه.
نامعلوم صفحہ
وهي على يقين من أن أبناء العصر وكتابه الأفاضل الذين يرومون تنبيه الشرق من سباته، وأن يمحوا عنه عار الاستسلام للسلطات المضرة، ويطلبون الحقيقة أينما وجدوها سينظرون إلى هذا الكتاب نظرا ينسي مؤلفه شيئا من التعب الذي عاناه في تأليفه؛ لأنه لو لم يكن على ثقة من رضاهم وتنشيطهم قياسا على ما مضى، لما وجد في نفسه القوة اللازمة للإقدام على كتاب كهذا الكتاب مع ما هو معروف في بلادنا عن بضاعة العلم والأدب، وما هو مشهور من تهشيم حرية الفكر ونزاهة النشر؛ تزلفا للسذج وذوي المصالح، خصوصا في الشئون الوطنية والمسائل الشرقية.
والمؤلف لا يدعي في هذا الكتاب فضلا أو مزية، ولكنه يصرح بأنه بذل جهده للجهر - بحرية تامة - بكل ما يجب الجهر به عند الاشتغال بمسائل مهمة خطيرة كالمسائل التي في هذا الكتاب، وطلب الحقيقة بين كل الأحزاب باستقلال تام كأن الكاتب غير منسوب إلى أحدها. فإذا كان إخواننا الرصفاء والقراء الكرام يرون بعد مطالعة هذه الرواية أن المؤلف قد قام بهذه الوظيفة، فهذا خير جزاء يريده منهم، وأفضل ثناء يقبله على الطريقة التي أقدم عليها مع معرفته صعوبتها في بدء الأمر في بلادنا الشرقية التي فيها سلطان الجبن والذل والمصلحة، أقوى من سلطان عزة النفس، وحرية الفكر، وجرأة المبدأ. •••
ويجدر بنا في هذه المقدمة أن ننبه القارئ الكريم إلى أمرين: (الأول) الطريقة الإنشائية التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب. فإننا عنينا هنا بما يسميه الإفرنج «جمال التأليف» عناية خاصة؛ لأن المجال في هذا الكتاب واسع لفكر المؤلف وقلمه ولا قيد يقيدهما ألبتة، وهذا الذي يسمونه «جمال التأليف» عليه المعول في كل الكتب الجليلة التي هزت نفوس البشر في الأرض ورقتها وأمالتها نحو الخير والكمال، وبدونه لا يكون للكتابة أثر في النفوس، ولا جاذبية تجتذب القراء للإقبال عليها، وتأليف جمهور مفكر يميز غث الأمور من سمينها وجميلها من دميمها، وهو ما يعبرون عنه بالرأي العام، وهذا الأسلوب الذي اعتمدنا عليه هنا يعتمد على عاطفة الجمال التي في نفس الإنسان، والتي بها يميز عن الحيوان حتى عرفوا الإنسان «بأنه حيوان يعرف الجمال ويشعر به»، ويقول كثيرون من علماء العمران: إن «الجمال» في الفنون والصنائع الجميلة «وصناعة القلم في جملتها» هو أساس نهضة أوروبا. فإن ارتقاء هذه الفنون الجميلة في إيطاليا كان ناشئا عن ارتقاء عاطفة «الجمال» فيها، وهذا الارتقاء لطف الأذواق ورفع النفوس وكبرها، ومن هنا نشأ الميل للحرية والارتقاء فسرى إلى أوروبا كلها، وبناء على أهمية عاطفة الجمال هذه ترى الناس يبتاعون صورة من صور المصور رفائيل مثلا بملايين فرنكات. فهم يبتاعون بابتياعها ثمار أرقى نفس؛ لأن عاطفة الجمال بلغت فيها أقصى درجات الارتقاء الممكن في الأرض. فإذا قابلنا بين هذه العناية «بالجميل» في بلاد المتمدنين، وبين اعتبار بعضهم عندنا الجمال في الكتابة وغيرها شيئا ثانويا، بل تخيلات وتصورات وأدبيات جاز لنا أن نأسف؛ لأننا في الشرق لم ندرك بعد ماهية الارتقاء الحقيقي لكوننا لا نزال نذم الورد على أسلوب ذلك الشاعر العربي الذي شبهه ذلك التشبيه المشهور.
1
ولكن من حسن الحظ أن عاطفة الجمال الطبيعية الموجودة في نفوس الناس في الأرض أقوى من أن تخنق إذا لم يفهمها بعض الناس، ولذلك ترى (جمال صناعة القلم) يؤثر في الناس في الشرق من غير أن يدروا به، وهذا سبب نهضة الشرقيين إلى الكتابة والمطالعة وتعلقهم بهما، وكلما ارتقت فيهم عاطفة الجمال، أي كلما ارتقت «نفسهم نفسها» ارتقى فيهم الميل إلى هذه الصناعة، وجميع الصنائع الجميلة على نسبة واحدة. فمقياس ارتقاء الأمم إذن إنما يكون بالنظر إلى ما تقدر على إبرازه من عاطفة الجمال هذه مقرونة بشقيقتها عاطفة الخير «لأن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن الخير مطلقا» لا بالنظر إلى ما تقدر على تقليده من شئون غيرها، والفلاسفة يضيفون إلى «عاطفتي الجمال والخير» «عاطفة الحق» التي مقتضاها الجهر بالحقيقة، وطلبها باستقلال تام ونزاهة عن كل مواربة وجبن، ويقولون: إن هذه الثلاثة هي أغراض العلم العليا ومواضيع الفلسفة السامية، وهو قول حق؛ ولذلك نتمنى أن يكثر في بلادنا العزيزة كل ما ينمي هذه العواطف الثلاث؛ لأنها أساس كل ارتقاء ونزاهة وفضيلة، ومصدر كل شيء عظيم، والأمم التي لا تؤسس على هذا الأساس المثلث تتعب وتبني عبثا؛ لأنها لا تبني إلا على المصالح المادية والقابلية الحيوانية. (والأمر الثاني) الذي أحببنا التنبيه عليه أن الروايات التاريخية لا يقصد بها سرد وقائع التاريخ وأرقامه. فإن طالب هذه الوقائع والأرقام يلتمسها في كتب التاريخ حيث تكون قريبة المنال؛ لتجردها عما ليس منها لا في الروايات المطولة التي تشتبك وقائعها الخيالية بها، ولا يصبر طالب التاريخ البحت على مطالعتها، وإنما المقصود من الروايات التاريخية (فوق سرد الوقائع والأرقام، وتصوير الوسط المراد تصويره، وإبراز العواطف والأفكار التي كانت تختلج في هذا الوسط) تكميل التاريخ في جوانبه الناقصة.
ونعني هنا «بتكميل التاريخ» أن يضع المؤلف نفسه موضع الأشخاص التاريخيين الذين يتكلم عنهم، ويعبر عن أفكارهم وآرائهم في المواقف التي يصورها لهم، والتي لا أثر لها في التاريخ مستدلا على ذلك بما يعرفه عنهم، وهذا الأمر في روايات «ديماس» المشهور كان أهم الأمور. فكأنه به يحيي الأبطال الذين يتكلم عنهم، ويجعلهم يشعرون بالأمور التي كانت تنطبق على تاريخهم ومقاصدهم، ويكشف لك خبايا كانت مدفونة في صدورهم، ولقد سلكنا هذا المسلك أيضا في هذه الرواية. غير أننا خشينا أن يختلط التاريخ بما ليس هو في شيء منه فيضل القارئ، سيما القليل الاطلاع، فوضعنا علامات للتفريق بين التاريخ وبين التصنيف والاستدلال، وإليك هذه العلامات: «هذه العلامة * (أي النجمة) تدل على أن ذلك القول وارد في التاريخ، والعلامة (- تدل على عكسه أي أنه تصنيف أو استدلال من المؤلف لا أثر له في التاريخ، والكلام الموضوع بين قوسين هكذا « » أو ( ) أو فاصلتين ،، ،، ومعه نجمة * هو نص تاريخي بحرفه، وأما إذا كان الكلام بين هذه الأقواس بلا نجمة أو كان بلا أقواس ولا نجمة فليس هو من التاريخ في شيء، خصوصا إذا كان بين أشخاص الرواية الخياليين - هذا إلا إذا نبه عليه في الحاشية».
وسنتابع هذه الاصطلاحات في كل رواياتنا التاريخية؛ ليتسع لنا مجال الاستنباط والاستدلال التاريخي في أمثال هذه المسائل. إذ بدون هذه الاصطلاحات يشوه الكاتب التاريخ إذا حرص على الاستنباط والاستدلال، ويهمل أهم ما في التاريخ الروائي إذا أهملهما، والقراء في الشرق على الخصوص يعرفون أن الكاتب في شئون المسلمين والمسيحيين في بلادهم لا غنى له عن هذا الاحتياط؛ لحرج الموقف، وصعوبة الطريق.
أما المصادر التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب فهي عدة لمؤلفي العرب والإفرنج، وقد رجعنا في شئون العرب إلى كتب العرب، وفي شئون الروم إلى كتب الإفرنج كما يجب أن يكون ذلك؛ لأن كل قوم أدرى بتاريخهم، ولقد أشرنا في الحواشي إلى أكثر تلك المصادر.
هذا ما قصدنا ذكره في هذه المقدمة، والآن نأخذ بيدي القارئ الكريم؛ لنسيح معه في هذا الكتاب سياحة طويلة.
مدخل
نامعلوم صفحہ
على الأرض السلام
على جبل الزيتون فوق بيت المقدس كان في سنة 636 قبل عيد الميلاد بثلاثة أيام طيف يتمشى متأملا في المدينة تحته وهو يقول كأنه يخطب في الدنيا كلها: منذ نحو ألفي سنة رن في فضاء هذه الأرض التعيسة صوت خارج من جهات مجهولة يقول: «المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة».
