الإهداء
مقدمة الطبعة الرابعة
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
أولا: ماذا يعني «التراث والتجديد»؟
ثانيا: أزمة التغير الاجتماعي
ثالثا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية
رابعا: طرق التجديد
خامسا: موضوعات التجديد (إعادة بناء العلوم)
الإهداء
نامعلوم صفحہ
مقدمة الطبعة الرابعة
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
أولا: ماذا يعني «التراث والتجديد»؟
ثانيا: أزمة التغير الاجتماعي
ثالثا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية
رابعا: طرق التجديد
خامسا: موضوعات التجديد (إعادة بناء العلوم)
التراث والتجديد
التراث والتجديد
نامعلوم صفحہ
موقفنا من التراث القديم
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى كل من يساهم في صياغة مشروعنا القومي.
د. حسن حنفي
مقدمة الطبعة الرابعة
ما زال هذا البيان النظري لمشروع «التراث والتجديد» من جهته الأولى «موقفنا من التراث القديم» يمثل فكرا حيا، ما زال غضا وكأنه كتب اليوم، بالرغم من مرور عشر سنوات على إصدار الطبعة المصرية الأولى عام 1980م في المركز العربي للبحث والنشر، وهذه هي الطبعة الرابعة، تظهر مواكبة لصدور البيان النظري الثاني للمشروع ذاته من جهته الثانية «موقفنا من التراث الغربي» بعنوان «مقدمة في علم الاستغراب». بقي البيان النظري الثالث للمشروع من جهته الثالثة والأخيرة «موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير» الذي قد يظهر بعد عشر سنوات أخرى وفي نهاية هذا القرن، وبعد تحقيق باقي أجزاء الجبهتين الأولى والثانية.
تحية إلى «المؤسسة الجامعية» التي تقوم الآن في إعداد الطبعة العربية لمشروع «التراث والتجديد» بعد الطبعة المصرية.
د. حسن حنفي
نامعلوم صفحہ
القاهرة، 1991م
مقدمة الطبعة الثالثة
صدرت الطبعة الأولى من «التراث والتجديد» في «المركز العربي للبحث والنشر»، القاهرة 1980م، وصدرت الطبعة الثانية (الطبعة العربية الأولى) في دار التنوير، بيروت 1981م، وهذه هي الطبعة الثالثة تصدر عن مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1987م، بعد أن نفدت الطبعتان الأوليان.
وما زال الكتاب يثير ردود أفعال عديدة ويحظى بقبول عام، بصرف النظر عن اختلاف وجهات النظر حوله، وقد صدرت عدة مقالات لمراجعته،
1
كما صدرت مؤلفات بأكملها حول موضوع الكتاب وعدة أعمال أخرى
2
وتم إعداد رسالتين للماجستير الأولى في جامعة أمستردام بهولندا والثانية بالجامعة الأردنية في المملكة الأردنية الهاشمية حول نفس الموضوع.
3
و«التراث والتجديد» هو مقدمة نظرية عامة للقسم الأول من المشروع «موقفنا من التراث القديم»، ويصدر الآن الجزء الأول منه «من العقيدة إلى الثورة» محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، في خمسة أجزاء، والذي انتهينا منه في صيف 1984م.
نامعلوم صفحہ
والنص نفسه لم يتغير منذ الطبعة الأولى، وما زال يحتفظ بجدته وأصالته وقدرته على إثارة الأذهان والدعوة للحوار، إني أتوجه بالشكر الخالص لكل الذين قبلوا الدعوة ولهم وافر التعظيم والاحترام.
د. حسن حنفي
القاهرة في أغسطس 1987م
مقدمة الطبعة الأولى
لقد تأخر «التراث والتجديد» أكثر مما يجب، ولكن آن الأوان لظهوره في مطلع القرن الخامس عشر الهجري وإبان يقظة الإسلام الحديثة.
وتصدر هذه «المقدمات» العامة أولا قبل الجزء الأول منه «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين التقليدي كأيديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية تمدها بأسسها النظرية العامة وتعطيها موجهات السلوك.
وأرجو أن تصدر باقي الأجزاء على التوالي حتى يتحول الإصلاح الديني إلى نهضة شاملة.
وعلى هذا النحو يمثل جيلنا نقطة تحول في تاريخنا.
د. حسن حنفي
مصر الجديدة
نامعلوم صفحہ
ربيع الأول 1400ه/ يناير 1980م
أولا: ماذا يعني «التراث والتجديد»؟
ماذا يعني «التراث والتجديد»؟ التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة؛ فهو إذن قضية موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات.
وليست القضية هي «تجديد التراث» أو «التراث والتجديد» لأن البداية هي «التراث» وليس «التجديد» من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية، وتأصيل الحاضر، ودفعه نحو التقدم، والمشاركة في قضايا التغيير الاجتماعي، التراث هو نقطة البداية كمسئولية ثقافية وقومية، والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر؛ فالقديم يسبق الجديد، والأصالة أساس المعاصرة، والوسيلة تؤدي إلى الغاية. التراث هو الوسيلة، والتجديد هو الغاية، وهي المساهمة في تطوير الواقع وحل مشكلاته، والقضاء على أسباب معوقاته، وفتح مغاليقه التي تمنع أي محاولة لتطويره. والتراث ليس قيمة في ذاته إلا بقدر ما يعطي من نظرية علمية في تفسير الواقع والعمل على تطويره؛ فهو ليس متحفا للأفكار نفخر بها وننظر إليها بإعجاب، ونقف أمامها في انبهار وندعو العالم معنا للمشاهدة والسياحة الفكرية، بل هو نظرية للعمل، وموجه للسلوك، وذخيرة قومية يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وعلاقته بالأرض، وهما حجرا العثرة اللذان تتحطم عليهما كل جهود البلاد النامية في التطور والتنمية؛ فالتصنيع والإصلاح الزراعي قد يتحطمان؛ لأن الإنسان وهو العامل والفلاح، لم تتم إعادة بنائه ووضعه في العالم، وظل متخلفا عن مظاهر التقدم، فالثورة الصناعية والزراعية في البلاد النامية لا تتم إلا بعد القيام بثورة إنسانية سابقة عليها وشرط لها؛ لذلك تعثر العمل السياسي في البلاد النامية وفشلت الجهود لقيام أحزاب تقدمية وتنظيمات شعبية تملأ الفراغ بين السلطة والجماهير، فالنهضة سابقة على التنمية وشرط لها، والإصلاح سابق على النهضة وشرط لها، والقفز إلى التنمية هو تحقيق لمظاهر التقدم دون مضمونه وشرطه. «التراث والتجديد» إذن يحاول تأسيس قضايا التغير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط قبل المؤسس والمشروط. (1) تحديد معنى التراث (1-1) مستويات التراث
يوجد التراث على عدة مستويات؛ فهو أولا تراث موجود في المكتبات والمخازن والمساجد والدور الخاصة يعمل على نشره؛ فهو تراث مكتوب، مخطوط أو مطبوع، له وجود مادي على مستوى أولي، مستوى الأشياء، وتعقد المؤتمرات، وتقام المعاهد، وتنشر الفهارس، وتعد الإحصائيات عن الموجود منه في مكتبات العالم، ما نشر وما لم ينشر بعد، ما بقي منه وما ضاع.
وهي قضية مثارة في عصرنا على هذا المستوى المادي عندما يكثر الحديث عن إحياء التراث، وبعث التراث، ونشر التراث، وتحقيق التراث، وترسل البعثات في شتى مكتبات العالم لجمعه وتصويره وتخزينه، وتصدر السلاسل التي قد تستمر وقد تتوقف، وترصد الأموال، ويوظف الباحثون، وتكثر الدعايات حول نشر التراث، وكأن البعث والإحياء والنشر يعني إعادة طبع القديم طبعات عدة، واختيار ما وافق هوى العصر دون متطلباته، فإذا لجأ العصر إلى التصوف تعويضا عن روح الهزيمة أو طلبا للنصر، فإنه يعاد نشر المؤلفات الصوفية، وإذا تشوف العصر إلى المدينة الفاضلة وتطلع إلى المجتمع الجديد تعويضا عن الفساد الخلقي والانحراف السياسي نشرت المؤلفات عن فضائل الصحابة، وعن العشرة المبشرين بالجنة، وإذا شاعت الخرافة في الناس، وساد الانفعال على العقل، واشتدت الحاجة، وزاد الضنك، نشرت المؤلفات عن المعاد وعن عالم العدل القادم الذي تملأ فيه الأرض عدلا كما ملئت جورا، وانقلب أهل السنة إلى شيعة بأحد ما يكون التشخيص، وإذا قيل إن السبب في الهزيمة هو البعد عن الكتاب والسنة أعيد نشر الكتاب والسنة في طبعات مذهبة، منمقة مزركشة، لزيادة ثروات التجار، وليتبرك بها الناس وهم في بيوتهم، تقيهم الشر، وتمنعهم الحسد، وتجلب لهم الخير، ويتبادلها رؤساء الدول هدايا فيما بينهم، وترسلها المؤتمرات والجمعيات الإسلامية إلى الدول الإسلامية غير الناطقة بالعربية لنشر الوعي الإسلامي، ونكون جميعا كالحمار يحمل أسفارا.
ولكن هذا التراث ليس مخزونا ماديا فحسب، هذا الكم الهائل من المخطوطات القديمة المنشور منها وغير المنشور، والذي حرر في عصور لم توجد فيها المطابع بعد، ولكنه أيضا ليس كيانا مستقلا بذاته يدافع عنه وكأنه يحتوي على حقائق نظرية مسبقة توجد بذاتها، مهددة بالضياع إن غابت، وتحشد لها العقول في مرحلة الخطر، حقيقيا أم وهميا. ليس التراث موجودا صوريا له استقلال عن الواقع الذي نشأ فيه وبصرف النظر عن الواقع الذي يهدف إلى تطويره، بل هو تراث يعبر عن الواقع الأول الذي هو جزء من مكوناته. وإن ما عبر عنه القدماء باسم «أسباب النزول» لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر، ومناداته له، كما أن ما عبر عنه القدماء باسم «الناسخ والمنسوخ» ليدل على أن الفكر يتحدد طبقا لقدرات الواقع وبناء على متطلباته. إن تراخى الواقع تراخى الفكر وإن اشتد الواقع اشتد الفكر؛ فالتراث إذن ليس له وجود مستقل عن واقع حي يتغير ويتبدل، يعبر عن روح العصر، وتكوين الجيل، ومرحلة التطور التاريخي. التراث إذن هو مجموعة التفاسير التي يعطيها كل جيل بناء على متطلباته، خاصة أن الأصول الأولى التي صدر منها التراث تسمح بهذا التعدد لأن الواقع هو أساسها الذي تكونت عليه. ليس التراث مجموعة من العقائد النظرية الثابتة والحقائق الدائمة التي لا تتغير، بل هو مجموع تحققات هذه النظريات في ظرف معين، وفي موقف تاريخي محدد، وعند جماعة خاصة تضع رؤيتها، وتكون تصوراتها للعالم.
لما كان التراث إذن ليس مخزونا ماديا في المكتبات، وليس كيانا نظريا مستقلا بذاته؛ فالأول وجود على المستوى المادي، والثاني وجود على المستوى الصوري، فإن التراث في الحقيقة مخزون نفسي عند الجماهير.
1
فالتراث القديم ليس قضية دراسة للماضي العتيق، فحسب، الذي ولى وطواه النسيان، ولا يزار إلا في المتاحف، ولا ينقب عنه إلا علماء الآثار، بل هو أيضا جزء من الواقع ومكوناته النفسية، ما زال التراث القديم بأفكاره وتصوراته ومثله موجها لسلوك الجماهير في حياتها اليومية إما بعاطفة التقديس في عصر لا يسلك الإنسان فيه إلا مداحا، أو بالارتكان إلى ماض زاهر تجد فيه الجماهير عزاء عن واقعها المضني.
نامعلوم صفحہ
وإذا كانت البداية العلمية للتغيير تعني البدء بالواقع واعتباره هو المصدر الأول والأخير لكل فكر فإن القيم القديمة التي حواها التراث جزء من هذا الواقع؛ فنحن مثلا نئن تحت الإيمان بالقضاء والقدر الموروث من أهل السلف، ونفسر هزيمتنا بأنه «لا يغني حذر من قدر»، والذي حاولت الحركات الإصلاحية الحديثة الخف من حدته، كما نرهق عقولنا بالتشبيه والتشخيص سواء في الأوليات - أي العقليات - مثل وجود حقيقة أولى أو أفكار عامة أو في الأخرويات فيما يتعلق بنهاية العالم، ونجد في ذلك عزاء عن عدم الوعي بأنفسنا إما من حيث النشأة أو من حيث المصير. كما أننا نلحق عقولنا بالنصوص، ونقع في التأويلات، ونقطع الصلة بين العقل والتحليل المباشر للواقع باعتباره مصدرا للنص، ونقبل الإمام بالتعيين، ونطيع له خانعين، ضعفاء أو خائفين، ثم ننتقي من التراث ما يدعم هذا الوضع. كما أننا نقف أمام الطبيعة سالبين عنها استقلالها، وعادمين وجودها، وقاضين على قوانينها، ونصفها بالشر والوبال، وندعو للخلاص منها، ومتهمين كل اتجاه طبيعي بالمادية والإلحاد، وحاكمين عليه بالانحلال والسفور دون دراية منا بأن هذا الموقف يعبر عن تطهير أو حرمان أو نفاق. كما أننا نقطع وجودنا إلى جزأين؛ واحد نقذف به تحت التراب والآخر نرفعه إلى عنان السماء، متطهرين أو عاجزين أو منافقين، ومعاقبين البدن وهو لم يحصل على حقه منا، ومزكين النفس وهي عاجزة عن فعل شيء، ذاك بعض الموروث النفسي القديم من علم أصول الدين، أو يسمى بعلم التوحيد.
فإذا أخذنا موروثا نفسيا ثانيا وجدنا أننا ما زلنا نعيش التصور الثنائي للعالم كما ورثناه من الكندي، وآثار ذلك على وحدة السلوك وما يترتب عنه من تطهير وتبرير للنفس، ونفاق وتغطية وتعمية وازدواجية، كما أننا نسلك طبقا للتصور الهرمي للعالم الذي ورثناه من الفارابي خاصة في تصور مجتمعنا ومؤسساته التي يقوم كل منها على الرئيس الذي هو وحده الملهم والقائد والمعلم والكامل والمقدس والمعبود، ثم تقل مراتب الشرف والكمال حتى نصل إلى المرءوسين الذين عليهم إما الطاعة والولاء وإما السجن والعقاب. وإذا كنا نخلط بين العقل والوجدان في فكرنا المعاصر، فنخطب ونظن أننا نفكر، وننفعل ونظن أننا نفعل فذلك لأن العقل في التراث القديم وما ورثناه من السلف كانت مهمته تبرير الدين على الأقل في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة، وأن العقل لم يستقل على الإطلاق ولم يوجه نحو الواقع وهو طرفه الأصيل إلا في علم أصول الفقه الذي انتهى أيضا إلى الثبات وتحجير الأصول وتغليبها على الواقع حتى إنه لم يبق إلا التقليد.
وإن كنا نقاسي في عالمنا المعاصر من إعطاء الأولوية للكليات النظرية على الكليات العملية، واعتبار الجامعات أعلى من المعاهد العليا والمدارس الفنية المتخصصة، وأن الذي يعمل بعقله أفضل قيمة وأعلى شرفا وأزهر منصبا من الذي يعمل بيده، وأن الموظف أفضل من العامل، والمثقف أعلى من الفلاح، فإن ذلك كله قد يرجع إلى إعطاء الأولوية في تراثنا القديم للفضائل النظرية على الفضائل العملية، واعتبار التأمل قمة الفضائل النظرية. وإذا كنا نبغي تغيير واقعنا بين يوم وليلة، وطرد المحتل في التو واللحظة فقد يرجع ذلك إلى نقص في إحساسنا بالتاريخ لغياب البعد التاريخي في تراثنا القديم الذي غرق في البعد الرأسي واضعا الإنسان في طرف مقابل مع الله دون وضعه في التاريخ وفي طرف مقابل مع الجماهير، بل إن علم أصول الفقه الذي حوى بوادر لإمكانية قيام فلسفة في التاريخ من خلال الإجماع والاجتهاد قد انطوى على نفسه وغلب الكتاب والسنة، ولحق بالبعد الرأسي مع علم أصول الدين وعلوم الحكمة وعلوم التصوف.
