اعتبرنا قوانين التطور البشري الذي لا يمكن أن يتجاهلها الإنسان من غير أن يثير أزمات، ينبغي تجنبها بأي ثمن كان والاحتياط لها قبل وقوعها، فرأينا من واجبنا المقدس نحو رعايانا المخلصين أن نكلف ممثل فرنسا لدينا أثناء حفلات رسمية وفي مرتين اثنتين، بأن يحيطكم علما برغبتنا الملحة في تحقيق إصلاحات جوهرية لإيجاد حل مرض لجميع المشاكل المتولدة من النظام الحالي الذي يسود تونسنا العزيزة الآن في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وإن شعبنا الذي يخضع لتيار التطور والتقدم المشترك بين الشعوب، قد برهن أيضا بصفة محسوسة عن نيته في أن يكون لجانب شعب فرنسا النبيل أثناء الحربين الكبيرتين لكي يساهم في انتصار الحق وتمكين مبادئ السلم والوفاق والكرامة والرفاهية للجميع.
وتلك هي الغايات السامية التي يصبو إليها شعبنا الشاعر شعورا كاملا بحقوقه وواجباته.
وحيث لم يأت رد إلى هذه الساعة على ما قدمناه مرتين، وخشية أن ينقلب الضجر الذي ظهرت بوادره في شعبنا يأسا يكون سببا في إحداث ما نريد تجنبه، أسرعنا إلى مخاطبة معاليكم رأسا.
وإن يقيننا لوطيد في أنكم ستتفضلون بإعارة كامل اهتمامكم لهذه المشكلة الخطيرة، لإيجاد حل لها تفرضه الحالة العالمية وتمليه ما بين بلادينا من صداقة صادقة وثقة متبادلة.
وكان لتلك الرسالة مفعولها الحاسم في اتجاه السياسة الفرنسية؛ إذ كلفت الحكومة الفرنسية ممثلها بتونس جان مونص بدرس مشروع إصلاحات جوهرية وبتهيئة الجو اللازم لها، ولكن الجالية الفرنسية شنت حملات شديدة بمجرد ما شعرت باتجاهه الجديد، وضيقت عليها الخناق، وهاجمته مهاجمة لا رحمة فيها ولا هوادة، وحاكت له بباريس مؤامرة ذهب ضحيتها، فعوضته الحكومة الفرنسية إذ ذاك بمقيم عام آخر «بريليه» مهمته تطبيق ما وضعه «مونص» من مشروعات. وذهب وزير الخارجية «روبرت شومان» بنفسه للاحتفاء به في منصبه القديم كمتصرف أعلى لمقاطعات شرق فرنسا، وألقى خطابا بمدينة «تيون فيل» صرح فيه بأن الهدف النهائي للسياسة الفرنسية في تونس هو تحقيق استقلالها، فقال حسب ما نشرته الصحف الفرنسية بتونس، وخاصة «لابريس» و«البتي متان»، بتاريخ 11 يونيو 1950:
في هذا المساء الذي يقوم فيه مسيو بريليه بآخر عمل بصفته متصرفا أعلى عندما استقبل أعضاء البرلمان، يمكننا أن نقول له إن اعترافنا بالجميل لعظيم، وأريد أيضا أن أعبر عن كبير تقديرنا لمن يسعى في إدراك مقاصدنا فيفهمها فهما صحيحا ؛ إذ ذلك الفهم سر الاتحاد الفرنسي، وستكون للمسيو بريليه
في وظائفه الجديدة رسالة فهم تونس وقيادتها نحو ازدهار تام لثروتها وإيصالها إلى استقلالها الذي هو الهدف النهائي لجميع الأقطار المشمولة في الاتحاد الفرنسي، ولكن ضرورة فترات من الزمن وآجال تتعاقب أمر حتمي، فإن نجح هذا العمل فإن فرنسا تكون قد قامت من جديد برسالتها التمدينية خلال تاريخها الطويل.
فأحدث هذا الخطاب رجة عميقة في الأوساط الاستعمارية والأوساط الوطنية التونسية أيضا، لقد صرحت فرنسا للمرة الأولى على لسان المسئول عن سياستها بتونس أي وزير خارجيتها بأن هدفها هو استقلال تونس، وكان زعيم الحركة القومية الأستاذ الحبيب بورقيبة مقيما إذ ذاك بباريس فعلق على خطاب شومان بقوله: الآن اتفقنا تماما مع فرنسا على الأسس والمبادئ ولم يبق إلا الشروع في المفاوضة لإنجازها وتطبيقها، ولكن المستعمرين وأصحاب الامتيازات والمصالح من الفرنسيين أسرعوا إلى مهاجمة وزير الخارجية بعنف وشدة ليحبطوا أعماله وينسخوا أقواله ويجبروه على نقض ما أبرمه وإخلاف ما وعد به.
وأخذ تراجعه يظهر عند مجيء المقيم العام الجديد إلى تونس، فألقى بعد وصوله بزمن قصير بتاريخ 13 يونيو 1950 خطابا طويلا مسهبا شرح فيه ما أجمله وزير الخارجية في تصريحه بتيونفيل فبسط القول فيما تريد فرنسا إنجازه من إصلاحات وتحقيقه من تحويرات لنظام الحكم بتونس، ولمح للغايات البعيدة تلميحا لا يخلو من غموض فقال في مفتتح كلامه مبينا مهمته:
نامعلوم صفحہ