إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله
[البقرة: 229] إلا أن يعلما، وذلك أن الخوف من الشىء سبب وملزوم للبحث عنه هل كان، وللبحث عن أحواله كقرب وبعد، وشدة وضعف، فيحصل العلم، وأيضا لا يخاف منه حتى يعلم أنه مما يخاف منه، أو الخوف بمعنى التوقع الجارى بمعنى الظن، فيقهم حكم العلم اليقينى بطريق الأولى، وأصل الخوف توقع مكروه بسبب أمارة مظنونة أو معلومة، ولما لم يكن للخوف من الميل والإثم بعد الإيصاء معنى حملناه على العلم أو الظن، للتسبب واللزوم البيانى، ويجوز إبقاء الخوف على أصله، بأن لتهم الموصى فى إيصائه { جنفا } ميلا عن الحق خطأ بنسيان أو غلط { أو إثما } بأن تعمد خلاف الحق، كالزيادة على الثلث، والوصية للوارث لأجل حق له على الموصى بأكثر من حقه، مثل أن يقول: أوصيت لزوجى بكذا، لأجل أنى ضربتها أو لم أوف حقها فى الفراش أو لأنى أكلت مالها بلا رضاء منها، أو أكلته على أن أرده لها مع أن حقها أو أرشها أو ما أكل من مالها أقل ولم يوجد السبيل إلى تعيين كمية ذلك، وكذا فى الوصية للولد وغيره { فأصلح بينهم } بين الموصى له والورثة المعلومين من القمام، أو بين الوالدين والأقربين الموصى لهم الذين تقدم ذكرهم آنفا، وهذا أولى، وإن جعلنا الخوف من موص حال الإيصاء أو بعده فى حياته فالإصلاح بينه وبين الورثة، لأن المآل إليهم وبين الموصى له، بأن يقال له: زد كذا أو انقص كذا بمقتضى العدل، ومن ذلك أن يوصى لفسق أو مكروه، قيل: أو يفضل غنيا { فلآ إثم عليه } فى الإصلاح، بل له الثواب، وذكر نفى الإثم إشارة إلى عظم ذنب التبديل حتى إنه ليخاف على المصلح الإثم لما عساه أن يكون فى إصلاحه من الخطأ، وكذا ذكر لذلك قوله { إن الله غفور رحيم } وعد للمصلح بالمغفرة والرحمة لإقامته بأمر الحق وإرشاد الضال، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، ولا يقال المراد إن الله غفور رحيم للموصى، بواسطة إصلاح الإمام أو القاضى أو المفتى أو الوصى أو غيرهم، لأنه مات على غير صواب، غير تائب، هذا ما نقول، وعند الله ما ليس عندنا، ولا يكون كمن لا يوقع إصلاحا فى شأن وصيته، لأن ظلمه لم يصل غيره، إذا أزيل بالصلح الجنف كله، ودون ذلك أمر الخطأ فى الخطر، إذ لم يتعمد إلا أنك خبير بأن الجهل عمد.
[2.183]
{ يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما } حال من الكتب المحذوف المنصوب على المفعولية المطلقة، أى كتب عليكم الصيام، الكتب ثابتا كما، أو نعت لمصدر محذوف أى كتب كتبا كما، أو صوما مماثلا للصوم الذى كتب، أو حال من الصيام، أو نعت له، لأن أل فيه للجنس، فهو كالنكرة، أو يقدر المتعلق معرفة، أى الثابت كما، وما اسم فى ذلك إلا فى الأولين فمصدرية { كتب على الذين من قبلكم } من الأنبياء، وأممهم، ولو تفاوت قدرا وزمانا، وقيل: لم يتفاوت من آدم إلى عهدكم، كما قال على: ما أخلى الله أمة من فرض الصوم فارغبوا فيه وطيبوا نفسا به واستسهلوه، والمشقة إذا عمت طابت { لعلكم تتقون } المعاصى وما لا يعنى فيه لأنه بكسر النفس، فتغتنوا فيه وتصفو قلوبكم به، لما بعد، قال صلى الله عليه وسلم:
" يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء "
، أو تتقون التقصير فيه وإفساده أو تركه، يشير إلى أن قمه وعمومه من موجبات المحافظة عليه فلا تكونوا بتركها أنقص من غيركم وأنتم أفضل الأمم، وبينكم أفضل الأنبياء، ويقال كان على النصار صوم رمضان فربما وقع فى حر، وربما وقع فى برد فحولوه للربيع، وزادوا عشرين يوما كفارة لتحويله، والمراد أن غالبه فى الربيع، وأما أقله ففى فبراير، فإن أول صومهم فى ثامن فبراير بسبعة أيصام قبل الربيع، ويقال ترك اليهود رمضان وصاموا يوما فى السنة، قالوا إنه يوم غرق فرعون، وزاد فيه النصارى يوما قبله ويوما بعده احتياطا، حتى بلغوا خمسين، فشق عليهم للحر والبرد فنقلوه إلى زمان حلول الشمس فى برج الحمل، فالمماثلة فى قوله تعالى، كما كتب، مماثلة فى الوجود والمقدار والزمان وهو عين رمضان، وقيل فى أصل الوجوب، وقيل زادوا عشرة كفارة للتحويل، ثم مرض ملكهم بأكل لحم فشفاه الله، فزاد خمسة، وقال آخر، أتموه خمسين، وقيل زادوا عشرين لموت أصاب مواشيهم، وقيل لموت أصاب أنفسهم.