2
وإذا كان الإنسان بيننا يخرج من منزله في الصباح ولا يعود في المساء، ولا يعلم أحد عنه شيئا، وإذا كان الإنسان يحشر في المركبات وفي المكاتب وفي الطرقات، وإذا كنا نبني ونعمر ثم ينهدم البناء ويخرب العمار فإن ذلك قد يرجع إلى غياب الإنسان كبعد مستقل في تراثنا القديم وحصاره بين الإلهيات والطبيعيات في علوم الحكمة، وابتلاعه في علم التوحيد، وفنائه في علوم التصوف، ومحقه في علوم التشريع؛ فالأفكار إذن ليست مجرد آراء فارغة أو تصورات مجردة بل هي أنماط حياة، ومناهج سلوك، فنحن نعمل بالكندي في كل يوم، ونتنفس الفارابي في كل لحظة، ونرى ابن سينا في كل الطرقات؛ وبالتالي يكون تراثنا القديم حيا يرزق يوجه حياتنا اليومية ونحن نظن أننا نبحث عن الرزق، ونلهث وراء قوتنا اليومي!
والأمثلة كثيرة أيضا من تراثنا الصوفي: فكما نشأ هذا التراث كمقاومة سلبية لانحرافات في الحياة أصبح هو ذاته تقويما لهذا الانحراف بانحراف آخر، ودفاعا بالرجوع إلى الوراء، فكل القيم الصوفية السلبية التي تدعو إلى الفقر والخوف والجوع والصبر والتوكل والرضا والقناعة والتسليم كلها دفاع عن النفس، ولكنه دفاع العاجز الضعيف الذي لا يرى فضائله إلا في أنه صاحب الحق الضائع، هذه القيم ما زالت تفعل في سلوك الجماهير، يذكرها في معازيه، ويعلق على جدران محاله العامة «الصبر مفتاح الفرج»، «توكلت على الله»، وتغنى المواويل الشعبية وكلها يدور حول فضائل الصبر، والتحليلات الصوفية لعالم القلب ولأنواع المعرفة الإلهية يأس من العقل ومن تحليل الواقع، وإيثار لعلم آخر حيث يغيب العلم، ولمعرفة حيث تشح المعرفة، وما زلنا نأخذ بالعلم اللدني، ونقيم عليه حياتنا، ونطمع في الكشف وفي رفع الحجاب إلى درجة السفور، وأخيرا تخيلنا الغاية وقد تحققت بالفعل، والعالم وقد أصبح واحدا، والحقيقة وقد صارت واقعة، ورأينا وحدة الشهود رؤيا ذاتية خالصة تقرب من الوهم، وتحققنا بوحدة الوجود عن طريق الخيال، ومغرقين في عالم التمنيات، وكل ذلك لا يزيد على مجرد انفعال، وإحساس ذاتي بالانتصار، وشتان ما بين الإحساس والواقع، وفرق بين الانفعال الذاتي والحقيقة الموضوعية، فالقيم السلبية تسلبنا المقاومة الفعلية، ويقضي الحب على الصراع بين الأضداد، ويهدم العقل تحت وطأة الانفعال، يحول الواقع إلى مثال، وهو ما زال الواقع المضني.
والأمثلة كثيرة أيضا مما ورثناه من فقهنا القديم، إذ تتشعب المناقشات النظرية التي لا تغير من الواقع شيئا، ويشتد الجدل الذي لا يدل إلا على احتراف أو تعصب أو ادعاء، وكأن المعركة الحقيقية هي معركة الفكر مع نفسه كما هو الحال في فقهنا الافتراضي القديم، تكثر الأحاديث حول النظريات وتتصارع الآراء، والواقع لم يتغير، وتظهر مهارة المفكرين والكتاب في عبقرية الصياغات، وتتناثر الشعارات عن العدل والظلم سائد، وتكثر الخطب عن الفضيلة، والرذيلة هي الأساس، فواقعنا المنهار وجد في تراثنا القديم ما يبرر له انهياره ويؤكده، وكأننا لا نختار من القديم إلا ما نريد ونبغي، وإذا طبقنا الإسلام، وأردنا إعادة الدولة الإسلامية بدأنا بقانون العقوبات، وكأن الغاية هي العقوبة وليست الوسيلة، وكأن المسلم يعاقب وهو لا يعيش في دولة إسلامية، ولم ينشأ نشأة إسلامية، نطلب منه واجباته قبل أن تعطى إليه حقوقه، وإذا أردنا تطبيق الإسلام بدأنا بالمحرمات، ونادينا بتحريم الخمور، أما الرقص الشرقي، والعري، والأغاني الفاضحة، والمسارح العابثة، وأفلام الجنس فنتمتع بها، وكأن الإسلام أساسا هو دولة المحرمات دون أن نبدأ بالمبيحات حتى ينعم الناس بالعالم ويبتهجوا بالطبيعة، وإذا طبقنا الإسلام بدأنا بقانون الأحوال الشخصية، الزواج والطلاق، والخطوبة والمهر، والخلوة والمحارم، أما النظام الاقتصادي السياسي الإسلامي فنطويه إلى ما وراء ظهورنا ونترك للحاكم أن يفعل ما يشاء، ونرضى بأي حكم، ونطيع أي نظام، وكأن الدولة الإسلامية هي الأسرة، وكأن المسلم هو رب الأسرة وليس المواطن الذي يعيش في دولة.
التراث إذن ما زال قيمة حية في وجدان العصر يمكن أن يؤثر فيهم، ويكون باعثا على السلوك، تجديد التراث إذن ضرورة واقعية، ورؤية صائبة للواقع، فالتراث جزء من مكونات الواقع وليس دفاعا عن موروث قديم، التراث حي يفعل في الناس ويوجه سلوكهم، وبالتالي يكون تجديد التراث هو وصف لسلوك الجماهير وتغييره لصالح قضية التغير الاجتماعي، تجديد التراث هو إطلاق لطاقات مختزنة عند الجماهير بدلا من وجود التراث كمصدر لطاقة مختزنة، لا تستعمل أو تصرف بطرق غير سوية على دفعات عشوائية في سلوك قائم على التعصب أو الجهل أو الحمية الدينية والإيمان الأعمى، أو يستعملها أنصار تثبيت الأوضاع القائمة لحسابهم الخاص من أجل الدفاع عن الثبات الاجتماعي، وقد لجأ الثوريون المعاصرون إلى المأثورات الشعبية وإلى تراث الجماعة الممثل في أمثلتها العامية ودياناتها القديمة من أجل تجنيد الجماهير، وصب طاقتها في واقعها المعاصر،
3
تجديد التراث هو حل لطلاسم القديم وللعقد الموروثة، وقضاء على معوقات التطور والتنمية والتمهيد لكل تغيير جذري للواقع، فهو عمل لا بد للثوري من أن يقوم به وإلا ظل القديم شبحا ماثلا أمام الأعين يمثل أرواح الأسلاف التي تبعث من جديد، تتربص بالأبناء شرا إذا هم خرجوا من جبتهم، ورفضوا سلطانهم، ولم يدينوا لهم بالطاعة والولاء أو يقوم أنصار المحافظة والإبقاء على الأوضاع القائمة باستغلال هذا المخزون لصالحهم، وأخذ الجماهير من جانبهم، وقطع خط الرجعة على أنصار التغيير والتقدم، وسحب البساط من تحت أرجلهم.
نامعلوم صفحہ
والتراث والتجديد يعبران عن موقف طبيعي للغاية، فالماضي والحاضر كلاهما معاشان في الشعور، ووصف الشعور هو في نفس الوقت وصف للمخزون النفسي المتراكم من الموروث في تفاعله مع الواقع الحاضر، إسقاطا من الماضي أو رؤية للحاضر، فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث لما كان التراث القديم مكونا رئيسيا في عقليتنا المعاصرة، ومن ثم يسهل علينا رؤية الحاضر في الماضي، ورؤية الماضي في الحاضر، فالتراث والتجديد يؤسسان معا علما جديدا هو وصف للحاضر وكأنه ماضي يتحرك، ووصف للماضي على أنه حاضر معاش، خاصة في بيئة كتلك التي نعيشها حيث الحضارة فيها ما زالت قيمة، وحيث الموروث ما زال مقبولا، فالحديث عن القديم يمكن من رؤية العصر فيه، وكلما أوغل الباحث في القديم وفك رموزه، وحل طلاسمه، أمكن رؤية العصر، والقضاء على المعوقات في القديم إلى الأبد، وإبراز مواطن القوة والأصالة لتأسيس نهضتنا المعاصرة، ولما كان التراث يشير إلى الماضي، والتجديد يشير إلى الحاضر فإن قضية التراث والتجديد هي قضية التجانس في الزمان، وربط الماضي بالحاضر، وإيجاد وحدة التاريخ، فكثيرا ما سمعنا في عصرنا هذا عن انفصال الماضي عن الحاضر أو عن قطع جذور الحاضر من الماضي أو عن ماضي عظيم ولى ولن يعود أو عن حاضر أصيل جديد عبقري المثال لا أصول له إلا من ذاته، ربط الماضي بالحاضر إذن ضرورة ملحة حتى لا يشعر الإنسان بغربة عن الماضي أو بغربة عن الحاضر أو بوضع طبقة من الجديد فوق طبقة من القديم مما ينشأ عنه في كثير من الأحيان لفظ القديم للجديد، ورجوع للقديم كرفض العضو للجسم الغريب،
4
فهي إذن مشكلة واقعة تبدأ بمعطى واقعي، وهي كيف يمكن لشعب من الشعوب تحقيق تجانسه في الزمان والبحث عن مسار طبيعي لتطوره، والإبقاء على الاستمرارية في تاريخه، قضية التراث والتجديد إذن هي قضية التجانس الحضاري لشعب من الشعوب، فلا يعني انتقال شعب ما من مرحلة إلى أخرى حدوث قطع أو انفصال حضاري بل يعني استمرار الحضارة ولكن على أساس جديد من احتياجات العصر،
5
قضية التراث والتجديد هي إذن الكفيلة بإظهار البعد التاريخي في وجداننا المعاصر، واكتشاف جذورنا في القديم حتى يمكننا الإجابة على سؤال: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ وحتى نعود إلى تطورنا الحضاري الطبيعي، فتحل مشكلة الجمود والتوقف من ناحية، وتحل مسألة التقليد للآخرين والتبعية لهم من ناحية أخرى.
التراث والتجديد يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ، وهو حاجة ملحة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر، كما يكشفان عن قضية «البحث عن الهوية» عن طريق الغوص في الحاضر إجابة على سؤال: من نحن؟ واكتشاف أن الحاضر ما هو إلا تراكمات للماضي بالإضافة إلى واقع جديد هو نفسه نتيجة لضياع الجهاد القديم، والتخلف قد يكون لضياع النظرة العلمية الحضارية القديمة، والفقر قد يكون نتيجة لغياب النظم الاقتصادية القديمة، وإذا كان البحث عن الهوية يأتي عن طريق تحديد الصلة بين الأنا والآخر فإن عملية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بتحقيق ذلك؛ لأنها اكتشاف الأنا وتأصيلها وتحريرها من سيطرة الثقافات الغازية، مناهجها، وتصوراتها، ومذاهبها، ونظمها الفكرية، وتساعد أيضا على مواجهة التحديات الحضارية والغزوات الثقافية التي نحن ضحية لها في هذا القرن، وتنقلنا من وضع التحصيل والنقل إلى وضع النقد والخلق والابتكار.
6 (1-2) إعادة الاختيار بين البدائل
قضية «التراث والتجديد» هي أيضا قضية إعادة كل الاحتمالات في المسائل المطروحة، وإعادة الاختيار طبقا لحاجات العصر، فلم يعد الدفاع عن التوحيد بالطريقة القديمة مفيدا ولا مطلوبا، فكلنا موجدون منزهون، ولكن الدفاع عن التوحيد يأتي عن طريق ربطه بالأرض، وهي أزمتنا المعاصرة.
فالتجسيم، وهو الاختيار القديم المرفوض، قد يثير الأذهان حاليا في الربط بين الله وسيناء، بين التوحيد وفلسطين، فالفصل القديم بين الخالق والمخلوق كان دفاعا عن الخالق ضد ثقافات المخلوق القديمة، ولكن الحال قد تغير الآن، وأصبحت مأساتنا هي مكاسبنا القديمة، الفصل بين الخالق والمخلوق، ومطلبنا هو ما هاجمناه قديما، الربط بين الله والعالم، لقد ساد الاختيار الأشعري أكثر من عشرة قرون، وقد تكون هذه السيادة إحدى معوقات العصر لأنها تعطي الأولوية لله في الفعل وفي العلم وفي الحكم وفي التقييم في حين أن وجداننا المعاصر يعاني من ضياع أخذ زمام المبادرة منه باسم الله مرة، وباسم السلطان مرة أخرى، ومن ثم فالاختيار البديل، الاختيار الاعتزالي، الذي لم يسد لسوء الحظ إلا قرنا أو قرنين من الزمان، بلغت الحضارة الإسلامية فيهما الذروة، هذا الاختيار قد يكون أكثر تعبيرا عن حاجات العصر، وأكثر تلبية لمطالبه، ما رفضناه قديما قد نقبله حديثا، وما قبلناه قديما قد نرفضه حديثا، وما قبلناه قديما قد نرفضه حديثا ، فكل الاحتمالات أمامنا متساوية كما كان الحال عند القدماء، فقبلوا منها ما عبر عن حاجات عصرهم، وخطؤنا نحن أننا نأخذ نفس الاختيار بالرغم من تغير حاجات العصر، فقد رفض المذهب الطبيعي قديما لأنه كان خطرا على التوحيد وفاعليته،
7
نامعلوم صفحہ
ولكنه قد يقبل حاليا لأن فيه عود الإنسان إلى الطبيعة منظرا إياها، وفاعلا فيها، ومكتشفا لقوانينها بدلا من فصم نفسه عنها، وإسقاطها من حسابه بالتركيز على التوحيد القديم، مهمة «التراث والتجديد» إذن هي إعادة كل الاحتمالات القديمة بل ووضع احتمالات جديدة، واختيار أنسبها لحاجات العصر، إذ لا يوجد مقياس صواب وخطأ نظري للحكم عليها، بل لا يوجد إلا مقياس عملي، فاختيار المنتج الفعال المجيب لمطالب العصر هو الاختيار المطلوب، ولا يعني ذلك أن باقي الاختيارات خاطئة، بل يعني أنها تظل تفسيرات محتملة لظروف أخرى، وعصور أخرى ولت أو ما زالت قادمة، وهذا لا يعني أن أصول الدين واحدة في كل زمان ومكان لا تتغير وإلا خلطنا بين الأصول والفروع، بين الدين والفقه، فالتوحيد ثابت ولكن تختلف أوجه فهمه طبقا لحاجات العصر، وحرية الإنسان وعقله ومسئوليته ثابتة أيضا، ولكن تختلف طرق ممارستها من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، ومن وضع اجتماعي إلى وضع اجتماعي آخر، والتصور الدينامي للأصول هو أيضا احتمال مع التصور الثابت لها، والتصور العملي للعقائد هو أيضا احتمال أمام التصور النظري لها، ومن ثم يكون اتهام حضارتنا بأنها حضارة وحدة لا تعدد، وبأنها حضارة اتفاق لا اختلاف اتهاما باطلا؛ لأن أهم ما يميز تراثنا القديم هو أنه أعطى مجموعة من الاحتمالات المتعددة تطايرت من أجلها الرقاب حين الاختيار بينها،
8
فالاجتهاد ليس فقط منهجا في أصول الفقه، بل هو أيضا منهج في أصول الدين، وليست وظيفته فقط هي القياس في الأحكام، وهي أفعال السلوك، بل أيضا في اختيار النظريات وأنسبها طبقا لحاجات العصر، فالاجتهاد يقوم بالتأسيس العلمي في علم أصول الفقه طبقا لقدرات الفرد ويقوم بالتأسيس النظري في علم أصول الدين طبقا لمتطلبات العصر.
