الغرض من وضع هذا الكتاب
المستعمرون وسلوكهم
الحركة الوطنية
النظم التونسية قبل الحماية وبعدها
المفاوضات بين تونس وفرنسا
العدوان الفرنسي المسلح
الفظائع
الدموع والدماء والخراب
الاعتداء على الوزارة التونسية
محاولة اغتيال الملك
نامعلوم صفحہ
الإصلاحات المرفوضة
اغتيال فرحات حشاد
اغتيال الهادي شاكر
الغرض من وضع هذا الكتاب
المستعمرون وسلوكهم
الحركة الوطنية
النظم التونسية قبل الحماية وبعدها
المفاوضات بين تونس وفرنسا
العدوان الفرنسي المسلح
الفظائع
نامعلوم صفحہ
الدموع والدماء والخراب
الاعتداء على الوزارة التونسية
محاولة اغتيال الملك
الإصلاحات المرفوضة
اغتيال فرحات حشاد
اغتيال الهادي شاكر
تونس الثائرة
تونس الثائرة
تأليف
علي البلهوان
نامعلوم صفحہ
الغرض من وضع هذا الكتاب
يسطر هذا الكتاب صفحة ناصعة من الكفاح الرائع، وصفحة سوداء من تاريخ الاستعمار.
فليس هذا الكتاب إذن بحثا جغرافيا عن تونس العربية الإسلامية التي يسكنها ثلاثة ملايين ونصف مليون من العرب المسلمين، وقد أضيف إليهم بعد الاحتلال الفرنسي 140 ألفا من الفرنسيين ومائة ألف من الإيطاليين. وهي على صغر رقعتها (125 ألف كيلومتر مربع) تحتوي على أراض خصبة متسعة في الشمال، وعلى غابات شاسعة تمتد إلى الجزائر، وعلى بساتين تجعل من جهات كاملة - كجهة الدخلة - تعبق بالرياحين في فصل الربيع، ونمت غابة زياتينها خاصة في الساحل الشرقي إلى أن بلغت أكثر من عشرين مليون شجرة. وتونس غنية أيضا بمعادنها من فوسفات وحديد ورصاص وزنك وزئبق وفحم وغيرها، وأخيرا عثر على البترول في غالب جهاتها.
أما موقعها الاستراتيجي، فهي تفصل البحر الأبيض المتوسط إلى حوض شرقي، وحوض غربي، وتتحكم في المضيق الرابط بينهما بميناها الحربي بنزرت ومطاراتها.
ومن البديهي أن أسطورة الاستعمار الذي جاء بنوايا حسنة طيبة، ورسالة تمدينية افتضحت، حتى أصبح لا يصدقها أحد وخاصة مروجوها. إنما الاستعمار في كنهه استثمار اقتصادي كامل يتبع ضربا من القانون الحديدي الذي لا يرحم؛ ولذا رأينا المستعمرين الفرنسيين استحوذوا استحواذا كليا على جميع الثروة المعدنية، وعلى أخصب الأراضي وعلى غالب منابع الثروة، واستثمروا أيضا جهود التونسيين استثمارا فظيعا؛ إذ جعلوهم عمالا يتقاضون أجورا طفيفة لا تسد رمقهم ولا تغني عائلتهم من الجوع، بل اتخذت منهم فرنسا أيضا جنودا يريقون دماءهم للدفاع عنها وعن استعمارها.
والاستعمار مفسدة بشرية، لا يدوم إلا بانحطاط الأخلاق، فينزل بالمغلوب إلى حضيض الخنوع والخسة والذل والحيوانية بما يصبه عليه من فقر وجهل ومرض، فيدنس إنسانيته المقدسة، ويفسد الغالب أيضا، فيولد فيه التعصب الأعمى والتفوق العنصري والمطامع والشره والميل إلى الأرباح والمصالح الشخصية، ويميت فيه الضمير وروح العدالة والأخوة البشرية، ويقضي على كل اعتلاء فكري فيه.
ومما أكسب الوطنيين التونسيين قوة وألبس كفاحهم ضربا من القداسة، شعورهم بالدفاع عن القيم البشرية العليا؛ عن الحرية وعن العدالة: عدالة القانون والمحاكم، وعدالة المجتمع، وعدالة الاقتصاد والثروة، ودفاعهم فعلا عن كرامة الإنسان وقداسة حياته.
وقد اقتصر هذا الكتاب على تسجيل فترة (من 1949 إلى 1954) من الصراع بين ذلك الاستعمار وبين شعب تونس الذي لا يريد أن يموت كشعب وأن يفنى، وأن يصبح أبناؤه كأوراق الخريف تذروهم كل ريح وعاصفة، أو كحبات الرمل تبددهم كل موجة من أمواج البحر.
والقضية التونسية في وضوحها ونصوعها كالبلور، لا تحتاج إلى تزييف وتلفيق ولا إلى المبالغة، بل الحقيقة نفسها تخدمها دائما؛ ولذا كان جميع ما قدمته في كتابي هذا مستندا إلى وثائق رسمية أو إلى قول خصومنا أنفسهم، وأخذت قصة الحوادث عن الذين شاركوا فيها أحيانا أو عن عدة شهود عيان، وحذفت الكثير مما سمعت، وأغفلت أيضا الكثير من الفظائع. واحتطت لكيلا أذكر حادثا إلا بعد البحث والتمحيص، فجمعت كمية من الوثائق والأحداث تمكن كل إنسان من أن يبدي حكمه، وقد يكون رأيه مخالفا لرأي فيجد ما يسند عليه فكرته. ففي هذا الكتاب يجد القارئ الحوادث والوثائق مضبوطة بتواريخها وأسماء مكانها ومرجعها، وما لم أسجل مرجعه فقد أخذته عن عشرات الشهود.
ولأمكن القارئ من فهم الحوادث وأسبابها البعيدة والقريبة، لخصت في فصول ثلاثة الوضع الحالي، وأبنت عن سياسة فرنسا الاستعمارية وسلوك جاليتها، وعن قوة الحركة الوطنية ونظامها، وعن النظم التي فرضها الاستعمار على الدولة التونسية، ثم تحدثت عن «التجربة التونسية» عندما دخلت تونس في مفاوضات رسمية مع فرنسا لتحقيق استقلالها، وعن نكث حكومة فرنسا تعهداتها، وعن العدوان المسلح ضد شعب تونس الأعزل. فكانت الثورة الدامية المستمرة، وتطور الكفاح التونسي تطوره الطبيعي، وكانت الأدوار السياسية تماشي الثورة الدامية.
نامعلوم صفحہ
وليس لشعب تونس جيش مسلح يقف أمام الجيش الفرنسي، ولكن له إيمانا بحقه في الحياة وحقه في أرضه ووطنه، فرفض في وحدة قوية شاملة كل تعاون مع السلطات الاستعمارية، إلى أن استحال على الحكومة الفرنسية أن تجد من بين التونسيين من يقبل تشكيل الوزارة بعد أن استقالت الوزارة التونسية (15 يونيو 1954) وبقيت تونس من غير حكومة أصلا.
ولقد وجدت تونس من يقودها في كفاحها المرير، أمثال صالح بن يوسف والمنجي سليم، وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري التونسي الذي كان خارج تونس عندما شرع الاستعمار الفرنسي في عدوانه، فلم يقبل نصائح الأصدقاء الذين حذروه من الخطر على حريته وحياته، فرجع إلى وطنه إبان محنته ليقاسم الشعب آلامه وتضحياته.
وكانت رسائله تأتيني من منفاه بجزيرة جالطة، ثم من جزيرة «جروا» بفرنسا تحمل إيمانا وآمالا، فقد كتب لي بتاريخ 1 / 10 / 1951 قال:
أخي العزيز ورفيقي الأمين وعضدي المتين الأستاذ علي البلهوان
أخذ الله بيده وأعانه على أمره وجعل التوفيق حليفه.
وبعد، فقد استلمت رسالتك اللطيفة المؤثرة التي ما أتيت على آخر سطر منها حتى اغرورقت عيناي بالدموع؛ دموع السرور والفخر والامتنان؛ الامتنان إلى الله - عز وجل - الذي أحاط هذه الحركة المباركة النزيهة المخلصة برجال يعترفون بالحق لذويه، يعملون آناء الليل وأطراف النهار بكل ما أتوا من حكمة وخبرة وإخلاص لإعلاء دين الله وإعزاز عباده وإنقاذ دار من ديار الإسلام من هوة الذل والاستعباد، صابرين على المكروه صامدين في وجه العدوان، حتى يدركهم الله بنصره الذي وعد به عباده الصالحين.
وقد اخترت من رسائله واحدة؛ لأنها تبين قيمة الزعيم المعنوية، وتبلور عواطف وأفكار شعب كامل حول شخصه. فكتب لي من جزيرة «جالطة»:
الحمد لله وحده
جزيرة جالطة، يوم الجمعة 11 يوليو 1952
عزيزي علي
نامعلوم صفحہ
لشد ما تأثرت ببرقية الطيب والرشيد، وكذلك ببرقية صالح ومحمد وعلال، وكنت أود أن أجيب بنفس اللهجة، ولكن لم يكن ذلك في إمكاني، وحملت إلي برقية من مراد نفحة من الآمال ... وأتتني برقيات جميلة من الطلبة التونسيين من باريس ودمشق تحمل معاني التكتل الوطني وعزم الشبيبة الناشئة الثابت؛ أي ضمان الدوام والاستمرار الذي لا يبلغ الإنسان من دونه غاية. وهل أحدثك عن مئات ومئات البرقيات والرسائل والبطاقات من جميع السجون، ومن جميع المعسكرات، ومن أبعد جهات تونس؛ كلها تتدفق وطنية وتنبئ عن حالة أدبية أشد ما تكون ارتفاعا وقوة وإيمانا لا يتزعزع بالنصر النهائي. فإن كان جسمي مقيدا محكوما عليه بالعزلة، وكانت القوة القاسية فرقتني عن إخواني؛ فقد عجزت عن منع قلوب شعب كامل وأفكار أبنائه أجمعين من مؤانستي في غربتي والاتجاه نحو منفاي فوق صخرتي. وتلك أجمل تسلية وأعظم جائزة كنت أؤملها في محنتي، وهو انتصار جبار من الناحية الأدبية لا يلبث أن يتجسم - وهو لا محالة سيتجسم طال الزمان أو قصر - في الميدان السياسي.
