انقلاب شاعری جدید
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
اصناف
القصيدة تزخر إذن بالسلبيات. تنعكس هذه السلبيات في البداية على الأشياء: فالزهرة لا وجود لها، والكائن الأسطوري (السلف) غير موجود، والزهرية خالية إلا من الفراغ، ولكن الشاعر يريد ما هو أبعد من هذا. إنه يريد أن يعبر عن مقولة السلب كماهية وحقيقة في ذاتها تنتشر على الأشياء وتتجاوزها. ولا بد أن «الكلمة» تحتمل مثل هذه الماهية المجردة غاية التجريد، وإلا لما أمكن أن تنشأ مثل هذه القصيدة. فهي تقول كلمات ولا يمكن أن تقول غير الكلمات. ولكنها تحولها بحيث تصبح علامات على تلك الماهية أو المقولة المجردة. ومعنى هذا أيضا أن السلب أصبح حاضرا في الكلمة لأنها استطاعت أن تقول شيئا لا حضور له في المادة والواقع. ولكن هذا الهدف لا يتحقق بصورة كاملة. فالكلمة لم تستطع أن تتوصل «لزهرة الخلاص»، أي لم تحقق العدم أو بمعنى آخر لم تحقق المثالية الخالصة عن طريق اللغة. هذا الفشل في التحقق اللغوي المطلق (للعدم أو للمثالية الخالصة) هو الذي صار كلمة، أي صار هذه القصيدة، وكأن خيبة الطموح الأنطولوجي قد نجحت في أن تصبح قصيدة.
ربما خطر لنا من هذا كله أن شعر مالارميه غامض. والواقع أن العناء الذي نبذله في فهمه أو تفسيره لا يمنع من القول بأنه في صميمه شعر واضح، يبلغ أقصى درجات الوضوح والصفاء. إن لغته أشبه ما تكون بالسر المن غم، الذي يحاول أن يحمي الفكرة الأنطولوجية شر الذبول.
ولكن هذا كلام يجيء قبل أوانه، فلنؤجله إلى الفصول القادمة التي ستتناوله بالتفصيل. (2) تطور الأسلوب
يعتبر مالارميه أحد الفنانين القلائل الذين لم يتعجلوا، بل تركوا لأنفسهم الوقت الكافي على حد قول التعبير الدارج. ونظرة واحدة إلى تاريخ حياته كما كتبه في رسالة قصيرة جميلة إلى صديقه الشاعر فيرلين (الطبعة الكاملة، ص661-665) ترينا كم صبر واحتمل وقاوم، وكم عكف السنوات الطوال على صياغة قصيدة واحدة من قصائده القصيرة، عكوف الزاهد على صلاته أو النحات على تمثاله أو الصائغ على جوهرته النفيسة. نشأ في أسرة كان جل أفرادها من كبار موظفي الإدارة والسجلات، ولكنه رفض هذا المصير الذي حدد له منذ الطفولة، وصمم على أن يستخدم قلمه في شيء آخر غير الملفات والسجلات. وصبر، كما يقول، صبر الكيماوي القديم الذي يضحي بالغرور والطمأنينة، ويحرق أثاثه وأعمدة سقفه لكي يغذي نار الفرن الذي تختمر فيه تجربته الكبيرة. كان ينشر هنا وهناك مقطوعات نثرية وقصائد متفرقة وترجمات عن الإنجليزية ودراسات مختلفة (مثل كتابه عن الكلمات الإنجليزية أو كتابه عن الآلهة القديمة). ولكنه ظل طوال حياته يحلم بعمل كبير، بكتاب واحد يصمم بناءه ويفكر فيه على مدى العمر ويكون على حد قوله هو التفسير «الأورفي» للأرض، فيحقق به الواجب الوحيد المطلوب من الشاعر «واللعبة الأدبية الحقيقية». ولقد عانى الكثير من وظيفة كريهة إلى نفسه (فقد كان معلما للغة الإنجليزية بإحدى المدارس الثانوية) وقاسى من الفقر الشديد في فترات كثيرة من حياته، والأرق الذي تسلط عليه سنوات طويلة، ولكنه ظل مخلصا لمهمته الكبرى، يأخذ نفسه في سبيلها بنظام فكري شاق أشبه ما يكون بصرامة المصلحين، أو مجاهدات المتصوفين. كان يقضي في تأليف القصيدة الواحدة في بعض الأحيان عشرين أو ثلاثين سنة، ولم يكن يضيق بذلك لأن الهدف الأكبر كان يرتسم دائما أمامه. ومع أنه كان يعلم أن ذلك الكتاب الفريد يحتاج إلى أكثر من حياة، فقد ظل مقتنعا منذ البداية بأنه يمسك خيوطه الأساسية في يديه. لذلك لم يكف أبدا عن المحاولة، لقد أراد لهذا الكتاب أن يكون مثل «زهور الشر» في تصميمه وتنسيقه ومعماريته، وشاء القدر ألا يتم هذا المشروع الهائل. ولكن ما بقي من قصائده المتفرقة يدل على أجزاء متقنة الصنع من بناء محكم يقوم على أساس متين. ولا يصدق هذا الكلام على قصائده المتناثرة - كالدرر واللآلئ التي لم يتسن لها أن توضع في تاج رائع - بل يصدق كذلك على مقطوعاته النثرية وترجماته عن الإنجليزية، ومن أهمها ترجمة أشعار إدجار بو والأقاصيص الهندية التي أعاد كتابتها، وكلها تنبع من نفس المنبع الخصب الذي خرجت منه أعماله الشعرية الباقية، كما تعد من الروائع التي لم تحظ بعد بنصيبها الكافي من التقدير.