وعندما نقول روح العصر أو احتياجات العصر أو واقعنا المعاصر، فإننا لا نشير إلى أية جماعة بشرية تنتمي إلى جنس معين، فالبشر لا تصنف إلى أجناس أو إلى جماعات بيولوجية بل تشير إلى أبنية نفسية ولأوضاع اجتماعية وهذه الأبنية والأوضاع هي التي تحدد الهوية،
9
وأي تفسير عنصري أو قومي أو جنسي للوقائع هو تفسير يخضع للأهواء والأمزجة ولا يخضع للعلم ولتحليل الواقع، أو يكون تفسيرا ناشئا عن انحراف في الموقف الحضاري، وتبعية لمسار الحضارة الغربية وبيئتها.
ومن الصعب تناول قضية «التراث والتجديد» والاستقرار على أسلوب متسق للتحليل، فقد يغلب أحيانا تحليل القديم مما يؤدي إلى الأكاديمية الخاصة، وما تتصف به من برودة، وتعالم، وانعزال عن الواقع، وقد يغلب أحيانا أخرى تحليل الواقع المعاصر؛ مما يعطي البحث طابع التحليل الاجتماعي الذي لا شأن له بالتراث القديم، والواقع أنها معادلة صعبة في النظر إلى الواقع كحصيلة للتراث القديم، والنظر إلى التراث القديم من خلال الواقع، قد يقع الباحث في عيب الثقل الأكاديمي الذي يصل إلى حد التعالم، ولكن هذا العيب أخف كثيرا من ترك القديم بطلاسمه ورموزه، وقد يقع الباحث في عيب الوصف الاجتماعي للواقع المعاصر، ولكن هذا العيب أيضا أخف كثيرا من الثقل الأكاديمي وانعزال التراث عن واقعه الذي يتحرك بفعل التراث. (1-3) التراث قضية وطنية
وتراثنا القديم ليس قضية دينية لانطباعه بصبغة دينية، ولأنه قام ابتداء من الدين، ولكنه قضية وطنية تمس حياة المواطنين وتتدخل في شقائهم أو سعادتهم، والدافع على التجديد ليس عاطفة التقديس والاحترام والتبجيل الواجبة لكل موروث ديني بل انتساب الإنسان المجدد إلى أرض وانتماؤه إلى شعب،
10
قضية «التراث والتجديد» قضية وطنية لأنها جزء من واقعنا، نحن مسئولون عنه كما أننا مسئولون عن الشعب والأرض والثروة، وكما أننا مسئولون عن الآثار القديمة والمأثورات الشعبية؛ لذلك آثرنا لفظ «التراث» وليس «الدين»، فالدين جزء من التراث، وليس التراث جزءا من الدين، ويمكن التعامل مع التراث كما نتعامل مع المأثورات الشعبية بتطويرها، وصياغتها، وإبرازها تعبيرا عن روح الشعب وتاريخه، القضية إذن ليست قضية دينية بل قضية اجتماعية أو سياسية أو فنية أو تاريخية، تجديد التراث إذن ليس غاية في ذاته، بل وسيلة للبحث عن روح الشعب وتطويرها كوسيلة لتطوير الواقع ذاته ولحل مشاكله، تجديد التراث هو دراسة للبعد الاجتماعي لقضية الموروث أو دراسة للموروث في بعده الاجتماعي، فهو أدخل في علم الاجتماع الديني أو علم الاجتماع الحضاري، ومن ثم كان أحد مشاكل العلوم الإنسانية، الحديث عن التراث إذن ليس حديثا عن الدين، فالتراث حضارة، والحضارة ناشئة بفعل الزمان والمكان، وكل ما في التراث ليس في الدين، وكل ما في الدين ليس في التراث، فقد ظهر التأليه والتجسيم والتشبيه في التراث ولم يظهر في الدين، وظهر الجبر في التراث ولم يظهر في الدين، وظهرت دعوات في التراث إلى الخنوع والاستكانة والرضا والقناعة والخوف ولم تظهر في الدين، فالتراث إن هو إلا عطاء زماني أو مكاني، يحمل في طياته كل شيء، «ودين الثورة» موجود في الدين وليس موجودا في التراث، «ودين التحرر» موجود في الدين وليس موجودا في التراث، والنزعة اليسارية موجودة في الدين وليست موجودة في التراث، والتاريخ موجود في الدين وليس موجودا في التراث، والإنسان موجود في الدين وليس موجودا في التراث، ومن ثم كانت أحكامنا على التراث بالرفض أو القبول أحكاما لا تمس الدين في كثير أو في قليل، وكان اختيارنا من التراث لا يؤدي إلى تكفير أو تضليل في الدين، فالدين ذاته أصبح تراثنا؛ لأن الدين قد تمثلته جماعة وحولته إلى ثقافة طبقا لمتطلبات العصر، لا يوجد «دين في ذاته»، بل يوجد تراث لجماعة معينة ظهر في لحظة تاريخية محددة ويمكن تطويرها طبقا للحظة تاريخية قادمة.
نامعلوم صفحہ
لذلك تحاشينا استعمال لفظ «إسلامية» كوصف للحضارة لأنه لفظ ديني والقضية حضارية بالأصالة تفرض أسلوبها العلمي الذي يمكن التعامل به مع عديد من الباحثين، وفي حالات الاضطرار القصوى فإن أمثال هذه الألفاظ الدينية لا تدل على أي معنى ديني بل تعني وصفا حضاريا صرفا، أي الحضارة التي نشأت حول الإسلام باعتباره معطى تاريخيا وليس باعتباره دينا، ولا يعني كونه معطى تاريخيا إنكارا للوحي؛ فالإسلام هنا واقعة حضارية حدثت في التاريخ، ويهمنا ما نشأ منه كحضارة وليس مصدره من أين أتى، تهمنا حضارته بعد حدوثه بالفعل، تجديد التراث لا يبحث عن النشأة بل عن التطور، والمجدد هنا كعالم الحديث مهمته البحث عن صحة الحديث في التاريخ وليس عن مصدر الحديث في النبوة وصدقها.
والتراث أيضا قضية شخصية؛ لأننا نتعامل مع موروث شخصي يربطنا به، وهو موصوف بنفس الصفة، فهو «إسلامي» ونحن «مسلمون»، والنسبة تشير إلى الحضارة أكثر مما تشير إلى الدين، وتعني أننا والتراث من منطقة حضارية معينة كما يعيش الغربي في تراث مسيحي ولا يكون هو مسيحيا، أو كما يعيش الهندي في تراث هندي ولا يكون هندوكيا أو بوذيا، التراث قضية شخصية نلتزم بها، وتختلف دراستنا له عن دراستنا مثلا للتراث الهندي أو الفارسي أو الصيني أو الغربي؛ لأننا في هذه الحالة نكون مجرد باحثين، في حين أننا في الحالة الأولى نكون أكثر من باحثين، بل نكون ملتزمين بقضية شخصية، تجديد التراث هو حياة المجدد نفسه، وجزء من التحليل النفسي لشخصيته الوطنية؛ من أجل التعرف على مكوناته النفسية. فتراث المجدد في نفس الوقت ذات وموضوع؛ لأن موضوع البحث هو ذاته أي وجوده التاريخي في اللحظة الحاضرة بين الماضي والمستقبل، لا ينظر الباحث إلى التراث إذن نظرة سائح إلى عالم غريب؛ لأن التراث جزء من ثقافة الباحث الوطنية، والباحث مسئول عنه مسئولية قومية، فالأحكام الخاطئة لا ترصد بل يعاد صياغتها، وأوجه النقص في التراث لا تبرر أو تنقد بل تكمل وتزاد، فالباحث عن نفس مستوى مسئولية المفكرين القدماء وهم أترابه وليسوا غرباء عنه، فإذا انفصل الباحث عنهم وقع في الغربة، وأصبحت مسئوليته هو وليست مسئولية التراث أن يقضي على اغترابه حتى يشعر بالانتماء وبأنه جزء من التراث وبأن التراث جزء منه،
11
ولا ينقص الالتزام بالقضية من حياد الباحث أو من نزاهته أو من موضوعيته، فلا تعني الموضوعية التخلي عن الحكم أو عدم الغوص في الأشياء وأخذ موقف، فالباحث عالم ملتزم، والتزامه أساس علمه ويقوم على علم، بل إن علمه هو التزامه بقضايا التغيير الاجتماعي، وهذا الالتزام هو نفس موضوع العلم، وبتعبير معاصر نقول: الأيديولوجية هي العلم والعلم هو الأيديولوجية؛
12
ولذلك تتكشف المشاكل القديمة في شعور الباحث المعاصر كمشاكل شخصية في حياته، وحيوية لثقافته الوطنية، ويتحول التراث القديم بالفعل إلى مشكلة الثقافة الوطنية، فهو مصدر الثقافة باعتباره مخزونا نفسيا موجها لسلوك الجماهير، وهو موجه نحو الواقع باعتباره أسسا لنظرية ممكنة للتغير والتنمية، وإذا كانت ثقافتنا الوطنية ما زالت تتأرجح بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، فإن تجديد التراث يعطي لثقافتنا الوطنية وحدتها الضائعة، وتجانسها المفقود؛ ولذلك نستعمل ضمير المتكلم الجمع في «واقعنا» و«حضارتنا» و«موقعنا» و«عصرنا»، لا لندل على موقف حضاري خاص، أو على أسلوب شخصي جماعي، بل للإشارة إلى الحضارة كموقف شعوري، وإلى أن الغاية هو البحث عن أسباب التوقف التاريخي أو الانحراف الفكري أو الاغتراب الوجداني أو التغير الحضاري، وهو ما يحدث في كل حضارة تصنع نفسها موضع البحث، وتجدد صلتها بالتراث القديم والواقع المعاصر.
13
فإن قيل: هل «التراث والتجديد» يقدم منهجا أم يؤسس علما أم يكشف ميدانا؟ قيل: إن كل تجديد يصعب تصنيفه إلى منهج أو علم أو ميدان، فالمنهج هو ذاته علم لأنه تأسيس للعلم، والعلم إذا كان تأسيسا للعلم فهو ميدان، ميدان التأسيس، فتحليل الواقع المباشر ورؤية التراث فيه، أو تحليل التراث على أنه مخزون نفسي عند الجماهير، هو في نفس الوقت منهج نفسي اجتماعي، نفسي لأنه يقوم على تحليل شعور الناس وسلوكهم، واجتماعي لأنه يهدف إلى تحليل الواقع وإلى أي حد ترتكز هذه الأبنية على أبنية نفسية أخرى عند الجماهير، ولما كانت هذه الأسس النفسية ذاتها ناشئة من موروث حضاري، فإنه يتعين تحليل هذا الموروث ومعرفة ظروف نشأته، «التراث والتجديد» إذن يغطي ميادين ثلاثة: (1)
تحليل الموروث القديم وظروف نشأته ومعرفة مساره في الشعور الحضاري. (2)
تحليل الأبنية النفسية للجماهير وإلى أي حد هي ناتجة عن الموروث القديم أو من الأوضاع الاجتماعية الحالية. (3)
نامعلوم صفحہ
تحليل أبنية الواقع وإلى أي حد هي ناشئة من الواقع ذاته ودرجة تطوره أم أنها ناشئة من الأبنية النفسية للجماهير، الناشئة بدورها عن الموروث القديم، وإن شئنا، فالتراث والتجديد يود الانتقال من علم اجتماع المعرفة إلى تحليل سلوك الجماهير، أي من العلوم الإنسانية إلى الثقافة الوطنية، ومن الثقافة الوطنية إلى الثورة الاجتماعية والسياسية.
والموضوع ليس جديدا بل هو ما يتحادث فيه العامة والخاصة، وما تتناوله الجماهير والمثقفون، ويكاد يجمع الكل على أن هذا موضوع العصر، وأن البداية في شق طريقه هو سبيل الخلاص، وهو الموضوع الذي بدأه المصلحون الدينيون كما سار فيه بعض الباحثين المعاصرين، ولكن التحليلات كلها إما جزئية ولا تشمل الكل، وإما تكتفي بمجرد التعبير عن الأماني والنيات الحسنة في تجديد التراث، وإما تعبيرات خطابية وأساليب بيانية تلهب حماس الناس وتعلن عن الكاتب أكثر مما تكشف شيئا، وإما أسيرة قوالب التراث الغربي تجدد من خلاله، فهو تجديد من خارج التراث وليس من داخله.
وهذه مهمة جيل واحد، هو جيلنا، بعدها يكون المخزون من الطاقة قد تصرف أو يكون المنصرف منها قد توجه إلى تغيير الواقع، ولكن بعد أن يتم البناء الفكري والشعوري لا يعود لتجديد التراث القديم أي معنى لأن الموروث القديم قد تحول إلى تحليل مباشر للواقع، بل يكون التراث كله قد تحول إلى طاقة عملية ولم يعد له وجود مخزون، قد تطول المدة إلى جيلين أو ثلاث، خاصة لو ركز كل جيل على جانب، ولكن بعدها يأتي التحليل المباشر للواقع، ويكون التراث حينذاك هو أيديولوجية الجماهير، وروحها المعنوية، وطاقاتها النضالية، وهذا ما لا ينتهي بانتهاء الأجيال.
ومهمة التجديد لا تقع على عاتق فرد واحد، بل هي مهمة طليعة المثقفين، وجمهور الباحثين نظرا لتعدد جوانب التراث وحاجته إلى باحثين متخصصين، كل في ميدانه، ولما كانت المهمة سياسية بالأصالة فإنها تقع على عاتق الحزب التقدمي الوطني، فالحزب هو عصب الجماهير وروحها الذي يعبر عن متطلباتها، وهو الذي يرث الماضي ويعبر عن وجدان العصر، الحزب هو الذي يقوم بتجديد التراث لأنه هو المعبر عن الجيل - والممثل لروح العصر، لا تقع مهمة التجديد على عاتق فرد بعينه - وإن كان الفرد يستطيع إعطاء وحدة العلوم، ووحدة النظرة، ووحدة المنهج - فهو ليس عملا بطوليا يعبر عن عبقرية فردية، بل هو عمل جماعي يقوم به من يتحمل تبعة تغيير الواقع، ومن هم هؤلاء إن لم يكونوا طليعة الجماهير، وما هي الجماهير إن لم توجد نفسها بإيجاد الحزب؟ (2) الوضع الحالي للمشكلة
وقضية «التراث والتجديد» حتى الآن تتنازعها حلول ثلاث: (2-1) الاكتفاء الذاتي للتراث
وذلك يعني أن تراثنا القديم حوى كل شيء مما مضى أو مما هو آت، وهو فخرنا وعزنا، وتراث الآباء والأجداد، علينا الرجوع إليه ففيه حل لجميع مشاكلنا الحاضرة، وتبرز معان كثيرة من الأحاديث مثل: «لا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها»، أو حديث: «خير القرون قرني ثم الذي تلاني»، فلا يتقدم الحاضر إلا بالرجوع إلى الماضي، وأن التاريخ يسير في تدهور مستمر، وأن قمة التاريخ كانت في عصر ذهبي في الماضي، وأنه لا يمكن اللحاق بهذه القمة من جديد، فذاك عصر الطهارة قد انقضى وولى، ليس التراث قضية فخر واعتزاز بالماضي، بما تركه الآباء والأجداد لأن الاعتزاز بالماضي إسقاط من الحاضر عليه بمعنى أنه تعويض عن قصور جيلنا بالهروب إلى الماضي، وتخل عن معارك العصر، كما أن الاعتزاز بالماضي انصياع للعواطف القومية المعاصرة التي تقوم على بعث النعرة القومية التي تسربت إلينا من مسار الحضارة الغربية في القرن الماضي، الاعتزاز بالماضي استسلام للنزعة الخطابية السائدة في عصرنا والتي تغطي الواقع بسيل من الخطب الحماسية، وفي غياب العقل يسود الانفعال، ولا يمكن تسمية هذا الموقف بالموقف المحافظ، فالموقف المحافظ يدل على وعي فكري بالقضية واختيار لأحد الحلول الثلاثة، وهو موقف اليمين الواعي، ولكن هذا الموقف يكشف عن وضع اجتماعي لفئة معينة من الناس، تبغي المحافظة على مكاسبها والبقاء في مناصبها أو ترنو إلى مكاسب أعظم ومناصب أعلى عن طريق المزايدة في الدين، والحمية في الدفاع عنه، فهي ظاهرة اجتماعية أكثر منها ظاهرة فكرية، وكثيرا ما تحدد الظواهر ببنائها الاجتماعي، ويكشف هذا الموقف عن الآتي:
النفاق؛ وذلك لأن أصحاب دعوة الاكتفاء الذاتي للتراث لا يؤمنون بشيء، ولا يبغون إلا المحافظة على مصالحهم الخاصة، فبما أنهم رجال الدين، وحملة العمائم، فإن التأكيد على الماضي كقيمة مطلقة فيه تثبيت لمناصبهم، وتأكيد لسلطانهم، متسترين وراء العلم، والدعوة إلى نصرة القديم ضد البدع المستحدثة، فهو إذن موقف يقوم على النفاق، ولا يبغي إلا المحافظة على المصالح الشخصية، ويكفي إقامة جدول إحصائي لجماعة العلماء والهيئات الدينية، والمبشرين بهذه الدعوة في أجهزة الإعلام لمعرفة نسبة دخولها من المناصب الدينية والمواقف السلفية والمزايدة على بعضهم البعض وكأنهم في حلبة سباق!
