كلمة المؤلف
شعار المؤلف
ترجمة حياة المؤلف عبد الله حسين
التصوف
النظريات الصوفية
الطرق الباطنية
مراحل التصوف الإسلامي
التصوف والمحبة
المتصوفون وآراؤهم وطبقاتهم
نشأة وحدة الوجود
نامعلوم صفحہ
تفصيلات عن أعيان المتصوفة
الزهد والتصوف
التصوف واللاأدرية
الروحية من وراء المادية
هل أنت روحاني؟
فلسفة «يوج»
القضاء والقدر
كلمة المؤلف
شعار المؤلف
ترجمة حياة المؤلف عبد الله حسين
نامعلوم صفحہ
التصوف
النظريات الصوفية
الطرق الباطنية
مراحل التصوف الإسلامي
التصوف والمحبة
المتصوفون وآراؤهم وطبقاتهم
نشأة وحدة الوجود
تفصيلات عن أعيان المتصوفة
الزهد والتصوف
التصوف واللاأدرية
نامعلوم صفحہ
الروحية من وراء المادية
هل أنت روحاني؟
فلسفة «يوج»
القضاء والقدر
التصوف والمتصوفة
التصوف والمتصوفة
تأليف
عبد الله حسين
كلمة المؤلف
«كتاب اليوم هو «التصوف والمتصوفة» من «سلسلة الدراسات النفسية والروحية»؛ تحدثنا فيه عن التصوف، والنظريات الصوفية، والطرق الباطنية، ومراحل التصوف الإسلامي، والتصوف والمحبة، والمتصوفين وآرائهم وطبقاتهم، ونشأة وحدة الوجود، وكبار المتصوفة أمثال سفيان الثوري، وشيبة الراعي الدمشقي، وذي النون المصري، والمحاسبي، والحلاج، والبسطامي، والقواريري، والسهرورديين الثلاثة: أبي نجيب، وعمر، ويحيى، وابن الفارض، ومحيي الدين بن عربي، ثم تحدثنا عن الزهد والتصوف وزهد أبي العتاهية؛ والتصوف واللاأدرية، وعقدنا فصلا عن إمام التصوف: الغزالي، وآخر عن الروحية من وراء المادية، وثالثا عن فلسفة يوج واتصالها بالتصوف والروحانية، وقد جعلنا - في هذا الكتاب - نصب أعيننا أن نبسط مسائل التصوف، وأن نشارك من سبقونا ومن سيلحقون بنا في دراسة هذا الموضوع الذي شغل الأذهان في الماضي ولا تزال آثاره قائمة، ولنظرياته أنصارها، ونحن على ثقة من أن هذا التراث الإسلامي وجذوره في الأمم الأخرى جدير بأن يتخصص له المتخصصون، ويقف النشاط عليه القادرون، لا من أجل بسط النظريات الصوفية وآثارها وحسب؛ بل من أجل اتخاذ التصوف - في هذا العصر الحديث: عصر العلم، والتجديد والاضطراب النفسي المعقد - أداة لتطهير النفس وصفائها؛ لأن هذا هو أدنى السبل لتعميم السلام العالمي، وتفاهم الطبقات، والقضاء على المذاهب الهدامة، والمبادئ المقوضة، ومن أجل هذا نؤثر أن نعود فنفصل ما أجملنا في كتاب آخر؛ نعد له العدة منذ الآن».
نامعلوم صفحہ
عبد الله حسين
شعار المؤلف
كل كتاب جديد لا يضيف جديدا إلى المعرفة هو بين اثنتين: إما أن يكون مرددا لصدى غيره، وإما أن يكون لغوا غير جدير بالقراءة.
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها
فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
صورة المؤلف
عبد الله حسين.