وكانت رسالتك - بتاريخ 27 يونيو - أشد وقعا على نفسي وأعمق تأثيرا، فاهتززت لها اهتزازا؛ لإيجازها وصراحتها وما حملته من عواطف.
فقرأتها عشر مرات، بل مائة مرة من غير ملل، وهي أمامي الآن وسأحملها معي دائما؛ لأنها أصدق مثال لأجمل وأعظم وألطف وأشرف وأصفى وأنقى ما يشعر به قلب بشري. حقا لم أعش من أجل نفسي وما تحمل كلمة نفس من أثرة، وقد كنت منذ بداية نشأتي أتبع كلمة خالدة قرأتها وأنا صغير: «عش للغير، لا لنفسك.» وعندما عشت لفائدة الغير وجدت أني اخترت أحسن طريقة لأحيا لنفسي، ولكنني لم أكن الوحيد الذي اختار ذلك الطريق في الحياة، ولو كنت الوحيد لما أمكن لي أن أبني بناء صحيحا يدوم ويبقى، وكان من حسن حظي - بل من حسن حظ الشعب التونسي - أني جمعت حولي جماعة من الشباب من ذوي الحزم والعزم، استأثروا بنكران الذات والمقدرة، واعتقدوا اعتقادي بأن الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إن لم ينرها بنور التضحية الكاملة في سبيل مثال أعلى من الحرية والعدالة والأخوة البشرية.
وإن في ذلك لآية لقوم يفقهون، وشاهدا لا يرد على أن شعب تونس شعب نبيل لم تفقده عشرات السنين من العبودية والرق الشعور بالكرامة والشرف، وتلك هي الحقيقة الناصعة، فيمكن لي الآن أن أموت مطمئنا وأنا أعلم أن الكفاح سيستمر سواء كنت موجودا أو معدوما ... وأنه لن يتوقف إلا يوم تصبح تونس وليس فيها غالب ومغلوب وقاهر ومقهور، يوم يفتك شعبها حقه الطبيعي في الحرية وفي الحد الأدنى من الكرامة، الذي من دونه يسقط البشر إلى مصاف الحيوانات العجم.
وأن الكفاح سيستمر حتى بعد ذلك اليوم، ولكنه سيكون كفاحا ضد الجهل والفاقة لرفع مستوى الشعب الأدبي والمادي، إلى أن يصبح عائلة كبرى حرة قوية سعيدة قادرة على القيام بدورها في تقدم البشرية وصعودها إلى نحو مصيرها النير. وأن انتصارنا في الميدان السياسي وإن كان غاية في نفسه من الناحية الأدبية، إلا أنه الوسيلة أيضا التي تمكننا من معالجة المشكلة الاجتماعية معالجة حاسمة.
وليخرج المتطوعون آلافا من صميم ذلك الشعب الذي أقام الدليل للعالم على حيويته وقيمته لتحقيق تلك الغاية العظيمة الشريفة.
المستعمرون وسلوكهم
(1) المشكلة التونسية عند الاحتلال الفرنسي
نلاحظ أن المشكلة التونسية قد وضعت دائما في ميادين ثلاثة: الميدان الدولي، والميدان الفرنسي، والميداني الداخلي التونسي.
تكونت المشكلة التونسية يوم احتلت فرنسا الجزائر في أواسط القرن التاسع عشر، فأخذت فرنسا تتدخل في شئون تونس شيئا فشيئا تمهيدا للاستيلاء عليها، ولم يتيسر لها احتلالها عام 1881 إلا بعد مناورات دولية دامت أكثر من ثلاثين سنة، وكانت تخشى مزاحمة بريطانيا العظمى لها ومطامع إيطاليا المكشوفة، إلى أن تم الاتفاق مع الإنجليز بمساعدة رجل ألمانيا المحنك «بسمارك» على أن تكون بريطانيا مطلقة اليد في مصر وتكون فرنسا حرة التصرف بتونس، أما إيطاليا فوقع إبعادها بإعطاء بعض الترضيات لجاليتها بتونس.
نامعلوم صفحہ
وهكذا كانت نتيجة وضع المشكلة التونسية في الميدان الدولي، احتلال الجيوش الفرنسية للبلاد وفرض الحماية عليها؛ لأن الدولة الاستعمارية قد اقتسمت العالم في ذلك الحين وتصرفت في الأقطار كما شاءت لها مطامعها؛ إذ القوة بيدها والمال في قبضتها والسياسية العالمية في حوزتها.
وبمجرد استيلاء فرنسا على تونس أصبحت المشكلة التونسية تحتل مكانا ممتازا في السياسية الفرنسية البحتة التي لم تكن واضحة جلية في أول أمرها؛ لأن معاهدة «باردو» لم تحتو على لفظة الحماية، بل أبقت السيادة التونسية كاملة غير منقوصة، وكان المستعمرون ينادون بوجوب القضاء على الدولة التونسية وإلحاق البلاد التونسية بفرنسا مثل ما تم فيما يتعلق بالجزائر. وكان الأحرار الفرنسيون مثل «كليمنصو» ينددون بالعدوان على شعب صديق، ويطالبون بإجلاء الجيوش الفرنسية عن تونس، فاتخذ رئيس الحكومة الفرنسية إذ ذاك «جول فيري» موقفا وسطا وقال: إن فرنسا لا تريد استعمار تونس ولا ترمي إلى إدماج ترابها في التراب الفرنسي، وإن احتلالها لها إنما هو ضمان لبقائنا بالجزائر. فسياسة فرنسا نحو تونس تتلخص حسب عباراته في كلمتين: «لا إلحاق ولا انسحاب.»
أما داخل البلاد التونسية، فقد كانت السياسة الفرنسية تناقض ما قررته الحكومة الفرنسية، وكان أكبر عامل في تبديلها وقلبها هو المقيم العام «بول كامبون» الذي اشتهر بمهارته الإدارية بفرنسا، ففرض على تونس اتفاقية جديدة (اتفاقية المرسى)، واستدرج الحكومة الفرنسية إلى الموافقة عليها، ثم اتخذها أداة للاستيلاء على السيادة الداخلية التونسية وإنشاء إدارة حديثة تكون آلة في قبضته؛ ليتمكن من حكم البلاد حكما فرنسيا مباشرا، فيتصرف في الميزانية لتنفيذ أغراضه، ويشرع في سياسة تنمية الجالية الفرنسية بتشجيع الهجرة ومنحهم الوظائف العامة والأراضي الخصبة، ويسرع إلى تقسيم الثروة المعدنية على الشركات الفرنسية.
فإذا كان «جول فيري» بطل احتلال تونس، فإن «بول كامبون» هو مستعمرها الأول وواضع أساس جميع المشاكل الكبرى التي صيرت القضية التونسية معقدة متشعبة استعصى حلها على الحكومات الفرنسية المتوالية وحيرتها وأفسدت سمعة فرنسا ونزلت بها إلى الحضيض. (2) المشكلة التونسية في الميدان العالمي
بقي التناقض والاضطراب بينا في السياسة الفرنسية نحو تونس، فطورا تسير إلى تطبيق معاهدة الحماية والوقوف عندها، ومرة تنتهج السنة الاستعمارية التي سنها «بول كامبون»، وهي في تناقضها واضطرابها لم تلتفت إلى العالم وإلى الواقع، كأنها ذاهلة بنفسها عن غيرها، وإذا ما وعدت الحكومة الفرنسية وعدا، فسرعان ما تتراجع فيه تحت تأثير جاليتها الاستعمارية بتونس، غافلة عما طرأ على العالم كله من تغيير عميق وعما أحدثته الحروب العالمية فيه من تبديل. عواصف هبت على الدنيا، فزعزعت قوات أوروبا الاستعمارية وأضعفتها حربيا واقتصاديا، حتى أصبح مركزها اليوم أقل أهمية من ذي قبل، وأضاعت الدول الاستعمارية الكبرى هيبتها في القلوب، ورأى كل سياسي أن العصر الذي كانت دول أوروبا تقتسم فيه العالم إلى مناطق نفوذ بينها تفرض فيها سيطرتها واستعمارها وحمايتها وانتدابها قد انقضى وفات، فلم تبق في قبضتها دفة السياسة العالمية، بل أفلتت منها إلى غيرها، وقام إثر الحرب العالمية الثانية عملاقان كبيران هما أمريكا ودولة السوفييت، وأصبحت الدول الأوروبية بأسرها إما تحت النفوذ السوفياتي المباشر، وإما تحت رحمة أمريكا التي تغدق عليهم من مالها الوافر ليعيشوا ويحافظوا على كيانهم ووجودهم. وكأن فرنسا لم تعلم بعد أن كل دولة تأخذ من الدنيا على قدر قواها، وأن المحافظة على إمبراطورية كبرى ممتدة في أطراف العالم تتطلب من الجيوش والأساطيل والطيران والقوات الاقتصادية والمالية ما يكفي للوقوف أمام أكبر الدول المنافسة، وكأن فرنسا لم تعلم أيضا أنها لا تملك هذه القوة اللازمة.
والأعجب أن فرنسا التي كانت طيلة قرون تسير في مقدمة البشرية في بث الآراء الحية الجديدة والدفاع عن حرية الأفراد والمجتمعات، صارت اليوم كأنها في عزلة عن التيارات الفكرية الكبرى التي تسير بالعالم نحو مصيره، فقد تجبرها الظروف أحيانا على مسايرة غيرها، ولكن سرعان ما تتراجع إلى الوراء وتتشبث ببعض المبادئ البالية.
وقد انتصرت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مبادئ اعتنقتها غالب الشعوب والدول، واهتز لها كل مظلوم وكل مغلوب على أمره. وكانت أمريكا حاملة لرايتها داعية لها ساعية في تحقيقها، فظهرت في الميثاق الأطلنطي الذي جعله الحلفاء دستورا عالميا لجلب الأمم إلى جانبهم، والذي امتاز بإعلان حق كل شعب في اختيار نظام الحكم الذي يريده، ثم سجلت مبادئه في ميثاق سان فرانسيسكو الذي أسست بمقتضاه هيئة الأمم المتحدة، فالتفتت إليها جميع الأنظار وعلقت عليها الآمال، مع أن الدول الاستعمارية احتاطت لنفسها في ميثاق تلك الهيئة، فضيقت ميدانه وجعلته لا يطالبها إلا بتقديم بعض التقارير فيما يتعلق بالشعوب الخاضعة لها. ولكن تلك الدول لم تتمكن من التملص من توقيع ذلك الميثاق الذي جعل مهمتها في الأقطار التابعة لها تقتصر على إعدادها لحكم نفسها بنفسها، وكانت فرنسا في الواقع لم تغير من سياستها الاستعمارية التقليدية شيئا، ثم إنها وقعت أيضا على ميثاق حقوق الإنسان وخالفته حالا وخرقته بسرعة عجيبة واعتدت على الحريات الفردية والحريات العامة، وقتلت ونكلت وسجنت وعذبت في أكثر مستعمراتها وخصوصا في تونس، فلم تقم وزنا لتلك المواثيق كلها ولم تعترف بها عند التطبيق ولم تحترم توقيعها لها أصلا.