العجز، ولما كانت هذه الفئة بطبعها إحدى طفيليات المجتمع المتخلف فإنها تتعيش عليه، وتستمد وجودها من وجوده، ويستغلها الوضع السياسي القائم من أجل إضفاء الشرعية على نفسه، وتبرير وجوده أمام الجماهير، فهي إذن عاجزة عن فعل شيء، ولو كانت قادرة لفعلت، وتعويضا عن هذا العجز تقيم معركتها في الهواء، وتبعد أنظار الحاضرين عن واقعهم، وتجعلهم يعيشون في الماضي، يجدون فيه عزاء عن واقعهم المرير، وهو عجز فكري لأنها فئة غير قادرة على القيام بأي دور في قضية التغير الاجتماعي، مع أنها زالت مرتبطة بالشعب في المواسم والأعياد والمآتم ودروس العصر والمغرب والعشاء.
النرجسية، وعلى أحسن تقدير، ومع افتراض الأمانة في مثل هذا الموقف، وأنه يعبر عن قضية، ويلتزم بمبدأ، فإن هذا الموقف ذاتي خالص تنقصه الموضوعية ويكشف عن ذاتية فارغة خالية من أي مضمون، هو موقف نرجسي لا يرى فيه الإنسان أبعد من مصالحه الخاصة، يعيش ويدور في فلك أهوائه، ولا ينكشف إلا بتأثر من خلاله وهو ما يسمى بالمصلح الديني الذي يرفض النفاق، ويكشف عن الدين في نقائه وصفائه، أو بتأثير من الجماعة العريضة، وهو ما يسمى بالمصطلح الاجتماعي أو إن شئنا بالثائر الذي يغير من بناء الواقع نفسه، فتتغير أبنيته الطفيلية التي تعيش عليه، وهذه النرجسية ناشئة في الحقيقة إما عن نفاق وتستر ومساومة وممالأة كما هو الحال في الأول، أو عن عجز وضعف وخنوع واستكانة كما هو الحال في الثاني. (2-2) الاكتفاء الذاتي للجديد
وذلك يعني أن التراث القديم لا قيمة له في ذاته، كغاية أو وسيلة ولا يحتوي على أي عنصر من عناصر التقدم، وبأنه جزء من تاريخ التخلف أو أحد مظاهره، وأن الارتباط به نوع من الاغتراب ونقص في الشجاعة، وتخل عن الموقف الجذري، ونسيان للبناء الاجتماعي الذي هو إفراز منه في حين أن الجديد علمي عالمي، يمكن زرعه في كل بيئة، والحقيقة أن هذا الموقف يكشف أيضا عن وجود فئة من الناس استطاعت أن تتحقق بما لم يصل إليه سائر أفراد المجتمع من علم وحماسة وشجاعة ورغبة في التغيير وجذرية ونقاء، ولكنها تسبق الغالبية العظمى بمراحل، وتنتهي إلى العزلة، فهي على حق من حيث المبدأ وعلى خطأ من حيث الواقع، فتسرع بإعادة البناء والقديم ما زال قائما بعد، تبني فوق بنيان متهدم قائم دون أن تكمل الهدم لتعيد البناء من جديد، وحياة الشعوب لا تتغير في لحظة، ولربما يستغرق التغير أجيالا وأجيالا لو أردنا للتغير أن يكون جذريا من الأساس وليس تغيرا سطحيا متسرعا، ويكشف هذا الموقف عن الآتي:
نامعلوم صفحہ
قصور النظرة العلمية، فليس التراث بغير ذي قيمة، إن لم يكن كغاية في ذاته فعلى الأقل كوسيلة، فالتراث جزء من المخزون النفسي للمعاصرين، فهو إذن إحدى مكونات الواقع، كالعادات والتقاليد والأمثلة الشعبية، وهذه لا تلغي أو تسقط من الحساب بل تستخدم ويعاد صياغتها، وتغيير الجماهير وتطوير الواقع لا يتم بطريقة آلية عن طريق استبدال جماهير بأخرى أفضل، وواقع بواقع آخر أكمل بل بتطوير الموجود بالفعل دون نظر إلى التكاليف أو الوقت أو الجهد، فهذا هو البناء الأبقى، وأنه ليمكن بسهولة تصنيع الريف عن طريق وضع آلة في القرية تدخل من جانب الفاكهة وتخرجها من جانب آخر معلبات، فينظر إليها الريفي بعين الدهشة والإعجاب وينقل نظرته إلى الضريح، القادر على القيام بالمعجزات، وإلى الولي القادر على القيام بالكرامات - ينقل نظرته هذه إلى الآلة، فالكل بالنسبة إليه شيء يثير الدهشة في غياب الرابطة بين العلة والمعلول، فبتغير البناء التحتي لا يتغير البناء الفوقي آليا بل لا بد من عملية إعادة تفسير القديم من أجل تغير النظرة للعالم، وهذا هو شرط التصنيع وأساس التقدم.
التقليد، تخاطر هذه الفئة بالوقوع في التقليد، وباستعارة تجارب سابقة، وبالوقوع في العمومية ونسيان الخصوصية - وقد يصل الأمر إلى حد الخيانة للواقع بالإضافة إلى التبعية الفكرية التي قد تصل أيضا إلى حد العمالة، ذلك لصدور الجديد عن بيئة ثقافية مغايرة لبيئة الثقافة الوطنية، وهي في الغالب البيئة الأوروبية سواء كانت الدعوة إلى النظم الليبرالية أم إلى النظم الاشتراكية؛ لذلك كان أنصار التجديد متأوروبون، سلوكيا أم ثقافيا، وقد نبهت حركات الإصلاح الحديثة على خطورة التقليد والتبعية، ولكن دون جدوى، فنظرا لانفصام عديد من المثقفين عن التراث القديم نتيجة للاغتراب الحضاري فإنهم لا يجدون بديلا إلا في التراث الغربي الذي كانت له الريادة منذ أربعة قرون دون وعي منهم بانحسار هذه الريادة الآن، ودون دراية بأن هذه الثقافة التي ينهلون منها الثقافة محلية صرفة، وليس فيها أي أثر لدعوى العالمية والشمول.
14
الازدواجية، وذلك أن أكثرية هذه الفئة تربطها بأوروبا أوشاج ثقافية أو دينية، فقد تربت في مدارس غربية خاصة، دينية أم علمانية، كما نشأت في الغرب وتكونت ثقافيا فيه، وتظن أن التراث القديم تراث إسلامي لا يرتبطون به دينيا أو ثقافيا،
15
ومن ثم، وجدت هذه الفئة نفسها تدعو للحديث وترك القديم «الإسلامي» ولكنها بينها وبين نفسها تحرص على القديم «المسيحي» وترى في تاريخ الكنيسة القبطية تاريخا لمصر، وفي تاريخ الكنيسة المارونية تاريخا للبنيان ... إلخ، فهي تدعي الإلحاد أمام المسلمين، وتؤمن بالله بينها وبين نفسها، تريد للمسلمين المواقف الجذرية، وتعيب عليهم الأساطير والغيبيات، وسيادة الوهم والخرافة، ثم تتعبد لله وتنشط داخل الكنيسة، تريد منهجا اجتماعيا جذريا يحدد العلاقة بين الإنسان والإنسان، وتؤمن بمنهج صوفي خالص يحدد العلاقة بين الإنسان والله في حين أن النظرة العلمية تحتم عليهم وحدة المنهج ، هذا بالإضافة إلى أن التراث القديم تراث سامي لا فرق فيه بين لحظاته الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام بل إنه يجمع كل التراث السامي القديم، الفرعوني والأشوري والبابلي والكلداني.
الثقافة العصرية ليست غاية في ذاتها يمكن الكتابة عنها، والتعرف بها، وتقديمها والدعوة لها، فذلك ما تم منذ أكثر من قرنين من الزمان منذ بداية عصر الترجمة الثاني،
16
الثقافة العصرية هي ما سماه القدماء علوم الوسائل من أجل علوم الغايات، وأفضل المؤلفات في مذاهبها لن تغير الواقع قيد أنملة بل على العكس قد تطمس معالمه، وتكدس عليه معلومات قد لا يحتاجها كلها، وقد لا يحتاجها على الإطلاق، فانشغال الباحثين بعلوم الوسائل ضياع للوقت والجهد والعمر، وترسيخ للاغتراب الحضاري في شعور الناس، إن لم تستغل لتجديد القديم، وفك عقد الناس منه، الثقافة العصرية واردة من حضارة غازية، وهي ثقافة بيئية مغايرة لواقعنا المعاصر، فهي تعمي أكثر مما تكشف، وتغلف أكثر مما تبين،
17
نامعلوم صفحہ
موقفنا من الثقافة العصرية لا يكون فقط باستعمالها كعلوم للوسائل بل أيضا بأن نأخذ منا موقفا وردها إلى بيئتها المحلية، واكتشاف أوجه قصورها في تحليل واقعها المحلي بشعور محايد هو شعورنا، ويكون هذا أكبر إضافة جديدة منا على الحضارة البشرية والاكتفاء بين الحضارات. (2-3) التوفيق بين التراث والتجديد
ويعني هذا الموقف الثالث الأخذ من القديم ما يتفق مع العصر، وإرجاع الجديد لمقاييس القديم، فهو موقف شرعي من الناحية النظرية يود أن يستوعب مزايا كلا الموقفين السابقين وأن يتخلى عن عيوبهما، وقد عبر الكثيرون عن نواياهم للقيام بهذا الدور، ولكن إعلان النوايا شيء، وتحقيقها شيء آخر خاصة ولو تم ذلك بأسلوب خطابي، فإذا تم شيء فإما يتم لحساب القديم وبذلك يرجع إلى الموقف الأول وإما لحساب الجديد وبذلك يرجع إلى الموقف الثاني؛ لذلك بقت المشكلة تحتاج إلى دراسة وإلى تحديد الصلة الدقيقة بين التراث والتجديد بنظرة علمية بعيدة عن كل خطابة أو عن تحقيق أية مصلحة شخصية، وقد ظهرت عدة محاولات جادة للتراث والتجديد تتم بطريقتين:
التجديد من الخارج، وذلك عن طريق انتقاء مذهب أوروبي حديث أو معاصر ثم قياس التراث عليه ، ورؤية هذا المذهب المنقول في تراثنا القديم وقد تحقق من قبل، ومن ثم نفتخر بأننا وصلنا إلى ما وصل إليه الأوروبيون المعاصرون بعشرة قرون أو أكثر من قبل، فهناك أرسطية ليبرالية، ومادية اشتراكية، وديكارتية إصلاحية وكانطية أخلاقية، وماركسية غربية، وشخصانية إسلامية، ووضعية أصولية
18 ... إلخ وهي اتجاهات نشأت بعد أن استطاع عدد من الباحثين الذهاب إلى الخارج في بعثات أولى، وتعلموا المذاهب السائدة في ذلك الوقت أو نقلوها طبقا للمزاج والبيئة والثقافة، ثم رجعوا يروجون للمنقول، وبعد حين وجدوا أنفسهم أيضا في بيئتهم المحلية فلم يتنكروا لها منذ البداية أو تنكروا لها ثم عادوهم الحنين إلى الماضي بعد اكتشاف اغترابهم وانعزالهم عن الثقافة القومية أو ربما على أسوء تقدير تبعا للتيار ودخولا في التيار الثقافي الوطني، أخذوها في الاعتبار، ودرسوا التراث بمنظور مذهبهم المنقول ولكن النية لم تكن معقودة أولا للتراث والتجديد بل خضعت إما للتطور الفكري للباحث أو لتنوع كتاباته أو رغبة منه في إعادة التأقلم مع بيئته الثقافية ورفضه أن يكون دائرة منعزلة هامشية غريبة على التراث القديم، ويكون الكاتب دخيلا على مجتمعه وقومه، وفي كل الحالات ينشأ التجديد من الخارج عرضا وليس قصدا، وما زال هدفه هو الإعلان عن الباحث والدعاية للكاتب، وأخذ شرف التجديد والمعاصرة.
التجديد من الداخل، وذلك عن طريق إبراز أهم الجوانب التقدمية في تراثنا القديم، وإبرازها تلبية لحاجات العصر من تقدم وتغير اجتماعي، فتبرز الاتجاهات الاقتصادية في الملكية العامة وفي تنظيم الزكاة، أو نظرياته القانونية في التشريع بوجه عام، ولكنها جميعا محاولات جزئية تبرز بعض الجوانب التقدمية الأصلية، في تراثنا القديم، ولا تعطي صورة عامة للتراث كله وإعادة بنائه طبقا لحاجات العصر، في حين أن المطلوب تطويرها وتوسيعها حتى تكون هي روح العصر، وإعطاء نظرة متكاملة للتراث، كما أنها تقع في الانتقائية وأخذ ما تريد وترك ما لا تريد، فالمحافظ له نفس الحق الذي للتقدمي في انتقاء بعض الجوانب المحافظة في تراثنا القديم والاعتماد عليها في الحد من التغيرات الاجتماعية، ويكون كلاهما على صواب ينتسب إلى التراث، ويحافظ عليه، ويربطه بحاجات العصر، والمطلوب هو إعادة تفسيرها لمعرفة أسباب وجودها في تراثنا القديم وكيف أنها كانت قديما تمثل جوانب تقدمية بالنسبة للعصر الذي نشأت فيه، كما يغلب على هذه المحاولات أحيانا الطابع الخطابي الحماسي الدفاعي تعبيرا عن الإحساس بالنقص وتعويضا عن ذلك بالعظمة بالنسبة للغير، فهي قد ترضي الأذواق وإن لم تكن كافية لإقناع العقول، ولا توجد إلا محاولات معدودة لإعادة بناء علم بأكمله أو العثور على محور أساسي للقديم كله.