ترجمة حياة المؤلف عبد الله حسين
ولد المؤلف في مدينة القاهرة بدار المؤيد، وهو خريج مدرسة فكتور الإنجليزية، ومدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، ومدرسة الشيخ صالح أبي حديد، والمدرسة الإعدادية، وكان أول طلبة البكالوريا بها، وكذلك خريج مدرسة الحقوق الملكية - التي أصبحت الآن كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول بالجيزة - وخريج قسم الدكتوراه الفرنسية «شعبة العلوم السياسية والاقتصادية»، وقسم العلوم الجنائية بالجامعة المصرية القديمة، وحامل دبلوم الدراسة الإيطالية، ودبلوم المعهد الألماني، ومن الصحف التي نشرت رسائله وأحاديثه جرائد: التيمس والمانشستر جارديان والديلي هيرالد والإيجيبشان جازيت والجازيت دي لوزان والبوب لو دي روما والجرنالي دإيطاليا ولومانيتيه.
وكان أحد شبان ثلاثة قابلوا الزعيم سعد زغلول وأصحابه قبيل فكرة تأليف الوفد المصري، وقد توثقت صلات المؤلف بالزعيم سعد، وتبودلت بينهما رسائل وأحاديث، هذا وقد أتيح للمؤلف مقابلة أعاظم الرجال كملوك العرب وإمبراطور الحبشة وفي أوروبا كالبابا ولبران وديمورج وهم من رؤساء الجمهورية الفرنسية، ولويد جورج ومكدونالد وتشمبرل وتشرشل من رؤساء الوزارات البريطانية، وإيدن وهربو وبريان وبلوم وموسوليني والمئات من رجالات أوروبا، كذلك درس العمل في صحفها التي نشرت رسائله وأحاديثه، وللمؤلف مقالات ودعايات لمصر في صحف أوروبا والبلاد العربية والإفريقية ومجتمعاتها، وقد عاصر المؤلف في صباه الحركة الوطنية والفكرية الأولى التي كان من أعلامها محمد عبده وعلي يوسف وقاسم أمين ومصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش، وعاصر في مطلع شبابه الحركة الوطنية الثانية بزعامة سعد زغلول، وهو عنصر اللجنة الاستشارية العليا للتعاون التي وضعت قانون الجمعيات التعاونية في 1927، وأحد مؤسسي جمعية نهضة القرى، ومؤسس جمعية الشبيبة المصرية، وجمعية الدراسات السودانية، وجمعية الدراسات الإفريقية، ولجنة الدراسات العربية والإسلامية، ولجنة الدراسات النفسية والاجتماعية، واتحاد ضاحية الأهرام، وعضو البعثة المصرية للسودان، وعضو جمعية لجنة جوبا، وعضو الاتحاد العربي، والأستاذ السابق بقسم الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفي أثناء دراسته الابتدائية أنشأ مجلة المفيد، وفي 1930 أصدر الجريدة القضائية، وفي 1931 أنشأ مجلة الإدارة والبوليس القضائي، وهو محام ومحرر بالأهرام.
نامعلوم صفحہ
أما في باب التأليف فقد أخرج عشرات المؤلفات؛ من ذلك كتبه عن السودان، والمسألة الحبشية، والمسألة الهندية، والمسألة اليهودية، وتاريخ ما قبل التاريخ، وعصور ما قبل التاريخ، وميلاد الحضارة ونشأة الحياة والحضارات الكبرى، وهذا حدث لي، وفاتحة الدراسات العربية والإسلامية، وفاتحة الدراسات النفسية والروحية، وكيف تكون سعيدا ومحبوبا وزعيما، والدولة الإسلامية، وأسرار الحياة الدولية، والتعليم الجامعي والعربي، وعلى هامش القضاء، وأشهر المحاكمات، والملك عبد العزيز آل سعود والمملكة العربية السعودية، وظواهر نفسية وجنسية، والتصوف والمتصوفة، ومجموعات الجريدة القضائية، ومجموعات الإدارة والبوليس القضائي، وشرح القانون التجاري، والتعاون الزراعي، والمرأة الحديثة وكيف تسوسها، والشذوذ العبقري والإجرامي والجنسي، والدراسات الجنائية والقانونية، إلخ.