ومنذ ألفي سنة والبشر بشر، السلام على شفاههم لا في القلوب. •••
منذ ألفي سنة هجمت المادة الترابية في عالمنا الدنيء للاتحاد بالجوهر الإلهي. فقبضت يومئذ الأرض على قسم من السماء، ولكن السماء عادت فأفلتت منها فعاد إلى الأرض ما هو من الأرض، وإلى السماء ما هو من السماء، واختفى عنا ذلك النور الذي أضاء تاركا البشر في ظلمة ليلاء. •••
منذ نحو ألفي سنة ثارت بين أسوارك يا «ابنة صهيون»
1
الحرب الأبدية بين الحق وبين التقليد الذي يضع نفسه موضع الحق. بين المبادئ وبين المصالح. بين الفكر وبين المادة. بين القديم الذي يظن نفسه قويا راسخا أبديا لا يزعزعه شيء، وبين الجديد الضعيف المسلح بمعول العقل والفكر ولا سلاح له سواه. فزلزلت الجبال، واندكت الأسوار، ونسف الفكر معالم التقليد والمصالح والمادة نسفا، فقلب عالما وأقام عالما.
ولكن ماذا جرى بعد ذلك؟ هل حفظ الغالب السلاح الذي تغلب به؟ أخبرونا يا رجال صهيون الجديدة يا جند إسرائيل الجديد، وا أسفاه إن الغالب عاد إلى عادات المغلوب. إن المادة قويت على الروح، والمصالح على المبادئ، والتقليد على الفكر والعقل. فهاتوا لنا معولا آخر للهدم مرة ثانية. إلينا يا ملائكة السماء بجراح جديد لمداواة هذه الحسناء المريضة، ولكن رحماكم فلتكن سكين هذا الجراح نحيفة. إننا نشفق على جسمها النحيل، وقلبها الرقيق، وجمالها الساحر، ونفوس الملايين العديدة المتعلقة بها. هات روحك يا بوذه لنعلمها الصبر والقناعة. هات فكرك يا كونفوشيوس لنعلمها الحكمة. هات بلاغتك الإلهية يا أفلاطون؛ لندخل إلى عروقها دم الفلسفة ممزوجة بالأنوار السماوية. هات عقلك يا أرسطو لتقوية عقلها. هاتوا يا حكماء منفيس والإسكندرية وأثينا وبيناريس ورومة كل حكمتكم وفلسفتكم لعلها تشفى بها، وإياكم أن تقولوا إنها في غنى عن كل ذلك بما لديها من المبادئ الفطرية الساذجة؛ فإنها نسيت ما لديها ونسيت الفطرة والسذاجة. نعم، إن فاها لا يزال يردده، ويترنم بألفاظه، ولكن يا للأسف إن قلبها لم يعد يفهمه ولا يقنع به، ولذلك ذهبت منها صحتها وجمالها. أجل يا بيت الحكمة الفطرية الساذجة. يا قدس الأقداس القديم. يا مأوى الفكر الحر المطلق والروح المجرد. إن حمامة الروح السماوية قد طارت من بين جدرانك، وهذا هو سبب مرضك. فهلا استعدت روحك لتحيي بها نفسك ويؤهل منزلك. هلا نظرت بإخلاص ونزاهة إلى مرضك؟
إنك لم تريدي ذلك يا ابنة صهيون فهوذا جراح وخصم شديد قادم نحوك، ولكن وا أسفاه؛ إن سكينه ليست بنحيفة كما طلبت، بل هي عبارة عن سيف قوي، ومع السيف رمح ونبلة وترس وجواد عربي. إن رمال قفار العرب قد تحركت يا ابنة صهيون. زحفت نحوك قاصدة الدنيا كلها. فأوسعوا أوسعوا المكان في الأرض لأمة جديدة عظيمة ومدنية جديدة. إن الدنيا تتمخض الآن بدين جديد وسلطنة جديدة. إن أبناء إسماعيل الأقوياء خرجوا من قفارهم الجدباء لملاقاة أبناء إسحق الظرفاء، ولكن يا للأخوة يا لحرمة النسب؛ إن ملاقاتهم كانت للاقتتال على سلطنة الأرض، كأن هذه الدنيا الواسعة تضيق عن أخوين كريمين. فسدوا آذانكم يا أيها البشر؛ فإن أرضكم ستصير ميدانا واسعا للحروب والمجازر المختلفة. ناموا أيها الموتى الشرقيون بأمان، واحمدوا الله؛ لأنكم قضيتم قبل العصر الذي تزحف فيه الأمم والقارات بعضها على بعض ليفني بعضها بعضا، ويا سلطنة بزنطية التي ملأت الدنيا أبهة وسطوة وجلالا استعدي فقد دنت آخرتك، ولا تلومي أحدا غير نفسك. لماذا أهملت شعبك لتشتغلي بالمجادلات الدينية العقيمة؟ لماذا جهلت أن كل بناء لا يبنى على «إصلاح أحوال الشعب» بناء ضعيف يتداعى في مدة قصيرة؟ لماذا حصرت كل قواك في الاختلافات على خلافة الملك وانتقال السلطنة؟ لماذا رمت الاستيلاء على الدنيا كلها بدل إصلاح شئونك الداخلية فجزأت قواك بتجزئة اهتمامك على غير فائدة؟ لماذا هجرت الروح والفكر الذي يجعل الأفراد أقوياء والشعوب منيعي الجانب سعداء. إن الشعب الشاب الحديث الخارج من رمال بلاد العرب قد استولى على ذلك الفكر الذي هجرتيه، وهجم عليك بسلاحك بريئا في أول نشأته من تلك النقائص التي أودت بك. لقد زحف يمثل الوحدة والعصبية والإصلاحات الشعبية والحياة الروحية والمعيشة الطبيعية والمساواة والإخاء والحرية، ومن فرط ثقته من نفسه ومن مبدئه يظن أنه وحده يمثل الوحدانية، وبهذه المناقب سيستولي يوما على الكرة الأرضية، وسيبقى له هذا الملك حتى تفارقه المناقب كما فارقتك فيصيبه حينئذ ما أصابك، وفي ذلك الوقت تنطرحان كلاكما على الأرض أخوين في المصاب تنظران إلى الأمم والمبادئ الأخرى التي تجيء بعدكم وتقوم على آثاركم.
فيا أيتها الأمم المختلفة التي تقوم وتسقط وتتطاحن كحبوب الحنطة تحت الرحى لك أن تقولي «المجد لله في العلى» لأن الله خالقنا عظيم، ولكن لا تقولي «في الأرض السلام، وفي الناس المسرة» فإن الأرض ليس فيها اليوم شيء غير السيف والنار، وليس بين البشر شيء يسر، بل السائد بينهم الفساد والاضطراب والبغض والشقاء والدمار.
نامعلوم صفحہ
الفصل الأول
عيد الميلاد في بيت لحم سنة 636
حالة الإمبراطور هرقل والسلطنة البيزنطية في صدر الإسلام «البيت الأحمر». ***
بيت لحم في يوم عيد الميلاد المسيحي كعبة يحج إليها المسيحيون من كل أقطار العالم، كما يحجون إلى كنيسة القيامة الكبرى في القدس في عيد الفصح الذي هو عيد القيامة. ففي سنة 636 للميلاد المسيحي ليلة عيد الميلاد خلت القدس من أهلها ومن الحجاج لزحفهم إلى بيت لحم لحضور العيد، وقد بدءوا بالسفر إلى بيت لحم منذ يومين رجالا ونساء وأولادا؛ بعضهم يقيمون عند أقاربهم ومعارفهم، وبعضهم يستأجرون غرفا خصوصية لذلك. فامتلأت بلدة بيت لحم على صغرها بأجناس القادمين إليها من نواحي فلسطين، والثغور، وسوريا، ومصر، والأناضول، والقسطنطينية، وقبرص، ورودس، وغيرها، وكان اختلاف أزيائهم ووجوههم مما يروق النظر فيخيل للناظر أن أجناس البشر كلها تعرض له في تلك البلدة الصغيرة.
وكانت كنيسة المغارة التي هي عند الناس مكان ولادة المسيح قائمة في وسط البلدة، وكانت مؤلفة من قسمين: فقسم هو كنيسة المهد نفسه * وهي عبارة عن مغارة منقورة في الصخر مكسوة الجدران بالأغطية الثمينة المزركشة والمزينة أفخر زينة، وفي سقفها عدة مصابيح بعضها يضيء ليلا ونهارا، وقسم هو كنيسة فاخرة كبرى قائمة فوق تلك الكنيسة الصغرى لاجتماع الناس فيها، وقد بنتها هيلانه أم الإمبراطور قسطنطين الكبير
1
وكانت الكنيستان منارتين في تلك الليلة بالمصابيح والشموع المتعددة، وروائح البخور تنبعث عن المباخر، والناس داخلون إلى الكنيسة الكبرى وخارجون منها ولوائح السرور على وجوههم.
فلنترك الناس خارجين وداخلين، ولنذهب بالقارئ إلى منزل كبير قائم تجاه الكنيسة في الجهة الغربية، وهو مدهون بلون أحمر؛ ولذلك يسمونه: «البيت الأحمر»، وقبل الدخول إلى هذا البيت نقرأ على خشبة مسمرة فوق بابه هذه الكتابة باللغة اليونانية: «لا شراب رديء يزعج معدتك، ولا رفيق السوء يزعج نفسك» ذلك أن هذا البيت كان معدا لنزول الضيوف في الأعياد والمواسم والاحتفالات المختلفة.
فإذا دخلنا هذا الفندق وجدناه قسمين: فقسم للرجال؛ وكان يجتمع فيه ضيوف من بيت المقدس وغيره، وقسم للسيدات؛ وكان يجتمع فيه أجمل وأذكى سيدات أورشليم
2
نامعلوم صفحہ
وكان أمام القسمين حديقة واسعة الجوانب مزروعة بالنباتات والأزهار والشجيرات المختلفة، وفي وسطها قاعة المائدة، وهي قسمان أيضا: واحد للرجال، وواحد للنساء.