قضية التراث والتجديد هي في الحقيقة قضية «التنظير المباشر للواقع» ضد خطأين شائعين: الأول الذي يتحدث عن العصر وكأن العصر يحتوي على حلوله في ذاته وأنه يكفي مجرد إجابة متطلباته حتى تحل مشاكله، ويتحرك بعد ركود، ولكن العصر ذاته يحتوي على المخزون النفسي القديم باعتباره أحد مكونات الواقع، أما الدخول في الواقع مباشرة ومحاولة تنظيره فهو نقص في النظرة الموضوعية، وإغفال للأساس النفسي لسلوك الجماهير، والتعامل مع الظواهر الإنسانية وكأنها ظواهر طبيعية خالصة، وقد تتضارب التفسيرات للواقع الواحد بناء على الاختلاف النظري المسبق لدى الباحثين، ولو أخذ الواقع النفسي في الحسبان لتكاملت نظرتهم، واتفقت تفسيراتهم، إنه لمن السهل على أي باحث أن يحلل الواقع المسطح مباشرة، فما أسهل على القارئ أن يسمع تحليلا لواقعه مباشرة، ولكن الواقع أكثر تعقيدا؛ لأنه يقوم على الزمان وعلى التراكم الزماني، الواقع تاريخ ممتد كميدان للفعل، ولا يمكن فهمه إلا داخل مسار التاريخ - الوحدة الكلية، وقد يود الباحث إظهار براعته في التحليل ووصف الواقع المسطح للإعلان عن نفسه متوشحا بالأسلوب، ولكنه إن لم يأخذ الواقع ذاته بجميع مكوناته مكان الصدارة، وتخفى الباحث وراءه، فإن الواقع سيظل عنيدا مقاوما لا يتغير، إن التحليل المباشر للواقع بلا تنظير ما راجع إلى نقص أيديولوجي عند الباحث، ناشئ عن نقص في الوعي النظري أو عن خوف من الانتساب إلى نظرية، أو عن تراجع في الإعلان عن موقفه بالرغم من رؤيته بينه وبين نفسه مدى صدق أيديولوجية ما، ويظل الباحث يتخبط في كل اتجاه فهذا أسلم له من أخذ موقف معين، وهنا يكون الموقف هو عدم اتخاذ موقف.
والخطأ الثاني هو الذي يبدأ باستنباط الواقع من نظرية مسبقة سواء كانت موروثة أو منقولة أو عصرية تجمع بين الموروث والمنقول، فالتراث والتجديد ليس المقصود منه التعامل مع معطيات ثقافية والإصلاح بينها بل المقصود منه إدراك الواقع بنظرية علمية، ويقوم أصحاب الموروث وأصحاب المنقول في نفس الخطأ وهو البدء بنظرية مسبقة وعلى الواقع أن يتكيف طبقا لها، وإن اختلفا معا في مصدر هذه النظرية وليس في أسسها وصلاحيتها، فكلاهما يدافعان عن فكر لا عن واقع وكلاهما من أنصار التراث وليس من أنصار التغيير، أما محاولات التجديد فإنها أيضا تتم عن طريق الجمع بين التراثين الموروث والمنقول من أجل التوفيق بينهما وكأن العصرية تعني اتفاق التراث القديم مع التراث العصري، فهي محاولات فكرية وإن كان الواقع هو المقصود، أما «التراث والتجديد» فهو القادر على التنظير المباشر للواقع لأنه يمد الواقع بنظريته التي تفسره، وقادرة على تغييره، فالتراث هو نظرية الواقع، والتجديد هو إعادة فهم التراث حتى يمكن رؤية الواقع ومكوناته، وسواء بدأنا من التراث لفهم الواقع أو التنظير المباشر للواقع، فكلا المنهجين، النازل والصاعد، يؤديان إلى نفس النتيجة، ويصلان إلى نفس التحليل إن تم تطبيقهما معا وليس كلا منهما على انفراد، فلا الواقع يستنبط من الفكر، ولا الفكر يأتي من الواقع المسطح الجزئي وإن كان يأتي من الواقع العريض، وذلك راجع إلى واقعة الوحي الذي هو مصدر التراث، وكيف أنه جاء تلبية لنداء الواقع، وتكيف على أساسه.
ثانيا: أزمة التغير الاجتماعي
(1) أزمة التغيير في واقعنا المعاصر
والتراث والتجديد رد فعل على أزمة التغيير للواقع الاجتماعي؛ نظرا لتعثر محاولات التغيير واصطدامها جميعا بقضية التراث كمخزون نفسي عند الجماهير، وكما أن هناك اتجاهات ثلاثة في مشكلة التراث والتجديد على المستوى النظري؛ فإن نفس الاتجاهات الثلاثة موجودة أيضا على المستوى العملي، وهي المسئولة عن أزمة التغيير. (1-1) التغيير بواسطة القديم
نامعلوم صفحہ
يحاول البعض التغيير بالتكالب على قيم التراث القديم، والرغبة في تحقيقها ككل، واعتبار الواقع عالما جاهلا إما يتقبل هذه القيم ككل أو يرفضها ككل، فإذا قبلها فهو المجتمع المؤمن، وإن لم يقبلها فهو المجتمع الكافر الذي يجب الخروج عليه، وغالبا ما تصطدم هذه المحاولات بالسلطة فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع القرآن، وتتعثر هذه المحاولات للأسباب الآتية: (1)
سيادة النظرية الإلهية على الفكر النظري؛ ولذلك خرج تصور أنصارها لنظام الواقع على أنه حكم إلهي، فالحاكمية لله بصرف النظر عن طبيعة هذا الواقع وعن مكوناته، وارتبط التغيير المنشود في أذهان المثقفين بالدعوة إلى الحكم الثيوقراطي وهو ما ناهضت الإنسانية في التراث الغربي من أجل التخلص منه إلى الحكم الديموقراطي وهو التفسير العقلي الواقعي لحاكمية الله بفعل الشورى، وبدا أن الغاية هو الدفاع عن الله وليس التغيير الاجتماعي، وبدت الدعوة دينية متطاولة على السياسة، وغير قادرة على ممارسة قضايا التغير الاجتماعي التي تحتاج إلى علم دون دين، وإلى واقعية دون إيمانية مسبقة، وكانت النتيجة أن ابتلاع العالم كله داخل الإلهيات، كما أصبح العدل جزءا من التوحيد في فكرنا الديني المتأخر، ولم تستطع هذه المحاولات تفسير الإلهيات على أنها اجتماعيات، وتحويل الدين من علم للعقائد إلى علم إنساني. (2)
وقف تطور هذه الدعوة فكريا، ووقوفها عند مرحلة معينة من مراحلها، وعدم الأخذ في الاعتبار التطورات الجديدة والمستمرة التي تطرأ على الواقع والتي تحتم على الفكر النظري اللحاق بها؛ ومن ثم تأخر الفكر الإصلاحي الحديث عن مستوى التطور للواقع المعاصر وبدا متخلفا، لم يزد على الحركات الإصلاحية الحديثة شيئا، ولم يدفع الفكر الإصلاحي الحديث خطوة أخرى إلى الإمام إن لم يكن قد تأخر خطوات، دون استثمار للإحياء الاعتزالي، والتأكيد على استقلال العقل والإرادة، ودون تطوير ل «لاهوت الثورة»، ودون معالجة لقضايا الأرض، ودون تجنيد للجماهير، ودون إصلاح للتعليم أو للقضاء من داخله، وهي المحاولات التي بدأها فكرنا الإصلاحي وتركناها بلا تطوير. (3)
عدم القدرة على تحويل الإلهيات إلى فكر نظري ثم تحويل الفكر النظري إلى أيديولوجية سياسية اقتصادية واضحة المعالم يمكن صياغتها بطريقة عقلية عملية صرفة، ووضع برنامج شامل تتحقق فيه الأيديولوجية، ويصبح هذا البرنامج دليلا للعمل الثوري؛ ومن ثم كانت الرغبة ما زالت ملحة على فكرنا المعاصر في البحث عن أيديولوجية «إسلامية» في مقابل الأيديولوجيات المعاصرة، وستستمر هذه المحاولات لتغيير الواقع في تعثرها طالما أنه لا توجد أيديولوجية لها واضحة المعالم يجد فيها الواقع تعبيرا عن ذاته، وتجد فيها الجماهير تحقيقا لمصالحها. ولا يكفي هنا إعلان النوايا الطيبة، وإثبات حقائق بلا برهان، والفخر بأن لدينا كل شيء، فالمهم هو عرض ما لدينا بصورة علمية متكاملة ومقبولة كافتراض نظري يثبت صدقه عند التحقيق، ويدخل ضمن أيديولوجيات العصر.
1 (4)
سيادة التصور الرأسمالي للدين، وهو التصور الطبقي له؛ نتيجة للإيمان بالتصور الهرمي للعالم، وهو ما ورثناه قديما من نظرية الفيض أو الصدور، الذي يرتب الكون طبقا لمراتب الشرف والكمال، كلما صعدنا إلى أعلى زادت مراتب الشرف، وكلما نزلنا إلى أسفل قلت مراتب الشرف، هذا التصور الذي يضع الناس والطبقات الاجتماعية ويرتبها بين الأعلى والأدنى لا بين الأمام والخلف، هو التصور الرأسي للعالم وليس التصور الأفقي، وهو ما تابعنا فيه التراث الغربي أيضا الذي ينشر لهذا النوع من الفكر الديني؛ لأن فيه إرساء للنظام الرأسمالي وتأسيسا له على أسس نظرية ووجدانية للشعوب المستعمرة وللبلاد المتخلفة؛ لذلك انحاز أنصار هذا الفكر إلى الرأسمالية وعادوا الاشتراكية، ولو أنهم كانوا مناهضين للاستعمار والملكية ومظاهر الإقطاع والفساد الاجتماعي، فهم يؤمنون بالملكية والتفاوت في الرزق، ويدافعون عن الغيبيات والقضاء والقدر، كما يؤمنون بالثنائية التقليدية بين الروح والبدن، الدنيا والآخرة، الجنة والنار، الملاك والشيطان؛ مما يسبب فصما في حياة الفرد بين عالمين يعيشهما متجاورين أو متمايزين أو مخلوطين أحدهما بالآخر، يعيش الفرد دنياه ويدعي أخرته أو يعيش آخرته ستارا لدنياه، هذه الثنائية التي هي أساس كل مظاهر الازدواجية في سلوكنا القومي.
2 (5)
معاداة كل محاولات التجديد على المستوى النظري، واتهام كل محاولة جريئة بالإلحاد والشيوعية والماركسية، واتهام كل محاولة لتغيير الأساس النظري الهرمي أو الثنائي إلى أساس واحدي طبيعي بالمادية والكفر، مع أن الفكر الطبيعي كان موجودا في تراثنا القديم عند الطبائعيين، ولا ضير أن يبدأ الفكر الديني بتبني الواقع والبداية منه ورفض كل المحاولات لتعميته والإقلال من شأنه والقضاء عليه وتحويله إلى شيء مخالف له في الوهم أو الخيال أو التمني، والتوحيد في النهاية يشير إلى وحدانية النظرة، ووحدانية الطبيعة، ووحدانية العالم، ووحدانية الوجود الإنساني، التجديد إذن كان قاصرا مترددا، ولم تكن به الجرأة النظرية الكافية كما هو الحال في «لاهوت الثورة» في البلاد النامية.
3 (6)
سيادة التعصب بدل الوعي الفكري، وسيطرة الحمية الدينية بدل الالتزام الواعي خاصة إذا انضم الشباب، وعمت الدعوة قطاعات الشعب جميعا، فالأيديولوجية مجموعة من الأفكار المستقاة من الواقع والتي تنظر الواقع، وتقبل التغيير والتعديل طبقا لتطورات الواقع، ومن ثم فهي ضد القطعية الجازمة، وعلى نقيض الروح الدجماطيقية، وهنا تأتي أهمية التنوير العقلي حتى تظهر الدعوة في قالبها الفكري، والانفعال في النهاية هو قصر نظر إن لم يكن غيبة النظر على الإطلاق، ونقص في الوعي الفكري، وعدم القدرة على الإحساس بالآخر، وعدم قدرة على التحقيق والإنجاز وكأن الانفعال يخلق واقعه من خلال ذاته ولا يحتاج إلى واقع آخر تتحقق فيه أماني الانفعال ورغباته. (7)
نامعلوم صفحہ
جدل الكل أو لا شيء عند الممارسة، فالناس إما مؤمنون بانتسابهم إلى الجماعة أو كافرون بخروجهم عليها، فهم صنفان، صنف مع وصنف ضد، والأيديولوجية كل لا يتجزأ إما تطبق أو لا تطبق، وليس هناك مجال لأي تطبيق جزئي، أو أي زيادة أو نقص في الإيمان كما كان يقال في تراثنا القديم، في حين أن الواقع هو الواقع، لا هو بالمؤمن ولا بالكافر، قد يتجه نحو الأيديولوجية وقد يبتعد عنها ولكنه لا يكون أبدا خاليا منها أو مطابقا لها، وواقعية أية دعوة في تبنيها نظم الواقع المتفقة معها وتكملتها وتطوير ما يحتاج إلى تطوير منها، فالدعوة لا تأتي على لا شيء، وقد جاء الوحي قديما على تراث سابق أكده وطوره إلى مرحلة جديدة، وتخطئ الثورات الحديثة عندما تظن أنها تبدأ من لا شيء وتجب ما قبلها، فالغلظة منافية لتجنيد الجماهير، والاتهام للناس مناف للعمل معهم، وإلا يكون الداعي كمن يقطع أنفه. (8)
تغيير الواقع بالقوة دون انتظار لتجنيد الجماهير، واستعمال العنف ضد الجماعات، وليس ضد الطبقات، فالصراع يتم على المستوى الرأسي لا على المستوى الأفقي، والعنف الثوري لا يحدث إلا إذا وثقت الجماعة الثورية أن الجماهير كلها معها، وأنه لا أمل في تغيير الأوضاع الاجتماعية عن طريق نشر الوعي الجماهيري، إنه ليصعب استعمال العنف الثوري في بيئة تعتبر نفسها أمة واحدة، ومع جماعة ترتبط فيما بينها بالعروة الوثقى، وفي شعب يجمعه الحصير والمصطبة، ويستمعون للراوي ولأخبار البلد، وفي النهاية، قد يكون المخزون النفسي عند الجماهير، طبقات وأفرادا، هو الموجه الأول للسلوك الذي يجب المصلحة الخاصة، وقد يكون في إلقاء التحية على قوم - تحية السلام في «السلام عليكم» - مذهبة لغضب أو إعلانا لثورة أو تأكيدا على وحدة الجماعة أو إبرازا للمصلحة العامة، واغتيال الأفراد لا يقضي على الأفكار. (9)
تغيير الواقع بالوثوب على السلطة دون انتظار لتجنيد الجماهير، مصدر السلطة، ومن ثم كانت مثل هذه الدعوات أقرب إلى محاولات الانقلابات منها إلى تغيير اجتماعي بالفعل، وقد ينشأ هذا الأسلوب من ذهن يسيطر عليه التصور الهرمي المركزي للعالم، ويعطي الأولوية والفاعلية والحكم للقمة على القاعدة وللمركز المحيط، وكان السبب في القضاء على هذه المحاولات هو اصطدامها مع السلطة واتهامها بالوثوب عليها وتدبير المؤامرات لقلب نظام الحكم الشرعي، في حين أن إعداد الجماهير للثورة الشعبية هو العمل الثوري الباقي، وما السلطة السياسية إلا نتيجة لوعي الجماهير، ولا تأتي إلا في نهاية المطاف لا في أوله، وتأتي الرقابة على السلطة من القاعدة إلى القمة وتشارك في الحكم. (10)
الاعتماد على التنظيمات السرية وغالبا ما تكون مسلحة مما يقوي العقلية المتآمرة، والإحساس بالاضطهاد، والانفصال عن الآخرين، والرغبة في السيطرة، في حين أن الحق يعلن عن نفسه خاصة في هذه المرحلة التي يتم فيها تجنيد الجماهير، واجتماعهم على مبادئ بسيطة واضحة، إن السر ضد العلن، والأيديولوجية الواضحة تمارس في العلن في حين أن أيديولوجية السر تمارس في السر، وتدعو في الخفاء ، كما هو الحال في الدعوة الشيعية التقليدية، ولماذا السر والوحي يعلن عن نفسه، والجماهير والسلطة، الحاكم والمحكومون، الكل يبدأ من الوحي كمعطى نظري ووجداني، ولا يرفض أحد توجيه الوحي للواقع، والاختلاف في التفسير حسمه بمصلحة الجماهير؟ وقد تبدأ الدعوة الاجتماعية كلما زاد الإعلان عن العلن.