وأعظم ظاهرة للعصر الحديث مقت الاستعمار في العالم بأسره، واعتباره عبودية ورقا والحكم عليه نهائيا بالإزالة، وقد عزز تلك الظاهرة إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها في التخلص منه، وإن أدى ذلك بها إلى تضحيات جسيمة، وإن أخل بالأمن العالمي، وإن اكتسح الاضطراب والحرب قسما كبيرا من المعمورة؛ لأن المستضعفين في الأرض والمقهورين والمظلومين والجائعين رأوا في الاستعمار والتسلط الأجنبي بأنواعه أقوى أركان النظام السائد في بلادهم القائم على الفساد والارتشاء وخدمة مصالح بعض الأشخاص أو الجاليات الأجنبية، فتحركت الجماهير الغفيرة التي تعد مئات الملايين بين آسيا وأفريقيا، واستيقظت وتفطنت إلى أسباب دائها وعزمت عزما كليا على جثها من أصولها، وتقدمت لفك الأغلال من رقبتها والتخلص من النير الأجنبي أولا، ومن ذلك النظام البالي ثانيا، ودوى صوت الحرية الهائل في أرجاء الدنيا، وتجاوبت أصداؤه من جزر إندونيسيا وسهول الهند إلى جبال الأطلس بالمغرب الأقصى، فتقطعت السلاسل وتحررت الشعوب وتكونت دول فتية وفتحت أمامها أبواب المستقبل على مصراعيها، وكأن دولة أوروبا قد دالت فتقلص ظلها عن بلد بعد بلد، وكلما ولد مولود جديد من تلك الشعوب التي كانت ترزح تحت الاستعمار، تعزز به جانب الحرية في العالم، وازدادت الدول الاستعمارية ضعفا، وتقهقرت الروح الاستعمارية، وأحرزت هكذا غالب أمم الأرض استقلالها: الهند وباكستان وبورما وسيلان وإندونيسيا وسوريا ولبنان وليبيا والحبشة. وقد حصلت شعوب أخرى على حكمها الذاتي في سيرها نحو استقلالها.
وهل يمكن أن تقف موجة الحرية التي اكتسحت العالم عند حدود تونس؟ أم توهم الفرنسيون أن هذا التيار البشري الجبار سيتعطل أمام ما وضعوه من سدود وضربوه من حصار شديد حول المغرب العربي خاصة وبقية الإمبراطورية الفرنسية عامة؟
أولم يعلموا أن النطاق الحديدي الذي أرادوا به عزل تونس عن بقية الدنيا لا يمكن أن يوقف حركة شعب ونهضة أمة أرادت إرادة فعالة أن تحيا من جديد حياة العزة والكرامة، بل لم يزدها ذلك النطاق المفروض إلا شوقا إلى الاتصال بالشعوب الشقيقة وإلى الخروج إلى الهواء الطلق الحر، فخرق التونسيون الوطنيون السد الفرنسي المنيع من كل جهة، وخرجوا بقضيتهم إلى الميدان العالمي، ووجدوا جميع تلك القوات الفتية المعادية للاستعمار تناصرهم وتشد أزرهم، فقد أصبحت تلك الدول الجديدة تشارك مشاركة حقيقية في سياسة العالم. وينبغي هنا ألا ننسى أن عددا وافرا من شعوب الدنيا قد ذاق في السابق مرارة الاستعمار، وبقيت آثارها في فمه إلى يوم الناس هذا؛ ولذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا الجنوبية (الأرجنتين، والبرازيل، والشيلي، وبوليفيا وغيرها ...) تبغض الاستعمار طبيعة وجبلة؛ ولذا كان من المتوقع أن تقف تلك الدول التي حصلت على استقلالها في القرن الماضي أو في أوائل هذا القرن لجانب الدول الآسيوية الأفريقية التي رفعت لواء مكافحة الاستعمار. فلا غرابة إذن في أن تجد تونس أعظم قوات العالم - الأدبية والمادية - تعطف عليها وتميل إلى مساعدتها على التخلص من ذلك الاستعمار البغيض، فأصبحت المعركة في كنهها بين الماضي والمستقبل، ففرنسا وقواها تسعى للمحافظة على النظام القديم البالي، وتسعى تونس وأنصارها إلى تحقيق نظام أساسه العدل والحرية والمساواة بين الأمم الصغيرة والكبيرة يضمن للبشرية سلامتها ورفاهيتها، ولا يكون الانتصار إلا للمستقبل.
نامعلوم صفحہ
وقد دهشت فرنسا لأنها تعيش في برجها العاجي فيما يتعلق بالاستعمار، عندما رأت الكتلة الآسيوية الأفريقية تتكون للدفاع عن تونس، وزادت دهشتها لما سجلت القضية التونسية في جدول أعمال هيئة الأمم، وأخيرا لم تحر جوابا، فانسحبت من الجلسة العامة التي أثيرت فيها القضية، ولم تحتمل أن تجلس على كرسي الاتهام، ولفرط استغرابها وبعدها عن الواقع العالمي المحسوس قررت حكومتها عدم الاعتراف بهيئة الأمم في هذه القضية وكأنها نسيت - أو تناست - أنها وقعت ميثاق هيئة الأمم، وأن عملها هو تهديم لتلك المنظمة العالمية. وقد أصرت على موقفها حتى رأينا رئيس وزرائها «بيني» يصرح في «كواليس» مجلس النواب الفرنسي «أن فرنسا لن تقيم وزنا لأي قرار تتخذه الأمم المتحدة في القضية التونسية»، و«أن فرنسا سترفض رفضا باتا السماح بالدخول إلى تونس لأي لجنة تعينها هيئة الأمم» (أكتوبر 1952).
ورأينا أيضا فرنسا تثور وتبرق وترعد ضد كل دولة وكل شعب نصحها بحل الأزمة التونسية حلا عادلا، فكانت صحفها تشن الحملات المسمومة ضد شعوب آسيا وأفريقيا وتشكو باكية من موقف الرأي العام الأمريكي من استعمارها؛ لأن القسم الأكبر من الصحف والمجلات الأمريكية كانت واقفة بجانب تونس تدافع عن الحق والعدل، وقد طالبت بعضها الحكومة الأمريكية ألا تخون الحرية وألا تعزز الاستعمار في العالم، فنشرت مثلا جريدة «وشنجطن بوست» المعروفة بتأييدها للسياسة الخارجية الأمريكية مقالا افتتاحيا في 2 / 4 / 1952 قالت فيه:
إن قرار الحكومة الأمريكية الخاص بالامتناع عن التصويت عند نظر شكوى تونس ضد فرنسا في مجلس الأمن قرار يدل على الجبن، وإن الدبلوماسية الأمريكية تلقت الصفعة التي تستحقها من يد مندوب الباكستان، إن اشتراك الولايات المتحدة في منظمة حلف شمال الأطلنطي يجب ألا يكبل حريتنا في ميدان الشئون الخارجية.
وإذا كانت الدبلوماسية الأمريكية مهتمة بحماية مصالح دول أوروبا الاستعمارية، فما علينا إلا تغيير موقفنا كدولة عالمية وإعادة النظر فيما يتعلق بمصالحنا والسير طبق سياسة خارجية مختلفة تمام الاختلاف عن السياسة التي نسير عليها.
وإن أمريكا وإن لم تؤيد في أول أمرها تسجيل القضية التونسية في جدول أعمال الجلسة العامة لهيئة الأمم المنعقدة بباريس عام 1951-1952 ولا مناقشتها في مجلس الأمن بنيويورك، إلا أنها نصحت فرنسا المرة تلو المرة بوجوب تغيير سياستها بتونس والبر بوعودها لها. ولما رأت تعنت فرنسا سلمت لحكومتها مذكرة رسمية تطالبها بذلك، فقامت قيامة فرنسا إذ ذاك، واجتمع مجلس وزرائها بعد أن رفض «بيني» قبول تلك المذكرة أصلا، ونشر بلاغا باسم الحكومة الفرنسية في 6 / 10 / 1952 جاء فيه: «تقرر أننا لن نقبل أي تدخل في المسائل التي هي في جوهرها من اختصاص السيادة الفرنسية.»
وتوترت العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا؛ إذ علم كل واحد أن الحكومة الفرنسية تقصد بالتدخل الأجنبي تدخل أمريكا نفسها، ويعتبر الرأي العام الفرنسي كل مناقشة لقضية تونس في هيئة الأمم إنما تقع بإرادة أمريكا أيضا.
فبدلا من أن تنظر فرنسا إلى الحقيقة وتعترف بالواقع وتغير سلوكها فتجلب لنفسها العطف والتقدير، ألصقت التهم بغيرها ظنا منها أن تعنتها وتمسكها باستعمارها ووقوفها لأجله ضد العدو والصديق والخصم والحليف، سيضمن لها بقاء إمبراطوريتها كما هي. فإذا بالرأي العام العالمي ينقلب ضدها في هذه القضية ويعرفها بالحقائق المرة التي أرادت تجاهلها.
وإننا نختار من بين مئات المقالات التي كتبت في هذا الصدد في أمريكا الجنوبية وألمانيا والنمسا وسويسرا وإيطاليا وبلجيكا والدانيمرك والنرويج والسويد كلمة نشرها الكاتب السويدي الحر جونار مولليرن
Gunnar mullern
في جريدة أفطون بلادت الصادرة باستكهولم بتاريخ 1 / 4 / 52 قال:
نامعلوم صفحہ
مسكين مسيو بيني! الرئيس المؤقت للحكومة الفرنسية الممثل لفرنسا الضعيفة الهرمة البعيدة عن كل بعث وازدهار، ولقد أصبحت فرنسا المثال الأول لما للترميم من عيوب مضحكة وعجز.
