فيحصرها ويفتحها (سنة 1453) ويجلس على عرش القياصرة العظام، بينما آخر إمبراطراتها
58
يموت بين جنوده موت الأبطال دفاعا عن عاصمته وعرشه، وحينئذ تقوم في القسطنطينية الجديدة سلطنة جديدة عظيمة تبلغ من بسطة الجاه والعظمة أن تصل جنودها إلى قلب الغرب، وأساطيلها تستهزئ بشواطئه.
فلما انتهى الشيخ إلى هنا سكت، ونظر إلى إيليا فوجده مشغولا عنه بالتأمل، وعلى وجهه دلائل التألم من شيء يفكر فيه. أما أمراء العرب فقد ساءهم ختام نبوءة الشيخ، وكان الزبير حاضرا بينهم فانبرى، وقال: إن صاحبك المنجم يظن أننا سنصنع صنع الروم أي نشتغل لغيرنا. فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سنملك القسطنطينية كما ملكنا بيت المقدس، ولو توارت عنا في السحاب.
فقال الشيخ وقد رام تخفيف غضب الزبير وغيره: أيها الفارس الشجاع، لا تغضب لنبوءة المنجم فإنه يتكهن على غير هدى. أما نحن معاشر السوريين فسيان عندنا ملكتم السلطنة أنتم أو ملكها غيركم؛ لأننا لا نطلب من ملكها غير العدل والحرية.
فابتسم أبو عبيدة وسأل الشيخ: وهل فرغت نبوءة المنجم؟ أم بقي منها شيء لعل نوبتنا تأتي بعدها. فأجاب الشيخ: بل بقي منها شيء، وهي أن الذين رشحوا أنفسهم لوراثة سلطنة بزنطية كما تقدم الكلام يغضبون لانتقال هذا الإرث من يد اليونان إلى يد أمة «الفاتح» كما غضبتم الآن أنتم من ذلك. فيقومون إلى طلب هذا الإرث.
فقال أبو عبيدة: وبعد؟
فأجاب الشيخ: هنا سكت المنجم، ولم يعد يذكر شيئا جليا، وإنما يقول: إنه بعد اضطرابات وحروب شديدة يظهر فيها كل واحد من الفريقين منتهى البسالة والقوة تتحول سياسة العالم عن مجراها الأول. فإنه بعد أن يكون كل الخلاف والنزاع محصورا في سلطنة عظمى ينازعها جيرانها البقاء ويطمعون فيها تقوم سلطنات عظيمة أخرى على أنقاض إيطاليا القديمة والسلطنة الغربية، فتنصرف الأهمية السياسية عن بزنطية إلى عواصم سلطنات الغرب الجديدة، وبدل أن يكون حينئذ هم «الوارث» مصروفا إلى منازعة «الفاتح» لطلب إرثه يكون مصروفا إلى مقاومة تلك السلطنات القوية الجديدة؛ ليحفظ نفسه منها، وإلى زيادة مستعمراته في جهات أخرى؛ لأن سياسة المستقبل سياسة فتوح استعمارية لا سياسة فتوح حربية وأطماع فارغة؛ بل إن «الوارث» و«الفاتح» سيتفقان بإزاء الخطر الجديد الوارد من باقي السلطنات الكبرى والصغرى، ويعيشان جنبا إلى جنب بسلام وأمان كجارين كريمين، فإن الأرض واسعة لا تضيق عن الناس الكرام.
فقال أبو عبيدة: ولكن ألم يخبر المنجم شيئا عن «الأصيل» صاحب الملك الأول. فأين يذهب؟
فأجاب الشيخ: نعم، أخبر عنه. فإنه يقول: إن هذا «الأصيل» يصغر بعد الكبر؛ لأنه لم يقدر على حفظ نفسه، وينحصر في شبه جزيرة صغيرة قرب القسطنطينية، ومن هناك يبقى متطالا دائما إلى عاصمته القديمة مفكرا فيها ومراقبا «الوارث» عدوه القديم لئلا يسطو عليها.
نامعلوم صفحہ