وكان البرد في ذلك اليوم شديدا، والغيوم متلبدة في السماء تنذر بالمطر، والهواء يهب من الجهة الجنوبية الغربية هبوبا عنيفا، ومع ذلك فقد كان في الحديقة في جهة قسم الرجال رجل يتمشى وفي يده كتاب خطي، وهو تارة يقرأ وطورا يتأمل، وربما يظن القارئ أن ذلك الكتاب كان نسخة من كتاب ديني، ولكن إذا دنونا من الرجل وجدنا على غلاف كتابه هذه الكلمات: «كتاب في النفس - تأليف أرسطو».
وكان الوقت مساء، وصاحب الكتاب يقرأ في كتابه على ذرات ضوء النهار الأخيرة بين مداعبة الريح وقرص البرد وقهقهة الرجال والنساء خارجة من داخل الفندق، بينما صراخ الناس في الشوارع أمام الكنيسة، وأصوات الباعة وضوضاء المغنيين تصم الآذان، وكان هذا الرجل القارئ كلما زادت تلك القهقهة والضوضاء الداخلية والخارجية ينظر باشمئزاز وأنفة إلى الجانب التي خرجت منه، ويقرن اشمئزازه بابتسام الاحتقار. إلا أنه في ذات مرة اشتدت القهقهة والصياح من داخل ومن خارج، فمد يده إلى جيبه وتناول دفترا، وكتب فيه ما يأتي:
الطبقات العالية لا هم لها إلا ملاذها. فهي تفرح وتطرب لأن الإمبراطور يترك لها حرية التمتع بها. فكأن الدنيا كلها عندها أكل وشرب ولذة، والطبقات الواطئة ترضى بأقل شيء، ولذلك يلهونها بأصغر الأمور، ويعملون على ظهرها كل الأعمال. فهل تنفتح عيونها يا ترى يوما من الأيام؟
وما أتى صاحب الكتاب على هذه العبارة حتى اندفع من قسم النساء في الفندق نحو عشرين سيدة ضاحكات مقهقهات وتفرقن في الحديقة. فألقى صاحب الكتاب إليهن نظرة، ثم عاد إلى كتابه بأنفة وكبرياء. أما السيدات: فلم يصرفن أنظارهن عنه، بل أخذن يتأملن فيه. فقالت إحداهن: من هو هذا البارد الذي يقرأ في هذا الظلام والبرد يا أخواتي؟ أظنه راهبا من رهبان دير إيليا. فضحكت رفيقاتها، وأجابت سيدة أخرى: وحياة العذراء يا أخواتي إنني نظرت هذا الرجل قبل اليوم. فإنه في كل مساء يخرج من باب يافا وفي يده كتاب فينحدر إلى الوادي ويغيب فيه.
فرسمت إحداهن علامة الصليب على صدرها، وقالت: «كيريالايسون» (يارب ارحم) أظنه يختلي ببعلزبول. فصاحت بعض رفيقاتها: باسم الصليب الكريم يا تيوفانا إنك تذكرين بعلزبول دائما، فيظهر أنه بينك وبينه شيء من الصحبة. فضحكت السيدات، وأما تيوفانا فإنها رسمت علامة الصليب على صدرها وبصقت على الأرض موجهة هذه البصقة إلى بعلزبول.
أما صاحب الكتاب فإنه لم يسمع من حديث السيدات سوى هذه الكلمة «دير إيليا» فظن أنهن يقلن «اسمه إيليا» فقال في نفسه: من أين يعرفنني هؤلاء السيدات؟
ومن البديهي أنه لا يخرج النساء إلى الحديقة، ويبقى الرجال في الداخل. فخرج الرجال على صوت النساء، وتفرقوا في الحديقة محيين السيدات برءوسهم، وما زالوا يتمشون حتى التقت طلائع الفريقين فتبادلوا التحيات والابتسامات، وتداعوا إلى الجلوس على مقاعد الحديقة مع شدة البرد. فجلس النساء فى صفوف والرجال في صفوف، ودار الحديث بين الفريقين، وصاحب الكتاب في زاوية يصغي ويعي.
فقالت إحدى السيدات: متى يصل مولانا البطريرك؟ فأجابها أحدهم: سيصل في الليل. فقالت أخرى: الظاهر أن هذا العيد سيكون بهيجا؛ لكثرة الحجاج والوافدين. فهز أحد الرجال رأسه وقال: إن أكثر هذه الجماهير فروا من وجه العرب * ولم يقدموا للعيد. فقالت تيوفانا: إذا قصدتم الكلام في السياسة فاخفضوا أصواتكم وانظروا إلى ما حولكم. فرفع حينئذ أحد الرجال صوته وصاح: مم نخاف لقد أضاعوا الإمبراطورية بطياشتهم، وها إن العرب قد صاروا على أبواب المدينة * فبغتت النساء، وصاحت تيوفانا: وهل انكسر مانويلس، فهز الرجل رأسه، وقال: إن قائدنا مانويلس الظريف قد انكسر في «اليرموك» شر كسرة * وهذه الواقعة فتحت سوريا كلها للعرب، كما فتحت لهم واقعة القادسية بلاد الفرس * ومن ذلك يظهر أن الإمبراطور كان مصيبا في ما فعل. قال الرجل ذلك، ثم نظر إلى ما حوله. فقالت إحدى السيدات: ولكن يظهر أن مولانا البطريرك مستاء جدا من صنعه هذا. فقال ذلك الرجل: ولكن ما الحيلة، إنه لم يكن يستطيع أن يعمل غير ما عمل. فإنه بعد أن فتح العرب دمشق لانكسار أخيه تيودوروس أمامهم في أجنادين
3
نامعلوم صفحہ
لم يبق له إلا ترك سوريا وشأنها تدافع عن نفسها بنفسها للعودة إلى القسطنطينية قاعدة مملكته؛ لأن المغول والسلافيين وفيهم البلغار والسرب كانوا يتهددون حياة السلطنة، وقد كسر السلافيون جنده وراء القسطنطينية شر كسرة * وقد بلغني أنه لما خرج من سوريا قادما إلى هنا لأخذ الصليب المقدس من الجلجلة إلى القسطنطينية خوفا * من أن يأخذه العرب كما أخذه الفرس لما فتحوا مدينتنا
4
وقف على نشز في حدود سوريا مودعا وقال: «السلام عليك يا سوريا سلام لا اجتماع بعده»
5
ذلك لأنه علم أنه لا قبل له على حفظ سوريا ووراءه من ذكرنا من أعدائه، ومما زاد الطين بلة أيضا أن الجيش تمرد * وأعلن خلعه. فكيف يبقى في هذه البلاد؛ ليدافع عنها بنفسه، وتلك حال سلطنته وعاصمته؟ إن البطريرك مخطئ في استيائه.
فقال رجل آخر: وهناك سبب آخر يوجب على البطريرك أن لا يستاء من ترك الإمبراطور سوريا وفلسطين وشأنهما تعتمدان على قواتهما الداخلية فقط، وهو اعتلال صحته واضطراب عقله. فإنني شاهدت الإمبراطور مرتين: المرة الأولى منذ ثماني سنوات لما عاد إلينا من حرب الفرس ظافرا منصورا بعد أن سحق سلطنة كسرى الكبير، وهدم معابد النيران، واسترد الصليب، وجاء لإعادته إلى الجلجلة * فإنه كان يومئذ في أوج عزه وعظمته، وكانت الإمبراطورية كلها تتحدث يومئذ بسطوته، وشاعره «الراهب جاورجيوس بيسيديس» الذي هو معلم اعترافه أيضا ينشر فيه القصائد الرنانة التي تثير الأفكار ويشبهه بالبطل أشيل وقسطنطين الكبير * فيومئذ كان الإمبراطور معبودا عند شعبه، وكانت لوائح السعادة تظهر على وجهه، ولست أنسى في حياتي منظره لما حمل في كنيسة الجلجلة في مدينتنا الصليب بنفسه، وصعد به وحده إلى موضعه في الجلجلة لنصبه بيده * فقد كانت لوائح القوة والصحة ظاهرة عليه. أما المرة الثانية التي شاهدته فيها فهي منذ مدة لما عاد إلينا من أنطاكية بعد استيلاء العرب على دمشق؛ ليأخذ الصليب إلى القسطنطينية، وينصبه في كنيسة هاجيا صوفيا * ففي هذه المرة كان الاضطراب والضعف باديين في وجهه، وصحته كانت في أسوأ حال، وهذا ما منعه من قيادة جيوشه بنفسه * للدفاع عن دمشق، وإلقائه عهدة ذلك إلى أخيه ثيودوروس الذي أساء في الدفاع فناله غضب الإمبراطور * ثم نظر المتكلم إلى ما حوله كأنه خائف أن يسمعه أحد، وقال: وهناك أخبار جديدة وردت في هذا الأسبوع من القسطنطينية تثبت أن الإمبراطور أصبح في حالة صعبة لطف الله به. فإن عقله صار مضطربا * لكثرة مشاكل السلطنة، ويخشى أن يفقد صوابه * وقد علمت عن ثقة أنه لما وصل إلى قصره في القسطنطينية اضطر رجاله أن يبنوا له على البوسفور أمام قصره حواجز خشبية على صفين من الجسور وتغطية هذه الحواجز بالخضرة والنباتات * لإخفاء منظر البحر عنه؛ لأنه أصبح يخاف خوفا شديدا لمجرد وقوع نظره على البحر * فهل من حق البطريرك أن يلوم رجلا هذه حالته العقلية والصحية؟
وكان بين الرجال رجل يتشاغل عن هذا الحديث بفرك يديه ووجهه من البرد، فلما فرغ المتكلم من كلامه التفت إلى الحاضرين وقال: هل تعتقدون أن البطريرك مستاء من الإمبراطور من أجل مسألة الدفاع عن سوريا وفلسطين فقط. كلا فإن الاستياء بينهما قديم.