4 (11)
تنظيم الجماهير في جماعات مغلقة ينقصها الحوار، والإيمان بأنهم وحدهم على حق والآخرون على باطل كمعظم التنظيمات العنصرية، ولكنها عنصرية فكرية ومنهجية وعملية وعقائدية، اقتربت الدعوة إلى المجتمع المغلق الذي يتحدث لنفسه، ولا يسمع إلا ما يريد، غاب الحوار، وأصبح الخلاف في الرأي انشقاقا، وأصبح التصلب سمة في الممارسة، وجرت العادة على تصنيف الآخرين في قوالب جامدة يستحيل بعدها الحوار معهم، وبالرغم مما كانت لهذه الجماعات المغلقة من شعبية وآثار على مستوى التربية القومية إلا أنها - نظرا لطبيعتها المغلقة - ساهمت في تحديد الأفق وصعوبة الحوار مع الآخرين، وإن حدث فبنية الدفاع أو التفنيد دون الاستعداد للتخلي عن أي من المسلمات. (12)
مطالبة الجماهير المنتسبة للدعوة بالطاعة المطلقة، وغياب الطابع الديمقراطي الحر داخل الجماعة مما يسهل الانشقاق عليها من أجنحتها المختلفة، صحيح أن ذلك يدل على دقة التنظيم ومدى استعداد أنصاره للتضحية، ولكنه يجعله أشبه بالنظام العسكري الذي لا تجوز فيه المراجعة، وتجعل الأفراد مجرد أدوات للتنفيذ، مما يرجعنا للنموذج الشيعي للدعوة والطاعة الواجبة للإمام. والخطورة أن تنفصل القادة عن جماهيرها العريضة، وأن تكون في قرارتها أقرب إلى المناورة السياسية والممارسة الحزبية منها إلى تحقيق مصلحة الدعوة، وتكون مهمة الكوادر تبرير القرارات للقواعد العريضة فيبلغ الجميع ما تقرره القيادة، وقد ينتهي البناء كله إلى الضياع، وتكون الجماهير هي الضحية. (13)
سيادة التصور الجنسي للعالم، والبداية بالحجاب، وعدم الاختلاط، والأمر بغض النظر، وخفض الصوت، وكلما ازداد الحجاب ازدادت الرغبة في معرفة المستور، والدعوة السياسية الاجتماعية أرحب نطاقا وأوسع من هذا التصور الجنسي للعلاقات الاجتماعية، ولماذا يصنف المواطن إلى رجل وامرأة؟ ولماذا ينظر إلى الإنسان باعتباره ذكرا أم أنثى؟ إن تأكيد النظرة الإنسانية أو الإعلان عن الثورة السياسية من شأنه إحداث ثورة في السلوك الفردي دون ما حاجة إلى اللجوء إلى التصنيف الجنسي للمواطنين، خاصة وإن كان لا يدل على فضيلة بل يدل على رغبة جنسية مكبوتة أو حرمان جنسي في حالة من التسامي والإعلاء.
5 (14)
البداية بالمحرمات، والتشديد في العقوبات، وإصدار قوائم للممنوعات، وجعل السلوك الإنساني تحقيقا للنواهي دون ذكر للمباحات التي يمكن للإنسان أن يتصل من خلالها بالطبيعة، وجعل العالم مواطن للشبهات لا يجوز للإنسان أن يحوم حولها خشية التردي فيها؛ هذا كله يمنع الثقة بين الإنسان والعالم، ويضع في الإنسان الخوف بدل الشجاعة، والإحجام بدل الإقدام، ويجعل الإنسان متشككا في سلوكه، متهما لنفسه، نادما باستمرار على ما فعل مما يرسخ في نفسه الإحساس بالذنب الناتج عن الاقتراب من «التابو» أو من مجرد التفكير فيه، والوعي السياسي يتطلب القضاء على كل هذه المحرمات التي تخضع لتحليل العقل ولوصف الواقع، مما يعيد الثقة للإنسان بينه وبين سلوكه وبينه وبين العالم. (15)
نامعلوم صفحہ
البداية بقوانين العقوبات أو بتطبيق الحدود وكأن الإسلام يأتي أولا بالرجم والقتل وقطع اليد والتعذيب لأناس لا يعيشون في بيئة إسلامية، ولم يتربوا التربية الإسلامية، ولم يأخذوا حقوقهم التي أعطتها لهم الدولة الإسلامية، بل هم يعيشون في مجتمع الاستغلال والفقر، ومن ثم يسقط حد القطع بالشبهة، ويواجهون بالإثارة الجنسية في كل مظهر من مظاهر الحياة، ومن ثم يسقط حد الرجم بالشبهة. وقد وصف الأصوليون أحكام الوضع وجعلوها قائمة على السبب والشرط والمانع، بالإضافة إلى العزيمة والرخصة، والصحة والبطلان، فكل حد لا بد أن يتوافر فيه سببه، ويتحقق شرطه، ولا يوجد مانع من تحقيقه؛ فشرط تطبيق حد القطع هو السرقة عن شبع لا عن جوع، وسبب تطبيق الحد هو توافر الأهلية وليس وجود مواطن في مجتمع يقوم على السرقة والنهب والتطلع للكسب بشتى الطرق، فالجوع مانع من تطبيق الحد. وإن تصوير أي دعوة للناس على أنها تعاقب وتهدد لهي دعوة منفرة لا تنتشر إلا بين الصبية والمراهقين.
أما الأخطاء الناتجة عن التحليل السياسي للموقف فهي ليست أخطاء جوهرية، قد يقع فيها أي تنظيم، وهي في معظمها أخطاء ناتجة عن المنظور الفكري للجماعة وعن تكوينها الفكري والديني، فهي ليست أخطاء من حيث المبدأ، ولكنه فقط سوء تصرف من حيث الممارسة. (1-2) التغيير بواسطة الجديد
ويقع أنصار الجديد في أزمة مماثلة وهو بصدد تغيير الواقع، وتنتهي محاولاتهم أيضا إلى الفشل للأسباب الآتية: (1)
التشدق بألفاظ صعبة على الجمهور، تضفي على القائلين بها صفة التعالم وكأن الإنسان لا يغير واقعه ولا يثور عليه إلا بهذه الجعبة من الألفاظ، صحيح أن الأساس النظري لكل تغير ضروري، ولكن الواقع الفج في كثير من الأحيان يكون بديلا عن الأساس النظري أو بإمكانه أن يتحول إلى أساس نظري مباشر في بيئة تغلب عليها بساطة العمال والفلاحين وتعمها الأمية؛ لذلك لم تنتشر إلا في بعض أوساط المثقفين، وانحسرت عن الجماهير العريضة وعن الأوساط التي يمكنها فهم الألفاظ عن حقيقة واقتناع لا عن تعالم وترديد، وكأن الثورة السياسية محتاجة إلى هذه الجعبة الطويلة من الألفاظ التي تغني عنها الأمثال العامية والمأثورات الشعبية. (2)
التبعية لفكر الغرب، والوقوع ضحية عالمية الثقافة، وهو ما يضر أيضا بأيديولوجيتهم وبقضيتهم التي يعملون لها، وهذا لا ينفي عالمية النضال على المستوى العملي، وتبلغ هذه التبعية أحيانا درجة التقليد الأعمى والعمالة الفكرية وكأن النظرية المقروءة والتي نشأت من واقع غربي خاص لها من العموم والشمول ما يمكن به أن تنطبق على واقع آخر مغاير وخاص، فنقل الفكر ضار بالفكر المنقول لأنه يفصله عن واقعه الخاص، وضار بالواقع الجديد الذي له نظريته الخاصة، والفكر ليس كالمتاع ينقل من بيئة إلى أخرى بل هو المعبر النظري عن واقع خاص. (3)
معاداة التراث القومي للجماهير واستبداله بتراث آخر منقول لا تجد فيه الجماهير ذاتها، ومن ثم تظل دوائر منعزلة يسهل جرفها أمام تيار ثقافي قومي؛ لذلك يسهل اتهامهم بأنهم دخلاء ويصل الاتهام إلى حد الخيانة والتكفير وإهدار الدم، في حين أن الثورة السياسية هي تلك التي تقوم على أساس من الثقافة الوطنية للشعب، والتي تقوم بدورها على ما يفرزه الشعب من ثقافة تلقائية طبيعية ممثلة في أمثلته وحكاياته وأساطيره ودياناته، ولا يكفي إبراز الفنون الشعبية من رقص وموسيقى حتى تصبح الدعوة شعبية، ولكنها تصبح كذلك بالفكر الشعبي الممثل في الدين والأمثال، أي في المخزون النفسي عند الجماهير، لا فرق في ذلك بين ثقافة المفكرين وثقافة الجماهير. (4)
نقصان التنظير المباشر للواقع واستبدال نظريات مفروضة عليه به مع أن الرؤية الحسية المباشرة غالبا ما تكون أوضح من كل النظريات الجدلية الممكنة، ومن ثم تكون الدعوة القائمة على النظرة العلمية للواقع قاصرة على تحقيق ما تطلب؛ لأن الواقع ليس هو نقطة البداية بل هو ميدان لتحقيق النظرية، ولو لم تتحقق النظرية فإن الخطأ يكون في تركيب الواقع وليس في مراجعة النظرية، وهذا ضد المنهج العلمي الذي يغير من البناء النظري من حيث هو مجموعة من الافتراضات وطبقا لبناء الواقع الذي هو معطى لا بديل عنه ولا تغيير له، وبالرغم من ظهور الواقعية في الفن إلا أنها لم تظهر في الفكر ولا في المنهج ولا في الممارسة. (5)
عدم وجود برنامج ثوري قائم على تحليل إحصائي للواقع يعبر عن مصلحة الجماهير وتتقبله الناس، أما البرامج العامة، مثل الملكية العامة لوسائل الإنتاج، والتسيير الذاتي، والمزارع الجماعية أو الجمعيات التعاونية، فإنها لا تكفي كدليل للعمل الثوري، إن الواقع الخاص يفرض نظريته الثورية بطريقة أكثر وضوحا وسفورا من تطبيق البرامج الثورية النظرية، ففي بيئة تتكون من ثمانية عشر مليونا من الفلاحين يعيشون على ستة ملايين فدان، لا يكون الحد الأعلى للملكية فيها أكثر من ثلث فدان، وفي بيئة يكون متوسط الدخل القومي فيها للفرد لا يتجاوز مائة وعشرين جنيها سنويا لا يسمح بنظام للأجور تتفاوت فيه الدخول من واحد إلى خمسين، إن الواقع الثوري هو مصدر البرنامج لا النظرية الثورية.
6 (6)
الانتظار الطويل حتى تتقبل الجماهير الدعوة وحتى يمكن إقناعها بالأيديولوجية وحتى يتم تحزيبها بفضل الطليعة الثورية، وقد لا يحدث ذلك في جيل واحد، وتدل التجارب المماثلة على أن الجهد المبذول كان أكثر من النتيجة التي حصل عليها، وكأن الطليعة تتحدث مع نفسها والجماهير تهز رءوسها حيرة وتململا في حين أنها قد تهرع إلى مصطبة أو إلى حصير لسماع الراوي أو المقرئ في الأفراح والمآتم، ومن ثم يحدث الفصل بين الطليعة وجماهيرها، وتتحول الدعوة إلى أندية فكرية يعلم أفرادها بعضهم بعضا، ولا تخرج إلى الجماهير العريضة التي تلتف في الموالد حول الأعلام والبيارق. (7)
نامعلوم صفحہ
الاستيلاء على السلطة إيمانا بأن السلطة هي السبيل لتغيير الواقع، وتكون النتيجة أيضا كما هو الحال عند أنصار القديم الاصطدام بالسلطة والانعزال عن الجماهير، وفرق بين العقلية الثورية والعقلية الانقلابية، الأولى هي التي تبدأ من الجماهير حتى تنحاز إلى الدعوة أو على الأقل في أغلبيتها، والثانية هي التي تبدأ من السلطة وتفرض الدعوة على الجماهير، وفي هذا لا تفترق الدعوة عن أي نظام تسلطي، وتكون ضحية لنظام تسلطي آخر عن طريق انقلاب مضاد، ولم يأت الوحي - من حيث هو دعوة - إجبارا للناس بل كان تلبية لنداء الواقع، وتعبيرا عن أشواق الجماهير المعذبة، المضطهدة والمستغلة، وتظل عقلية القفز على السلطة عقلية موروثة تحتاج إلى إعادة بناء فكري، وتغيير منهجي، وذلك بإعادة بناء التصور الهرمي للعالم والتصور الذي يجعل القمة دون القاعدة مصدر السلطة. (8)
العمل السري من أجل تحقيق الهدف كما هو الحال عند أنصار القديم وكأن التعبير عن مصلحة الجماهير بالأساليب العلنية غير شرعي، والحقيقة أن العمل السري هو العمل غير الشرعي من حيث بناء الدولة، ومنهج الفكر، والقاعدة الجماهيرية، إن قضايا التغيير الاجتماعي، والعمل السياسي المستنير ليس تلصصا ولا هو تجارة للمخدرات، بل هو مفتوح حتى ولو كان ضد السلطة القائمة، فالكلمة قد تكون أكثر مضاء من السيوف، ولكنها شرعية، وتعبر عن أسلوب جماهيري وبطولة شعبية تراها الناس في ثقافتها الدينية مثل «الدين النصيحة»، وأن الشهادة في قول كلمة حق في وجه حاكم ظالم، وهنا تخلق القيادات الشعبية التلقائية عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يمارسه الشعب كل يوم في نطاق ضيق، نطاق الأخلاق. (9)
استعمال العنف ليس فقط ضد السلطة، ولكن ضد الدعوات المعارضة، ومن ثم الاصطدام بالجماهير التي هي مضمون العمل السياسي وركيزته، وهنا لا فرق بين أنصار التغيير بواسطة القديم أو الجديد؛ لذلك نشأ التطاحن بينهما، وفرق بين العنف والعنف الثوري، فالأول أقرب إلى الجرائم السياسية منها إلى الثورة الاجتماعية، أما الثاني فقد يحدث بعد استنفاد وسائل التغيير الاجتماعي وتحقيق مصلحة الأغلبية وتجنيد الجماهير أي حصول الأغلبية الثورية، ثم محاولة الأقلية السيطرة عليها وقهرها بالعنف، هنا يكون العنف الثوري رد فعل على العنف الذي تمارسه الأقلية، وشتان ما بين حال الجماهير الآن وسلبيتها أمام أية دعوة سياسية وبين تجنيدها لصالح الأغلبية الثورية.
