وأعان الحزب على تكوين منظمات قومية كبرى تعمل تحت إشرافه العام في الحقل السياسي وتشتغل كل منها بناحية من نواحي الحياة. (5-1) الاتحاد العام التونسي للشغل
إن الاتحاد العام التونسي للشغل أعظم منظمة قومية تونسية؛ لأن العمال يكونون الطليعة في كل شعب والقوة الفعالة في النضال، وهم أصحاب السواعد المفتولة والشعور البشري الصحيح والثبات على المبدأ وأعرف الناس بالظلم والظالمين، وهم رجال الإنتاج، يسهل تنظيمهم لاجتماعهم مئات وآلافا في محل عملهم، وإن ما يرونه يوميا من بذخ المستعمرين وشرههم واحتكارهم للأرباح الطائلة يجعلهم لا يطيقون صبرا على البقاء فيما هم فيه من فاقة وعراء ومسغبة.
وقد شرع العمال التونسيون في تنظيم صفوفهم في نقابات تونسية للذود عن حقهم المغصوب والسعي في رفع مستواهم الحيوي في عام 1922، تحت قيادة شاب نشيط ممتاز تخرج من مدارس الهندسة، وهو محمد علي القابسي الذي أحدث حركة نقابية قوية بما بثه من روحه الثائرة في قلوب أتباعه. وقد تولدت حركة هذا الزعيم النقابي وسط الكفاح؛ لأنه بمجرد ما كون (الجامعة العامة للعمل التونسي) سنة 1924، وقفت القوات الاستعمارية في وجهه وصمت الآذان عن مطالب العمال المشروعة، فما كان منه إلا أن أعلن إضرابا عاما، وكانت نقطة ارتكازه ميناء «بنزرت». وجاءت القوات الفرنسية تعزز أصحاب رءوس الأموال الاستعماريين، فقتلوا وشردوا وألقوا القبض على عشرات من بينهم محمد علي، وأحالوهم إلى المحاكم الفرنسية التي حكمت عليه بالنفي المؤبد سنة 1925، فهاجر وطنه مجبرا ومات بالحجاز فريدا وحيدا.
وكانت الأسباب التي انهزم أمامها محمد علي متنوعة، أعظمها تألب جامعة النقابة الفرنسية العامة والحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الشيوعي الفرنسي والأحزاب الاستعمارية اليمينية التي حملت في صحفها حملة شعواء على النقابات التونسية لانسلاخها عن النقابات الفرنسية من جهة ، ولما فيها من خطر يهدد المصالح الاستعمارية من جهة أخرى، فلم تجد الحركة النقابية الأولى مدافعا ولا نصيرا، ولكن الفكرة التي شرع محمد علي في تنفيذها لم تمت معه، وتأسست سنة 1937 من جديد (الجامعة العامة للعمال) ونشرت فروعها في المملكة التونسية كلها بسرعة عجيبة، وكان الحزب يؤازرها بكل قواه، وهذا من أكبر أسباب نجاحها، ولكنها لم ترق الاستعماريين، خاصة وأن العمال بعد أن تكتلوا وطالبوا بحقوقهم من غير جدوى أخذوا يقومون بالإضرابات المتوالية، فتذمرت الشركات الفرنسية الكبرى من هذه الحركة، واستنجدت مناجم الفوسفات بقوات البوليس والجيش التي وضعتها السلطات الفرنسية تحت تصرفها، فاحتلت المناجم وأخذت تقاوم العمال مقاومة شديدة عنيفة، وهاجمتهم هجمات متوالية دامية أسفرت عن عشرات من القتلى ومئات من الجرحى في مناجم المتلوي والعرائس والمضيلة والجبل الأبيض والمتلين، فقام الشعب التونسي بأسره بإضراب عام غضبا لعماله وآزرهم في مصابهم، وأرسل إليهم من كل أنحاء المملكة الإعانات والإسعاف. ولما هبت العاصفة على الحركة الوطنية التونسية جرفت في أعاصيرها الجامعة العامة للعمال سنة 1938، فذاق القائمون بها ألوانا من العذاب والسجون، ولحق الاضطهاد الاستعماري حركة العمال كما لحق الحركة الوطنية نفسها.
وبعثها الزعيم النقابي العالمي الشهيد فرحات حشاد عام 1944 بعثا جديدا وكساها صبغتها الحالية، ووجهها توجيها نقابيا صحيحا، وافتك الحرية النقابية من السلطات الاستعمارية افتكاكا عندما وضعها أمام الأمر المقضي عام 1944 بتكوين نقابات حرة بمدينة صفاقس، ثم عم نشاطه المملكة كلها، وحصل على الاعتراف القانوني بنقاباته الحرة، وساند الحزب الحر الدستوري الحركة العمالية الفتية مساندة قوية كلية؛ لأن الحركة العمالية أصبحت من الأسس الثابتة في تكييف مستقبل تونس، ولأنها قوة من أعظم قوى البلاد اندفاعا واستماتة. وسرعان ما انتظم العمال - من تونسيين وغير تونسيين - في صفوف هذه الحركة الجبارة، فأصبح عددهم يفوق المائة ألف، وخاضت المعارك الواحدة تلو الأخرى للدفاع عن حقوق أعضائها، وتوالت الإضرابات، فأرادت السلطات الفرنسية أن تنزل بها الضربة القاضية قبل أن يستفحل أمرها، واغتنمت فرصة الإضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل، في يناير 1948 والذي نجح نجاحا باهرا في المملكة كلها، فعطل جميع المصالح وأوقف المواصلات والإدارة، وتآمرت تلك السلطات مع الجيش الفرنسي. وبينما كان العمال المضربون في محطة قطار صفاقس يحافظون على تنفيذ الإضراب، هاجمتهم القوات المسلحة في الصباح المبكر بدون سابق إنذار، وأطلقت عليهم وابلا من الرصاص، وهرع العمال من كل صوب لمكان المعركة وخاضوها وهم عزل من كل سلاح، واقتحموا الدبابات وافتكوا منها المدافع الرشاشة، ولم يتقهقروا إلا بعد أن تكاثر عليهم الجنود من كل صوب، ومات منهم ثلاثون شهيدا وجرح مائة وخمسون، واعتقلت السلطات الفرنسية عقب ذلك مئات من العمال وأودعتهم السجن. وقد تظاهر الشعب التونسي بأسره احتجاجا على هذا الاعتداء الدامي، وقدم أعضاء بلدية صفاقس استقالتهم، وحملوا السلطات الفرنسية مسئولية هذه الحوادث، ولكن السلطات الفرنسية مع ذلك قدمت زعماء الحركة النقابية إلى المحكمة الفرنسية، فأصدرت عليهم في 20 يناير سنة 1948 أحكاما قاسية.