التصوف
منذ ظهر الإنسان في هذا العالم، مضى بعض بنيه يقيمون في حالة اعتكاف وزهد، أو انطواء مع نظر إلى السماء واحتقار للمادة والشهوة الحيوانية، كان هذا المعنى ساذجا وبدائيا، ثم أصبح فلسفيا، أعني ثمرة المران والدربة والرياضة، ومن آثاره الدعوة إلى القناعة والزهد والرغبة عن الماديات، وإكبار القوى الطبيعية والإلهية، وكان هذا يبدو في صور شتى، تابعة لأحوال البيئة وأشكال الحكم.
ولقد اختلف المفسرون في تفسير كلمة «التصوف» فمنهم من أرجعها إلى لبس الصوف الذي كان يؤثره المتصوفة على سواه مبالغة في الزهد والتقشف، ومنهم من قال إنها من «الصفاء» لما يقصد به من صفاء الروح، ومنهم من قال غير ذلك مما أفاضت في شرحه كتب اللغة ومؤلفات التصوف، وقد وجد التصوف في الأديان كلها تقريبا عدا الوثنية؛ ففي البراهمية مثلا نجد أن أعلى درجات الكهنوت هي درجة «النسك» التي لا بد أن يهيم فيها المتعبد على وجهه في الغابات شريدا طريدا، يقتات بالعشب وما إليه، حتى إذا ما جاز هذه المرحلة بنجاح سمي «فقيرا»، وخرج من إنسانيته وصفت روحه، وجاءت البوذية فأيدت ذلك بذكر أن الاندماج في «النفس الأولى» - أي الذات العلية - يجب له إنكار الذات والتأمل والزهد في الدنيا.
وظهرت في المسيحية مذاهب في التصوف كثيرة، على أيدي رهبان الأديرة المختلفة، فمنهم من جعلها انقطاعا للعبادة، ومنهم من أشرك فيها بعض الأعمال الدنيوية على أن تتصوف إلى الخير، والخير وحده، ولما ظهر الإسلام ظهرت فيه طرائق في التصوف مختلفة ما يزال بعضها قائما بين ظهرانينا، وأشهر متصوفة الإسلام «شفيق البلخي» و«رابعة العدوية» و«الإمام الغزالي»، وعلى هذا كان التصوف يتلون بلون العقيدة الدينية للمتصوف؛ لأن لكل صوفي طريقته الخاصة في العبادة على أساس تلك العقيدة، وإن كانت جميعا تتفق في الغاية، وهي «الوصول»، ومعناه في لغة المتصوفة الاتصال الروحي بالذات العلية.
ونحن نؤثر أن نزيد الأمر جلاء وبيانا فنقول:
إن طريقة الكلام التي تصدت إلى شرح العقائد الدينية وإيضاحها مبرهنة على صحتها من طريق النظر؛ لم تصل - برغم تطور الحياة العقلية العربية - إلى المرتبة التي تطمئن إليها قلوب جميع المسلمين، ومن أجل هذا نزعت نفوس كثيرة إلى التعرف بالخالق والاتصال به، لا من طريق النظر العقلي فقط، بل بواسطة المشاهدة أيضا، فعمدت إلى المجاهدة في سبيل الوصول إلى تلك الغاية العظمى بمحو كل ما يحول دون ذلك من العوائق المادية، وهتك الحجب القائمة بين عالمي الملك والملكوت، وإن المسلم الورع لشديد الحاجة إلى التقرب من خالقه؛ ليتمكن من القيام بخدمته على قرب منه، وليحظى بمشاهدته ويسعد بمعرفته في حالة مباشرة لا تحتاج إلى وساطة شرع وإعمال عقل في تكوين برهان على وجوده وبيان في حقيقته.