وإن فرنسا - كبريطانيا العظمى - عرضة لأزمة التناقص، ولكننا بينما نرى الإنجليز يتبعون سياسة رشيدة يكذبون بها «سالوست» المؤرخ الروماني الذي يقول إن المحافظة على الإمبراطورية لا تكون إلا بالطرق التي كونتها، ويقيمون الدليل على أنه يمكن أن تقام الإمبراطورية على أساس المحبة المتبادلة واحترام التقاليد المتغايرة؛ نرى الفرنسيين يتبعون بتونس سياسة مبناها العنف كأن فرنسا ما زالت دولة قوية عسكريا واقتصاديا وأدبيا.
وبما أن أساس أعمالها هو الظلم، فمن الصعب أن نظن أن الخاتمة ستكون لمصلحتها، وأن الفرنسيين يكونون على جانب من الذكاء لو أنهم قلدوا الإنجليز المتيقظين، لكي يجدوا حلا للنزاع القائم مع المكافحين لتحرير تونس.
ومن الغريب أن الفرنسيين الذين أظهروا تفانيهم في حب الحرية مدة الاحتلال الألماني لبلادهم، هم نفس الفرنسيين الذين لا يحترمون ذلك الحب عند غيرهم.
ولو أن فرنسا تصل إلى فرض شروطها باستخدام جنود «اللفيف الأجنبي»، ولو أنها ترمي في المعركة بجميع القوات التي لديها فتقهر مؤقتا المقاومة الوطنية التونسية؛ فإن ذلك الحل لا يكون إلا إلى حين، لأن ما يقع اليوم في تونس ليس بالأمر الخاص بها فحسب، بل هو أمر يشبه نشوب الحريق في مزرعة حبوب، وأن اللهيب سيلتهم لا محالة جميع ما اسمه إمبراطورية استعمارية أو نصف استعمارية.
عبثا تحاول فرنسا تعطيل سير البشرية، فالقوات الطبيعية لا ترد ونواميس الكون لا تغلب، وتونس تسير مع البشرية في تطورها؛ ولذا رأينا قضيتها تتقدم في الميدان العالمي بخطى ثابتة وتعزز في كل يوم بقوات جديدة.
ورأينا أخيرا هيئة الأمم تبحث المشكلة التونسية في جمعيتها العامة بنيويورك (ديسمبر1952) وتتخذ في شأنها قرارا، فتجزم هكذا خلافا للرأي الفرنسي أن من اختصاصها النظر في المشكلة التونسية ومن حقها إصدار القرارات في شأنها واتخاذ الوسائل اللازمة لحلها. (3) المشكلة التونسية في الميدان الفرنسي
إن المشكلة التونسية احتلت مكانا ممتازا في سياسة حكومات فرنسا المتوالية ولدى الرأي العام الفرنسي وفي مناقشات البرلمان، وانكب عدد وافر من ساسة فرنسا ومفكريها بالبحث والتحليل على السياسة الفرنسية بتونس، فرأوها غامضة مبهمة المعالم مضطربة في سيرها متناقضة في أهدافها، حتى قال فيها «ميتران» ص86:
إن ضروريات الحرب في الشرق تفرض علينا متناقضات عجيبة. إننا نطالب بالمساعدة الأمريكية في الهند الصينية، ولكننا نحتج على تدخل الولايات المتحدة في شمال أفريقيا. إننا نخدم بكل حماسة القضية الوطنية الفيتنامية، ولكننا نبعث ب «بورقيبة» إلى المنفى. إننا نتوجه إلى هيئة الأمم لو تحركت الصين، ولكننا نزعم عدم اختصاص الهيئة في قضيتي مراكش وتونس. إن السياسة ليست هي المنطق، بيد أن الوحدة الفرنسية لن تتحمل مثل هذه المتناقضات البالغة.
وكأن ساسة فرنسا لم يفطنوا بعد أن ذلك التناقض الذي سيفضي بالإمبراطورية الفرنسية إلى التفكك والانهيار، ناتج عن الصدمات العنيفة والتيارات الجارفة التي تتلقاها من الداخل والخارج، وهو ناتج عن تمسك فرنسا بسياسة استعمارية تقليدية لم ترد تبديلها، قائمة على مبدأ أن: «الاحتلال العسكري لبلاد مستعمرة يجد مبررا له في أهمية الغنائم» التي يجنيها منها.
نامعلوم صفحہ
وللاستعمار الفرنسي بتونس دعامتان: الاحتلال العسكري ومعاهدة «باردو» الناتجة عنه. ولذا نرى جميع الساسة الفرنسيين من ذوي المسئولية وجميع الحكومات تتمسك دوما بذلك الاحتلال وبتلك المعاهدة؛ أي تتمسك بكنه الاستعمار وجوهره حتى لا تفلت تونس من براثن فرنسا. وعندما يتكلمون عن الاستقلال الداخلي، فسرعان ما يحترزون ويقولون: «ضمن معاهدة باردو»، وهذا «ميتران» الداعي إلى وجوب إرضاء التونسيين يقول:
يبدو واضحا أن معاهدة باردو إذ تركت لفرنسا ميدانا خاصا مع احترام الاستقلال الداخلي للبلاد التونسية، قد وضعت بذلك قواعد قوية لإقامة نظام فيدرالي، يكون العقبة الوحيدة دون الانتشار العظيم الذي تلقاه الأماني الاستقلالية.
ثم يضيف إلى ذلك:
كان يجب التمسك باحترام معاهدة باردو وما ترتب عليها من نتائج دبلوماسية وعسكرية.
أما الاستعماريون المتطرفون وخصوصا ممثلو الجالية الفرنسية بالمغرب العربي ومن يساعدهم من علماء القانون الذين اشتهرت فرنسا بهم، كالأستاذ لويس ميلو
Louis Millot ؛ فينكرون إنكارا باتا تاما وجود سيادة تونسية، كما صرح به الجنرال أومران
Aumeran
نائب المستعمرين الفرنسيين بالجزائر في البرلمان الفرنسي في جلسة يوم 5 / 6 / 1952 قائلا:
ولم توجد أبدا سيادة تونسية لا في الواقع ولا شرعا ولا عقلا.
منطق عجيب لا يفهمه إلا المستعمرون، فكيف تعاقدت إذن تونس مع فرنسا ومع غير فرنسا قبل الحماية وبعدها بمعاهدات متعددة متنوعة؟ نعم يجيب الساسة الفرنسيون على ذلك أن فرنسا لم تتعاقد قط مع تونس، بل تعاقدت مع باي تونس فقط - وهو صاحب المملكة - وقد تنازل عن بعض اختصاصاته للدولة الحامية، فيبدلون الواقع المحسوس ويخترعون الأباطيل، ويتلاعبون بالألفاظ ليبقوا أحرارا في استثمار البلاد والتحكم في مصيرها، معتمدين في الحقيقة على القوة المجردة وحدها.
نامعلوم صفحہ
ولما ارتفعت الأصوات في العالم بنقدهم والتشهير بهم، أجابوا الحكومات الأجنبية والرأي العام العالمي بما أجابوا به من قبل التونسيين أنفسهم، وأرادوا أن يحتجوا بما كونوه في البلاد التونسية لوجوب بقائهم بها ، وأخذوا يعددون ما عبدوه من طرق ومدوه من سكك حديدية، وما أنشئوه من أدوات عصرية، وما شيدوه من مدارس ومعاهد للعلم، وما أحدثوه من مستشفيات ومستوصفات، وما استخرجوه من مناجم ومعادن، حتى انقلبت ضجتهم ضدهم وقال لهم السيد ظفر الله خان وزير خارجية باكستان في هيئة الأمم:
إذا كانت الأرقام التي قدمتموها حقا، فإن تونس أكثر تقدما وأوسع نهضة من باكستان نفسها، والباكستان مستقلة فينبغي أن تكون تونس مستقلة قبلها.
ومن البراهين المضحكة التي يلوكونها ويكررونها من غير ملل زيادة عدد السكان في البلاد التونسية. ومن الملاحظ أن عدد السكان بتونس لا يزداد في الواقع إلا في الجهات المبرأة من الاستعمار الفرنسي، أما في النواحي التي تمكن منها ذلك الاستعمار؛ فإن عدد السكان في تناقص، أضف إلى ذلك أن نمو السكان في ازدياد أسرع في البلاد التي لم تعرف الفرنسيين واستعمارهم، مثل الهند وباكستان ومصر، فهو أمر طبيعي خارج عن مؤثرات الدول الغربية كلها.
وقد اتسع التذمر من الحكومة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية في الرأي العام الفرنسي نفسه على تفريطها في الممتلكات الفرنسية وعدم صيانتها من الضياع، فمنهم من يطالب بالمحافظة على الكل سيادة وثروة وناموسا، ومنهم من يريد تطورا في الألفاظ وفي بعض المظاهر وإبقاء الجوهر، والكل متفقون على الاستعمار في كنهه.
ويوضح لنا «ميتران» تلك الفكرة في الكلمات الآتية:
إن المسئولين فينا بدلا من أن يبحثوا عن العناصر الثابتة للقوة في العهد الحديث فيوفروها، وبدلا من أن يعملوا على كسبها والمحافظة عليها؛ اكتفوا بالمظاهر الخيالية للهيبة. لقد كنا في سنة 1939 متخلفين بحرب واحدة، وفي سنة 1953 أصبحنا متخلفين بقارة واحدة.
إن امتلاك الثروة التي تحت الأرض ونشر التعليم وتحديد العملة ومراقبة الصرف واحتلال المناطق الاستراتيجية، وتنظيم الجيش والدبلوماسية على أساس جماعي؛ تلك هي المسائل الأصلية التي وقع إهمالها فأصبحت مهددة، ولكن يوجد في البلاد التونسية عدد من المراقبين المدنيين أكبر من عددهم سنة 1938! كسل في التفكير ثم جرأة لا تنظر للعواقب، ذلك ما يمتاز به هذا الضعف الذي يتجلى بمظاهر القوة ببراعة كبيرة حتى يخيل لمعظم الفرنسيين أنها القوة بعينها.