ورغم ذلك الاضطهاد لم تتمكن السلطات الفرنسية من القضاء على الاتحاد العام التونسي للشغل الذي زادته دماء الشهداء رسوخا واعتدادا بالنفس وثبتت أقدامه ومتنت بنيانه، فخرجت الحركة النقابية من تلك المعركة أقوى وأكثر اندفاعا وأشد مراسا، فبعد أن نظمت العمال في المدن مالت إلى إخوانهم المتفرقين في المزارع، إلى العمال الفلاحين تشد من أزرهم وتتمسك بحقوقهم وتناضل عنهم حتى كسبت لهم حق الانخراط في نقابات لهم، ثم دربتهم على النظام والنضال ورفعت أجورهم، ولكن المستعمرين الفرنسيين رأوا في ذلك تحديا لهم وخطرا مباشرا يهدد مصالحهم، فناصبوا النقابات العداء وخرقوا قوانينها العامة، ولما أضرب عمال الشركة الفلاحية الفرنسية (شركة النفيضة) في وقت الزراعة استنجدت بالقوات العسكرية الفرنسية التي أخذت تطارد العمال وتخرجهم من بيوتهم وتتبعهم رميا بالرصاص، حتى قتلت منهم عددا وافرا من بينهم امرأة حامل، فقام القطر التونسي قومة الرجل الواحد احتجاجا على ذلك العسف، والتف الشعب التونسي حول عماله المضطهدين، وكان يوم تشييع جنازة الشهداء يوما مشهودا حضره نجل الملك نائبا عن أبيه والوزراء التونسيون وقادة الحزب الحر الدستوري التونسي وممثلون عن جميع المؤسسات التونسية. وإذا بدماء الشهداء توحد مرة أخرى صفوف تونس وتقرب بين القلوب وتطهر النفوس وتزرع فيها روح التآخي. وألقى معالي الأستاذ محمد بدرة على لسان الوزارة التونسية خطابا عبر فيه عما يختلج في ضمير التونسيين جميعا، قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
باسم جلالة الملك المعظم، سيدي محمد الأمين الأول، صاحب المملكة التونسية، دام له العز والبقاء، وبالنيابة عن وزارته المخلصة المتفانية في خدمة شعبه النبيل، وأصالة عن نفسي بصفتي وزيرا للشئون الاجتماعية؛ أقف والقلب متصدع أسى أمام جثث هؤلاء الشهداء الأبرار الذين سقطوا كما سقط كثيرون من قبلهم.
أقف بينكم جميعا لكي أعرب عن الحزن العميق الذي يخالج في هذا اليوم الرهيب صدر الأمة التونسية قاطبة، وفي مقدمتها ملكها المفدى ووزارته الوفية، التي بذلت منذ أسابيع قصارى الجهد للتفادي من المأساة التي نحياها اليوم، والتي تشتد وطأتها أيما اشتداد على أفئدتنا عندما نعلم أنه كان من الممكن بل من السهل اجتنابها؛ فقد كنا على قاب قوسين أو أدنى من الحل الذي من شأنه إرضاء المضربين وإعادة السلم والراحة لنصابها، فإني بعد ما طمنت خاطر العملة المضربين وطلبت منهم ملازمة الهدوء والسكينة بواسطة نوابهم الشرعيين طلبت أيضا بإلحاح من مدير الشركة أجلا إلى أن يصدر بلاغ مجلس الوزراء الذي انعقد كما تعلمون يوم الثلاثاء في الساعة الرابعة مساء، وقد انفجرت المأساة بكل أسف في نفس ذلك اليوم حوالي الساعة الثانية بعد الزوال أيضا، لكن أبت الأقدار إلا أن تجد ما جد، ونحن - المؤمنين بوجود الله تعالى، العامرة قلوبنا بتقواه، الصابرين والمصابرين على الضيم والعدوان، الجادين في مقاومته بالحجة والإقناع - لا نرى في هذا المصاب العظيم الذي حل بأمتنا في أبنائها الضعفاء المساكين إلا محنة تكون عاقبتها بحول الله الفرج؛ لأن في اتحادنا الهادئ الوديع وفي صمودنا خاشعين صابرين في هذا اليوم أمام موتانا الذين ذهبوا ضحية اعتداء فظيع لا مبرر له؛ لأن المضربين لم يطالبوا إلا بحق مشروع وبأساليب مشروعة، قلت: لأن في اتحادنا عبرة لمن لم يعتبر لحد الآن ، ولمن لا زال يفضل استعمال القوة على حسن التفاهم ومعالجة الأمور بالتي هي أحسن؛ لأن لكل قوة قوة أكبر، وقوة الله التي نحن متمسكون بها فوق كل شيء.
نامعلوم صفحہ