يحاول البعض التغيير بالتكالب على قيم التراث القديم، والرغبة في تحقيقها ككل، واعتبار الواقع عالما جاهلا إما يتقبل هذه القيم ككل أو يرفضها ككل، فإذا قبلها فهو المجتمع المؤمن، وإن لم يقبلها فهو المجتمع الكافر الذي يجب الخروج عليه، وغالبا ما تصطدم هذه المحاولات بالسلطة فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع القرآن، وتتعثر هذه المحاولات للأسباب الآتية: (1)
سيادة النظرية الإلهية على الفكر النظري؛ ولذلك خرج تصور أنصارها لنظام الواقع على أنه حكم إلهي، فالحاكمية لله بصرف النظر عن طبيعة هذا الواقع وعن مكوناته، وارتبط التغيير المنشود في أذهان المثقفين بالدعوة إلى الحكم الثيوقراطي وهو ما ناهضت الإنسانية في التراث الغربي من أجل التخلص منه إلى الحكم الديموقراطي وهو التفسير العقلي الواقعي لحاكمية الله بفعل الشورى، وبدا أن الغاية هو الدفاع عن الله وليس التغيير الاجتماعي، وبدت الدعوة دينية متطاولة على السياسة، وغير قادرة على ممارسة قضايا التغير الاجتماعي التي تحتاج إلى علم دون دين، وإلى واقعية دون إيمانية مسبقة، وكانت النتيجة أن ابتلاع العالم كله داخل الإلهيات، كما أصبح العدل جزءا من التوحيد في فكرنا الديني المتأخر، ولم تستطع هذه المحاولات تفسير الإلهيات على أنها اجتماعيات، وتحويل الدين من علم للعقائد إلى علم إنساني. (2)
وقف تطور هذه الدعوة فكريا، ووقوفها عند مرحلة معينة من مراحلها، وعدم الأخذ في الاعتبار التطورات الجديدة والمستمرة التي تطرأ على الواقع والتي تحتم على الفكر النظري اللحاق بها؛ ومن ثم تأخر الفكر الإصلاحي الحديث عن مستوى التطور للواقع المعاصر وبدا متخلفا، لم يزد على الحركات الإصلاحية الحديثة شيئا، ولم يدفع الفكر الإصلاحي الحديث خطوة أخرى إلى الإمام إن لم يكن قد تأخر خطوات، دون استثمار للإحياء الاعتزالي، والتأكيد على استقلال العقل والإرادة، ودون تطوير ل «لاهوت الثورة»، ودون معالجة لقضايا الأرض، ودون تجنيد للجماهير، ودون إصلاح للتعليم أو للقضاء من داخله، وهي المحاولات التي بدأها فكرنا الإصلاحي وتركناها بلا تطوير. (3)
عدم القدرة على تحويل الإلهيات إلى فكر نظري ثم تحويل الفكر النظري إلى أيديولوجية سياسية اقتصادية واضحة المعالم يمكن صياغتها بطريقة عقلية عملية صرفة، ووضع برنامج شامل تتحقق فيه الأيديولوجية، ويصبح هذا البرنامج دليلا للعمل الثوري؛ ومن ثم كانت الرغبة ما زالت ملحة على فكرنا المعاصر في البحث عن أيديولوجية «إسلامية» في مقابل الأيديولوجيات المعاصرة، وستستمر هذه المحاولات لتغيير الواقع في تعثرها طالما أنه لا توجد أيديولوجية لها واضحة المعالم يجد فيها الواقع تعبيرا عن ذاته، وتجد فيها الجماهير تحقيقا لمصالحها. ولا يكفي هنا إعلان النوايا الطيبة، وإثبات حقائق بلا برهان، والفخر بأن لدينا كل شيء، فالمهم هو عرض ما لدينا بصورة علمية متكاملة ومقبولة كافتراض نظري يثبت صدقه عند التحقيق، ويدخل ضمن أيديولوجيات العصر.