فقال الرجل الذي تكلم سابقا: نعم، نحن لا نجهل ما قام بينهما من الخلاف في المسألة الدينية * ولكن ما هذا وقته الآن. فإن الواجب علينا لوطننا وديانتنا ومملكتنا أن نكون كلنا يدا واحدة ونفسا واحدة أمام العدو، وإلا كانت العاقبة وخيمة علينا.
فانبرت هنا إحدى السيدات وصاحت: يا لله إننا قدرنا على سلطنة عظمى كسلطنة الفرس فسحقناها واحتللنا عاصمتها * وقبائل بدو ضعاف حفاة كقبائل العرب لا نقدر عليها.
فساد السكوت حينئذ بين الحاضرين؛ لأن هذا السؤال البسيط نقل الحديث إلى أهم المواضيع، أي إلى أسباب ضعف الإمبراطورية يومئذ مع قوتها في ما سبق. فنظر الحاضرون بعضهم إلى بعض وابتسموا، وكان فيهم السوريون واليونان بين شرقيين وغربيين * فكأنهم أرادوا بابتسامهم أن يقولوا إن ذلك العيد يوم فرح وسرور لا يوم مناقشات ومخاصمات في أمور سياسية دينية جنسية * فقد كفى الناس مخاصماتهم في هذه الأمور في باقي أيام الأسبوع. *
نامعلوم صفحہ
الفصل الثاني
يهودي ... يهودي
في أن العامة في كل مكان تصدر أحكامها بلا تحقيق ولا محاكمة. ***
أما إيليا فإنه كان يضحك من زاويته؛ لترك الرجال سؤال السيدة بلا جواب، وكأن السيدات شعرن حينئذ بقرص البرد لانقطاع الحديث، فنهضن مبتسمات مرتجفات من القر، وأسرعن إلى داخل الفندق، وكان صاحبنا إيليا قد مد يده إلى جيبه؛ ليتناول دفتره، ويجاوب فيه عن ذلك السؤال، وإذا بصيحة شديدة علت في الشارع، وصار الناس يصرخون ويجلبون. فهرع الرجال إلى الباب، وفي مقدمتهم صاحب الكتاب، وجمدت السيدات في مكانهن مرعيات السمع؛ لمعرفة سبب ذلك الصياح. فسمعن العامة يصيحون: «غضب الله غضب الله» «يهودي يهودي في المدينة» فلما سمع صاحب الكتاب، وقد عرفنا أن اسمه إيليا، كلمة «يهودي» وثب إلى الشارع، وهو يقول في نفسه: «هذه رواية جديدة لم نمثلها منذ زمان» فوجد الناس في هياج شديد لا مزيد عليه، وهم يروحون ويجيئون باحثين مفتشين عبثا. فهذا يقول: «رأيته مر من هنا وهو بلحية طولها كالذراع، ووجه أصفر كوجه الأموات» وآخر يقول: «لا بل هو بلا لحية، ولكن قامته بطول أربعة أذرع، ورأسه صغير صغير كالرمانة» وذاك يقول: «لا لا لم أره هكذا، وإنما رأيته قصيرا لا يتجاوز الذراع، ولحيته تكنس الأرض من قصره» فضحك إيليا من هذه الأقوال المتناقضة، واستوقف أحد الصارخين، وكان من أكثرهم تحمسا، وقال له: أخبرني أيها الرفيق، ما سبب هذا الاضطراب؟ فأجاب الرجل وهو يلهث من تعبه في الصراخ: ألا تعلم السبب؟ إن يهوديا اجترأ ودخل بيت لحم ليلة العيد، فيجب أن نمسكه ونصلبه. فقال إيليا وقد ارتعدت فرائصه من ذكر الصلب: ومن أين علمتم ذلك إذا كنتم لم تمسكوه بعد؟ فأجاب الرجل: علمنا ذلك بأعجوبة سماوية. فإن المصباح في مغارة المهد انطفأ من تلقاء نفسه، وكلما راموا إشعاله لا يشتعل، وهذه علامة قطعية على وجود يهودي في المدينة يغضب وجوده أهل المقام.
فهز إيليا رأسه وقال في نفسه: الويل للبريء الذي يشتبه به العامة، ويقبضون عليه بدعوى أنه يهودي، فإنه يذوق العذاب والإهانة قبل أن يستطيع أن يثبت أنه ليس بيهودي. ثم قال للرجل: أتريد أن أبرهن لك أنه لا يهودي في بيت لحم الآن. فقال الرجل محملقا: وما برهانك؟ فقال إيليا: اذهب معي إلى مغارة المهد، وهناك أصب أمام عينيك شيئا من الزيت في المصباح الذي انطفأ من تلقاء نفسه، فتعلم حينئذ أنه لم ينطفئ إلا من نفاد زيته.
فرسم الرجل حينئذ علامة الصليب على صدره صائحا «باسم الصليب الكريم» ثم صرخ مشيرا إلى إيليا «هذا هو اليهودي فإنه ينكر العجيبة» (أي المعجزة).
فلم يكن كلمح البصر حتى تألب حول إيليا جمهور من العامة، وأخذوا بثيابه ويديه وعنقه، وكان أحدهم يلطمه في كتفه، وآخر يدفعه في صدره، وثالث يصفعه على قفاه، وهم يصيحون بأعلى أصواتهم «مسكناه مسكناه، يهودي يهودي» وكان إيليا في أثناء ذلك يتملص منهم، ولكن على غير فائدة، وما زالوا يجرونه ويدفعونه والجماهير تزداد التفافا حوله حتى وصلوا به إلى باب الكنيسة أمام البيت الأحمر، وكان الضيوف في البيت الأحمر قد خرجوا إلى الشارع حين سماعهم تلك الجلبة، والسيدات وقفن في الباب ينظرن إلى هذا الاضطراب. فلما وقعت أنظارهن على إيليا بين تلك الجماهير في تلك الحالة شهقن شهقة واحدة من الاستغراب والدهشة، وصاحت تلك التي قالت في ما تقدم إنها كانت تنظره يخرج من باب يافا: وحياة العذراء مريم إن هؤلاء الناس معتدون على هذا الرجل. فإنني متحققة أنه ليس بيهودي؛ لأنني نظرته مرارا ينحني أمام الصلبان والرهبان حين دخولهم في بعض الاحتفالات من باب يافا، وأنا أنظره في المدينة منذ سنوات. فازدادت النساء حنانا وشفقة على الرجل، وقد قالت تلك السيدة هذا القول دون أن تخشى لائمة فيه مع معرفتها أنه يحتمل التأويل عليها، ولكن قلبها كان في تلك الساعة كبيرا؛ لرغبتها في إنقاذ رجل بريء فافتكرت بغيرها لا بنفسها.
وبينما كانت هؤلاء السيدات مشتغلات بالأسف والكلام كانت واحدة منهن، وهي تيوفانا التي تقدم ذكرها، قد ركضت إلى داخل الفندق أول ما وقع نظرها على إيليا بين الجموع، وبعد بضع دقائق عادت ووراءها رجل غريب المنظر، وهو يفرك عينيه من النعاس، كأنه كان نائما وأيقظته، وكان هذا الرجل كبير الهامة عريض الأكتاف طويل القامة شعره منتشر على كتفيه كشعر الرهبان، وفي عينيه لوائح الغلظة والحدة والذكاء. فلما رأته السيدات صرخن: «أهلا وسهلا بالنبي أرميا» وقالت له تيوفانا مشيرة إلى إيليا بين الجموع «انظر إلى هذا المسكين فاذهب وخلصه».
ولكن ما وقع نظر النبي أرميا على إيليا حتى أسرع إليه متفرسا فيه من بعيد. ثم صاح بأعلى صوته «النبي إيليا» فالتفت حينئذ إيليا وإذ أبصر الرجل القادم صاح به: «إلي يا صديق» فهجم النبي أرميا على الجموع صائحا: إليكم عنه إليكم عنه. فانزاحت الجموع من طريق الرجل القادم، وهم يصيحون مسرورين «أهلا بالنبي أرميا. سلموه اليهودي ليصلبه» فسلمه العامة إيليا وهم يحومون حوله، وإيليا يلهث من التعب والألم لا من الخوف. فأخذه إيليا من يده، ودنا منه فقبله أمام الحاضرين، ثم قال على مسمع منهم: «إذا كنت أنا يهوديا فهذا الرجل يهودي» فدهش الحاضرون حينئذ، وأخذوا يتفرقون عن إيليا، وهم نادمون لإساءتهم إليه. أما إيليا فأخذ يصلح ملابسه، ثم إنه شكر للنبي أرميا مساعدته، وأوصاه أن يبلغ السيدات شكره، وبعد ذلك استأذن أرميا بمفارقته للتفتيش على الرجل الذي كان السبب في الإساءة إليه، وعاهده على أن يلاقيه في المكان الذي اعتاد ملاقاته فيه.
وبينما كان إيليا يفتش في ذلك الشارع عن الرجل الذي حرض الناس عليه، وهو لا يزال في أشد هياج، كان العامة قد عادوا إلى الاضطراب والحركة، وأخذوا يتصايحون قائلين: «فتشوا على اليهودي، وإلا لم يقم عيد ولا احتفال؛ لأن المصابيح «تأبى» الاشتعال، هل وجدتم اليهودي؟ هل بحثتم في ذلك الشارع؟ هل قلبتم الحجارة في الطريق لعله مختبئ تحت أحدها».
نامعلوم صفحہ
فمن هذا المزاح يظهر أن العامة كانت بذلك تقصد الهزل على الأكثر؛ إذ لم يكن لديها شيء يلهيها، وهذا ما يحدث في أكثر الفتن والاضطهادات. فإن المضطهد (بكسر الهاء) والمضطهد (بفتحها) كثيرا ما يكونان كالهر والفأر؛ الأول يلعب، والثاني يتعذب.
