فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
هذه العقيدة بالوحدانية تكسب معتنقها قوة وعزة، فالله وحده هو القوي وهو العزيز، ليس الناس كلهم إلا خلقه، متساوين في الخشوع لقوته، والانقياد لإرادته، هو وحده المعبود، وهو وحده المستعان:
إياك نعبد وإياك نستعين ، ومعتنق الوحدانية ليس عبدا لأحد إلا الله، فهو في العالم حر؛ لأن العالم ليس له إلا سيد واحد وهو الله، وأما باقي الناس فإخوة متساوون، فعقيدة الوحدانية كما تتضمن سيادة الله وحده تتضمن أيضا أخوة الإنسان للإنسان، فلا سيادة أجناس، ولا استعباد ملوك، ولا استبداد طغاة، ولا اعتزاز بنسب أو مال أو جاه أو قوة، ولا خضوع لمن يريد أن يتصف بصفات الله زورا، من بسط سلطان وفرض حماية ومحاولة استعباد، إن حاول أحد ذلك قال المؤمن : «لا إله إلا الله» مدركا معناها رافضا ما عداها.
عقيدة الوحدانية تشعر الإنسان بالنبل والسمو، فخضوعه لله وحده يشعره بالتحرر من سيادة أحد عليه، سواء في ذلك سيادة الناس أو سيادة قوى الطبيعة، فليس النيل معبودا تقدم إليه الضحايا، ولا العواصف والنجوم والشمس والقمر مما يخشى بأسها، ولا يخضع للظلم؛ لأن الله نهى عن الظلم وعن طاعة الظالم أيا كان، وهو لا يخضع لجبروت من أي صنف، لأنه ليس لأحد حق الجبروت، ولكن له حق الأخوة.
إن الذي يريد أن يستعبدنا يريد أن يكون إلها و«لا إله إلا الله»، والذي يريد أن يكون سيدا طاغيا يريد أن يكون إلها, و«لا إله إلا الله»، والحاكم الذي يريد أن يذلنا يريد أن يكون إلها و«لا إله إلا الله»، إنا لا نقبل من إنسان أيا كان ولا من أمة أيا كانت إلا أن يكون أخا أو يكونوا إخوة، فأما السيادة والاستعباد فلا؛ لأنه لا إله إلا الله، إنا لا نقبل أن نشرك مع الله أحدا غيره مهما كانت منزلته، ولو كان نبيا مرسلا، فلا نتقرب بالنذور إلى الأولياء، ولا نمنحهم شيئا من القداسة، ولا نعظم الحكام تعظيم عبادة، ولا نخضع لهم خضوع ذلة، إنما نطيع فيهم العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا وحده هو الذي يتفق ولا إله إلا الله، ليس يستعبدنا المال ولا الجاه ولا القوة، لأنها أعراض زائلة وليست من الألوهية في شيء ولا إله إلا الله.
والوحدانية الخالصة - مع بساطتها ومعقوليتها - من أصعب الأمور على النفوس تحتاج في اعتناقها إلى نوع من السمو، كما تحتاج إلى حياطة تامة حتى لا تشوبها شائبة من وثنية، لأن الناس سرعان ما ينزلقون إلى الشرك.
اليونانيون ألهموا قوى العالم، والفرس اختصروا الآلهة إلى اثنين: إله الخير وإله الشر، وجعلوهما يتنازعان، والعرب ملئوا الكعبة أصناما، فلما أتى الإسلام وحطمها ودعا إلى الوحدانية الخالصة وجعل لا إله إلا الله شعارها في كل مناسبة؛ في الأذان، في الصلاة، في كل عارض، لم تلبث بعض النفوس أن تسربت إليها الوثنية في أشكال خفية؛ بدأ بعض المسلمين يعظمون شجرة بيعة الرضوان، فقطعها عمر، وبدأ بعضهم يعظم أهل بيت الرسول تعظيما يقرب من العبادة، فنهاهم علي، ثم سال سيل الوثنية على الأيام، وامتلأ العالم الإسلامي بأقطاب يتصرفون في الكون تصرف الله، وأقيمت الأضرحة تقدم إليها النذور ويستشفع بها ويتقرب إليها كأنها آلهة، وانقلبت الخلافة إلى ملك عضوض، فالحكام كانوا يأمرون ولا راد لأمرهم، ويتصرفون ولا معقب لحكمهم، وذهب معنى أخوة الحاكم للمحكوم، وحل محله نوع من الألوهية، واستعبد الناس من ناحية الدين، واستعبدوا من ناحية الدنيا، وذهب معنى «لا إله إلا الله» إلا من قلوب الخاصة.
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون .
لكل زمن وثنية، ولكل حضارة أصنامها، حتى هؤلاء المثقفون المتعلمون العاقلون الذين يهزءون بعبدة الأحجار وعبدة النجوم قد يحجبون هم أنفسهم عن الوحدانية بضروب دقيقة من ضروب الوثنية.
إن المعبود الأول اليوم في المدنية الحديثة هي الآلات الصناعية، لها تتجه الأنظار، وإليها ترفع أكف الدعاء، وإياها يعبد أرباب رءوس الأموال، ولها يستعبد العمال، ومنها تشتق المبادئ السياسية والتعاليم الأخلاقية، وبقوتها تستعبد الأمم وتثار الحروب وتطعن في الصميم الأخوة الإنسانية.
نامعلوم صفحہ