7 (10)
تفتيت الوحدة الوطنية بتفضيل الصراع الطبقي على الوحدة، والوقوع في التفسير الحرفي للأيديولوجية المنقولة دون ما علم بتطوراتها وتأقلمها طبقا لواقع العالم الثالث الذي تكون فيه الأمة أو الجماعة أو الأسرة، هو الأساس الحضاري والنفسي للتغير الاجتماعي، ويكفي وعي الأغلبية بمصالحها وسيطرتها على وسائل الرقابة الشعبية وترشيد سبل الحياة، وإعادة تخطيط الاقتصاد والسياسة القومية على أساس عقلاني حتى تتحقق مصلحة الأغلبية، وفي مرحلة النضال الوطني تبرز وحدة الشعب، وفي مرحلة الثورة الاجتماعية قد تبرز أيضا وحدة الشعب، ولكن المهم هو كيفية التعامل معه، وتنشيط مخزونه النفسي، وتراثه القديم حتى يكون موجها للسلوك. (11)
إذا ما استحال الاستيلاء على السلطة، فإنه يمكن مصالحتها على أساس اتفاق يقوم على تنفيذ الحد الأدنى من مطالب الدعوة، ولكن ينتهي الأمر بأن تصبح الدعوة تابعة للسلطة ومبررة لأخطائها، وينتهي الأمر بابتلاع السلطة لها، واعتمادها عليها، وإضفاء الشرعية على قيادتها الوطنية وثورتها الاجتماعية بدليل تأييدها من الجماعات الثورية، وعمل هذه لحسابها، فإذا عصت هذه الجماعات غضبت السلطة عليها حتى تتم التوبة ويعلن عن الصفح والغفران، ويعود الوئام، والكل مخدوع، فلا السلطة تؤكد وجودها الشرعي من تبرير فئة لها، ولا الجماعة تنال من تحقيق أهدافها شيئا بتبعيتها للسلطة وتبريرها المنظم لقراراتها، وينتهي الأمر في النهاية إلى التعايشية. (12)
الفصل بين الأيديولوجية والأخلاق مما يجعل الجماهير التي ما زالت تربط بين الحق والخير نافرة من الانتساب إلى الجماعة الثورية والتوجه إليها بقلبها ، فالمقياس الخلقي عند الجماهير هو في الحقيقة مقدمة للانتماء الفكري والانضمام السياسي للجماعة الثورية، الجماهير ما زالت تؤمن بالقدوة الحسنة، وبالفعل الطيب وبطاعة أوامر الدين، واجتناب نواهيه، ومن ثم كان من السهل أن تخرج قياداتها الوطنية من أئمة المساجد وفتوات الحارات، فالقدوة الحسنة هي الرباط بين الجماهير وقيادتها، وهي في الغالب قدوة حسنة خلقية، فهي جماهير سنية أي تتبع سنن السابقين وتتأسى برسول، وتتبع سنته، ولا عذر لهذه الدعوة في ارتكاب أخطاء سياسية في تحليل الموقف لأنهم أهل دراية بالتحليل السياسي، وأي خطأ في المبادئ ذاتها أو في درجة الالتزام بها. (1-3) التغيير بواسطة القديم والجديد
يقع أنصار هذا الأسلوب في التغيير في أزمة مماثلة للفريقين السابقين وذلك راجع للأسباب الآتية: (1)
عدم وجود أساس نظري واضح يمكن قيام التغيير الاجتماعي طبقا له، ومهما كانت هناك من محاولات لإرساء مثل هذه الأسس فإنها انتهت إما إلى الميوعة الفكرية، أو إلى مجرد إعلان النوايا، أو إلى العواطف الطيبة النبيلة، أو إلى العبارات الحسنة أو إلى الخطابة الجوفاء، وكأن الأساس النظري لا يمكن التوفيق فيه، بل لا بد من تأسيسه ابتداء من إعادة تفسير القديم والتنظير المباشر للواقع، فالقديم يعطي الهدف، والتنظير يعطي الوسيلة، لا يعني التوفيق المصالحة بين المحافظة والتقدمية، أو الإبقاء على مصالح الأغلبية والأقلية معا، فهذه الميوعة هي السبب في الغموض النظري، وما أوضح أن تكون الأرض لمن يفلحها، والمصنع لمن يعمل فيه، والجامعة لمن يتعلم فيها. (2)
القيام بالتغير الاجتماعي لصالح طبقة معينة، هي الطبقة المتوسطة، وهي القادرة على تمثيلها لمصلحة الجماهير، بعد أن قادت نضالها الوطني سلما أم حربا، وهي الطبقة التي بيدها صنع القرارات السياسية، حتى شعرت الجماهير أمامها بأنها أمام نوع من الإقطاع الجديد أكثر انتشارا، وأوسع رفعة، وأفصح لسانا، وأبلغ خطابة، وأمكر أسلوبا من الإقطاع القديم، فانحسرت عن عملية التغير، بعد أن اكتسبت مناعة ضد قاموس المصطلحات السياسية من اتحادات، وهيئات، ومنابر، وتنظيمات، وتحالفات، وهي الألفاظ الرائجة التي لم تعد تشير إلى أي معنى أو تدل على أي مضمون، وأصبح الشعب نافرا من الشعارات الرنانة، وهو يعلم أنها لا تهدف إلا لملء فراغ أجهزة الإعلام. (3)
نامعلوم صفحہ
معاداة أصحاب التغيير الجذري، أنصار القديم أو أنصار الجديد معا، وضرب جميع القوى الوطنية التي أفرزها الواقع تلقائيا حتى تتم للدعوة الجديدة السيادة باعتبار أنها ممثلة للوسط دون التطرف ناحية اليمين أو اليسار، والاستئثار بالسلطة، ورفص أي مشاركة شعبية جادة، فتم إلغاء كل شيء لحساب لا شيء، ومن ثم استحال بناء شيء وسط هذا الدمار الشامل، وظلت السلطة تشكو من الفراغ السياسي، كما ظلت تبني في الهواء، وتخشى على البناء الذي لا يدعمه الشعب بتنظيماته ومؤسساته، وكان يكفي لزوابع السياسة أن تهب فتهدم البناء ولا تجد من يدافع عنه أو حتى من يبكي على الأطلال.
8 (4)
انتهاء الجماهير العريضة إلى السلبية التامة واللامبالاة المطلقة، تقرر لها السلطة الحرب والسلام، وتقوم بدلا عنها بالهزيمة والنصر، وتنظمها في هيئات واتحادات وتنظيمات ومنابر، وتستنكف من الأحزاب وهو النشاط التلقائي الطبيعي للقواعد الجماهيرية، وعكفت على أزماتها اليومية، تفرغ كل طاقاتها بها أو في مظاهر مفتعلة للنشاط كالنوادي الرياضية والليلية، أو في التصوف والجنس، أو في السفر والهجرة، أو في المعارك في المركبات العامة، أو في الموالد والأعياد، واستحال قيام ثورة بلا جماهير ثورية، وكانت البارقة الوحيدة الانتفاضات الطلابية والشعبية الأخيرة التي تعيد إلى الأذهان حيوية الجماهير وارتباطها بالقضايا المصيرية مهما طالت استكانتها، وعمت سلبيتها، ورضيت بواقع أمرها. (5)
الترقيع في عملية التغيير الاجتماعي، وترك الأساس كما هو خاضعا للأمر الواقع، وتغيير الجزء وترك الكل، وتحريك السطح وترك الأعماق، فالتغير الاجتماعي لم يتعد إعادة التوزيع على قاعدة أعرض كما هو الحال في الإصلاح الزراعي دون إعطاء الأرض لمن يفلحها، وإعطاء العامل حقه في حدود قيمة العمل اليدوي بالنسبة لقيمة العمل الإداري، وإعطاء الطالب استقلاله ورفع الوصاية عنه في حدود طاعته للإدارة الجامعية وأخذه موافقتها على نشاطاته الاتحادية ومطالبه الفئوية، بل وضرب الفئات بعضها ببعض، وخلق المنافسة بينها في الأجور حتى تجاب المطالب، وتحقيق التغيير الجزئي دون المساس بجوهر القضية وهي: لصالح من يخطط الاقتصاد القومي؟ (6)
لما كانت السلطة الوطنية من أنصار التوفيق بين القديم والجديد كان التغيير يحدث من السلطة وباسمها وكأنها عملية مفروضة بالرغم من تلبيتها لحاجات الجماهير، وكان قبول الناس لها طاعة للسلطة وليس تحقيقا لمطالبهم، حتى أصبحت السلطة هي القادرة على فعل كل شيء، وعانى الناس من المركزية وضاع من الجماهير مبادرتها واعتمادها على الحلول الذاتية، وأصبح الرئيس هو شيخ القبيلة، ورب الأسرة، والأب الروحي، وكبير العائلة الذي يلجأ إليه الناس عند الشدة لفض الخصومات، ولحل المشاكل، وهو يطابق المخزون النفسي عند الجماهير وتصوراتها الهرمية والمركزية للعالم.
أما أخطاء السلطة في التحليل السياسي، فهي أخطاء لا تغتفر؛ لأن بيدها مقاليد الأمور وباستطاعتها الاستعانة بما تريد من إرشاد ونصح وتوجيه لسلامة القرار، فإن لم تفعل وجب محاكمتها أمام الشعب، خاصة ولو أدت هذه الأخطاء إلى احتلال جزء من الأراضي الوطنية، وتبديد الثروة القومية. (2) قضية البلاد النامية
وقضية التراث والتجديد جزء من العمل الأيديولوجي للبلاد النامية، إذ إنه عمل على الواقع، ومحاولة للتعرف على مكوناته الفكرية والنفسية والعملية، هي قضية تصفية المعوقات الفكرية للتنمية، ووضع أسس فكرية جديدة لتطوير الواقع، فإذا كان ما تشكو منه البلاد النامية على المستوى الأيديولوجي هو عدم الوضوح النظري، والتذبذب بين أيديولوجيات الغرب والشرق معا فإن عملية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بتحقيق هذا الوضوح النظري، وإعطاء أيديولوجية قومية للبلاد النامية تنبع من أرضها، وتمتد جذورها في تاريخها، وتجيب متطلبات واقعها، تكون الأيديولوجية حينئذ تعبيرا عن الثقافة الوطنية للشعوب، وتأكيدا لذاتيتها وإبقاء على هويتها.
9
قضية التراث والتجديد هي القضية الجوهرية للبلاد النامية، إذ إنها تتناول البحث عن الشروط الأولية للتنمية، وتلبي حاجة ملحة لها، وتكمل نقصا بدأت تشعر به البلاد النامية الآن، وهو عدم الاعتناء بتنمية العنصر البشري، فليست التنمية مجرد استثمار للموارد الوطنية أو الأجنبية، وزيادة في عدد المصانع المستوردة أو في تأسيس للقطاع العام، بل هي استثمار بشري يهدف إلى خلق عنصر جديد قادر على التنمية، ومؤهل للقيام بعمليات التطور، وإذا كان عديد من قادة البلاد النامية ومفكريها يشعرون الآن بأن التنمية وإن كانت قد تمت في الاقتصاد، إلا أنها لم تتم بعد في الإنسان فإن قضية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بإعادة بناء الإنسان في البلاد النامية عن طريق اكتشافه لبعده التاريخي، وإعطائه أساسا نظريا للتغيير، وتفجير طاقاته المخزونة، وخلق ثقافته الوطنية، وتحريك الجماهير السلبية، وإنزالها بكل ثقلها إلى ميدان التطور والتنمية. «التراث والتجديد» محاولة لتحقيق متطلبات العصر للبلاد النامية من الناحية النظرية والعملية والتغلب على مآسيه وهزائمه، ودفع التنمية خطوة أخرى حتى تكون نهضة شاملة تمكنها من أخذ زمام الريادة في العالم، أيديولوجيا وفعليا، معنويا وماديا، وأهم هذه المتطلبات: (1)
التحرر من الاحتلال، وكل صور الاستعمار المباشر بالاحتلال العسكري أو غير المباشر بالقواعد العسكرية والمعونات الاقتصادية وجيوش السلام والجماعات التبشيرية والمؤسسات والهيئات والمدارس والمعاهد الأجنبية، إذ يختلف باحث اليوم عن باحث الأمس، فبينما كان باحث الأمس مستقلا، فاتحا للأرض، ناشرا لواء الثقافة، مؤثرا في الحضارات المجاورة مكتشفا للعلوم وواضعا للنظريات، ومصدر حضارة للآخرين، فإن باحث اليوم محتل، ضاعت الأرض من تحت قدميه، مستعمر ثقافيا، يخضع لآثار الحضارة الغربية ناقل للعلم، طالب للعون، سائل المساعدة، متسول في الأسواق، هذا الاختلاف يفرض على باحث اليوم اختيارا لا مناص منه، وهو إيثار الأرض على كل ما عداها خاصة إذا كان الفكر الذي تمثله حضارته لا يبغي إلا استقلال الأرض وتحرير من عليها، حينئذ يصبح استقلال الأرض للباحث المعاصر هدفه وغايته، وتتحول الأرض في شعوره إلى ميتافيزيقا وشعر، ورواية وقصة، إلى حنان وشوق، بعد أن أصبحت بكاء ودموعا، مرارة وأسى، ذلا وعارا،
نامعلوم صفحہ
10
فإذا كان هناك لاهوت فهو «لاهوت الأرض»، وإذا كانت هناك فلسفة فهي فلسفة الأرض، وإذا كان هناك تصوف فهو تصوف الأرض، وإذا كان هناك شعر فهو شعر الأرض، أو رواية فهي رواية الأرض، أو فقه فهو فقه الأرض، وإذا أسسنا لاهوتا فهو «لاهوت التحرر» وإذا أقمنا فلسفة فهي فلسفة التحرر، وإذا أنشأنا تصوفا فهو تصوف الثورة، وإذا شرعنا فقها فهو فقه النضال، وإذا فسرنا دينا فهو دين التنمية، وقد كثر فيما حولنا لاهوت الأرض وشعر الأرض من أجل سلب أرضنا، فالصهيونية هي لا هوت الأرض، والاستعمار هو أيديولوجية الأرض، ونحن ما زلنا في نضالنا ضد الصهيونية والاستعمار، لا نقيم وزنا في فكرنا الوطني إلى لاهوت الأرض وشعر الأرض، ومن ثم كان فكرنا الوطني على المستوى النظري متخلفا عن أيديولوجيات التحرر الوطني المعاصرة. (2)
التنمية ضد التخلف، وهي مأساة العصر الثانية، والتخلف يشمل الجوع، وسوء التغذية، والفقر، والمرض، والأمية، والجهل، وعدم استغلال الثروات الطبيعية، وغياب التخطيط طويل المدى، وضعف المؤسسات، فالتخلف يشمل التخلف المادي والمعنوي على السواء، المعنوي مثل سيادة الأسطورة، والخرافة، والانفعال، وعبادة الشخص، والنفاق، والتملق، والزلفى، والخوف، والسلبية، والاستكانة، والقضاء، والقدر، فانتساب الباحث للتراث القديم، ووعيه بدوره كمفكر طليعي يجعله يرى أنه يعيش في مرحلة من تطور حضارته، يحكم عليها بالتخلف، وهو نفسه يعاني منه، ويفكر فيه كمشكلة، بالإضافة إلى موروثه القديم، ويجد نفسه في موقف إعادة بناء القديم أمام قضية التخلف وهي قضية العصر الثانية، يرى في القديم صورة العمران ومظاهر الازدهار والتقدم، ويرى في واقعه صور الفقر وجوانب التخلف والنكوص، حينئذ يجد الباحث نفسه مضطرا لإسقاط مفاهيم التخلف والتنمية على البناء الفكري في التراث القديم، ولا يستطيع الباحث إلا أن يفعل ذلك وإلا لكان طائرا في الهواء يحط بجناحيه على أية شجرة يصيبها، قضية التنمية تفرض نفسها على الباحث ولا يستطيع إلا أخذها في الاعتبار وهو بصدد صياغاته الفكرية وإقامة نظرياته لتطوير الواقع، وقد تخلف فكرنا الديني، ونحن في قلب البلاد النامية، عن الفكر الديني في بلاد نامية أخرى، أمريكا اللاتينية مثلا، ولم نربط بعد بين الدين والتنمية، بين الإيمان والتقدم، بين اللاهوت والتغيير الاجتماعي، وما زلنا نضع الدين في جانب الإيمان والتنمية في جانب الاقتصاد. (3)
التقدم ضد الركود الفكري، والنهضة ضد توقف الحضارة عن مسيرتها، وهي مأساة العصر الثالثة، إذ إننا نعيش في عصر من البلادة الفكرية لم يشهد التاريخ لنا بمثله ، حتى في عصر الشروح والملخصات كان المؤلفون يحفظون التراث بالشرح والتلخيص والتجميع في الموسوعات، والتأريخ لتراثهم ولروحهم، فالقديم كما هو بثقله يكتم الأنفاس، والجديد كما هو بتغطيته للواقع أكداسا فوق أكداس، والتبريرات للأوضاع القائمة هو الفكر الشامل، ثم يشتكي المبررون من البلاد، ويتضجرون من الركود، مهمة «التراث والتجديد» القضاء على هذه الحالة من الركود الفكري الذي يسود عصرنا الحاضر، فكلنا نشكو من عدم وجود تيارات فكرية أو اتجاهات فلسفية، وأنه يغلب علينا النقل والتجميع والعرض من أجل التعريف بالتيارات القديمة أو المعاصرة أو من أجل دفع كتاب مقرر يدرس بالجامعات، الحركة الفكرية لدينا هذه الأيام إما اجترار للقديم وتكرار لما وصل إليه من صياغات فكرية وعلوم عقلية أو نقلية حتى طغى الموروث على واقعنا المعاصر، وأصبح فكرنا مشدودا للقديم وفي حركة واثبة إلى الوراء بالنسبة لواقع في تقدم وتغير مستمر، وأصبح من الصعب على الفكر في وقوفه اللحاق بالواقع في مساره، وإما نقل وترجمة عن التراث الغربي أو تعريف بمذاهبه حتى سرت فوق الواقع طبقات سميكة من المذاهب الأوروبية تغلفه ولا تطوره، تطمس معالمه ولا تظهره، فإذا كانت الحركة الثانية طغيانا للجديد على القديم فكلاهما طغيان على الواقع، «التراث والتجديد» هو السبيل إذن لقيام حركة فكرية أصيلة يمكنها الوقوف موقفا نقديا من القديم الموروث، ومن الجديد المنقول بناء على متطلبات الواقع، والقضاء على الركود والبلادة العقلية اللذين لم يتركا للشباب إلا أن ينحصر في الوظيفة أو المكسب، فإن ضاقت اليد فالهجرة، فإن تأزم الفكر فالدين والجنس، إثارة قضية «التراث والتجديد» هي الكفيلة بخلق جو ثقافي حضاري يساعد على ظهور فريق من الباحثين والمفكرين بدلا من هذا الجدب الثقافي الذي نعيش فيه، والتباكي على ثقافتنا المعاصرة بأنها قد خلت من كل فكر جاد، ولم يظهر فيها أي عمل فلسفي شق طريقا أو أرسى بداية، وبأننا ما زلنا ننتظر فيلسوف العصر كما ننتظر الأنبياء.