وكان إيليا قد بلغ حينئذ طرف الشارع دون أن يجد الرجل الذي كان يبحث عنه، وكان ذلك الجانب يكاد يكون خاليا من الناس لبعده عن الكنيسة. فلما وصل إلى منعطفه هم أن يقفل راجعا، وإذا به يسمع هامسا يقول: «أسرعي يا أستير».
فلما سمع إيليا اسم «أستير» حتى أجفل وهرع نحو الصوت. فشاهد شبحي رجل وامرأة يسيران في الشارع الثاني. فوقف مبهوتا ينظر إليهما، وقد اشتبه في أمرهما من اسم «أستير» اليهودي. فقال في نفسه: ترى هل صدق ظن العامة ودخل بعض الإسرائيليين إلى هذه البلدة في ليلة العيد لمشاهدته مع ما هو مشهور من تحريم الدخول عليهم إلى أورشليم ونواحيها، ولما كاد الشبحان يتواريان أسرع إيليا فقطع عليهما الطريق من شارع الكنيسة، ثم عطف على الشارع المقابل لشارعهما فصار أمامهما. فسمع الرجل يقول للمرأة باللغة العبرانية همسا «لا تخافي لا تخافي» فتحقق إيليا حينئذ أن الرجل والمرأة إسرائيليان لا شك فيهما. فاضطرب لذلك اضطرابا شديدا ... ووقف في زاوية ينتظر مرورهما عليه في ذلك الشارع الخالي، وكان سبب اضطراب هذا الشاب يدل على أخلاقه. فإنه لم يضطرب لمنظر الدم الذي سفك دما زكيا عنده. فإن نفسه كانت أرقى من نفوس العامة بكثير؛ بل كان اضطرابه لعلمه أن العامة إذا ظفروا بهذا الرجل ورفيقته فإنهم يقيمون الدنيا ويقعدونها عليهما لمخالفتهما أمر الحكومة بمنع دخول الإسرائيليين إلى بيت المقدس ونواحيه، وربما لقيا من الحكومة أشد عقاب من أجل أمر صغير كهذا الأمر.
وبعد دقيقة وصل الرجل والمرأة إلى محاذاة إيليا فأمعن إيليا من زاويته النظر فيهما فإذا به يرى رجلا في نحو الستين أو السبعين من العمر وفتاة في نحو العشرين، وكانت ملابسهما كملابس رجال وسيدات أورشليم، وكان الخوف باديا على وجهيهما، إلا أن خوف الفتاة كان يطبع على وجهها جمالا سماويا ساحرا، وكانت الزفرات تتصاعد من صدرها وهي سائرة فتخنقها، ولكنها تتمالك نفسها رغما عنها لئلا يسمع صوتها في هدوء ذلك الليل.
فلما لمح إيليا في ذلك الليل هذا الجمال الخائف، وطرقت أذنه تلك الزفرات المتصاعدة عن قلب مضطرب متألم من عدوان البشر شعر الشعور الذي يشعر به كل رجل كريم يعرف واجباته الإنسانية في حال كهذه الحال. فقال في نفسه: إنني سأكون ألزم لهذين الخائفين من ظلهما. فسأتبعهما وأحرسهما من بعيد، وإذا طرأ عليهما سوء وقيتهما منه بنفسي - وعلى ذلك أخذ يسير وراءهما.
أما الشيخ والفتاة فإنهما ما قطعا البلدة حتى وصلا إلى الطريق العمومية الموصلة إلى القدس فهناك تنفسا الصعداء قليلا، وكان في ذلك المكان محطة للخيل والبغال، فاستأجرا بغلين إلى القدس، وركبا قاصدين المدينة. فجاء إيليا بعدهما واستأجر جوادا وسار وراءهما.
الفصل الثالث
على الطريق
في أن الفتاة قد تكون أشد تمسكا بمبدئها من الشيخ لأن نفسها عذراء لم يلوثها الخوف والجبن ورجاء الفائدة. ***
وكان الناس لا يزالون يفدون على بيت لحم من القدس، وهم منتشرون على طول الطريق بين مشاة وركاب، وفيهم المغنون والعازفون بالآلات الموسيقية. فلما رأى الشيخ والفتاة ذلك علما أنهما ما زالا في خطر، وفي الحقيقة أن الناس كانوا ينظرون إليهما حين المرور بهما نظر الاستغراب؛ لعودتهما في تلك الساعة من بيت لحم مع أن جميع الناس كانوا حينئذ ذاهبين إليها.
نامعلوم صفحہ
ولم يصل الشيخ والفتاة إلى محاذاة المكان المعروف بقبر راحيل حتى سمع للفتاة شهيق وزفير ضعيف. فصاح بها الشيخ هامسا: إياك والبكاء يا أستير وإلا تفضحينا. فقالت الفتاة: لست أبكي على راحيل، بل على أنفسنا وعلى حياتنا التعيسة.
1
ولقد أحسنت الفتاة بترك البكاء في ذلك الحين؛ إذ بعد دقيقة سمع على الطريق أمامهما جلبة شديدة، وكان السبب في ذلك قدوم شرذمة من الجنود الفرسان مسرعة من القدس؛ لأن والي المدينة بلغه خبر الاضطراب في بيت لحم وهياج الشعب لظنهم أن في المدينة رجلا إسرائيليا فرأى زيادة الجند هناك. فلما نظرت الفتاة لمعان السلاح في الليل وسمعت ضوضاء الخيل ارتعدت فرائصها وغار الدم إلى قلبها. فشجعها رفيقها بكلام رقيق تظهر فيه القوة مع أنه كان خائفا مثلها. أما الجند فمرت خببا بانتظام جميل. فتنفس الصعداء، وكان إيليا قد دنا منهما أكثر حين سماعه تلك الحركة.
فلما مرت الجنود صار الناس يتساءلون عن سبب إرسالها بسرعة كهذه السرعة، ولما عرفوا السبب انتشر بينهم بسرعة البرق فضحك منه الراكبون لعدم تصديقهم إياه، وأما المشاة فإنهم جدوا في السير لمشاهدة المصابيح التي أبت أن تشتعل واليهودي الذي أمسكه الناس، وكانوا في أثناء سيرهم يتهددون ويتوعدون ذلك اليهودي الذي كدر صفوهم في ذلك العيد. فلما وصلت طلائع هذه الجماعات إلى الشيخ والفتاة وسمعا حديثهم عراهما حينئذ خوف شديد. أما الناس فلما أبصروا الشيخ والفتاة أخذوا يحدقون فيهما ويعجبون بعودتهما في تلك الساعة قبل الاحتفال بالعيد، وكانت تصوراتهم ملتهبة للقصة التي سمعوها عن بيت لحم فأخذوا يقتربون من البغلين ويتفرسون في صاحبيهما وهم سائرون. فأصاب الفتاة ضعف شديد فمدت يدها وغطت بها وجهها؛ لتخفي لوائح الاضطراب والاصفرار، وفي الوقت ذاته بدرت منها زفرة رغما عنها؛ لأن صدرها ضاق بما كانت تجده من الاضطراب. فازدادت شبهة الناس فيهما، وصاروا يلتفتون نحوهما من كل جانب. ثم قوي قلب بضعة من المتحمسين منهم فاتجهوا نحو البغلين وأمسكوهما ليسألوا الراكبين عن حادثة بيت لحم وبذلك ينبشون حقيقة أمرهما.
فلما رأت الفتاة ذلك لم تتمالك أن أجهشت بالبكاء، وأطلقت لزفراتها العنان. أما الشيخ فقد صار وجهه كوجوه الموتى من الاصفرار؛ لأنه تحقق الخطر، وأما إيليا فإنه أعمل المهماز في شاكلة الجواد، وبوثبتين صار بجانب البغلين.
وكان الناس قد تألبوا حول الشيخ والفتاة من كل صوب حتى سدت الطريق، وصار كل قادم ينضم إليهم مستخبرا مستعلما، وكان هذا يقول: إنهم قد ألقوا القبض على اليهودي الذي فر من بيت لحم، وذاك يقول : بل هذا رفيقه لا هو نفسه؛ لأن ذاك مسجون في بيت لحم الى أن يحضر البطريرك، وهكذا شبهات العامة وتصوراتها أحيانا تكون مصيبة وأحيانا مخطئة. فإذا أصابت اكتشفت ما لا يستطيع أحد غيرها اكتشافه؛ لأن اكتشافه إنما يكون بالشبهة والتهمة أي بالصدفة، وإذا أخطأت فالويل للبريء الذي ينشب فيه سهم خطأها.
فلما وصل إيليا إلى الجموع المتألبة صاح بها بلغة يونانية فصيحة: أفسحوا الطريق يا إخوان، فإننا نريد المرور. فقال له أحدهم: ولماذا تركتم بيت لحم في هذه الساعة هل تكرهون حضور العيد والقداس في الصباح؟ فقال إيليا: أنا سائر إلى المدينة في شأن خصوصي، وسأعود قبل الفجر لحضور القداس معكم
2
فسأله الحاضرون: ورفيقاك هذان؟ فأجاب: أنا سائر وحدي، ومن هما هذان المسافران؟ ثم التفت إلى الشيخ وسأله: أيها الأخ، هل أنت ذاهب مثلي إلى المدينة لتعود قبل الفجر؟ فقال الشيخ حينئذ بلغة يونانية عامية: نعم أيها الأخ الكريم. فقال إيليا: أنت أكرم يا أخي، فهلم بنا نسير معا. فأفسحوا الطريق يا إخوان، ولتهنئوا بالعيد المجيد.
