تعتمد الفلسفة أساسا على البرهان، وتبحث عن اليقين الداخلي، العقلي أو الطبيعي، في حين أن علم الكلام ما زال يعتمد على الجدل وعلى التسليم بمقدمات الخصم أو على البدء بمقدمات مشهورة أو مظنونة، غايته إفحام الخصم وليس الوصول إلى الحقيقة، فالفلسفة تمثل تطورا أكثر تقدما من علم الكلام، ونحن في واقعنا المعاصر قد رجعنا بهذا التقدم إلى الوراء وآثرنا الجدل على البرهان، والظن على اليقين، والتسليم بالمقدمات على البرهنة عليها. (3)
وقد يكون علم أصول الفقه هو أول العلوم الإسلامية ظهورا نظرا لاحتياج المجتمع الجديد للتشريع سواء في عصر الرسالة أو فيما بعدها، فقد حاول المسلمون بجهدهم الخاص استنباط أحكام جديدة للوقائع التي عرضت لهم والتي لم يرد فيها أصل من كتاب أو سنة نظرا لوجود الوالي في صقع بعيد عن الرسول أو بعد عصر الرسالة ، فلكي لا يخضع استنباط الأحكام للهوى أو المزاج الشخصي حاول الأصوليون وضع قواعد لاستنباط الأحكام الشرعية من الأصول الأربعة: الكتاب والسنة، والإجماع، والاجتهاد، فنشأ علم أصول الفقه محاولا إيجاد منهج إسلامي لتنظير الواقع وتقنين سلوك الجماعة، ونشأ استجابة لمطلب داخلي خالص دون أدنى أثر خارجي من منطق أو فلسفة أو حكمة، فقد نشأ التشريع قبل عصر الترجمة مواكبا لنشأة الحياة الإسلامية في صورها الأولى.
ويتفق علم الأصول مع الكلام والفلسفة في أن كليهما نظرية عقلية أو إعمال للعقل في النص إلا أنه يختلف عنها في الآتي: (أ)
ظهور الواقع كطرف مقابل للنص، وأصبح لدينا عناصر ثلاثة تكون المنطق الديني وهي: النص أو الوحي، والعقل، والواقع، لم يعد موضوع الفكر هو الإيمان أو الدين أو الوحي أو النص كما هو الحال في علم الكلام، أو الفكرة الغازية والحضارة الدخيلة كما هو الحال في الفلسفة، بل أصبح موضوع الفكر هو الواقع الذي تعيشه الجماعة الأولى ولا سيما وأن النص بطبيعته يحتوي على الواقع في باطنه كما بين الأصوليون ذلك في طرق استنباط العلة الثلاث من النص: تحقيق المناط، وتخريج المناط، وتنقيح المناط؛ لذلك حكم البعض على الأول بأنه الفكر الأصيل الذي استطاعت الجماعة الأولى وضعه، والذي يدل على جهدها وإعمال عقلها،
9
أما نحن فقد فصلنا النص عن واقعه واعتبرناه مستقلا بذاته يحتوي على حكم بصرف النظر عن الواقع الذي يمكنه أن يتقبل هذا الحكم. (ب)
ظهور المنطق الحسي المباشر، وطرق البحث عن العلة، ومنطق التحليل والحصر، وجوانب المنطق الاستقرائي، وهو ما لم تكتشفه الحضارات القديمة، ويكون هذا مساهمة للحضارة الإسلامية في تطور الحضارات العامة، مع أن الباحثين الغربيين يتحدثون عن الواقعية المسيحية في مقابل المثالية اليونانية دون أن يتحدث أحد عن الواقعية الإسلامية في مقابل المثالية اليونانية المسيحية، ونحن ما زلنا حتى تأسيس الفقه الافتراضي، ولم نستطع تطوير هذا المنطق الاستقرائي القديم من أجل تأسيس العلم. (ج)
ظهور طابع آخر للفكر الإسلامي وهو الفكر المنهجي في مقابل الفكر النظري الخالص في علم الكلام والفلسفة، ففي حين أن النص الديني قد تحول في الكلام والفلسفة إلى معنى أو إلى نظرية أو تصور شامل للعالم فإنه تحول في أصول الفقه إلى منهج عقلي واقعي، استنباطي استقرائي، وطبع الفكر الإسلامي كله بهذا الطابع المنهجي، ومن ثم يكون هذا العلم من أوائل المحاولات التي ظهرت في تراثنا القديم من أجل تحويل الأصول الأولى، الكتاب والسنة، إلى منهج عام للحياة، ويعجب الإنسان في واقعنا المعاصر من غياب الفكر المنهجي، وهو أخص وأروع ما أبدعه علم أصول الفقه في تراثنا القديم. (د)
خلو أصول الفقه من اللغة الكلامية والفلسفية، وقيامه على لغة بسيطة وسهلة، مستمدة من الواقع، وخلوه من الأفكار الميتافيزيقية، والنظريات المستعصية، والحجج الطويلة التي كثيرا ما سادت الكلام والفلسفة، فالأصول بهذا المعنى علم وضعي، دون الآثار الوخيمة للوضعية الأوروبية التي اجتثت أصولها الفكرية لعدم ثقتها بها، وبيان زيفها وعدم صدقها، صحيح أن هناك بعض مدارس الفقه الافتراضي الذي يقوم على افتراض واقعة من الخيال لم تحدث بالفعل ولكنها تمثل تيارا واحدا في الفقه، وليست جميع التيارات، كما أنها أقرب إلى مادة الفقه منها إلى علم الأصول. (ه)
ظهور الإنسان بوضوح تام على أنه الموضوع الأول للفكر الديني، وظهور الإنسان العامل
نامعلوم صفحہ