وإننا شاهدنا ظاهرة جديدة بفرنسا إثر الحرب العالمية الثانية، فالرأي العام بها كان يقف في الغالب إلى جانب المظلومين والمقهورين والمستضعفين إذا بلغته جنايات الفرنسيين أنفسهم في المستعمرات، فقام المستعمرون من أبنائها سواء كانوا بباريس أو ببقية الإمبراطورية وخصوصا بالجزائر، بعمل واسع النطاق بذلوا فيه أموالا طائلة للسيطرة على قسم كبير من الصحف والمجلات واستمالة عدد وافر من الساسة الكبار وإيصال معتنقي فكرتهم الاستعمارية إلى زمام الحكم، فأثروا هكذا تأثيرا واسعا عميقا بفضل دعاية مغرضة مسمومة دائمة، وأصبح عدو التونسيين مارتيونو ديبلا
Martinaud Déplat
وزيرا للعدل ودي شوفينييه
نامعلوم صفحہ
De Chevigné
الوالي العام السابق بمدغشقر الذي قتل على يديه أكثر من مائة ألف ملغاشي وزيرا للحرب، والجنرال «جوان» من قواد جيش الأطلنطي الذي انهالت عليه الألقاب والتشريفات، فبات مارشالا وعضوا في المعهد العلمي
l’Académie française
وذا كلمة نافذة في السياسة الفرنسية.
وإذا بالرأي العام الفرنسي يظهر اهتماما بشئون الإمبراطورية ويتعصب في مجموعه للاستعمار مع جهله لحقيقته وواقعه، ويرتمي ارتماء ضد الجزائريين والملغاشيين والفيتناميين والتونسيين، مستنصرا - في ظنه - لفرنسا وناموسها، منساقا بغير تفكير لعبارات جوفاء رنانة. وقد حلل أحد الساسة الفرنسيين تلك العقلية فقال: ... إن جانبا كبيرا من الرأي العام عندنا لا يزال يتصور التوسع الاستعماري حسب أقدم مظاهره وأكثرها سخافة وإثارة للشعور، فالرأي العام يجهل من جهة التغييرات التي حدثت منذ انتهاء الحرب في جميع الأقطار الواقعة تحت الوصاية والتي لا تتمتع بالحكم الذاتي، وهو من جهة أخرى يتمسك ببعض النظريات السخيفة، فمعلوماته تقتصر على بعض العبارات المثيرة التي تمنعه من التفكير، ولا يمكن أن نتصور إلى أي حد عقمت أعمالنا وشلتها عبارات مثل «اجتنبوا الفضيحة» و«لا توجد ترجمة آسيوية لكلمة الحقيقة» و«في أفريقيا لا يحترمون إلا السوط»، إن ما تتضمنه هذه العبارات من ملاحظات بسيطة تتخذ مبررا للمواقف السياسية، وحتى لتشييد نظريات تترتب عليها قرارات حكومية.
ولم تنفذ تلك الدعاية الاستعمارية إلى الجماهير الشعبية وحدها، بل تأثر بها أيضا عدد وافر من المفكرين والساسة حتى أصبحوا يرون في كل من يطالب بحقوقه وحقوق بلاده عدوا لفرنسا ينبغي الإسراع إلى القضاء عليه، ويتوهمون أن الحركات الاستقلالية في البلدان التابعة لفرنسا إنما مصدرها من الخارج والمحرك لها الأجانب، وصور لهم خيالهم الشيوعية في كل مكان ثم نسوها، ورأوا شبح أمريكا ودولاراتها والجامعة العربية ودعايتها والحركات الآسيوية ومفعولها، ولم ينتبهوا إلى نهضة الشعوب المغلوبة على أمرها وتعطشها إلى الحرية، فبقوا يحاربون خيالات وأوهاما، ولم يريدوا التنازل عن أي سلطة وأي نفوذ للشعوب التي وضعها حظها المنكود تحت الحكم الفرنسي، فتعجب منهم أحد المتمسكين بمعاهدة «باردو»، وهو «ميتران» الذي قال ينقدهم:
إنه لعجيب أن نسمع بعض الساسة المعتدلين يستنكرون مطالب الحزب الحر الدستوري الجديد الخاصة باستقلال ذاتي حقيقي، ويختفون في طيات العلم الوطني كلما طلب مثلا تعيين وزير تونسي لشئون التعمير أو أبدى أملا في إيجاد «دولة مشتركة» في أفريقيا. إن وجود جيش وطني تونسي ودبلوماسية تونسية باتصال دائم مع القاهرة وروما وموسكو وواشنطون، لا يثير تخوفاتهم بقدر ما يثيرها إنقاص عدد الموظفين الفرنسيين في الإدارة المباشرة أو تيسير الشئون البلدية بهيئة منتخبة من قبل هيئة انتخابية موحدة!
وفرنسا في سياستها نحو الإمبراطورية عامة وتونس خاصة عجزت عجزا ظاهرا عن متابعة الظروف العالمية والداخلية، ولم تعرف كيف تتكيف لمجاراتها، ولم تتعظ بالدروس القاسية التي تلقتها في مختلف أنحاء العالم، فانجلت عن سوريا ولبنان صاغرة مقهورة، وأضاعت قواها العسكرية والمالية في حرب طاحنة لا هوادة فيها في الهند الصينية، ولم تعتبر بالعبر والشدائد التي قاساها غيرها من الدول، كأنها لم تر هولاندا تغادر إندونيسيا إلى غير رجعة، وأن تشاهد بريطانيا تعطي استقلال الهند طواعية، ولم تتفطن إلى انهيار إمبراطوريتها نفسها وتقطع أوصالها وانفصال أجزائها، ولم تراع العوامل والقوات التي تؤثر تأثيرا مباشرا على الوحدة الفرنسية كما قال أحد ساساتها: ... إن اجتماع الوطنية والشيوعية وما اتفق على تسميته بهذا الاسم الغامض: الاستعمار، كان من المتحتم أن يؤدي إلى انفجار: اثنان ضد واحد، فهل تكون الكلمة الأخيرة للقوة؟ وهكذا تتعرض الوحدة الفرنسية الناشئة من مؤتمر برازافيل، ومن دستور 1946 إلى تطورات مختلفة، فلاقت حوادث قاسية في مدغشقر وساحل العاجل وتعرضت لهزائم في تونس ومراكش، وتفككت في تونكان ولاوس وكمبوديا في الهند الصينية. (4) الجالية الفرنسية ودورها في المشكلة التونسية
لقد عجزت الحكومات الفرنسية أو تظاهرت بالعجز عن حل مشكلة تونس التي لا تزيدها الأيام إلا تشعبا وتعقيدا، لما تتمتع به جاليتها من نفوذ كاد يكون مطلقا ومن امتيازات فاحشة جعلتها المتصرفة الحقيقية في مصير البلاد وحظوظ العباد، وإذا ما ظهرت الحكومة الفرنسية بمظهر الحكم بين تلك الجالية والشعب التونسي، فإنها تكون دائما حكما ظالما يعزز جانب مواطنيه ويطلق يدهم ويسعى في منحهم حقوقا جديدة، فأصبحت تلك الجالية الفرنسية أكبر عبء على تونس، وأرادت فرنسا أن تظهر أن المشكلة التونسية في جوهرها وكنهها نزاع بين جاليتها وبين الشعب التونسي، وهي تعلم علم اليقين أن احتلالها العسكري للبلاد هو الذي مكن لتلك الجالية التي باتت أكبر مانع لكل تفاهم، وهي في الحقيقة نتيجة لسياسة التعمير التي تبعتها فرنسا منذ احتلت تونس رامية من وراء ذلك إلى فرنسة البلاد وإلحاقها بالتراب الفرنسي.
وكان عدد الأوروبيين عند توقيع معاهدة «باردو» (1881) لا يفوق العشرات، فأصبح اليوم حسب الإحصاءات الفرنسية نفسها 239,549 نسمة منهم 140 ألف فرنسي، وقد أرادت فرنسا أن تعطي لتلك الأقلية من الفرنسيين حقوقا سياسية بتونس، فتشركهم مناصفة في الحكومة التونسية والبرلمان التونسي وجميع مؤسسات الدولة، مع أنهم أجانب لا يمكن قانونا وشرعا أن يكون لهم حق المواطن في بلاد أجنبية مرتبطة ببلادهم بمعاهدة دولية.
نامعلوم صفحہ
فما هي هذا الجالية الفرنسية؟ وما هو تركيبها؟
كانت فرنسا خلال السبعين سنة الأخيرة قليلة الولادات ضعيفة النسل، فلم تتمكن من إرسال عدد وافر من أبنائها إلى تونس؛ ولذا كان الفرنسيون الذين من أصل فرنسي أقلية ضئيلة في تلك الجالية، ومعظم تلك الأقلية من جزيرة كورسيكا - لغتهم لهجة إيطالية وجنسيتهم فرنسية - التي يمتاز أهلها بالجهل والفقر والتعصب الأعمى وروح الانتقام، فنزلوا على تونس كرجل جراد وانهمكوا في استثمارها والاستيلاء على خيراتها ، إلى أن أصبح رئيس الجالية الفرنسية كلها كورسيكيا على الدوام كأسرة مالكة يتعاقب أصحابها على العرش من جالليني
Gallieni
إلى جودياني
Gaudiani
إلى كازابيانكا
Casabianca
وكولونا
Colonna ، وتلك أسماء إيطالية أعجمية بالنسبة لفرنسا.
أما الأكثرية فإنها خليط من جميع الأجناس والفرق والبلدان، أتت بهم فرنسا من كل صوب وحدب، فقبلت المشردين واللاجئين غير المرغوب فيهم في أوطانهم من روس بيض ويوغسلافيين ويونانيين وألمان وإسبان ومالطيين وإيطاليين، فكانت فرنسا تمنحهم الجنسية الفرنسية وتفتح لهم أبواب الرزق وتدخل أبناءهم المدارس الفرنسية لتنسيهم لغتهم، وإذا بهم يصبحون أسيادا متحكمين مهيمنين ينظرون إلى التونسي من عليائهم ويحتقرونه ويرون أنفسهم أصحاب البلاد، قد اكتسبوا من الحقوق ما ليس له.
نامعلوم صفحہ
وقد اتبعت فرنسا لتثبيت أقدامها سياسة توزيع أراضي التونسيين عليهم أو مساعدتهم على الاستحواذ عليها بشتى الطرق. وبما أن تونس بلاد فلاحية قبل كل شيء، انتقلت ثروة البلاد إلى أيدي هؤلاء الأجانب، وقد عقد الدكتور ثامر فصلا في كتابه «هذه تونس» أعطى فيه الموضوع حقه من البحث، جاء فيه:
لأجل أن تسيطر فرنسا تمام السيطرة على الناحية الاقتصادية في البلاد، وجهت همها إلى الاستيلاء على الأراضي الزراعية، فاتخذت كافة الوسائل الممكنة - وفي مقدمتها إصدار التشريعات المختلفة - لانتزاع الأراضي من يد التونسيين وإقرار الفرنسيين بها، فأصبح هؤلاء الفرنسيون هم المتحكمين في حياة البلاد الاقتصادية.