ولكن الجمهور لم يتفرق بل كانت أنظاره متجهة إلى تلك الفتاة الحسناء التي بكت منذ حين بكاء يدل على الخوف. فقال أحدهم: ولكن لم تخبرونا شيئا عن اليهودي الذي قبضوا عليه في بيت لحم، فماذا صنعوا به؟ فهنا ظهر الارتعاد على الفتاة رغما عنها، وما الحيلة بأعصاب النساء فإنها ضعيفة. فازدادت شبهة المتحمسين، وصاح أحدهم: الحق نقول لكم إننا لا نترككم تمرون إلا إذا وجدنا بيننا من يعرفكم وقد رآكم في المدينة. فهلموا بنا إلى دير مار إلياس القريب على الطريق * وهناك نراكم على النور.
نامعلوم صفحہ
فهنا علم إيليا أن الجبانة مضرة، ولا يفيد شيء مثل الجرأة والشجاعة. فقال بنزق وحدة لا سيما وأنه كان يعلم تأثير بعض الألفاظ على أذهان العامة: ألا تخجلون أيها الإخوة من إلقاء الشبهة على مسيحيين مثلكم «باسم الأب والابن والروح القدس» قال ذلك ورسم علامة الصليب على صدره. ثم قال للشيخ والفتاة: برهنا لهم على أنكم مسيحيون أيضا.
فعند هذا الكلام اتجهت جميع الأنظار إلى الشيخ والفتاة. أما الشيخ: فإنه مد يده بكل تأن ورسم علامة الصليب على صدره كما رسمها إيليا، وأما الفتاة: فإن يدها لم تتحرك بل عاودها البكاء.
فهنا علم إيليا الخطأ العظيم الذي حدث، وزاده علما به تهيج العامة حينئذ ونداؤهم «فلتصلب الفتاة فلتصلب الفتاة» أي فلترسم إشارة الصليب على صدرها. فرأى الشيخ حينئذ أن الخطر قد وقع ولا سبيل لرده. فقال بصوت يرتجف من التأثر والانفعال: نعم، هي تصلب يا إخوان، صلبي يا بنية، واسألي إلهنا أن يعينك على المرض الذي تبكين منه.
فشعر إيليا بما في هذا الكلام من المعنى، وحدق في يد الفتاة ليرى أتخلص نفسها ورفيقها أم لا. فإذا بيد الفتاة قد بقيت جامدة وزاد بكاؤها.
فهنا اشتد اللغط والهياج بين العامة، وصار المتحمسون منهم يصيحون: «يهودية يهودية» وسرى كالبرق بين القادمين والحاضرين أنهم مسكوا يهوديا ويهودية. فاشرأبت الأعناق وتطاول الناس لرؤيتهما، وفي هذه الأثناء دنا إيليا من الشيخ وحدثه مليا والناس لا يسمعون حديثهما، وبعد حين التفت إيليا إليهم وقد عدل عن الخطة الأولى إلى خطة جديدة، فقال ضاحكا مخاطبا الجمع: الآن أيها الإخوان عرفت حقيقة المسألة، ويكفي أن أقول لكم: إن هذه الفتاة الصغيرة السن قد قدمت منذ أسبوعين من بصرى.
3
فصاح الجمع حينئذ بأصوات متقطعة متتابعة «بصرى بصرى، ها ها فهي إذن وثنية، بصرى بصرى، صحيح صحيح. لذلك هي بهذا الجمال. إن «باكوس» الملعون قد كساها كل جماله، كيريالايسون كيريالايسون، هلموا بنا إلى بيت لحم لتعميدها في هذه الليلة ليلة العيد».
ثم صاح أحدهم: ورفيقها هذا أهو من بصرى أيضا؟ فأجاب إيليا: لا بل هو من المدينة، ولكنه جاء بها لإرشادها وتعميدها.
هذه هي الحيلة التي دبرها إيليا لإنقاذ الفتاة. فإنه كان يعلم أن العامة يتساهلون مع الوثنية أكثر من اليهودية؛ إذ ليس بين المسيحية والوثنية دم زكي وثأر عظيم فضلا عن أن الأولى كانت على ثقة من أن مصير الثانية إليها، ولم يكن محرما على الوثنيين دخول أورشليم، ومن جهة أخرى: فقد كان يعلم أيضا بناء على ما ظهر له أن تلك الفتاة قد تفضل اسم «وثنية» على اسم «مسيحية».
وبينما كان الناس يتحدثون ويلغطون مسرورين بأنهم سيعيدون في تلك الليلة عيدين؛ عيد الميلاد وعيد هداية نفس بشرية، وإذا بالمشاعل والمصابيح قد ظهرت في الطريق من جهة القدس. فعلم الناس حينئذ أن البطريرك قادم بموكبه إلى بيت لحم استعدادا لصلاة العيد. فسر الحاضرون بذلك لرغبتهم في أن يدفعوا إلى البطريرك الفتاة الوثنية يدا بيد، ولذلك انتظروا جميعا وصول الموكب. أما إيليا فقد لبث واقفا بجانب الشيخ والفتاة يفكر في طريقة لحل هذه المشكلة، وقلبه يتفطر شفقة على تلك الفتاة كلما وقع نظرها الفاتر الكسير على نظره، ولكن الحق يقال: إن عاطفة الشفقة هذه كانت ممزوجة بعاطفة أخرى أيضا ...
نامعلوم صفحہ
الفصل الرابع
البطريرك صفرونيوس
الذي فتح العرب بيت المقدس في زمنه
وبعد عشر دقائق وصل البطريرك.
وكان جالسا في مركبة خصوصية له تتقدمه المشاعل والمصابيح وشرذمة من الجند وراء المركبة وأمامها، ووراء الجند حاشية من الرهبان يركبون جيادا كريمة، وكان الجميع سكوتا كأن على رءوسهم الطير إلا جماعة الرهبان في المؤخرة فإنهم كانوا يتحدثون همسا؛ إذ من طبعهم أنهم لا يستطيعون السكوت.
ولما ظهرت مركبة البطريرك للجموع تتقدمها الأنوار أخذ الحاضرون يستقبلونه متغنين بهذا النشيد الذي هو نشيد عيد الميلاد: «المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة» وكانوا في أشد حالات الهياج من التحمس الديني، وكان بعضهم سكارى؛ لأن يوم العيد يوم فرح وشراب عند العامة. فقال إيليا حين سماعه ذلك النشيد الجميل: «نعم، السلام في الأرض لقسم من سكان الأرض. أما هذا الشيخ والفتاة فأين السلام منهما الآن».
ولما وصل البطريرك كان النشيد والهتاف متصلين فمد يده وبارك الحاضرين في الجانبين، أي أنه رسم بيده علامة الصليب في الهواء بجهة الحاضرين. ثم وقفت المركبة واستفهم البطريرك عن سبب ذلك الاجتماع والضوضاء، فأبلغه أحد الرهبان السبب. فطلب أن يرى الفتاة فقدموها إليه ووراءها الشيخ وإيليا. فأجال فيها البطريرك نظره بدون اهتمام، ثم أمر بأن تعاد إلى بيت لحم حيث هم ذاهبون وهناك يرى رأيه.
فلما سمع إيليا ذلك رأى أن الخطر قد ازداد شدة. فإن البطريرك إذا دخل في موكبه مع تلك الفتاة إلى بيت لحم في تلك الليلة فإن المتحمسين يقيمون الدنيا ويقعدونها بتحمسهم وتجمهرهم، وإذا عرفوا الحقيقة بعد ذلك فالله يعلم العاقبة. فخطر له أن يجرب تجربة لعله ينجح فيها. فانفرد عن الناس، وكشف رأسه، وانحنى للأرض أمام البطريرك، ثم تناول يده فلثمها، وقال بيونانية سليمة من كل شائبة: هل تسمحون غبطتكم لابنكم المطيع بأن يحدثكم على انفراد؟
وكانت على وجه البطريرك لوائح الضجر واشتغال البال، ومع ذلك أشار بيده إشارة فانزاح الحاضرون عنه وبقي منفردا مع إيليا.
فقال له إيليا: مولاي إن الهياج شديد في بيت لحم كما بلغكم ولا شك، والشعب كاد يفتك بي أنا ابنكم بمجرد الشبهة. فكيف يكون حاله إذا دخلتم بهذه الجماهير مع الفتاة الغريبة وهو لم ينس بعد ما لقيه المسيحيون من إمبراطرة رومة أنصار الآلهة.
نامعلوم صفحہ
فأجاب البطريرك وهو يفرك أنفه بمنديل أسود لتدفئته: أيها الشاب، إن إرسال الفتاة إلى بيت لحم حيث نحن موجودون أصون لها من إرسالها إلى المدينة وحدها.
فعلم إيليا أن حيلته لم تجد نفعا، فلم يبق له إلا مصارعة الحقيقة وجها لوجه. فقال للبطريرك بصوت يرتجف: وإن ظهر هناك للشعب يا مولاي أن الابنة ليست بوثنية؟
فأجاب البطريرك متضجرا: فلتكن مسيحية فإن هذا يسر كل واحد منا.
فقال إيليا: وإن لم تكن مسيحية؟
فهنا بهت البطريرك وحدق في إيليا. ثم راجع نفسه فتظاهر بأنه لم يفهم كلام إيليا. فقال له: اركب يا ولدي اركب، وسنتباحث في هذه الأمور هناك.
فحينئذ تنفس إيليا الصعداء، ورجع باسما نحو الشيخ والفتاة؛ لأنه قرأ في عيني البطريرك ما يريد معرفته.
وفي ذلك الحين تحرك الموكب تتقدمه وتتلوه الجموع والجنود والمصابيح والرهبان، وإيليا والشيخ والفتاة على مطاياهم في المقدمة، والناس ينشدون حولهم نشيد العماد المشهور مشيرين إلى الفتاة وطالبين تعميدها:
باعتمادك يا رب في نهر الأردن، ظهرت السجدة للثالوث، وصوت الآب تقدم لك بالشهادة مناديا إياك ابنا محبوبا، والروح كهيئة حمامة يؤكد تجسيد الكلمة، فيا من أنقذت العالم من الخطيئة يا رب المجد لك.
