ولما كان كل خطأ في الحكم ينتج أساسا عن خطأ في المنهج، وكل كشف جديد يأتي أيضا عن كشف في المنهج فإن الحالة الحاضرة للدراسات الإسلامية والأحكام التي تصدر عليها تكشف عن أزمة في مناهج الدراسة، وتتلخص هذه الأزمة أساسا في عدم تطابق المنهج المتبع مع موضوع الدراسة نفسه خاصة إذا كان الموضوع نفسه منهجا أو يحتوي على منهج كامن فيه، وإن الغالب على هذه المناهج المتبعة أنها إن لم تكن مضادة تماما لطبيعة الموضوع ومنهجه فإنها على الأقل لا تتفق معه، هذه المناهج ليست مدروسة من قبل، وليست مطبقة عن وعي كامل، ولكنها شائعة بين المشتغلين بالدراسات الإسلامية، ورثوها إما عن طريق التقليد للدراسات الموجودة حاليا سواء من المستشرقين أو الدارسين المسلمين أو عن طريق الاستسلام للعادة والأخذ بأضعف الإيمان أو رغبة في الحصول على ركن من أركان العلم يستأثر به صاحبه ويعلن عن نفسه من خلاله ويمنع الآخرين من الاقتراب منه بعد أن أصبح حكرا عليه، أو رغبة في كسب، أو طمعا في منصب، أو حصولا على درجة بديلا عن الفكر في صورة كتاب مقرر، وهنا يسقط شرط العلم الأساسي وهو البحث، ويتحول التأليف إلى ظاهرة غير علمية دون تفكير جدي في المنهج المتبع للباحث، ماذا يريد بدراسته وإلى أي شيء يهدف؟ لذلك فإن إعادة طرح مسألة التفكير المنهجي فيما يتعلق بالدراسات الإسلامية يمكن بواسطته إحياؤها من جديد لتجنب الأحكام الخاطئة الشائعة ولربطها بحياة الدارسين القدماء أو الجدد، ما دام التراث قضية وطنية، وبالتالي قضية شخصية وجماعية، ولصبها داخل الثقافة الوطنية وعلى هذا النحو تتحرك قضية الموروث، وتحيي في أذهان الباحثين شبابهم، وذلك بالبدء بالتفكير المنهجي.
وترجع أزمة المناهج الحالية إلى خطأين: النعرة العلمية، والنزعة الخطابية، الأولى تسود معظم دراسات المستشرقين، والثانية تسود معظم دراسات المسلمين، وقد تعم النزعة الخطابية بعض دراسات المستشرقين عندما يقومون بتقريظ في الحضارات التي يدرسونها، كما قد تعم النعرة العلمية دراسات المسلمين نظرا لتبعيتهم للمستشرقين أو لاستعمالهم الشائع والمشهور دون تفكير منهجي أولي، وكلا الخطأين راجعان إلى الطابع الحضاري لكل فئة من الباحثين. (1) النعرة العلمية
تنشأ النعرة العلمية أساسا من استعمال منهج أو طريقة أو عادة تخالف تماما موضوع البحث؛ لأنها «مادية» ترمي إلى دراسة الفكر عن طريق الحوادث التاريخية أو الوقائع الاجتماعية، أو ترجعه إلى الإبداع الشخصي أو الأثر الخارجي، وهذا مناقض تماما لطبيعة موضوع البحث باعتباره ظاهرة نشأت من مصدر قبلي وهو الوحي، وبعد تحول نصوصه إلى معاني، والمعاني إلى أبنية نظرية، فوصف الظاهرة الفكرية هي محاولة للعثور على كيفية تحويل النص إلى معنى عن طريق منهج في التفسير والفهم وكيفية تحويل المعنى إلى نظرية عن طريق البناء العقلي لها، وبعد ذلك تقيم الظاهرة الفكرية بإرجاعها إلى مصدرها الأول وهو النص، والحكم عليها بأنها إيجابية أي من النص أو سلبية أي من الخارج، فإذا كانت الظاهرة الفكرية تعبيرا حضاريا عن الوحي، فالمنهج الذي يمكن اتباعه هو منهج ذو جانبين؛ الأول يتابع خروج الظاهرة الفكرية من النص، وهذا هو الوصف الظاهري التكويني الذي يبين النشأة والتطور. والثاني يرجع الظاهرة الفكرية إلى النص من جديد لتصفية ما يمكن أن يعلق به من آثار ثقافية أخرى أو من بناءات وأحكام بيئية، وهذا هو الوصف الظاهري الارتدادي. الظاهرة الفكرية إذن مثالية، مصدرها الوحي، وأساسها العقل، وقوامها الواقع. فالنعرة العلمية التي تقوم عليها مناهج المستشرقين تعني دراسة الظاهرة الفكرية كظاهرة مادية خالصة، وكتاريخ خالص مكون من شخصيات وأنظمة اجتماعية وحوادث تاريخية محضة، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها، وتحاول ابتداء من هذه العوامل المتفرقة تركيب الظاهرة بدعوى تفسيرها. وهكذا تفقد الظاهرة طابعها المثالي، وتنقطع عن أصلها في الوحي، وعن أساسها في الفكر والواقع، وتصبح ظاهرة مادية خالصة لها أصلها في التاريخ الذي أعطاها أساسها، وفي المجتمع الذي أعطاها طبيعتها.