مهمة «التراث والتجديد» حل طلاسم الماضي مرة واحدة وإلى الأبد، وفك أسرار الموروث حتى لا تعود إلى الظهور أحيانا على السطح وكثيرا من القاع، مهمته هو القضاء على معوقات التحرر واستئصالها من جذورها، وما لم تتغير جذور التخلف النفسية كالخرافة والأسطورة والانفعال والتأليه وعبادة الأشخاص والسلبية والخنوع فإن الواقع لن يتغير، وما أسهل أن يتبدل الشبح بالآلة والعفريت بالمحرك فكلاهما يؤدي نفس الغرض، فاستعمال الساذج للآلة لن يقضي على إيمانه بالجن والأشباح إلا إذا أعيد بناؤه النفسي، ومن ثم القضاء على طلاسم الماضي وأسراره إلى الأبد. مهمة «التراث والتجديد» التحرر من السلطة بكل أنواعها، سلطة الماضي وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه، وتحرير وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة والطاعة للسلطة سواء كانت الموروث أو سلطة المنقول، سواء كانت سلطة التقاليد أم السلطة السياسية. مهمة «التراث والتجديد» هو تفجير طاقات الإنسان المختزنة المحاصرة بين القديم والجديد كحصار الإنسان في اللاهوت المسيحي بين آدم والمسيح، بين الخطيئة والفداء. (3) شبهات ومخاوف
كثيرا ما أثيرت بعض الشبهات حول «التراث والتجديد» وبعض المخاوف منه، ولكنها في الحقيقة لا أساس لها، وتظل الفائدة أكثر من الخسارة إن كانت هناك خسارة على الإطلاق، والشبهات في المقدمات والمخاوف من النتائج: (3-1) شبهات في المقدمات (1)
لا يعني هذا العلم الجديد أو إن شئنا هذا المنهج في تحليل الظواهر بإرجاعها إلى المخزون النفسي القديم التخلي عن أية نظرة علمية أساسية على أساس أن الواقع ذاته لا صلة له بمخزون نفسي أو بماضي موروث، وأن الواقع له مقوماته من ذاته في أبنيته الاجتماعية ووسائل إنتاجه، وطبيعة علاقاته؛ لأن الاتجاه النفسي للبشر جزء من تصورهم للواقع، بل جزء من الواقع ذاته، فالواقع أبنية وسلوك، مواقف واتجاهات، بل إن الاتجاه النفسي هو الواقع كله سواء من قبل الجماهير المكونة للواقع، أو من قبل المحلل الذي تتحدد رؤيته للواقع باتجاهه النفسي مهما قيل في الموضوعية والحياد، تتحقق الموضوعية كاملة لو كان الاتجاه النفسي للباحث مطابقا للواقع النفسي ولمقتضيات سلوك الجماهير، فالواقع الحي، واقع الناس، واقع الجماهير، قبل أن يكون هو الواقع المصمت، والواقع المصمت لا يتحول إلى واقع اجتماعي إلا من خلال سلوك الجماهير واتجاهاتها وموافقتها. الواقع الحي أبنية نفسية، وعلاقات اجتماعية، وتصورات للعالم، وهو الواقع الجديد الذي تعطيه تجارب البلاد النامية، وإضافة جديدة تعطيها الشعوب المتحررة حديثا، قد لا يكون هذا هو الواقع ماثلا الآن في الشعوب الأوروبية الغربية نظرا لسيادة الواقع الكمي الإحصائي، ولكن الواقع في البلاد النامية - طبقا لنظرة علمية متكاملة - هو الواقع البشري وهو الواقع الكيفي الذي ما زال هو المحرك للجماهير، والحامل لأفكارها والخالق لقيمها. (2)
ولا يعني هذا المنهج الوقوع في نظرة مثالية تود تغيير الواقع بتغيير الأفكار، وتفسير الظواهر الاجتماعية بتغيير أبنيتها الفوقية؛ وذلك لأن التراث القديم ما زال حيا في وجدان الجماهير وما زالت القيم الموروثة هي الموجهة لسلوكها، والحقيقة أن هذه المشاكل المنهجية مثل: أيهما هو العامل الموجه، البناء الفوقي؟ أيهما له الأولوية الأبنية الاجتماعية أم النظريات؟ هذه المقابلات كلها تنتج عن وضع صوري للمسائل، وهو الوضع الذي يفصل بين جانبي الظاهرة الواحدة، الصوري والمادي، نتيجة لفقدان التوازن في شعور الباحث، وتعوده على تفسير الظواهر بعامل واحد، وهو من آثار الاتصال بالحضارة الأوروبية التي فقدت شعورها المحايد ووعيها المتزن.
11
والحقيقة أن الظاهرة لا هي صورية ولا هي مادية بل هي ظاهرة شعورية، أي أن الأبنية - اجتماعية وسياسية واقتصادية - والأبنية الفوقية من نظريات وآراء وموروثات تم توحيدها في الأبنية الشعورية، وهي الأبنية الفعلية التي تحدد سلوك الجماهير، فالواقع خارج الشعور خواء، والنظرية خارج القصد لا فعل لها، بل تتحدد الأفعال والوقائع بكونها أبنية للشعور، فالتراث القديم جزء من أبنية وجداننا المعاصر وأحد مكوناته كما أن الواقع جزء آخر وأحد مكوناته الأخرى، والفكرة التي تؤمن بها الجماهير تتحول إلى سلوك، والواقع الذي يعيشه الناس يتحول إلى مشاركة، وهذه أيضا إضافة نظرية تعطيها البلاد النامية طبقا لتجاربها الثورية المعاصرة في مقابل النظرية الآلية أحادية الطرف في الشعور الغربي.
نامعلوم صفحہ
ومع ذلك، إذا قيل إن منهج تغيير الواقع بتغيير الأفكار أولا هو منهج مثالي؛ لأنه يرى أنه لا يتغير شيء في الواقع ما لم يتغير في الفكر أولا، قيل: حتى ولو كان هذا منهجا مثاليا إلا أنه ليست به عيوب المثالية التقليدية وذلك للأسباب الآتية: (أ)
ليس الفكر الذي نتعامل معه مجردا بل هو فكر حي يوجه سلوك الناس أي أنه مجموعة بواعث للسلوك أو تصورات للعالم توجه الناس في حياتهم العملية، فنحن لا نتعامل مع أفكار مجردة بل مع سلوك حي للناس تمثله هذه الأفكار. (ب)
الفكر موروث نفسي عند الجماهير، تفسر به ظواهرها تفسيرا غيبيا، ويسهل به خداعها وتعميتها عن واقعها باللجوء مثلا إلى الله كمصدر للسلطة وكأساس للمحرمات مثل الدين والسلطة والجنس، فتعاملنا مع الأفكار هو في الحقيقة تعامل مع تصورات الناس للعالم، أي مع واقع حي وليس مع فكر مجرد. (ج)
العمل هو الواجهة الأخرى للفكر، والحزب هو الطريق لتحقيق الأفكار، ولا تغير يحدث في الواقع إلا إذا كان مبنيا على أساس فكري، وهذا يحدث في الطليعة أولا، ثم في الجماهير ثانيا، لا يحدث التغير إلا بعد حدوث الوعي بالتغير، والوعي بالتغير هو وعي سياسي أو وعي حضاري، وهذا لا يحدث إلا بوعي أيديولوجي. (د)
العمل الأيديولوجي جزء من تغير الواقع وأساسه النظري، ولن يتغير الواقع إلا بعد عمل أيديولوجي، وهذه إضافة البلاد النامية على الرصيد الثوري البشري، وتحريك الجماهير ليس فقط عن طريق ثورتها على الأوضاع القائمة، بل أيضا ثورتها من أجل تحقيق قيمتها التي أخذت مدلولات جديدة قادرة على تحريك الجماهير، ومن ثم تأتي مصلحة الجماهير بالتبعية لا بالأصالة، وفي الدرجة الثانية لا في الدرجة الأولى، وفي النهاية لا في البداية. (ه)
المثالية بطبيعتها دعوة إلى الثورة والتغيير، خاصة إذا كانت تيارا للشباب، فقد فهمت المثالية خطأ عن قصد، وذلك باتهامها بأنها انعزال عن الواقع، وقضاء عليه، وتحويله إلى فكر، في مقابل الواقعية الملتزمة بالواقع، والبادئة منه، والتي تعيش عليه، في حين أن العكس هو الصحيح، فالمثالية حركة رفض للواقع، ومناداة بواقع أفضل، وثورة على الوضع القائم، وتطلع نحو المستقبل، في حين أن الواقعية تسليم بالأمر الواقع، وإبقاء على الأوضاع القائمة، وفهم لما هو موجود دون وضع احتمالات أخرى لما يمكن أن يكون موجودا، وهذا الفهم الجديد للثورية الكامنة في المثالية إضافة من التجارب الثورية للبلدان المتحررة حديثا والتي نحن جزء منها. (3)
لا يهدف «التراث والتجديد» إلى مجرد القيام بحركة «تكتيكية» عملية، تهدف إلى تحقيق غاية نفعية عاجلة بلا أساس نظري دائم وبلا مقياس أصدق، بل هو تطور طبيعي للمجتمعات على مستوى الفكر، صحيح أن تجديد التراث قائم على منفعة خالصة وهو استعمال طاقة مخزونة غير مستغلة عند الجماهير ونحن بصدد تحريكها وتغيير قيمها وتوجيهها نحو الثورة وتحقيق مصالحها، ولكن الأمر يتعدى «التكتيك» بل ويتجاوز «الاستراتيجية». تجديد التراث أمر حقيقي على مستوى نظري، وتطور طبيعي للمجتمعات في تعاملها مع حضاراتها، ومصير التراث كمصير المجتمعات يتطور ويتحول، وينتقل من عصر إلى عصر، يضع فيه كل روحه فيتشكل بفعل روح العصر، تجديد التراث عملية فكرية استقلالية تهدف إلى غرض نفعي خالص، هي جزء من عملية التطور والتنمية أو هي شرطها ودلالتها، هي عملية تتم فيها وحدة الشعوب وتجانسها في الزمان، وتتجاوز بها مخاطر الفصم بين ماضيها وحاضرها، وهي عملية تسمح بها أصول التراث ذاتها، والمنبع الذي صدر منه، أعني الوحي الذي حوى الواقع في باطنه، والذي تكيف طبقا لتطوره، وهو ما وضح أساسا في علم أصول الفقه في الأصل الرابع من أصول الشريعة، أعني الاجتهاد الذي جعلته الحركات الإصلاحية مبدأ الحركة في التراث، لا يعني التراث والتجديد أية نزعة «برجماتية» بمعنى استغلال الدين لصالح الثورة، بل هي عملية نظرية تحتوي على مقاييس صدقها النظري، صحيح أن مقياس صدق الفكرة هو تغييرها للواقع ومدى أثرها في الحياة العملية، ولكن ينتج عن تحليل خاص للواقع، وأيضا من تحليل لمضمونه القديم الذي يحتوي على هذا المقياس، الصدق النظري موجود في أنماط فكرية ثابتة سماها الأصوليون المناط، وتحقيقه هو المتغير من عصر إلى عصر، وإن أهم ما يميز التراث في أصوله وفي نشأته وتطوره هو حركته وعدم ثباته، فالوحي قد تغير طبقا لحاجات الواقع، والتشريع يتغير طبقا لتغيرات العصر، ومصادر الشرع الثالث والرابع أعني الإجماع والقياس من أجل تحقيق التغير في كل عصر، والفرق الإسلامية وتعددها ناشئة عن اختلاف الأوضاع الثقافية وردود الفعل عليها بالمذاهب الكلامية، والتصوف أساسا منهج حركي وطريقة عملية، ومن ثم فاتهام التراث بأنه يمثل عنصر الثبات في واقع متحول ومتغير اتهام لا أساس له لأن التراث يمثل عنصري الثبات والحركة معا، كما أن الواقع يمثل عنصري الثبات والحركة معا، فهو ثابت لأنه واقع يفرض نفسه على أشكال الفكر، وهو متحرك لأنه يسمح بعدة أنظمة فكرية تتلاءم مع تطوره،
12
الصدق النظري والأثر العملي واحد في التراث لأنه واحد في أصول التراث، أعني الوحي، ومن ثم لا يصدق على «التراث والتجديد» أنه نزعة برجماتية كما لا يصدق عليه أنه نزعة مثالية. (4)
لا يعني «التراث والتجديد» إصلاحا نظريا للقديم، بل يعني تغيير الواقع تغيرا جذريا بالقضاء على أسباب التخلف من جذوره النفسية. مهمة التجديد إذن عملية لا نظرية، وهي المساهمة في البناء النظري للواقع، وذلك بالقضاء على الأفكار الثابتة فيه والأحكام المسبقة التي لا يمكن أن تكون أساسا نظريا لتغيير الواقع، التجديد جزء من البناء النظري للواقع وجانب من الإيضاح للسلوك، فالتراث ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتحريك الجماهير وتغيير الواقع، وليس موضوعا في ذاته نفخر به وبمعاصرته، ولكن معاصرة الناس هي المطلوب تحقيقه، التراث لا يحتوي على أنساق نظرية خالصة يهمنا الاكتشاف عنها، بل يحتوي على إمكانيات عملية يكشف عنها المفكر بإعادة تفسيره طبقا لمصلحة الجماهير، وهذا لا يمنع من وجود حقائق نظرية واحدة هي قوانين التاريخ، ولكنها أيضا واقع تحول إلى مستوى النظر، وأصبح نمطا نظريا مثاليا أساسه تجربة واقعية، وقد احتوى مصدر التراث الأول - أعني الوحي - هذه المجموعة من الحقائق النظرية التي قامت في الأصل من مجموعة مماثلة من التجارب الحية في الواقع، ثم تحولت إلى حكمة شعبية تتناقلها الأجيال كجزء من ثقافتها الوطنية، لا يعني تجديد التراث محاولة إصلاح القديم وترميمه حتى لا يمكن الإبقاء عليه كموضوع مستقل يلبس ثوب العصر، بل يعني عرض الموروث القديم على احتياجات العصر ومطالبه، فهي التي تفسر القديم، ليس القديم هو موضوع البحث، بل واقعنا المعاصر، وليست الغاية هو البحث عن معان في القديم حديثة لا تعارض العقل أو العلم أو التقدم، بل المساهمة الفعلية في تطوير الواقع الذي نعيشه بما أن مشكلة التطوير هي مشكلة العصر، والدافع على التجديد ليس ترميم الماضي، بل تغيير الحاضر، ولا يقال إن ذلك مضيعة للجهد والوقت، فلماذا الترميم والإصلاح وإعادة التفسير دون استبدال بالقديم كله أساس نظري جديد، فهذا أوفر جهدا وأقصر وقتا؛ وذلك لأن الحضارات لا تستبدل ولا تنقل، وأن الثقافات لا تستعار، وأن تطور الشيء الطبيعي هو وجوده، ومن ثم فالوجود لا ينتزع ثم يزرع، ولكنه يتطور تطورا طبيعيا، هذا هو التغيير الأبقى وليس زرع الأعضاء التي لا تتطور، بل قد تلفظ باعتبارها جسما غريبا. (5)
نامعلوم صفحہ