وما زالوا بهذا النشيد والهتاف والضحك حتى وصلوا إلى بيت لحم فدوت البلدة من جهاتها الأربع، وانضم المجتمعون فيها إلى القادمين، ودخلوا بالبطريرك وإيليا والشيخ والفتاة على نغم هذا النشيد المشهور:
أوصنا في الأعالي. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنا في الأعالي.
نامعلوم صفحہ
وكان للبطريرك قصر رحب قائم وراء الكنيسة يقيم فيه مع حاشيته كلما قدم إلى بيت لحم. فبعد أن استراح فيه هنيهة أمر بأن يستدعوا إليه الشاب إيليا. أما الشيخ والفتاة فإنهما أدخلا إلى إحدى غرف القصر وأقفل عليهما الباب.
فلما مثل إيليا بين يدي البطريرك أمره بالجلوس بإزائه فجلس إيليا محتشما.
وكان البطريرك صفرونيوس مهيب المنظر جميل الهيئة، وهو في نحو السبعين من العمر، وكان شعره الأبيض يكلل هامته العالية، ووجهه الناصع البياض الشديد الحمرة تلمع فيه عينيان زرقاوان حادتان لم تكسر السنون قوتهما، وكان له فوق هاتين العينين القويتين حاجبان كثيفان واسعان كأنهما حرشان مشتبكان فإذا قطبهما خلت أن العينين صارتا بركانين يقذفان نار الغضب والحدة، وكان بدنا ممتلئ الجسم، وعليه ثوبه الكهنوتي الحريري الأسود يعاكس لون وجهه الأبيض فيزيده جمالا وجلالا.
فلما جلس إيليا سأله البطريرك أن يقص عليه القصة من أولها، وأن لا يكتمه شيئا. فقص عليه إيليا حادثته، وكيف خلصه النبي أرميا. فابتسم البطريرك لذكر النبي أرميا لأنه كان مشهورا. ثم استطرد إيليا من ذلك إلى حادثة الشيخ والفتاة لحين وصول البطريرك. فأصغى إليه البطريرك ساكتا، وبعد أن تأمل قليلا سأله: وما هو غرضك يا بني من المداخلة في هذا الأمر؟ فأجاب إيليا مضطربا: لي غرضان؛ واحد للدفاع عن النفوس البشرية التي حرم الله أذيتها، وواحد للدفاع عن ديانتنا.
ولكن من يعرف أسرار إيليا فإنه لا يشك في أنه يكتم غرضا ثالثا، وهو الميل الذي بدأ يشعر به نحو تلك الفتاة الحسناء.
فحدق البطريرك في وجه الشاب مدهوشا، وقال: فسر كلامك يا بني.
فقال إيليا، وقد بدأ يتحمس: يظهر أن غبطتكم يسركم أن تسمعوا من فمي ذلك، وإلا لاكتفيتم بما تعرفونه من هذا القبيل، وحسبي ما فهمته منكم على الطريق، فإنه من المشهور يا مولاي أن الخصم لا يستمال بالعنف والشدة والبغض. فإذا وقع بين أيدينا كان حكمه علينا تابعا لمعاملتنا له. فإذا أحسنا معاملته وأغضينا عن إساءته قال إننا قوم كرام متمدنون، وربما عاد وانقلب فصار ميالا إلينا، وإن عاملناه بالعكس قال بالعكس، وازداد بغضا لنا. فيجب علينا في رأيي أن نحسن معاملة غيرنا لنثبت له فضل مبدئنا، وإلا كان محقا في كرهه لنا ولمبدئنا.
فأطرق البطريرك يفكر. ثم سأل الشاب هل اسمك الخواجا إيليا يا بني؟ فقال الشاب مدهوشا من نقل الحديث، ومعرفة البطريرك اسمه: نعم يا مولاي.
فقال له: وهل أنت الذي يراك رهباني هائما على وجهك في جبل الزيتون، ووادي سدرون، وحول المدينة المقدسة؟ فقال الشاب وقد زادت دهشته: تلك طريقي يا مولاي إلى المزرعة التي أنا مستخدم فيها. فقال البطريرك وقد هز رأسه: إنك تعني مزرعة الشيخ سليمان الذي حرم على الكهنة الدخول إليها وجعلك «كاهنا عاميا» لها، ولذلك يسميها «أورشليم الجديدة» بدل أورشليم مدينتنا. فأطرق الشاب هنا خجلا واستحياء من شيخوخة البطريرك ورقته. فقال البطريرك مظهرا الاستياء: لا بأس لا بأس، ولكنني أنصحك يا بني أن تخفف على نفسك فلقد نظرتك أمس من نافذة قصري في المدينة تنظر إلى القصر وسكانه بهيئة الازدراء والاحتقار، وكنت في تلك الساعة أقرأ تقريرا فيك مقدما من أحد عارفيك. فما لنا يا بني والاهتمام بما لا يعنينا. إنما علينا أن نعيش بحب وسلام مع جميع الناس. فإن الصغار أخوة لنا كالكبار، وكلنا عائلة واحدة بالرب، وأنت لا تزال شابا، ولذلك يغلي دمك في عروقك، وحسبي دليلا على ذلك اللهجة التي سمعتها منك الآن. فإن غيري لو كان في مكاني لما قبلها منك. فهل تعدني أنك تعدل عما مضى، وتترك ما لا يعنيك.
فلما سمع إيليا هذه العظة الصغيرة التي لم يكن يتوقعها أسقط في يده، واحتار في الجواب. فأدرك البطريرك اضطرابه فمد يده وأمرها على رأس الشاب تحببا، وقال: حسن حسن ستترك كل ما مضى ولا شك. فلنعد إلى أمر الشيخ والفتاة. هل تعرف منزلهما؟ فأجاب الشاب: كلا يا مولاي، فقال: ومن أين قدما؟ قال: لا أعلم. فقال: وما سبب مجيئهما إلى هنا مع معرفتهما أن الدخول إلى المدينة المقدسة محرم قطعيا على اليهود؟ فقال: لا أعلم يا مولاي، فقطب البطريرك حينئذ حاجبيه، وقال: إنك لا تعلم شيئا من أمرهما ومع ذلك تتوسط لهما بالعفو بحجة الرفق والرحمة. فالرفق والرحمة يا بني فضيلتان واجبتان، ولكن يجب أن نبحث هل وراء هذين الشخصين دسيسة لنا أم لا؟
نامعلوم صفحہ
فضحك إيليا في نفسه من هذا الفكر، ونظر إلى البطريرك مبهوتا. فقال له البطريرك: لعلك لم تفهم كلامي بعد، إنني أريد قبل كل شيء أن أعلم هل الشيخ والفتاة هما جاسوسان للعرب أو الفرس أم لا؟
فلما لفظ البطريرك هذه الكلمة استنار عقل إيليا بغتة فرأى أن صاحبيه قد وقعا في ورطة جديدة أشد من الأولى. فأصغى قليلا ثم أجاب: لم أفطن إلى هذا قبل الآن، وإلا فإنني ما كنت أتوسط في إطلاق سراحهما قبل تحقيق أمرهما. إلا أنني أستأذن مولاي البطريرك في إبداء ملاحظة صغيرة، وهي أن الفرس مشتغلون عنا الآن بمصائبهم مع العرب الذي يفتحون بلادهم * وفضلا عن ذلك فإنهم علموا من حروبنا معهم منذ بضع سنوات وهدمنا مملكتهم أنه لا قبل لهم بنا * وحسبهم عدوا واحدا الآن، ولذلك لست أظنهم يتحرشون بنا بالتجسس علينا، وأما العرب فإن اليهود غضابى عليهم؛ لأن أول عمل عمله أميرهم عمر بن الخطاب بعد وفاة أميرهم أبي بكر هو إجلاؤه اليهود والمسيحيين عن نجران وسائر بلاد العرب * لكي لا يبقى فيها إلا دين واحد، وغبطتكم تعلمون أن بعض النجرانيين المسيحيين قد لجئوا إلى مدينتنا هذه. فكيف يمكن بعد هذا أن يأتمن العرب يهوديا على أسرارهم مع معرفتهم استياء اليهود منهم.
فهنا تنفس صفرونيوس الصعداء، وقال: هذا برهان ضعيف، فإن اليهود كانوا أكبر أعوان الفرس والعرب علينا في جميع حروبنا معهم * وقد بلغت بهم الجرأة أن ثاروا بأنطاكية، وقتلوا بطريركها كما تذكر * وثاروا أيضا بصور ليغتالوا المسيحيين ليلا * فرد الله كيدهم في نحورهم، ولا يزالون يتآمرون سرا في فلسطين مع يهود سوريا للثورة علينا * وأعظم من ذلك كله أنهم اشتروا من الفرس عشرات ألوف من أسرانا وذبحوهم انتقاما منا * فبغض كهذا البغض يا بني لا يحول ولا يزول، ولذلك أعتقد أن اليهود يحالفون علينا كل الأمم التي تقوم لانتزاع البلاد من قبضتنا؛ لأنهم لا يزالون يحلمون بإعادة مملكتهم، وما أدرانا أن العرب لم يعدوهم بمساعدتهم على ذلك إذا هم ساعدوهم علينا.
فهم إيليا بأن يجيب البطريرك بأن اليهود ما تطرفوا هذا التطرف القبيح إلا لظلم المسيحيين لهم واضطهادهم إياهم، ولكنه رأى الاختصار أولى في هذا المقام فأجاب: إن مولانا البطريرك أدرى منا بهذه الشئون، وله رأيه الموفق. إنما ما زلت أرى أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون جاسوسا؛ لأنه لو كان كذلك لما جاء بابنته معه ليلقيها بهذه النار إذا كشف أمره.
فابتسم البطريرك وقال: إن الجواسيس لا تكمل جاسوسيتهم إلا بالنساء. خصوصا النساء الحسان.