[2.184]
{ أياما معدودات } متعلق بالصيام أى كتب عليكم الصيام فى أيام معدودات، أى كتب عليكم أن تصوموا فى أيام معدودات، ولا بأس بالفصل لقلته وظهور المعنى، وهو أولى من الحذف ومن كل ما هو خلاف الأصل، أو يقدر صوموا أياما معدودات لدليل الصيام، وفيه السلامة من الفصل بلعلكم تتقون، وبأجنبى، وهو كما كتب، إلا أنهم يتوسعون فى الفصل بالظروف ومنها كما كتب سواء جعلناها مصدرية أو كافة، ووصفها معدودات تقليلا لها أى هى دون أربعين، على ما قيل من أن المعتاد إذا ذكر لفظ العدد فالمراد المعنى أياما مضبوطة بالعد، لا مجازفا بها، وكل من أيام أو معدودات جمع قلة، فلو شاء لقال أياما معدودة، وفى ذلك تسهيل، أو لعلكم تتقون المكاره والمعاصى والكسل فى أيام معدودات، أو يتعلق بضمير كتب الثانى لعوده للصيام عند الكوفيين، أى كما كتب على الذين من قبلكم أن يصوموا أياما معدودات أو يكتب الأول أو الثانى لتضمنه معنى صوموا، أو المعنى كتب عليكم الصيامة كتابة شبيهة بكتابته على من قبلكم فى كونه فى أيام معدودات، وقيل الأيام المعدودات يوما عاشوراء، وثلاثة من كل شهر، ثم وجب رمضان دونهن، وقيل لم يفرض قبله صوم، وقيل فرض قبله عاشوراء، وقيل أيام البيض، ولا يقال لو أريد بهن رمضان لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا، لأنا نقول وجب الصوم على التغيير بينه وبين الفدية، ثم وجب بلا تخيير فيه، على أن رخصة السفر والمرض باقية، وأيضا المسافر والمريض ممن شهد الشهر { فمن كان منكم } معشر البالغين العقلاء الداخل عليهم رمضان { مريضا } مرضا يشق معه الصوم بعض مشقة، أو يضره أو يتأخر معه برؤه، أو يزيد به المرض، وذلك بالتجربة أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق، لقوله تعالى:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
[البقرة: 185] فإذا كان الصوم يعسر مع مرض حل الإفطار، لا كما قيل عن ابن سيرين إنه أفطر لوجع أصبعه، ولا كما قال الشافعى لا يفطر حتى يجهده الجهد الذى لا يحتمل، وروى عن مالك أنه يفطر صاحب الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه إن شاء، واحتج من أباح الإفطار بالمرض ولو لم يعسر ولم تكن فيه مشقة بإطلاق الآية، وهو رواية عن الشافعى، وهو قول ابن سيرين، والحسن البصرى، وبأن السفر قد يخلو عن مشقة، وحل الإفطار فيه ولو بلا مشقة، لأنه سبب لهما، ويجاب بأن الرخصة لم تتعلق بنفس المرض، لتنوعه إلى ما يزاد بالصوم، وإلى ما يخفف به، لا يكون مرخصا ألبتة، فجعل ما يزاد به مرخصا بخلاف السفر، لأنه لا يعرى عن المشقة، فجعل نفسه عذار { أو على سفر } ثابتا أو راكبا على سفر ولو قصيرا، بعد مجاوزة الفرسخين مما استوطنه ولو لم يجاوز الحوزة على التحقيق، إن جاوزهما ليلا فبيت الإفطار من الليل، أو جاوزهما نهارا، فإذا جاء الليل بيت الإفطار أو صام يوما فى السفر، فإذا جاء الليل بيت الإفطار، وإن أفطر نهارا قبل المجاوزة أو بعدها نهارا.
نامعلوم صفحہ