وإذا كان مالارميه يتميز في كتاباته المتنوعة بالتدفق والغنى والخصوبة فقد كان يميل في أشعاره إلى التركيز الشديد والحرص البالغ، ونستطيع أن نتأكد من هذا إذا تتبعنا قصائده في صيغها المختلفة على مدى السنين. كان يطيل النظر في القصيدة فيحذف منها كل صوت مرتفع وينقيها من كل نغمة خطابية. إن «الكليشيهات» والتعبيرات التقليدية تتخلى عن مكانها لكلمات وتعبيرات نادرة والجمل الطويلة تتحول إلى جمل ذرية - إن صح هذا التعبير - بحيث توشك كل كلمة أن تستقل بنفسها وتشع بإشعاع ذاتي من داخلها.
والشيء، الذي كان يذكر في الصياغة الأولى في بداية القصيدة يؤجل إلى موضع تال لكي يحرر هذه البداية أو يتيح لها الانطلاق بعيدا عن ذلك الشيء. وإذا فتشنا عن الشيء الذي ظهر في صورته البسيطة المألوفة الكاملة في الصياغة الأولى وجدناه في الصياغة الأخيرة ممزقا إلى تفاصيل وأجزاء منعزلة متعددة المعاني. إن الموضوعات التي يطرقها الشاعر تقل في العدد وعالم الأشياء يتخفف من ثقله ويزداد شفافية، والمضمون يميل باستمرار إلى الغموض والشذوذ. وبينما كانت الأبيات في صيغتها الأولى تحكي حكاية أو تصف شيئا أو تنقل إحساسا، أو توجه الأنظار إلى مضمون محدد، إذا بها في الصياغة الأخيرة لا تهتم إلا بنفسها، ولا تلفت الانتباه إلا إلى وجودها اللغوي.
وإذا بحثنا عن شبيه لهذه التعويلات والتنقيحات المستمرة وجدناه لدى بعض الرسامين المشهورين. فالمعروف عن الفنان الإسباني جريكو أنه رسم لوحة «الطرد من المعبد» ثلاث مرات. وبينما كان الرسمان الأولان قريبين من الطبيعة، وجدناه في الرسم الثالث يخضع لأسلوب يميل في تصوير الأشكال والأشياء إلى الاستطالة والشحوب والوعورة بحيث يبعد العين عن الموضوع ليجذبها إلى الأسلوب، والفنان الشهير بيكاسو في رسومه الثمانية (الليتوغرافات) للثيران يبدأ بتصوير الطبيعة لينتقل إلى الأسلوب التشريحي والتكعيبي وينتهي بأشكال تمثل خطوطا بحتة مجردة عن الأجسام والرسام هنا مثله مثل الشاعر؛ كلاهما يبتعد عن الشيء ليتجه للأسلوب. (3) طرح النزعة البشرية
لا يعني هذا العنوان القصير أن الشاعر الحديث قد تنكر للبشرية أو أصبح غير إنساني، ولكنه يعني في المقام الأول أن الشاعر الحديث قد أخذ يبتعد عن شعر التجربة والاعتراف والعاطفة، ويتجه إلى الاهتمام بالشكل والأسلوب والتجريب المستمر مع اللغة. سار الشعر الحديث خطوات واسعة باعدت بينه وبين الحياة الطبيعية والنزعات البشرية، وتمت الخطوة الحاسمة على هذا الطريق على يدي رامبو ومالارميه اللذين أدارا ظهريهما إلى الأبد لنموذج من شعر العاطفة والتجربة كان لا يزال حيا على عهدهما في أغنيات فيرلين العذبة. ونخطئ لو تصورنا أن الشاعرين قد أبدعا شيئا جديدا لم تكن له بذور عريقة.
فالواقع أن النماذج الكبرى من الشعر القديم، من أشعار التروبادور إلى ما قبل الرومانتيكية، كانت في أغلبها تهتم بالأسلوب وتجنح إلى تعميم التجربة، لم تكن تعبر عن العواطف والتجارب الخاصة إلا في حالات نادرة غير أن مؤرخي الأدب الذين أصابتهم عدوى الرومانتيكية قد أساءوا فهمه. ولو أعدنا النظر في هذا الشعر القديم وخلصناه من آفات النقد التقليدي لوجدنا فيه - عند مختلف الأمم وفي مختلف اللغات - بعض الخصائص التي نلاحظها اليوم في بناء الشعر الحديث.
مهما يكن من شيء فإن هذا الدفاع السريع عن الشعر القديم لا ينفي أنه في جملته يدور في الأفق الإنساني المألوف. أما الشعر الحديث فهو لا يستبعد الذات الخاصة فحسب، بل يحاول أن يتلافى كل الصفات والنزعات البشرية العادية. وأقرب مثل يفسر هذا الكلام نجده في قصائد مالارميه الثلاث التي انتهينا من شرحها. فما من واحدة منها يمكن أن تفسر تفسيرا «بيوجرافيا» أي من خلال شخصية الشاعر وظروف حياته. وإذا كان هناك عدد من النقاد ومؤرخي الأدب لا يزالون يحاولون هذا مع مالارميه أو غيره فتلك آفة رومانسية ينبغي كما قلت أن نتخلص منها بكل وسيلة ممكنة، فلم تخلق القصائد العظيمة أبدا لإثارة حب الاستطلاع لدى القراء أو تملق عواطفهم، أو استدرار دموعهم على الشعراء «المعذبين المساكين».
نامعلوم صفحہ