لكن بحتمل أن المعنى فى سالف أهل السنن، أى الطرق، وليس السنن بمعنى الطرق متبادرا، وأيضا يحتاج إلى تقدير، قد خلت من قبلكم سنن أى منهم، وخالف من خالف منهم نبيهم، وكذا يبعد كون السنن الأديان المنسوخة، وقدر الزجاج فى الآية أهل سنن { فسيروا فى الأرض } أنشئوا السفر لتروا آثار المهلكين قبلكم، أو المراد سيروا بقلوبكم، أي تأملوا فى الأرض بسير وغيره، واختار لفظ السير لأن العيان أقوى، والعطف عطف إنشاء على إخبار، أو المراد تنبهوا، أو بقدر، إن لم تؤمنوا بإهلاك الأمم فسيروا، وذلك المؤمنين زيادة تثبيت { فانظروا } بأبصاركم وقلوبكم { كيف كان عاقبة المكذبين } لرسلهم، من الإهلاك آخر الأمر بعد إمهال.
[3.138]
{ هذا } أى القرآن، أو خلو سنن من قبلكم، أو نظركم، أو الحث عليه { بيان } مزيل للشبهة { للناس } كلهم، وقيل: للعهد، وهم الناس المكذبون { وهدى } إلى طريق الرشد المأمون بسلوكه { وموعظة } كلام يفيد الزجر عما لا ينبغى فى الدين، وذكر الهدى والموعظة بعد البيان، تخصيص بعد تعميم { للمتقين } خصهم بالذكر، لأنهم المنتفعون دون غيرهم، هدى وموعظة للمتقين باعتبار مبدئهم، فهم المشارفون للتقوى، أو مقضى لهم فى الأزل بالتقوى، أو هم متقون بالفعل فتراد الزيادة، فإن زيادة الهدى والوعظ هدى ووعظ.
[3.139]
{ ولا تهنوا } تضعفوا عن قتال الكفار فى سائر الحروب بعد أحد كبدر الصغرى بل كبقية يوم أحد أيضا، فإنه بعد ما وقع القتل فى المسلمين والأسر، وافترقوا مع المشركين أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم باتباعهم وطلهم، إما مطلقا وإما ليمنعوهم عن القتلى لئلا يمثل بهم، وعن من بقيت فيه حياة، فاشتد عليهم، فقد قيل: إن الآية نزلت فى ذلك { ولاتحزنوا } بما أصابكم فى أحد قيل: وبما فاتكم من الغنائم، قيل: المعنى لا تفعلوا مايترتب على الوهن والحزن مما هو اختيارى أولا وهن قيهم، ولا حزن لكن تسلية لهم { وأنتم الأعلون } والحال أنكم الغالبون فى العاقبة ومآلهم إلى الذل، فهذا تبشير بالنصر مستقبلا، فما خرجوا بعد إلا نصروا، ولو كان فيهم صحابى واحد، وأنكم غلبتموهم يوم بدر مع ما قتلتم منهم قبل التحول عن المركز، وأسرتم منهم سبعين يوم بدر، ولم يأسروا مثل ذلك منكم يوم أحد على الصحيح، وسبق رماة فوق أحد حين أراد خالد ومن معه أن يعلوكم فرددتموهم، وهذا تذكير للنعمة وأنتم الأعلون بالحق والجنة بخلافهم، أو أنتم أعلى منهم، إذ لهم بعض علو فى الدنيا بغلبة القتال { إن كنتم مؤمنين } أى إن صح إيمانكم، وهو قيد لقوله: لا تهنوا، وقوله، لا تحزنوا، أو أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين بوعد النصر لكم، وإلا فلستم الأعلين.