ويرجع هذا الخطأ نسبيا إلى أن جميع المستشرقين أو جلهم من أهل الكتاب ينكرون الوحي الإسلامي، ومن المستحيل بالنسبة إليهم إرجاع الظواهر الفكرية التي يدرسونها إلى أصولها في الكتاب والسنة عن اعتقاد أو عن تعود، بل يرون أن الوحي ذاته نتاج التاريخ، واتصال المبلغ إليه بالبيئات اليهودية والنصرانية المعاصرة له، بل إنه لم يحسن فهمها، وجمعها بلا ترتيب أو منطق. قد يفترض البعض منا سوء النية في ذلك؛ لأن المستشرق يعرف في قرارة نفسه أن التفسير الوحيد للظاهرة هو إرجاعها إلى أصولها في الوحي، ومع ذلك يدير ظهره، ويحاول إيجاد أصول تاريخية واجتماعية لها. لا يعني ذلك توجيه نداء للباحثين لتراثنا القديم أن يؤمنوا أولا بالوحي الإسلامي، ثم يبحثوا ثانيا تراثنا القديم، بل يعني أن الباحث يمكنه أن يصف نشأة التراث وتطوره، وكيفية خروجه من مصادره الأولى، فهو يقرر واقعا لا يحتاج إلى إيمان مسبق بالأصول، وتسمح بعض المناهج الغربية المعاصرة بذلك،
1
ويقع الباحثون المسلمون أيضا في نفس الخطأ، وهم مؤمنون بالوحي، المسألة إذن هي الوعي بطبيعة التراث ونوعيته ونشأته وبنائه.
وقد يكون السبب أيضا خلود النفس البشرية بطبعها إلى ترك النظرة المثالية للظواهر إن لم يكن الحافز الديني أو الحساسية الفكرية متغلبا على شخصية الباحث، وهو ما يمكن تسميته بالمادية المقنعة دون ما تبن لمذهب فكري معين مما يوجد في بيئة ثقافية. وقد يكون السبب أيضا نوعا من التعود على السهولة؛ إذ إن جمع المواد من أسماء أشخاص وتواريخ وتقلبات الدول أسهل بكثير من الانتظار حتى يمكن إدراك الظاهرة الفكرية وفهمها من خلال هذه المواد التاريخية المتناثرة، خاصة إذا كان الباحث ليس على قسط كبير من الوعي الفلسفي، وليس لديه القدرة على الرؤية والقراءة للمواد الخالصة ثم يعوض هذا النقص الكيفي بالكم التاريخي، ويبهر العالم بقدراته على جمع المعلومات.
2
وقد يكون السبب عدم تخصص المستشرق في ميدانه منذ البداية؛ فغالبا ما يبدأ بالتاريخ العام أو بتاريخ علم من العلوم، اللغة أو الأدب أو الفقه، أو الفرق الكلامية، ثم يصل إلى الاستشراق بعد تطور طويل تعود فيه على سرد الوقائع والأحداث، وقد حدث ذلك في الجامعات الغربية حيث توضع الحضارة الإسلامية داخل الحضارات السامية القديمة أو اللغات الشرقية، ولنقص في المستشرقين فإن عالم اللغة يحيل على الفكر، والمؤرخ يشطح على الفقه، فلم ينشأ الاستشراق على الإطلاق كميدان مستقل أو كعلم متخصص، بل كان ملحقا بالتاريخ أو الجغرافيا أو اللغة أو الدين أو الحضارة أو الفلسفة، وكانت النتيجة أن فقد التراث وحدته، وتنازعته العلوم الإنسانية المختلفة، كل علم يتناوله بمنهجه وموضوعه وغايته.
3
نامعلوم صفحہ