ثم تساند المستعمرون الفرنسيون مع الفرنسيين أصحاب رءوس الأموال المسيطرين على الحياة التجارية والصناعية، ومع رجال الإدارة الذين بيدهم توجيه السياسة المالية في البلاد، وبذلك أصبح الشعب التونسي مهددا بالفقر أمام هذه القوى التي تسندها السلطة التشريعية والتنفيذية في البلاد.
ولأجل أن نعلم مقدار الظلم الذي حاق بالتونسيين من الناحية الزراعية، يكفي أن نستعرض الوسائل التي اتخذتها السلطة الفرنسية للاستيلاء على أراضي تونس الزراعية.
تبلغ مساحة الأراضي التونسية الصالحة للزراعة تسعة ملايين من الهكتارات، من مساحة المملكة التونسية التي تقدر باثني عشر مليونا ونصف من الهكتارات.
وكانت كل هذه الأراضي بطبيعة الحال - قبل الحماية - تحت تصرف الأهالي، يعيشون من محصولاتها ومن تربية المواشي في مراعيها، وكان بعضها ملكا للدولة أو للأفراد، أو ملكا مشاعا بين القبائل، والبعض الآخر تابعا للأوقاف العامة أو الخاصة.
وما كاد الاستعمار يضع أقدامه في البلاد، حتى اتجه إلى كل قسم من هذه الأقسام، ورسم الطريق للاستيلاء عليه، سالكا سياسة واحدة متتابعة الحلقات طول مدة الاحتلال.
ولما كانت فرنسا مهد القانون الحديث، فإن فقهاءها لم يعدموا الحيل القانونية لانتزاع الأراضي من العرب، فاتخذ القانون مطية لتنفيذ أغراض الجشع الاستعماري، وخلعت فرنسا على سياسة السلب والنهب التي انتهجتها في البلاد التونسية ثوبا من المشروعية، وكل من أمعن النظر في سلسلة تلك النصوص التي أنشئت من العدم لهذا الغرض وتتبعها، يتضح له جليا ما ارتكبته فرنسا من فظائع باسم القانون.
1 (5) أملاك الدولة الخاصة
تقدر أملاك الدولة التونسية الخاصة - قبل عهد الحماية - بمساحة لا تقل عن مليون من الهكتارات، كان للأهالي حق استغلالها، وقد وضع المصلح الكبير الوزير خير الدين برنامجه الواسع لتوزيعها بين الفلاحين، مانحا كلا منهم قطعة أرض مساحتها عشرون هكتارا، ونفذ البرنامج بصفة خاصة بمنطقة زغوان.
نامعلوم صفحہ
وقد بادرت الحكومة الفرنسية بانتزاع ملكية هذه الأراضي من يد الفلاحين التونسيين، وتركت لهم في الأول حق استغلالها، ثم ما لبثت أن طردتهم منها وأقرت فيها «المعمرين الفرنسيين»،
2
وتلا هذا الإجراء صدور الأمر المؤرخ في 13 يناير 1896 الذي يقضي بإلحاق «الأراضي البور» بأملاك الدولة، فأخذت سلطة الحماية على عاتقها تحديد الأراضي البور، وراحت تدخل ما تشاء من الأراضي في هذا النوع، معتدية بذلك على حرية الملك الفردية، وتوالت اعتداءاتها على أصحاب الأملاك تحت هذا الستار. (6) أراضي الغابات
يوجد بتونس غابات وأحراش شاسعة بالمنطقة الشمالية تبلغ مساحتها مليونا وتسعة عشر ألف هكتار، وقد عمدت فرنسا إلى الاستيلاء عليها منذ بدء الحماية، وأصدرت أمرا بتاريخ 4 أبريل سنة 1890 يقضي بإدخالها ضمن أملاك الدولة الخاصة.
ثم أصدرت أمرا بتاريخ 22 يوليو سنة 1903 يتضمن وضع حدود نهائية لهذه الغابات، وكان الغرض الحقيقي لهذا الأمر إنما هو اغتصاب أراضي السكان المجاورة لهذه الغابات، وتضمن هذا الأمر النص على أنه لا يمكن قبول أية دعوى تتعلق بحق الملكية بعد إتمام عملية التحديد، وكانت عملية التحديد تتم في الخفاء، حتى إن أكثر الملاك - وأغلبهم من البدو - ما كانوا يعرفون إجراءات هذا التحديد إلا بعد فوات أوانها، وقد عجز أكثرهم عن تقديم رسوم ملكيتهم؛ إذ كانوا يتصرفون في أراضيهم منذ أجيال، ومن ذلك الحين تعددت المنازعات بين السلطة الفرنسية والأهالي في هذا الشأن؛ إذ وقع إقصاء الكثيرين عن أراضيهم، وسلطت الإدارة الفرنسية الغرامات الفادحة على من عاد إلى التصرف فيها، ثم صدر أمر في 6 يونيو سنة 1928 بتأسيس لجنة للفصل في هذه المنازعات، وأعقبه أمر آخر في 26 ديسمبر سنة 1928 ينص على ضم نائبين من التونسيين إلى اللجنة، ومهمة هذه اللجنة هي فحص صحة المستندات التي تقدم إليها من حيث إثباتها للملكية.
ومن أغرب ما ورد من نصوص في سبيل اغتصاب ملكية الأراضي التونسية، ما جاء في الأمر الصادر في 26 ديسمبر سنة 1938 من أنه لإثبات حق المدعي يشترط أن تكون الأرض بها حرث أو نبات أو بناء، وأن لا ملكية ما لم يتوفر هذا الشرط، ولو كان بيد المالك عقود تثبت صحة الملكية. وقد ثار الرأي العام لهذا الاستبداد والجور، فكان جواب السلطة الفرنسية أن أصدرت أمرا بتاريخ 20 مايو 1930 بفصل العضوين التونسيين من لجنة المنازعات حتى لا يبقى بها من يمثل حقوق أصحاب الأملاك المغتصبة.
وقد ارتكبت فرنسا لتحقيق أغراضها واعتداءاتها على الملكية الفردية للأراضي المجاورة للغابات أشنع الفظائع، واستعملت في هذا السبيل شتى الوسائل والمناورات غير المشروعة، ونذكر على سبيل المثال أن السلطة الفرنسية طلبت من الفلاحين في جهة فريانة سنة 1934 أن يسلموا للإدارة مستنداتهم لملكية الأراضي بدعوى الاطلاع عليها مقابل إيصالات، ثم استردت الإيصالات، وامتنعت عن تسليم المستندات لأصحابها، وأسرعت إلى تسجيل تلك الأراضي تحت ملكيتها، ووضعت يدها على ما فيها من مبان وبساتين.
وفي سنة 1938 حملت سلطة الحماية الفلاحين على الاعتراف بملكيتها لتلك الأراضي مقابل بقائهم لزراعتها، وألزمت كل فلاح بدفع إيجار سنوي، وهكذا أصبح المالك مستأجرا والغاصب مالكا. ومن أمثلة هذا أن سلطة الحماية انتزعت من الفلاحين المجاورين للغابات بجهة عين الدراهم مساحات تتراوح بين الهكتارين والعشرين هكتارا، ووقع هذا الاعتداء في ثماني عشرة «شياخة» وبلغت ما اغتصب من شياخة واحدة منها وهي شياخة الفويدية ثلاثمائة هكتار بما عليها من نبات ومبان، وقد أرغم ملاك هذه الأراضي على ترك ديارهم وأراضيهم أو يعترفون بملكيتها للدولة، ويدفعون جعلا سنويا، وعندئذ تباح لهم فقط الإقامة فيها على سبيل العمرة.
هذا بالإضافة إلى أن السلطة الفرنسية قد اتخذت مسألة حراسة الغابات وسيلة إلى الاضطهاد، فأرسلت إلى الغابات جيشا من الحراس الفرنسيين يفرضون على الفلاحين التونسيين الغرامات تلو الغرامات، وراح الحراس يهاجمون الأهالي في عقر دورهم ويعتدون على نسائهم تحت ستار تنفيذ القانون والتفتيش عن أخشاب الغابة؛ كل هذا باسم القانون والمدنية والإصلاح.
وقد وصل الأمر إلى حد اعتبار أوراق الشجر التي تعبث بها الرياح وتلقيها على الأرض سيما في فرض الغرامات المتتالية، والحجز الإداري، وبيع مواشي الفلاحين لتسديدها. وهكذا أصبح هؤلاء الفلاحون تحت رحمة حراس الغابات، توقع عليهم أنواع الظلم المختلفة والاعتداءات المتوالية على أموالهم وبيوتهم ونسائهم، وغدوا في حالة من البؤس والفقر أصبحت مضرب الأمثال.
نامعلوم صفحہ
وتتصل بمسألة أراضي الغابات مسألة المياه التونسية التي صارت بأمر مؤرخ في 24 سبتمبر 1885 من أملاك الدولة الخاصة، ومسألة المياه في منطقة الجنوب لها نفس أهمية الأراضي الزراعية في مناطق أخرى؛ إذ تتوقف عليها حياة الواحات التي يعيش منها أهل الجنوب، وكانت العيون قبل الحماية ملكا للأفراد ولها نظام خاص في توزيعها على السكان لم يتغير منذ عهد قديم، وفي السنوات الأخيرة بدأ الاستعمار يتسرب إلى منطقة الجريد، وأقطعت السلطة الفرنسية الأراضي إلى المعمرين الفرنسيين لزراعتها نخيلا وحولت إليها المياه معتدية على حق السكان الذي توارثوه منذ أجيال. (7) أراضي القبائل
يوجد بتونس أراض شاسعة تتصرف فيها القبائل منذ أجيال، وهي ملك مشاع بينها، وتسمى «بالأراضي الكلية»، وقد عمدت سلطة الحماية إلى إلحاقها بأملاك الدولة، بدعوى أن القبائل لا حق لها في هذه الأراضي؛ إذ لا تملك رسوم ملكيتها، وأصدرت في هذا الشأن أمرها المؤرخ في 14 يناير 1951.