1 (4)
سيادة التصور الرأسمالي للدين، وهو التصور الطبقي له؛ نتيجة للإيمان بالتصور الهرمي للعالم، وهو ما ورثناه قديما من نظرية الفيض أو الصدور، الذي يرتب الكون طبقا لمراتب الشرف والكمال، كلما صعدنا إلى أعلى زادت مراتب الشرف، وكلما نزلنا إلى أسفل قلت مراتب الشرف، هذا التصور الذي يضع الناس والطبقات الاجتماعية ويرتبها بين الأعلى والأدنى لا بين الأمام والخلف، هو التصور الرأسي للعالم وليس التصور الأفقي، وهو ما تابعنا فيه التراث الغربي أيضا الذي ينشر لهذا النوع من الفكر الديني؛ لأن فيه إرساء للنظام الرأسمالي وتأسيسا له على أسس نظرية ووجدانية للشعوب المستعمرة وللبلاد المتخلفة؛ لذلك انحاز أنصار هذا الفكر إلى الرأسمالية وعادوا الاشتراكية، ولو أنهم كانوا مناهضين للاستعمار والملكية ومظاهر الإقطاع والفساد الاجتماعي، فهم يؤمنون بالملكية والتفاوت في الرزق، ويدافعون عن الغيبيات والقضاء والقدر، كما يؤمنون بالثنائية التقليدية بين الروح والبدن، الدنيا والآخرة، الجنة والنار، الملاك والشيطان؛ مما يسبب فصما في حياة الفرد بين عالمين يعيشهما متجاورين أو متمايزين أو مخلوطين أحدهما بالآخر، يعيش الفرد دنياه ويدعي أخرته أو يعيش آخرته ستارا لدنياه، هذه الثنائية التي هي أساس كل مظاهر الازدواجية في سلوكنا القومي.
2 (5)
معاداة كل محاولات التجديد على المستوى النظري، واتهام كل محاولة جريئة بالإلحاد والشيوعية والماركسية، واتهام كل محاولة لتغيير الأساس النظري الهرمي أو الثنائي إلى أساس واحدي طبيعي بالمادية والكفر، مع أن الفكر الطبيعي كان موجودا في تراثنا القديم عند الطبائعيين، ولا ضير أن يبدأ الفكر الديني بتبني الواقع والبداية منه ورفض كل المحاولات لتعميته والإقلال من شأنه والقضاء عليه وتحويله إلى شيء مخالف له في الوهم أو الخيال أو التمني، والتوحيد في النهاية يشير إلى وحدانية النظرة، ووحدانية الطبيعة، ووحدانية العالم، ووحدانية الوجود الإنساني، التجديد إذن كان قاصرا مترددا، ولم تكن به الجرأة النظرية الكافية كما هو الحال في «لاهوت الثورة» في البلاد النامية.
3 (6)
سيادة التعصب بدل الوعي الفكري، وسيطرة الحمية الدينية بدل الالتزام الواعي خاصة إذا انضم الشباب، وعمت الدعوة قطاعات الشعب جميعا، فالأيديولوجية مجموعة من الأفكار المستقاة من الواقع والتي تنظر الواقع، وتقبل التغيير والتعديل طبقا لتطورات الواقع، ومن ثم فهي ضد القطعية الجازمة، وعلى نقيض الروح الدجماطيقية، وهنا تأتي أهمية التنوير العقلي حتى تظهر الدعوة في قالبها الفكري، والانفعال في النهاية هو قصر نظر إن لم يكن غيبة النظر على الإطلاق، ونقص في الوعي الفكري، وعدم القدرة على الإحساس بالآخر، وعدم قدرة على التحقيق والإنجاز وكأن الانفعال يخلق واقعه من خلال ذاته ولا يحتاج إلى واقع آخر تتحقق فيه أماني الانفعال ورغباته. (7)
نامعلوم صفحہ