انقلاب شاعری جدید

عبد الغفار مكاوي d. 1434 AH
109

انقلاب شاعری جدید

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

اصناف

astre (كوكب) عن عمد ويضع كلمة أخرى عكسها

désastre

قد تدل على الكارثة كما تدل على كوكب الشؤم فيصل بهذا إلى تعبير غنى عن الشعر بوجه عام. فالكلمة الأولى قد أوحت بالثانية. ولولا أن الشاعر يتأمل في عملية الخلق، ولا يخلق فحسب، ولولا أنه يفحص ألفاظه كما يفحص الصائغ جواهره في كفه، لما كانت مثل هذه الألعاب. إنه يلعب لعبته السحرية باللغة، وما أشبهه «بالحاوي» الذي يتلو تعاويذه فتتحرك الألفاظ كما يشاء!

والحق أن هذه «الألاعيب والحيل» تنطوي على معنى عميق طالما حاول مالارميه أن يخفيه بابتسامته الساخرة. فهي تتفق تمام الاتفاق مع نهجه الشعري بأكمله، وتتلاءم مع طريقته في التجربة مع كل غريب، (كأنما يريد أن يوقظ الأرواح النائمة في اللغة!). ولم يكن من الممكن أن يقيم الشاعر تجاربه على الطاقات الكامنة في اللغة لو لم ينزع بأسلوبه إلى البعد عن تحديد الأشياء تحديدا ماديا وموضوعيا، بل إلى البعد عن التصور العادي لشيئية الأشياء. ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أن الرسام الشهير «ديجا» - وكان يقول الشعر أيضا! - شكا مرة أمام مالارميه من أن الأفكار تتزاحم عليه وتفسد قصائده؛ فما كان من الشاعر أو «المعلم» - كما كان يسميه أصدقاؤه ومريدوه - إلا أن قال: «الأشعار لا تصنع بالأفكار ولكن بالألفاظ.» ويضيف بول فاليري الذي يروي هذه النادرة في كتابه عن ديجا: «هنا يكمن السر كله.»

كان مالارميه - مثله في هذا مثل أغلب الشعراء المعاصرين - على اقتناع تام بأن الكلمات تنطوي على طاقات وإمكانات تستطيع أن تحقق ما تعجز عنه الأفكار. ولا شك أن هذا الإيمان بسحر الكلمة وقدرتها على التأثير والإيحاء شيء قديم في حياة الإنسان قدم السحر والعرافة والكهانة، ولا شك أن مالارميه وتابعيه يبعثون ما يمكن أن نسميه «بعقيدة اللفظ» التي ظلت حية في فلسفة العصور الوسطى وأدبها، والفرق الوحيد بين القدماء والمحدثين هو أن هؤلاء لا يريدون بإطلاق المعنى من اللفظ واستخراجه من قيمه الصوتية أن يؤكدوا حقيقة دينية أو يثبتوا نظاما موجودا (فالمعروف أن عقيدة الخلق المسيحية كانت تنعكس في معاني الألفاظ). إن أقصى ما يريده المحدثون هو المغامرة في آفاق المجهول.

ولكن لنرجع إلى قصيدتنا، سنسأل أنفسنا بعد قراءة المقطوعة الأولى: ما الذي يبرز وما الذي ينقطع؟ البيت الرابع يقول إنها «الرقبة المجهولة». لعلها هي رقبة الزهرية ؟ ولكنها قد تكون كذلك شيئا آخر. قد تكون شيئا لا يتصف بهذا التحديد. ماذا يكون إذن؟ هنا نجد أنفسنا مرة أخرى وجها لوجه مع الحيل والألاعيب اللغوية! وقبل أن نجيب على سؤالنا نتذكر عبارة قالها مالارميه في خطاب مبكر له تعليقا على إحدى قصائده: «المعنى - إن كان للقصيدة معنى على الإطلاق - تهيب به الانعكاسات الداخلية للكلمات نفسها.» أي أن الكلمة تمد معناها على سواها من الكلمات التي تجمعها بها صلة موضوعية. ومثل هذه الكلمة في قصيدتنا هي «تزهر» أو «تزين بالأزهار»

fleurir . فهي توحي بمعنى الزهرة بجانب معاني أخرى وتعكسها على الرقبة، التي تصبح رقبة زهرة أو بالتعبير المألوف عود زهرة، ربما يكون هذا التفسير صحيحا خصوصا إذا عرفنا أن كلمة «زهرة» ترد في البيت الأخير من القصيدة، ولكنه سيظل مجرد احتمال، لأن الشاعر لا يريد أن يثبت للأشياء معنى محددا.

ولكن الشاعر يريد فيما يبدو أن يثبت أمرا آخر. ويكفي أن نتأمل كلمات مثل «سريع الزوال، مرة، بغير مجهولة، تتوقف أو تنقطع ...» إنها جميعا تدل على صفات سلبية. وأقوى هذه الصفات السلبية هو أن الرقبة مجهولة. وإذن فعود الزهرة - إن كان هو حقا ما يقصده الشاعر - لا وجود له. وتنتشر هذه الصفات السالبة في القصيدة كلها بمثل ما لاحظناها في القصيدتين السابقتين «قديسة» و«مروحة»، وكأن الشاعر يصر عليها إصرارا. والقصيدة تتحدث بلسان كائن خرافي (هو السلف

Sylph

الذي يرد ذكره في كتابات المتصوف العالم بارا سيلزوس). ونعرف عنه أن أبويه لم يجربا الحب (لاحظ أن القصيدة تعكس الترتيب الطبيعي فتقول لا حبيبها ولا أمي). ومعنى هذا إذا كنا قد فهمنا مالارميه هو أن هذا الكائن الخرافي لا وجود له أيضا. إن الزهرية تحتوي على فراغ أجوف. إنها قريبة من الموت، ترفض أن تسمح بإطلاق زفرة أو تنهيدة يمكن أن تحمل معها البشارة بميلاد «زهرة وسط الظلمات». وليس من الصعب أن نتبين الآن أن الزهرة عند الشاعر رمز للكلمة الشاعرة (وقد كان هذا هو معناها في كتب الخطابة القديمة؛ إذ يستخدمها شيشرون بهذا المعنى «زهرة الحديث» في كتابه عن الخطابة، 3، 96) ومن ثم يصبح معنى الخاتمة التي تنتهي بها القصيدة أن الزهرية الفارغة التي تغشاها الخيبة والفشل من كل ناحية تأبى السماح بكلمة الخلاص التي لا تستطيع بدورها أن تقوم بدورها إلا إذا قيلت في الظلام.

نامعلوم صفحہ