وقد أيدت المحكمة المختلطة هذه النظرية بتاريخ 22 فبراير سنة 1904 مقررة أن القبائل بتونس ليس لها «نظام الجماعات» الذي يجعل لها شخصية قانونية، فالأرض الكلية غير معترف بها قانونا؛ لأن القبيلة نفسها ليست لها شخصية قانونية، واعتمادا على هذا القرار صارت السلطة الفرنسية تسجل كل المساحات التي أرادت إلحاقها بأملاك الدولة من أراضي القبائل، واعتبرت أن القبائل ليس لها إلا حق استغلالها الوقتي، والغرض الأساسي من هذه التصرفات هو انتزاع الأراضي من يد الفلاحين وإهداؤها للمستعمرين الفرنسيين، وقد أدى هذا الإجراء مرارا إلى تصادم بين الملاكين والقوات المسلحة، وإلى سفك الدماء وقتل الأنفس.
وهكذا وضعت السلطة الفرنسية يدها على مساحات شاسعة من مديريات الأعراض، وقفصة، والهمامة، والفراشيش، وماجر، والسواسي، ومناطق الجنوب، ثم قسمتها بين المستعمرين، بعد أن طردت منها القبائل التي كانت تملكها منذ قرون، وأقصتها إلى أراض قاحلة وجبال وعرة، أو أخذهم المستعمرون كعمال في نفس الأرض التي كانوا يملكونها.
ومتى علمنا أن أراضي القبائل بالقطر التونسي تبلغ مساحتها أربعة ملايين من الهكتارات، أي ثلث مساحة القطر، تتجلى لنا في أشنع صورة خطورة هذه السياسة الفرنسية التي ترمي إلى إفقار العنصر العربي. (8) أراضي الأوقاف
لم تقتصر السلطة الفرنسية على اغتصاب أملاك الدولة وأراضي الغابات وأراضي القبائل، بل ذهبت في اعتداءاتها المتوالية إلى أبعد حد، فتطاولت إلى أوقاف المسلمين، وتقدر مساحة الأوقاف العامة والخاصة بما لا يقل عن أربعة ملايين من الهكتارات، وهو ثلث مساحة البلاد التونسية، ولم يعدم فقهاؤها استنباط الحيل القانونية لتحقيق أغراض الاستعمار، فصدر أمر بتاريخ 13 نوفمبر سنة 1898 يفرض على إدارة الأوقاف أن تضع كل عام تحت تصرف إدارة الاستعمار جزءا من أراضي الأوقاف العامة لا تقل مساحتها عن ألفي هكتار، على أن يتم نقل الملكية بين إدارة الأوقاف وإدارة الاستعمار مباشرة وبدون إشهار.
ولإدارة الاستعمار الحق في اختيار أراضي الأوقاف التي تقرر الاستيلاء عليها، وهي ترسل خبيرا زراعيا يباشر وحده تقويم الأرض، ويكون رأيه فاصلا في تقدير القيمة، وفي جميع شروط نقل الملكية، دون أي ضمان لمصلحة الوقف.
وهكذا لم تحترم فرنسا الشريعة الإسلامية الغراء التي قضت بأن الوقف ملك لا ينقطع، وأنه لا يباع، ولا يرهن، ولا يوهب، ولا يعوض.
ولم تحترم فرنسا إرادة الوقف، فأعلنت أن المؤسسات الخيرية، كالمساجد والمستشفيات ودور العلم، لا يجب أن توقف من أجلها الأراضي، والأجدر أن تعوض هذه بالمباني والفنادق أو حتى بالمال، وقررت أن هذا التعويض مباح بل مرغوب فيه.
وهكذا استولت إدارة الاستعمار على أوقاف المسلمين واغتصبت أخصب الأراضي الموقوفة لجهات البر والتعليم، كل هذا مقابل بعض الدور المهدمة والمباني البالية، الآيلة للسقوط، التي لا يفي دخلها الضئيل بنفقات إصلاحها، أما إذا عوضت أراضي الأوقاف ببناية صالحة للاستغلال؛ فإن هذه البناية تؤجر للإدارة مقابل إيجار صوري فرنك واحد في السنة.
نامعلوم صفحہ
وهكذا توالت اعتداءات فرنسا على الإسلام في بلاد المسلمين، وهدمت النظم القائمة على أساس الشريعة الإسلامية الغراء، بغير مبالاة بما تحميه من مصالح عامة وما تصرف عليه من بيوت الله ودور العلم، وعادت إدارة الأوقاف من الفقر بحيث أصبحت عاجزة عن القيام بشئون المؤسسات العلمية والخيرية، فتهدمت المدارس والمساجد، وأصبح الكثير منها في حالة يرثى لها.
وبعد أن تم لها الأمر واستولت على كل أراضي الأوقاف الصالحة للزراعة، أصدرت بتاريخ 20 يناير سنة 1942 أمرا بإلغاء تشريع سنة 1798، وظنت أنها بذلك تخلصت من آثار الجريمة التي ارتكبتها بالاعتداء على عقيدة البلاد وشريعتها، وسلب أموال المسلمين، والقضاء على دور العلم والمساجد والمستشفيات.
والنتيجة لهذا العمل الذي وقفت عليه إدارة الحماية جهودها منذ أكثر من ستين سنة، هو أن أصبحت جميع الأراضي التابعة لأملاك الدولة، وما ألحق بها من أراضي الغابات، والأراضي الكلية، وأراضي الأوقاف، تحت تصرف «إدارة الفلاحة والاستعمار» التي أسست سنة 1898 لتنظيم توزيع الأراضي على «المعمرين» الفرنسيين.
ويقع التوزيع بطريق البيع الصوري بثمن زهيد يدفع أقساطا لمدة عشر سنوات، ولتسهيل اقتناء المعمرين للأراضي صدر أمر بتاريخ 1 ديسمبر سنة 1892 أعقبه أمر ثان بتاريخ 25 سبتمبر سنة 1900، يتضمن تأسيس «صندوق الاستعمار»، وقد قدمت السلطة الفرنسية لهذا الصندوق من ميزانية تونس مليون فرنك ونصفا عند تأسيسه، ثم قدمت له سنة 1904 ثمان مائة ألف فرنك، وفي سنة 1905 سبعمائة ألف فرنك، وفي سنة 1907 خمسة ملايين اعتمدتها من قرض عقدته الدولة التونسية من فرنسا، وهكذا دأبت السلطة الفرنسية كل سنة على تخصيص اعتماد كبير لصندوق الاستعمار من الميزانية التونسية نفسها، وصارت تضيف إلى هذا الصندوق المال المتحصل من بيع أملاك الدولة للمعمرين، وتستعمل كل هذه الأموال لشراء أراض أخرى توزع على المعمرين وهكذا.
ولم تكتف السلطة الفرنسية بتأسيس هذا الصندوق لتسهيل اقتناء المعمرين للأراضي، بل وضعت تحت تصرفهم أموالا طائلة لاستثمارها، وأسست لهم خاصة بنوكا عديدة للاقتراض منها بدون «فوائد»، إلى غير ذلك من أنواع المساعدات التي تقدمها لهم تشجيعا على استقرارهم بتونس، حتى يصبحوا هم الأغلبية الساحقة في يوم من الأيام. (9) نتائج ومقارنات
وفي أول عهد الحماية ترك امتلاك الأراضي التونسية لمساعي الفرنسيين الفردية، ثم شرعت الإدارة الفرنسية في تنظيم الخطط وتقرير البرامج الواسعة لإقرار الفرنسيين بالأراضي التونسية، فكانت تضع تحت تصرف «إدارة الفلاحة والاستعمار» ما تنتزعه من الأراضي الزراعية من أيدي العرب لتوزعها على الفرنسيين مقابل أثمان صورية مقسطة على آجال، فمن سنة 1900 إلى 1914 سلمت هذه الإدارة من أراضي الشمال مساحات شاسعة بلغت 125 ألف هكتار، بينما منحتهم في منطقتي الوسط والجنوب مساحات قدرها 132 ألف هكتار، وقد ورد في الإحصاءات الرسمية أن مجموع الأراضي التي استولى عليها الفرنسيون حتى سنة 1914 يبلغ 757 ألف هكتار، من أخصب الأراضي التونسية.
وبعد الحرب العالمية الأولى وسعت فرنسا نطاق ما تمنحه من امتيازات لإقرار ألف عائلة فرنسية بالأراضي التونسية، فمن سنة 1919 إلى سنة 1938 وزعت 1191 قطعة أرض بمنطقة الشمال بلغ مجموع مساحتها 143560 هكتار و75 قطعة بالمناطق الوسطى والجنوبية بلغت مساحتها 53605 هكتار.
واستمرت هذه السياسة الرامية إلى إجلاء العنصر التونسي من الأراضي الخصبة وإقصائه إلى الأراضي القاحلة حتى يومنا هذا.
ومما يجدر ذكره أن عدد السكان الذين يعيشون من الزراعة يقدر بمليون وثمانمائة ألف نسمة، منهم 400 ألف يتصرفون في الأراضي المزروعة حبوبا و450 ألفا يتصرفون في الأراضي المغروسة بالأشجار، والبقية - وهم مليون نسمة - يمثلون طبقة العمال والفلاحين. وتحتل الأراضي الصالحة لزراعة الحبوب - وهي الأصل في الزراعة التونسية - مساحات قدرها 2934000 هكتار؛ أي 22,6٪ من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة، وليس في أيدي التونسيين منها سوى مليون هكتار، والبقية بأيدي المعمرين الفرنسيين والأوروبيين، وعددهم خمسة آلاف نسمة.
وكان من نتائج هذه السياسة التي جعلت الفرنسيين يستولون على قسط كبير من الأراضي الخصبة، وجزء وافر من الإنتاج الزراعي، أن عم الفقر بين طبقات الفلاحين، وكثرت فيهم البطالة، وانخفض مستوى معيشتهم وأصبحت تغذيتهم ناقصة، وصاروا مهددين بالمجاعات التي تنتشر بينهم انتشارا سريعا بمجرد ما تحل أزمة من الأزمات.
نامعلوم صفحہ
وكان أعظم نتيجة لاغتصابهم الأراضي الواسعة أن تكونت فيهم نفسية الإقطاعيين الكبار من غير ميزات الأرستقراطية، فيعتبرون التونسي خادما لهم ورقا ينبغي ألا يرتقي إلى مستوى البشرية، ويعبرون عن ذلك بسذاجتهم التي لم يفارقوها بعد في ألفاظ وقحة لا احتشام فيها ولا حياء. وقد أظهر أحدهم ما في نفس الجميع وهو جول بينيون
Jules Peignon
المستعمر الذي يملك أكثر من 7 آلاف هكتار في جهة «سوق الأربعاء» الخصبة، وهو أيضا عضو بارز من أعضاء «المجلس الكبير»، عندما طلب منه رئيس جمعية رفع الأمية أن لا يعارض في منح هذه الجمعية إعانة من ميزانية الدولة لبناء المدارس الشعبية، قال:
لا يمكن بحال أن أوافق على هذه المساعدة؛ لأن التونسيين لو تعلموا لما رضوا بأن يبقوا عمالا عندنا في أراضينا، فنفقد هكذا اليد العاملة اللازمة لنا.
