ومن البديهي أن الحركة الوطنية كجميع ما يقوم به البشر، إذا كانت لا تبلغ الازدهار ولا تأتي ثمرتها إلا بالعمل المتدارك والتضحية المتوالية، فهي للفكر أحوج وللروية والعقل مضطرة اضطرارا؛ إذ السياسة ميدان تتبارى فيه المواهب والفطن، وتتمارى فيه الأذهان والأفكار، فتكون الغلبة لمن هو أرجح عقلا وأنصع تمييزا وأحد ذكاء وأجسر قلبا وأقل تهورا، وقد سلم الشعب التونسي لرجال الديوان السياسي قيادته، والتف حولهم، ومنحهم ثقته، وحكمهم في الأموال والرقاب بعد أن سبر غورهم وجربهم المرة تلو الأخرى، ورآهم صابرين ثابتين كالجبال الرواسي، لا تتغلب عليهم الأحداث، ولا تقهرهم المصائب، ولا يخضعهم عذاب، ولا يفل في عضدهم نفي ولا سجن، ولا حر الصحاري المحرقة، ولا ثلوج معتقلات فرنسا المبيدة؛ إيمان لا يتزعزع وعزم لا ينثني، وعمل لا ينقطع. وكان يقين القادة لا تردد فيه في أن الشعب سيعينهم على تحقيق ما وضعوه من خطة، وقد سار فعلا في الطريق التي عبدوها.
وكانت الحرب إذ ذاك تطحن القسم الأكبر من آسيا وأوروبا وأفريقيا، والقوات الألمانية في مدها متقدمة قبل أن يأتيها الجزر، وكانت عواطف غالب العالم العربي إلى المحور أميل، وعن الحلفاء منحرفة؛ لما ناله من بعضهم من ظلم وعدوان واستعمار. وقد رأى شعب تونس قوات الجيوش النازية تحتل باريس وترغم أنف فرنسا وتتغلب عليها قهرا في أيام معدودات، فانساق جزء كبير من التونسيين - مثقفين وعمالا وأغنياء - إلى حب الألمان والشماتة بخصمهم المنهار، ولكن الحبيب بورقيبة رأى خطر الاندفاع العاطفي، فعدد الإنذارات إلى تونس وسانده رفاقه المساجين معه لإبعاد التونسيين عن الارتماء في أحضان المحور؛ لأن السياسة الرشيدة لا تقام على العواطف ولا تنقاد للأهواء، ولكنها تسير حسب مصالح الوطن العليا، فماذا تنتظر تونس من المحور غير تقديمها هدية إلى موسوليني. ونحن نعلم ما فعله الإيطاليون عامة والفاشيون خاصة في ليبيا، فليس من الرشد في شيء أن نخرج من استعمار فظيع لنقع في استعمار أفظع، أضف إلى ذلك اقتناعنا بهزيمة المحور، وينبغي لتونس ألا تكون في شق المغلوبين، وقد تحققت تنبؤات الحبيب بورقيبة كلها، فلما أخرجنا الألمان من سجون فرنسا سلمونا إلى الطليان، وجرت محادثات مع المسئولين هناك، فلم نقبل كأساس للمفاوضة إلا الاعتراف حالا باستقلال تونس وتسليم النفوذ بها إلى التونسيين، فأجاب نائب وزير الخارجية الإيطالية: «هل تظنون أن إيطاليا خاضت الحرب لتهب لكم تونس، وهي إنما تريدها لنفسها.» ففسدت العلاقات منذ ذلك اليوم بين القادة الوطنيين وبين الحكومة الإيطالية، ولما رجعوا إلى تونس أسرعوا إلى بث فكرة الحياد، ثم الاتصال مع ممثل أمريكا لدى السلطات التونسية القنصل «دوليتل» خلال واجهة القتال، فكان أكبر عون لهم فيما بعد.
وكان هكذا اختيار القادة لمعسكر الحلفاء - رغم وجود فرنسا بينهم - أكبر ضمان لحياة الحركة الوطنية وبقائها، واستمرارها.
وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى تعالت أصوات الشعوب المغلوبة على أمرها، وصرخ مئات الملايين من البشر مطالبين بحقهم في الحرية والاستقلال، واكتسحت موجة التحرير القسم الأكبر من آسيا، وكأنها توقفت قليلا عند حدود أفريقيا، وكان ميثاق الأطلنطي ثم ميثاق سان فرنسيسكو ثم تأسيس الأمم المتحدة، مبعث الآمال الجسام والدليل على أن الموازنة العالمية قد تغيرت، وأن أوروبا الغربية المستعمرة لم تبق صاحبة الكلمة النافذة والسيطرة المطلقة على البحار السبعة والقارات الخمس، بل أصبحت هي نفسها بين عملاقين عظيمين: روسيا الشيوعية في الشرق، والولايات المتحدة الأمريكية في الغرب.
فما هو حظ تونس يا ترى من هذا الانقلاب العالمي، فقد ساعدت الظروف العالمية بعض الشعوب على نيل استقلالها الأسمى، ولكن الاستقلال الحقيقي لا يوهب ولا يعطى، إنما يؤخذ ويفتك، ولا يحصل عليه من الشعوب إلا من كان أهلا له، وقد قطع الشعب التونسي المرحلة الأولى الأساسية في سيره نحو الاستقلال، فتغلغلت الفكرة الوطنية في نفسه، وبلغت الدعوة جميع الطبقات، واكتسحت المدن والقرى والبوادي، ولم تبق مجرد عاطفة وحماسة واندفاع، بل تبلورت العاطفة في فكرة واضحة جلية، وفهم الشعب في مجموعه أن الروح الوطنية ترمي إلى عمل إيجابي وبناء وتشييد في جميع الميادين، وتكوين قوة فعالة لإنجاز تلك المشاريع، بقدر ما ترمي إلى سد الأبواب في وجه الخصم الاستعماري اللدود ومكافحته دوما واستمرار مكافحة لا تنقاد للبغض الأعمى والكراهية المتنطعة، بل فيها التمييز الواضح بين حاملي الفكرة الاستعمارية وغيرهم من الفرنسيين أنفسهم، وأن لا عدو غيرهم، فيعمل على جلب بقية الجاليات الأجنبية واستمالتها، ويسعى لإقناع الفرنسيين الأحرار ليكونوا أعوانا له ودعاة لقضيته العادلة.
