11
وتبدو صلة العلوم التقليدية الأربعة بعضها بالبعض الآخر كالآتي:
12 (1)
الكتاب والسنة محور الحضارة ومركزها ومنشأ العلوم العقلية الأربعة. (2)
علم أصول الدين، أي علم الكلام كدائرة أولى حول المركز للتأسيس الداخلي. (3)
علوم الحكمة أو الفلسفة كدائرة ثانية حول المركز أوسع وأشمل للتأسيس الخارجي. (4)
علم أصول الفقه أو التنزيل كمنهج نازل من الوحي إلى العالم. (5)
علوم التصوف أو التأويل كمنهج صاعد من العالم إلى الله.
أما العلوم الرياضية فهي لا تعتبر علوما دينية عقلية بل هي علوم عقلية خالصة؛ إذ إنها تخضع لنظرية في العقل الخالص ولو أننا نستطيع أن نجد بواعثها وموجهاتها في توجيهات الوحي، وفي تصورات الله خاصة في التنزيه؛ فنظريات الضوء عند ابن الهيثم مثلا ترتبط إلى حد ما بتصوره العام للنور، وتعريف الله من حيث هو نور، وتصور الرياضيين للأعداد وحساب اللامتناهي يرتبط أيضا بتصورهم للتوحيد وبوجه خاص للواحد. فالعلوم الرياضية تمثل عقلانية خالصة استطاعت أن تزدهر بفضل التنزيه، وتضع مشكلة مستقلة عن العلوم الدينية العقلية الأربعة التي خرجت من الكتاب والسنة والتي ترتبط بالإنسان، حياته وسعادته، وهي تمثل التيار الصوري الذي تمثله العلوم الرياضية في التراث الغربي. وإعادة بناء هذه العلوم لا يتم إلا عن طريق التكامل في النظرة لها، إذ لا يمكن بتر جانب يراد التركيز عليه، وإعطاء الأولوية له على حساب جانب آخر يراد نسيانه وتجاهله بل والتنكر له والقضاء عليه، فلا يمكن النظر لابن الهيثم باعتباره رياضيا فقط ومحاولة تفسير أعماله بأنها علمية أو موضوعية؛ إذ إن تحليلاته للمناظر جزء من موقف فكري عام تدخل فيه الرياضة وغيرها كأحد مكوناته، ولا يمكن اعتبار الخوارزمي رياضيا فقط بل تدخل تحليلاته في علم الجبر كجزء من موقف أعم وأشمل، يكون الجبر فيه أحد عناصره التكوينية، ولا يمكن اعتبار الكاشاني عالما رياضيا فقط، بل إن تحليلاته في علم الحساب جزء من موقف أعم وأشمل يكون الحساب أحد عناصره الأولية، والمطلوب منا ليس فقط إحياء التراث الرياضي بل محاولة إدخاله ضمن هذا الموقف الحضاري العام من الكشف عنه، ويكون السؤال: هل تعبر هذه العلوم عن مستوى صوري خالص للتحليل تجد العلوم الدينية العقلية فيها ذاتها وموضوعيتها العقلية وهو ما نشعر بإمكانه؟ وبتعبير آخر: هل يمكن رد الصوري إلى الإنساني أم الإنساني إلى الصوري؟ وبتعبير ثالث: هل يمكن رد التنزيه إلى التشبيه أم رد التشبيه إلى التنزيه؟ وبتعبير آخر: هل يفهم الله بالرجوع إلى الإنسان أم يفهم الإنسان بالرجوع إلى الله؟ وماذا يعني التوحيد إلا أننا أمام حقيقة واحدة تظهر على مستويات عدة، مستوى صوري مجرد، ومستوى آخر إنساني حي؟
والعلوم الطبيعية أيضا كالعلوم الرياضية لم تخرج مباشرة من الكتاب والسنة ولم تنم نموا علميا خالصا، ولو أننا نستطيع أن نجد بعض البواعث عليها مستمدة من نواة الحضارة مثل التجريب والدعوة إلى التأمل في الطبيعة، والتوجيه نحو اكتشاف العام، فهذه العلوم أيضا جزء من موقف حضاري عام، فلا يمكن مثلا رؤية جابر بن حيان باعتباره كيمائيا فقط، إذ إن موقفه كعالم كيمياء ما هو إلا جزء من موقف أعم وهي موقفه كمفكر مسلم حتى في الميادين التي تبدو لأول وهلة بعيدة كل البعد عن الأصول الأولى في الوحي، كالرياضيات والطبيعيات ، خاصة إذا فهم الوحي نظريا باعتباره بناء فكريا موضوعيا مكونا من القبلي وهو الشرعي، والعقلي، والواقعي، وهو ما يظهر في اللغة كنظرية للمعاني الثلاث للفظ: الشرعي أو الاصطلاحي، واللغوي أو الاشتقاقي، والعرفي أو الشائع. وما يظهر في بعض جوانب التفكير الإسلامي من اتفاق صحيح المنقول مع صريح المعقول، أو كوحدة النقل والعقل، أو وحدة ما في الأذهان وما في الأعيان، فإذا كانت الرياضة قائمة على اتساق العقل فهي إذن تخرج من العقل الموجود في الوحي، وإذا كان العلم قائما على اتساق الواقع فهو يخرج إذن من الواقعي الموجود في الوحي. وإذا كانت العلوم الدينية العقلية كالكلام والفلسفة والأصول والتصوف قائمة على الشرعي فهي تخرج من القبلي أو الشرعي المعطى في الوحي، ويكون المطلوب ليس دراسة العلوم الطبيعية منفصلة عن العلوم العقلية الأربعة بل إدخالها ضمن موقف عام، ويكون السؤال: هل العلوم الطبيعية يمكن ردها إلى العلوم العقلية الأربعة أم أن العلوم العقلية الأربعة يمكن تطويرها بحيث تكون علوما طبيعية؟ وبتعبير آخر: هل دراسة الطبيعة هي في حقيقة أمرها دراسة للإنسان بصورة غير مباشرة أم أن دراسة الإنسان هي في حقيقة أمرها دراسة للطبيعة بصورة أقل جرأة وعلمية؟ وبتعبير ثالث: هل نحن أمام موضوعين مختلفين، العلوم الطبيعية والعلوم الدينية العقلية أم أننا أمام موضوع واحد يظهر في مستويين الطبيعي المادي والإنساني الحي؟
نامعلوم صفحہ