لم يبق له إلا ترك سوريا وشأنها تدافع عن نفسها بنفسها للعودة إلى القسطنطينية قاعدة مملكته؛ لأن المغول والسلافيين وفيهم البلغار والسرب كانوا يتهددون حياة السلطنة، وقد كسر السلافيون جنده وراء القسطنطينية شر كسرة * وقد بلغني أنه لما خرج من سوريا قادما إلى هنا لأخذ الصليب المقدس من الجلجلة إلى القسطنطينية خوفا * من أن يأخذه العرب كما أخذه الفرس لما فتحوا مدينتنا
4
وقف على نشز في حدود سوريا مودعا وقال: «السلام عليك يا سوريا سلام لا اجتماع بعده»
5
ذلك لأنه علم أنه لا قبل له على حفظ سوريا ووراءه من ذكرنا من أعدائه، ومما زاد الطين بلة أيضا أن الجيش تمرد * وأعلن خلعه. فكيف يبقى في هذه البلاد؛ ليدافع عنها بنفسه، وتلك حال سلطنته وعاصمته؟ إن البطريرك مخطئ في استيائه.
فقال رجل آخر: وهناك سبب آخر يوجب على البطريرك أن لا يستاء من ترك الإمبراطور سوريا وفلسطين وشأنهما تعتمدان على قواتهما الداخلية فقط، وهو اعتلال صحته واضطراب عقله. فإنني شاهدت الإمبراطور مرتين: المرة الأولى منذ ثماني سنوات لما عاد إلينا من حرب الفرس ظافرا منصورا بعد أن سحق سلطنة كسرى الكبير، وهدم معابد النيران، واسترد الصليب، وجاء لإعادته إلى الجلجلة * فإنه كان يومئذ في أوج عزه وعظمته، وكانت الإمبراطورية كلها تتحدث يومئذ بسطوته، وشاعره «الراهب جاورجيوس بيسيديس» الذي هو معلم اعترافه أيضا ينشر فيه القصائد الرنانة التي تثير الأفكار ويشبهه بالبطل أشيل وقسطنطين الكبير * فيومئذ كان الإمبراطور معبودا عند شعبه، وكانت لوائح السعادة تظهر على وجهه، ولست أنسى في حياتي منظره لما حمل في كنيسة الجلجلة في مدينتنا الصليب بنفسه، وصعد به وحده إلى موضعه في الجلجلة لنصبه بيده * فقد كانت لوائح القوة والصحة ظاهرة عليه. أما المرة الثانية التي شاهدته فيها فهي منذ مدة لما عاد إلينا من أنطاكية بعد استيلاء العرب على دمشق؛ ليأخذ الصليب إلى القسطنطينية، وينصبه في كنيسة هاجيا صوفيا * ففي هذه المرة كان الاضطراب والضعف باديين في وجهه، وصحته كانت في أسوأ حال، وهذا ما منعه من قيادة جيوشه بنفسه * للدفاع عن دمشق، وإلقائه عهدة ذلك إلى أخيه ثيودوروس الذي أساء في الدفاع فناله غضب الإمبراطور * ثم نظر المتكلم إلى ما حوله كأنه خائف أن يسمعه أحد، وقال: وهناك أخبار جديدة وردت في هذا الأسبوع من القسطنطينية تثبت أن الإمبراطور أصبح في حالة صعبة لطف الله به. فإن عقله صار مضطربا * لكثرة مشاكل السلطنة، ويخشى أن يفقد صوابه * وقد علمت عن ثقة أنه لما وصل إلى قصره في القسطنطينية اضطر رجاله أن يبنوا له على البوسفور أمام قصره حواجز خشبية على صفين من الجسور وتغطية هذه الحواجز بالخضرة والنباتات * لإخفاء منظر البحر عنه؛ لأنه أصبح يخاف خوفا شديدا لمجرد وقوع نظره على البحر * فهل من حق البطريرك أن يلوم رجلا هذه حالته العقلية والصحية؟
وكان بين الرجال رجل يتشاغل عن هذا الحديث بفرك يديه ووجهه من البرد، فلما فرغ المتكلم من كلامه التفت إلى الحاضرين وقال: هل تعتقدون أن البطريرك مستاء من الإمبراطور من أجل مسألة الدفاع عن سوريا وفلسطين فقط. كلا فإن الاستياء بينهما قديم.
فقال الرجل الذي تكلم سابقا: نعم، نحن لا نجهل ما قام بينهما من الخلاف في المسألة الدينية * ولكن ما هذا وقته الآن. فإن الواجب علينا لوطننا وديانتنا ومملكتنا أن نكون كلنا يدا واحدة ونفسا واحدة أمام العدو، وإلا كانت العاقبة وخيمة علينا.
فانبرت هنا إحدى السيدات وصاحت: يا لله إننا قدرنا على سلطنة عظمى كسلطنة الفرس فسحقناها واحتللنا عاصمتها * وقبائل بدو ضعاف حفاة كقبائل العرب لا نقدر عليها.
فساد السكوت حينئذ بين الحاضرين؛ لأن هذا السؤال البسيط نقل الحديث إلى أهم المواضيع، أي إلى أسباب ضعف الإمبراطورية يومئذ مع قوتها في ما سبق. فنظر الحاضرون بعضهم إلى بعض وابتسموا، وكان فيهم السوريون واليونان بين شرقيين وغربيين * فكأنهم أرادوا بابتسامهم أن يقولوا إن ذلك العيد يوم فرح وسرور لا يوم مناقشات ومخاصمات في أمور سياسية دينية جنسية * فقد كفى الناس مخاصماتهم في هذه الأمور في باقي أيام الأسبوع. *
نامعلوم صفحہ