فأقام شعب تونس الدليل تلو الدليل على أنه بلغ رشده السياسي واكتمل وعيه القومي، وتعمق في شعوره الوطني، وأصبح يتفهم أدق المواقف السياسية، ويوجه ضرباته إلى خصمه الوحيد: الاستعمار وأنصاره، وبعد جهاد مرير مستمر خاضه وراء حزبه - الحزب الحر الدستوري - طيلة عشرين سنة، صبر وصابر وثبت وغامر فيها، أصبح لا يخشى عليه من التفكك والابتلاع، واقتنع أنه شعب عربي مسلم صاحب مجد تالد ومدنية خالدة وتاريخ عظيم، وأعرب عن إرادته الراسخة في أن يحيا حياة العزة والكرامة، وأن يقيم على تراثه الباقي، مجتمعا جديدا ونظاما حديثا ومدنية تماشي روح العصر الحاضر. ففي إمكان القوة الاستعمارية الغاشمة العمياء أن تزهق الأرواح وتعذب الأشخاص وتفسد الأقوات والأموال وتخرب البيوت، وفي إمكانها أن تسجن الأجسام وأن تضيق عليها، ولكن يستحيل عليها أن تقتل الفكرة الحرة الطليقة التي تعددت بتعدد معتنقيها، ونمت وانتشرت، وسكنت النفوس التي لا تسجن، وتغلغلت في القلوب التي لا تغل، وأصبحت عقيدة وإيمانا لا يقتلع.
ومنذ ذلك الحين شرعنا في المرحلة الثانية الأساسية، وهي معركة افتكاك النفوس السياسي ونقله من يد الفرنسيين إلى أيد تونسية، وهو عمل إيجابي صعب محفوف بالأخطار؛ لأن الاستعمار الفرنسي توغل في البلاد وتغلغل، ورمى عروقه في أرضها وانتشر على سطحها.
فالمراكز الرئيسية في الإدارات التونسية كلها، ومعاقل النفوذ والسلطة بها في قبضة الفرنسيين، حتى إنها أصبحت آلة مسخرة لخدمة مصالحهم والمحافظة على امتيازاتهم المجحفة، والتشريع وسن القوانين في أيديهم أيضا، قد مكنهم من إعطاء اعتداءاتهم المتوالية صبغة قانونية وطلاء شرعيا كاذبا، والمال الذي تخضع له الرقاب وتقوم عليه الأعمال في تصرفهم؛ إذ إنهم يتحكمون في الميزانية التونسية - دخلا وخرجا - كما تمليه عليهم أهواؤهم ومصالحهم.
ثم إن الاستعمار الفرنسي مال إلى نفوس قسم من التونسيين يدنسها ويفسدها، بل يختار أسقط الناس وأحطهم خلقا وأطوعهم لإرادته وشهواته، وإن كانوا خلوا من كل ثقافة أحيانا، فاقدين لكل ضمير، فيتخذهم أعوانا أذلاء خانعين ويسند إليهم المناصب العالية والوضيعة، ويطلق يد أطماعهم في أرزاق الناس، ويفتح لهم أبواب الارتشاء على مصراعيها، ويجعل من عباد الدرهم والدينار، الذين يسيرون في ركب كل قوي جبار، ويميلون مع النفوذ حيث مال كالظل التابع لصاحبه، صنائع له ومريدين، فيكون زمرة من الخونة المارقين، قد تعودوا الخيانة ومرنوا على الغدر والنفاق، حتى إنهم أسرعوا إلى خيانة أسيادهم الفرنسيين عندما احتلت جيوش المحور تونس، وباتوا أكثر نازية من الألمان أنفسهم. وقد انتقم الفرنسيون من بعضهم وحكموا عليهم بالإعدام كعلي بن ضياف الذي كان عاملا (متصرفا أو مديرا) في الجنوب التونسي أثناء الحرب، ثم عفوا عنهم وأرجعوا أكثرهم لمناصبهم، وهؤلاء هم أصدقاء فرنسا.
ثم إن الاستعمار الفرنسي بقي بتونس سبعين سنة، فوجد من الوقت ما يكفيه لمعرفة سهولها وجبالها، وقراها ومدنها، والمراكز الاستراتيجية المهمة فيها، والطرق المتحكمة حربيا في أجزائها، فاحتلها جميعا بقواته العسكرية، وبث البوليس الفرنسي في كل مكان، وجعل من الجندرمة - أي الدرك الوطني الفرنسي - أسيادا يسيطرون على داخل المملكة كلها، بدعوى المحافظة على الأمن، وبنى لهم من الميزانية ثكنات كالقصور في كل مكان، وأغدق عليهم من مال التونسيين ما يمكنهم من شراء الضمائر وتكوين العيون في الأسواق، وأحياء القبائل وغياض المزارعين والفلاحين، فتمكن هكذا من الاستيلاء على القطر التونسي استيلاء عسكريا بوليسيا شديدا محكما.
نامعلوم صفحہ