وقد حلل أحد الكتاب الفرنسيين الأحرار «دانيال جبران» تلك العقلية الإقطاعية في مقال نشرته مجلة
Les Temps nouveaux
بعددها 87 الصادر في يناير 1953، قال:
إن في قلوبنا لشفقة على شمال أفريقيا؛ لأنها تخضع لنير إقطاعية ترابية من أشد وأقسى الإقطاعيات التي عرفها التاريخ، وإن المشكلة من هذه الناحية اجتماعية أكثر منها وطنية، وهي وطنية بقدر ما تكون تلك الإقطاعية أجنبية عن المغرب وبقدر ما تعتمد على حق الغزو والفتح، ولكن سلطانها الأساسي اقتصادي، وهي ككل الإقطاعيات مركبة من أقلية ضئيلة، وإن المليون ونصف المليون من الأوروبيين
3
بين مستعمرين صغار لا قيمة لهم وموظفين كالجراد عدا، ليسوا غير قطيع سهل الانقياد تسيره تلك الإقطاعية كما تريد بتغذية الروح العنصرية فيه، ولكن السادة الحقيقيين لا يفوق عددهم الثلاثين ألفا: عشرون ألف مزارع تقريبا بالجزائر وخمسة أو ستة آلاف بتونس، وخمسة آلاف بمراكش، وقد نجحوا في الاستحواذ سواء بالعنف أو بالحيلة على أخصب الأراضي وقطعوا لأنفسهم منها أملاكا أصغرها مساحة لا يحتوي على أقل من مائتي هكتار، وأوسعها يتراوح بين عشرة آلاف هكتار وخمسة عشر ألف هكتار. ... ولم يكتف هؤلاء المزارعون بإعفاء مفضوح شنيع من الضرائب، بل تغدق عليهم الإدارة العامة المنح من غير حساب؛ أي إنها تتكرم عليهم بما تفرضه من جبايات على الأهلين، وتكفي إشارة منهم لتسرع إدارة الأشغال العامة في تعبيد الطرق لهم ومد السكك الحديدية، وبناء الجسور وإحداث ما يلزم لري الأرض.
نامعلوم صفحہ
ولم يستحوذوا على الأرض فقط، بل احتكروا المياه القليلة الثمينة بشمال أفريقيا، ويتصرفون في اليد العاملة كما يشاءون، ولإبقائها راضخة طائعة فإن المحاكم والعمال (المديرين) والسجون والقوة العامة تحت أوامرهم وتحت تصرفهم، ويقيمون أحيانا سجونا خاصة في وسط مزارعهم لمن يظهر عدم الطاعة من عمالهم. ... وتكونت روابط متينة بين المستعمرين الكبار والشركات الصناعية والمناجم والبنوك، وتكتلت تلك المصالح الكبرى ضد «الأهلي»، ورفضت كل تنازل وكل إصلاح ... وعوض أن تقبل حلا وسطا يكون فيه إرضاء جماهير الأهلين، فهم يتشددون في موقفهم الرجعي، ولا يتكلمون إلا عن القمع والعقاب والنفي والخلع عن العرش والرمي بالرصاص، ولو أفسحنا لهم المجال لما كانوا ليتأخروا عن إضرام المغرب نارا ودماء مفضلين ذلك على التفريط في أقل جزء من سلطانهم، وذلك ما وقع بالفعل في أقطار أخرى.
4
وإن صنيعة المستعمرين الفرنسيين بتونس «الكونت دي هوتكلوك» بصدد إشعال حريق بشمال أفريقيا لا يقل عن الحريق الذي أشعله الأميرال «دراجانليو» وراءه بالهند الصينية المنكوبة، وقد كتب أخيرا ملاحظ أمريكي: «من الضروري العاجل أن تسترجع باريس رقابتها على السياسة الفرنسية بتونس، وإلا فإن هيكل فرنسا بشمال أفريقيا سينهار.»
ومن أعجب ما يجده الباحث في البلاد التونسية أن البلاد وميزانيتها مسخرة لخدمة الموظفين الإداريين، بخلاف ما يقع في الدنيا بأسرها من أن الموظفين مجعولون لخدمة الدولة والبلاد، فعددهم في تونس يزيد على الثلاثين ألفا، معظمهم من الفرنسيين، يتقاضون - كمرتبات ومنح - أكثر من ثلثي الميزانية. وقد أظهرت الإحصاءات الأخيرة أن 70 ألفا من الفرنسيين (المكونين من الموظفين وعائلاتهم) يعيشون عالة على الخزينة التونسية.
وبعد أن استحوذوا على جميع مناصب النفوذ والسلطة يتصرفون فيها كل حسب أهوائه ومطامعه؛ مالوا إلى الوظائف الصغيرة يعمرونها بأتباعهم وأفراد عائلاتهم نساء وأطفالا، حتى أصبح مدير الإدارة من الفرنسيين ورؤساء المصالح منهم والكتبة والبوابون، بل أصبح أيضا ساعي البريد والشرطي والسجان منهم أيضا، كأن تلك الوظائف البسيطة تستوجب معارف معينة ومؤهلات لا توجد إلا عند الأخصائيين الفرنسيين، وأن عدد هؤلاء الموظفين في ازدياد مطرد ألحق بهم من فر من الألمان أثناء الحرب ومن طرد من سوريا ولبنان ومن هرب من جحيم الحرب في الهند الصينية ومن تجنس جديدا من الأوروبيين.
وقد استصدرت فرنسا مرسوما جعلت بمقتضاه جميع الكنوز المعدنية ملكا للدولة، ثم وزعتها على شركات فرنسية تستثمرها لفائدتها، ولم تستثن إلا مناجم الفوسفات فسمحت بتملكها لبعض الشركات الفرنسية أيضا.
وإذا أضفنا إلى ذلك شركات الضوء والكهرباء والنقل والبنوك، يمكن أن نتصور مدى السيطرة الفرنسية على الاقتصاد التونسي وما تتمتع به الجالية الفرنسية من امتيازات جعلت في قبضتها جميع إمكانيات البلاد، فلهم جميع الحقوق من حرية وكسب وإثراء ولسماع كلمتهم وتنفيذ أغراضهم معتمدين على الإدارة التي في خدمتهم وطوع أمرهم، وعلى قوات البوليس التي لا تكتفي بحمايتهم وحماية أرزاقهم ومصالحهم، بل تسرع إلى تنفيذ إرادتهم، بل تفاقم أمرهم إلى أن أصبح البعض منهم يسجن من يريد من التونسيين في سجنه الخاص ويفرض الغرامات على عماله كأنه دولة في الدولة.
ولقد اعتادوا مدة أحقاب متوالية على تسيير الشئون العامة كلها والسيطرة على أنظمة الدولة واتخاذها آلة لخدمتهم ومنبع رزق لهم ولذريتهم، فسخروها تسخيرا كاملا لفائدتهم حتى ساد الاعتقاد بينهم أن مصالحهم الخاصة الفردية هي التي يجب أن تراعى قبل كل شيء، وظنوا أنها وحدها هي المصالح الفرنسية كلها، وذهب بهم الغرور إلى أن ثاروا على فرنسا نفسها كلما عارضت مصالحها العليا مصالحهم الشخصية، ولذلك باتوا ينظرون إلى «المقيمين العامين» - أي للممثلين الوحيدين للدولة الفرنسية بتونس - على أنهم خدام لهم ولمصالحهم، وكل مقيم عام أراد الحد من شرههم والتخفيف من امتيازاتهم المجحفة ناصبوه العداء وشهروا به، بل يريدون من كل مقيم عام أن يسير في ركابهم ويطأطئ الرأس أمامهم ويزيد في امتيازاتهم، فلا تستغرب إذا رأينا بعض المستعمرين - والحالة مماثلة في أقطار المغرب العربي كله - يتغنون بسلطانهم في تعيين المقيمين العامين وعزلهم، إلى أن تذمر الرأي العام الفرنسي بباريس وكتبت جريدة ليموند
Le Monde
بتاريخ 14 / 2 / 1951 تصف نفوذ أوكوتييرييه
نامعلوم صفحہ
Aucouturier
أحد المستعمرين الأغنياء في جهة مكناس بمراكش، قالت:
إن الإنسان ليدهش عندما يرى الدور الذي يلعبه بعض المعمرين، بلون بشرته الزاهي وصوته الجهوري وانكبابه على الشغل وصحته الجيدة، ولكنه يمتاز بنفسية الفلاح الصغير الذي أثرى بسرعة فائقة، وأصبح مليونيرا، ولو كان بفرنسا لما ارتقى إلى أكثر من عضوية في مجلس محلي، ولكن الرجل يتباهى بأنه قادر على تسمية أو عزل المقيمين العامين، ولسنا على يقين من أن دعاءه هو مجرد رياء!
وهم يخشون أي تبديل في الوضع الحالي ويرون فيه خطرا عليهم، حتى إنهم قاموا قومة الرجل الواحد ضد لويس بريليه
Louis Perillier
المقيم العام الفرنسي بتونس، لا لأنه أرضى التونسيين، ولكن لمجرد إظهاره الاستعداد للتفاهم معهم، فأقاموا الدنيا وأقعدوها ضده وعيدا وتهديدا، وملئوا الصحف بيانات وتصريحات، وخاطبوا رأسا رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة الفرنسية ووزير الخارجية، حتى قالوا في برقية إلى «روبير شومان» مرسلة في 20 / 11 / 1951 من طرف جميع ممثلي المؤسسات السياسية:
إن السكان الفرنسيين ينكرون على «المسيو بريليه» أن يكون له الحق في التكلم باسم فرنسيي تونس الذين خان ثقتهم ... وإنهم سيدافعون عن منشآت فرنسا بجميع الطرق ...
وإن موقفهم هذا ليس فريدا من نوعه، بل هو موقف دائم لم يتغير، حتى إن الوزير الفرنسي فينو
Vienot
أراد إيقافهم عند حدهم لما زار تونس وألقى في محطة إذاعتها خطابه الشهير في 1 / 2 / 1937 وندد بهم وكان صريحا مقداما، فقال:
نامعلوم صفحہ