فاجتهد إيليا حينئذ في أن يقنع البطريرك بإطلاق سراح الفتاة على الأقل، ويبقي الشيخ لديه ليفحص أمره، فرفض البطريرك ذلك رفضا قطعيا؛ لأن الشعب كان يطلب تعميد الفتاة في حفلة عمومية، وقد قال البطريرك للشاب في هذا الشأن كلمة جميلة وهي: «إيليا إيليا إنك ملق بنفسك في مضيق لا مخرج منه. فدع الفتاة وشأنها فإن بينك وبينها هاوية عظيمة، ثم ألا تعلم أنني الآن مسئول لدى الله ولدى ضميري عن هذه الفتاة وإن كانت يهودية، فكيف تريد أن أطردها وحدها إلى معترك العالم، وأسجن عندي حارسها وسندها؟»
لكن يظهر أن البطريرك كان يرغب في استمالة إيليا إليه لمآرب له فرضي أن يطلق سراح الشيخ، ويبقي الفتاة في دير الراهبات في جبل الزيتون حتى يسكت الشعب عنها، وتنتفي الشبهة عن أبيها، وقد قال لإيليا: إن هذا كل ما يمكنه صنعه، وبعد ذلك بعث يسأل في «البيت الأحمر» عن السيدة تيوفانا المشهورة في القدس برقة عواطفها وخدمة الأديرة وقد تقدم ذكرها، وإذ وجدوها وكل إليها البطريرك أن تأخذ في صباح الغد تلك الفتاة إلى دير العذراء في جبل الزيتون، وتوصي بها الراهبات خيرا.
فلما بلغ الفتاة أنها ستنفصل عن أبيها، وتقيم بين راهبات مسيحيات في دير مسيحي أخذت تبكي وتنوح، ولكن أباها أقنعها بأن أسرها لا يتجاوز الأسبوعين، وأنه لا سبيل إلى غير ذلك نظرا لهياج الشعب بشأنها وطلبه تعميدها. فسكنت الفتاة، ونامت مع أبيها في إحدى غرف القصر في تلك الليلة؛ لتذهب في صباح اليوم الثاني معه إلى دير الراهبات في جبل الزيتون، وقد صرف أبو الفتاة نصف الليل وهو يوصيها بما أراد أن يوصيها به؛ لتتمكن من اجتياز المصاعب التي كانت أمامها.
ولما خرج إيليا من لدن البطريرك وجد في الباب راهبا ووراءه رجل يروم الدخول على البطريرك. فدهش إيليا حين مشاهدة الراهب ووقف حائرا لظنه أنه يعرفه. أما الراهب فابتسم ابتسام الازدراء؛ لأنه عرف إيليا، وصار يقلب فيه نظره بجسارة وتهكم. فقال إيليا في نفسه وهو خارج: لا ريب في أن هذا هو أخو الراهب متى؛ لأن فيه ملامح منه، وهو سكرتير البطريرك على ما أعلم. فلو كان الشيخ سليمان مكاني لأراه عاقبة مقاومته لأخيه.
وكان الرجل الذي وراء الراهب رسولا قادما من أجنادين حيث يقيم قائد الروم * وهو يحمل كتابا منه إلى البطريرك. فلما رآه البطريرك عبس؛ لأنه تشاءم من إرسال الرسول في أسبوع العيد، ولكنه تناول الكتاب باهتمام لا مزيد عليه، وصار يقرأه بعينين متقدتين غيظا وأملا، وما أتى عليه حتى صار يرتجف من الغضب، فألقاه بنزق إلى المقعد، وأشار إلى الرسول أن يخرج. فجثا الرسول ثلاثا، ودنا فلثم ذيل البطريرك، ثم خرج باحترام ظهره إلى الباب ووجهه إلى البطريرك، وهو يمشي القهقرى. فلما خرج صاح البطريرك بالراهب بغضب: مرهم أن يعجلوا في صلاة العيد؛ لنعود إلى المدينة، وإلا خفنا أن يباغتنا العرب هنا وإن كانوا لا يزالون بعيدين عنا. ثم أطرق البطريرك يفكر، وبعد حين صاح: إن الله سينتقم منهم لتركهم مدينتنا المقدسة بلا مدد جديد لتعزيز حاميتنا، فانحنى الراهب باحترام موافقة على كلام رئيسه.
نامعلوم صفحہ
وفي أثناء ذلك كان الشعب في الأسواق لا يزال يضج ويلعب، ويطلب تعميد الفتاة، فأبلغوه أنهم قرروا إرسالها إلى الدير، وبعد ذلك يرون رأيهم فيها.
الفصل الخامس
النبي أرميا ومشروعه العظيم
في السبب الذي لأجله أحب إيليا حبا فجائيا. ***
وانقضى ذلك العيد في بيت لحم بفرح وسرور بين طبقات الشعب، إلا أن البطريرك صفرونيوس وقائد الحامية في القدس وواليها كانوا في شغل شاغل وهم شديد، وفي يوم العيد بينما كان الناس منتشرين على طريق بيت لحم عائدين إلى القدس كان إيليا على طريق جبل الزيتون فوق القدس صاعدا إلى الجبل بخطى ثقيلة ورأسه إلى الأرض كأنه يعد خطاه أو يفتش عن شيء أمامه، والحقيقة أنه كان يتأمل ويتفكر.
وإنما كان إيليا يفتكر بحوادث أمس، وسوء حظ تلك الفتاة اليهودية، وكان إيليا كلما افتكر بها شعر بذوبان في قلبه وشفقة لا حد لها، وقد يستغرب القارئ أن يحب هذا الشاب الفتاة من أول نظرة، ويخاطر بنفسه وبراحته في سبيلها، ونحن نشاركه في هذا الاستغراب لو لم يكن هنالك سر صغير بث في دمه سم الحب بقوة الصاعقة وسرعتها، وإليك هذا السر الصغير الحقيقي الذي لم يطلع عليه أحد قبل الآن.
منذ عشر سنوات كان إيليا في يافا لحاجة له، ولما قصد العودة منها إلى القدس ركب في قافلة وسار معها، ولكنه قبل المسير رأى في المحطة قافلة أخرى تستعد للمسير وراء قافلته وفيها رجل يهودي ومعه فتاة في نحو العشرين من العمر، وكان إيليا يومئذ في السادسة عشرة من العمر، وكان هوائيا شديد التصورات والانفعالات، وقد قرأ بإمعان التوراة وتاريخ يوسيفوس في حروب اليهود وأخبارهم، فصار يرى في اليهود معاصريه بقايا أمة عظيمة، ومما كان يفتنه منها على الخصوص قوة نفوس نسائها وجمالهن الذي حل في التاريخ مشاكل كثيرة، فخيل له أن للمرأة الإسرائيلية نفسا خصوصية جاذبيتها أشد من كل جاذبية. فما وقع نظره على تلك الفتاة التي هي من ذلك الدم القديم حتى شعر بانجذاب شديد إليها، وكان جمال الفتاة ولطف عينيها الهادئتين الصافيتين مما ساعد على أسر ذلك الفتى الصغير، وكان على جبينها عصابة بيضاء مزركشه تزيد وجهها بياضا وجمالا. فسار الفتى إيليا في قافلته تاركا قلبه الصغير لدى تلك الفتاة الكبيرة، وكان كلما نزلت القافلة على الطريق يشخص في أنوار القافلة القادمة بعدها، ويود لو تصل إلى قافلته لتسيرا معا، وكان يخيل له حين رؤية أشباح تلك القافلة في الظلام من بعيد أنه يرى تلك العصابة البيضاء ذات الزركشة اللامعة وتحتها العين اللامعة، وبالحقيقة أنه كان يراها بعين بصيرته، ولما سمع أن أحد اللصوص هاجم على القوافل افتكر إيليا الصغير بذات العصابة البيضاء قبل افتكاره بنفسه، وعلى ذلك كان حب ذلك الفتى الصغير حبا حقيقيا؛ لأن هذا هو مقياس الحب الحقيقي، وقد بقي إيليا على هذه الحال وبهذه الأماني حتى غابت القافلة، ولم يعد يرى لها أثرا، فعلم أنها حادت عن طريق القدس إلى بلدة غيرها. فأطرق الصغير حينئذ يتأمل في ذهاب حبه سدى، فكان ذلك أول هم دخل قلبه الخلي. فيا حب الملائكة إنك لا تكون أبدا أطهر من هذا الحب ولا أثبت منه؛ لأن إيليا الصغير بقي يتذكر حتى في أحلامه تلك الرؤيا التي مرت أمام عينيه كشهاب أضاء فكان نوره أول نور دخل إلى قلبه.
ولكن بعد عشر سنوات لما وقع نظر إيليا في بيت لحم على الفتاة أستير في ظلمة الليل وهي مضطربة خائفة، وعلم أنها من دم تلك الفتاة التي أحبها في أحلامه في صغره ثارت نفسه دفعة واحدة، وأحبها من أول نظرة، وخيل له أنه يحب في هذه الفتاة حبيبين: الحبيب الحاضر الذي يستحق كل حب، والحبيب الغائب الذي ذهب في أوقيانوس العالم ذهاب حجر في البحر فلم يعد يظهر له أثر، وكأن إله الحب قصد إيليا بسوء فأرسل إليه أستير شبيهة بفتاته الأولى في كثير من ملامحها وسنها وقوامها، ولم تكن تنقصها وا أسفاه غير العصابة البيضاء المزركشة ...
فصعد إيليا الجبل وهو يفتكر بالفتاتين معا، ولكن أستير - وهي الحاضرة - بدأت تحتل محل الخيالية الغائبة، وكان يتساءل كثيرا عن سبب وجودها مع أبيها في بيت لحم في تلك الليلة، ويعد نفسه بلقاء أبيها في ذلك اليوم للوقوف على سر هذه المسألة.
وما زال إيليا صاعدا حتى انتهى إلى أعلى الجبل فقصد أرزة كانت قائمة هناك كملجأ لطيور السماء في ذلك المكان الجاف
نامعلوم صفحہ