[3.140]
{ إن يمسسكم } أيها المسلمون، شبه الإصابة بالمس { قرح } جرح، شبه مطلق الضر بنفس الجرح فى أحد { فقد مس القوم } المشركين فى بدر { قرح مثله } فنسلوا أيها المؤمنون بما أصابهم، لأنه قد مس القوم ولم يهنوا ولم يحزنوا، فكيف تهنون وتحزنون إذ قتلوا منكم مثل ما قتلتم لا أكثر، وقيل: قتلوا من المسلمين خمسة وسبعين، وقيل سبعين , وجرحوا سبعين، ولا يلزم من قوله تعالى مثله مساواة العددين، وقيل: الفرح رجوعهم خائبين مع كثرتهم، مع أنكم ترجون من الله ما لا يرجون وقد وعدتم النصر، بل قيل المسان فى أحد، قال الله جل وعلا: ولقد صدقكم الله وعده الخ، وقد قيل: فى أحد من المشركين سبعون رجلا، وعقرتم خيلهم وكثرت فيهم الجراحات، وهزموا أول النهار، وقتل على ابن أبى طالب طلحة بن أبى طلحة ، كيس الفئة حامل لوائهم، وأخذ اللواء بعده عثمان بن أبى طلحة فقتله حمزة، ثم أخذه أبو سعيد بن أبى طلحة فقتل وفرق الله شملهم، وجرح منهم عدد كثير، وعقر عامة خيلهم، ومن أول الأمر قتل منهم نيف وعشرون رجلا، ولعنهم الله عز شأنه، وأنزل نصره، قال الزبير بن العوام فرأيت المشركين قد بدت أشرافهم ونساؤهم وعلى ميمنتهم خالد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبى جهل، وعلى مقدمتهم سفيان بن أمية،وهند امرأة أبى سفيان وصواحبها، أخذن الدفوف حين حميت الحرب يضربن بها ويقلن: نحن بنات طارق، نمشى على النمارق، إن يقبلوا نعانق،أو يدبروا نفارق، فراق غير وامق، ثم إن خالد لما رأى إقبال المسلمين على الغنائم خرج فى خيله، مائتين وخمسين ففرقوا المسلمين، فهزم المسلمين، وقصد عبدالله بن قمئة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذب عنه مصعب بن عمير، وهو مصعب بن عمرو، صاحب راية بدر وأحد، فقتله عبد الله بن قمثة، وظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد قتلت محمدا، وصرخ صارخ، هو إبليس، قد قتل محمد، فزاد المسلمون انهزاما، وروى أنه حمله طلحة لماغشى عليه بالشج وكسر الرباعية ودافع عنه على وأبو بكر ونفر آخرون، ويروى أنه يقول صلى الله عليه وسلم: إلى عباد الله، فانحاز إليه ثلاثون، فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، وتفرق عنه الباقون { وتلك الأيام } مجموع الماضية والآنية، مطلق أوقات النصروالغلبة والذل والعزة، ومثل ذلك الغنى والفقر والخمول والشهرة، { تداولها } نصرفها دولا، تارة لهؤلاء { بين الناس } المشركين والموحدين ومثل ذلك بين الموحدين بالبغى منهم، أو من طائفة مع محقة، وقد بينت فى شرح التبيين أو شرح الدماء أنه قد تحق الفئتان، وهو خلاف المشهور، وتقدير الآية نداولها بين الناس ليتعظوا { وليعلم الله } لا يخفى من الله تعالى شىء لكن المراد ليعاملكم معاملة الختبر، فذلك استعارة تمثيلية { الذين ءامنوا } اى ثبتوا على الإيمان ولم يكونوا على حرف، أو يقدر، وفعلنا ذلك ليعلم الله الخ، أو يقدر وفعلنا مؤخرا، أى، وليعلم الله الذين آمنوا فعلنا ذلك أو نداولها بينكم وبين عدوكم، ليظهر أمركم، وليعلم.
.الخ، أو نداولها بين الناس ليظهر حكم وليعلم { ويتخذ منكم شهدآء } قدر بعض، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، فعلنا ذلك، أو يقدر، وفعل ذلك بالبناء للمفعول، أو فعل الله ذلك والله عالم بكل شىء قبل وقوعه بلا أول ولا آخر، وعلمه تعالى لا يتجدد ولا تبدو له البدوات، فكل آية دلت بظاهرها على خلاف ذلك كهذه الآية، فالمراد بالعلم فيها التمييز من الله لخلقه ما خفى عنهم إطلاقا للسبب على المسبب، أو للملزوم على اللازم، وإطلاق العلم على المعلوم، والقدرة على المقدور مجاز مشهور، يقال، هذا علم فلان، أى معلومه، وهذه قدرته، أى مقدوره، فكل آية دلت بظاهرها على تجدد العلم، فالمراد تحدد المعلوم كهذه الآية، وقوله تعالى:
فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
[العنكبوت: 3]، وقوله:
نامعلوم صفحہ