ما قام هذا الإحساس، وما ظهرت تلك الحاجة في بعض النفوس بعد أن تكون علم الكلام «التوحيد» ووصل إلى الحد الذي انتهى عنده النظر العقلي، بل ظهرت علامات ذلك منذ بدأ الإسلام، يظهر جليا، ونمت نموا متواصلا بما عرفه المسلمون من الورع المسيحي والزهد الهندي وما دعت إليه تطورات المدنية المتأثرة بمدنيات الأمم القديمة في العموم، فنشأ عن ذلك كله نظريات دينية وآراء فلسفية عرفت باسم «التصوف» وعرف أصحابها باسم الصوفيين، قال ابن خلدون في مقدمته: «هذا علم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، ولما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.»
ولقد اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية، فمنهم من أرجعها إلى الصفاء، ومنهم من أعادها إلى «الصفة»، لكن خطأ هذا واضح لعدم صحة الاشتقاق بناء على مخالفة القياس اللغوي، ويرجح رجوعها إلى «الصوف»، ونص السهراوردي في عوارف المعارف على أن المتصوفة خالفوا الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف، وقد جرى أيضا على هذا الرأي ابن خلدون، وأخذ به «نولدكه» مخالفا في ذلك رأي «مركس» القائل بالرجوع في هذه التسمية إلى كلمة «صوفيا»، وقد جرى على رأي «نولدكه» جمهور من المستشرقين، وأخذ جرجي بك زيدان برأي مركس في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية.
وغرض المتصوفة الوصول إلى الحقيقة من طريق الاتصال بالذات الأقدس ومشاهدته، والحقيقة عندهم هي ذات الباري، وطريقهم إلى ذلك التفاني في محبة الذات الأقدس إلى درجة يسقط عندها التكليف بين المحب والمحبوب.
نامعلوم صفحہ
ولذلك رأوا أن وسيلتهم إلى ذلك لا تكون إلا بالنأي عن كل شيء سواه، فتورعوا وزهدوا في جميع مظاهر الحياة الدنيا، واجتنبوا الملاذ واعتزلوا الناس لترويض النفس بالجوع والذكر، وغير ذلك من أنواع المجاهدات.
وإن الصوفي لينقطع بهذه المجاهدة الروحية والرياضة النفسية عن عالم الحس شيئا فشيئا، ذلك العالم الذي يعده من العوائق الكلية عن الوصول إلى السعادة والغبطة في مقام الشهود، ولهذا يتمنى المتصوف لو أن حواسه الخمس تقل عدا، على خلاف ما كان عليه الإغريق من تمني الزيادة في عدد تلك الحواس؛ كي يتمكنوا من إدراك أكثر مما أدركوا من جمال الوجود وأسرار الكون العام.
هذا، ويتبع هذه المجاهدة والرياضة بالخلوة والذكر في الغالب شيء من الكشف عن الروح ليس لصاحب الحس إدراك شيء منه، ويتزايد هذا الكشف من وقت إلى آخر ومن درجة إلى درجة بملازمته طرق الرياضة حتى يصير كما يظنون شهودا، وهنا تصل نفس الصوفي إلى الدرجة القصوى والاستعداد إلى الإدراك الكلي، فيتلقى عندئذ المواهب الربانية والعلوم اللدنية وينكشف له كثير من حقائق الوجود التي لا تدرك بالحس والنظر.
ويعرف عن الصوفية أن الواصل منهم إلى هذا المقام يتجلى له أمر المستقبل، فيعرف كثيرا من الحوادث قبل وقوعها، وبذلك يمكنه أن يتصرف بهمته وقوى نفسه في الموجودات السفلية، والعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يخبرون بشيء عنه ولم يؤمروا بالتكلم فيه؛ لأنه قد يكون لهم من قبيل المحنة والابتلاء.
النظريات الصوفية
ذكر الفرغاني أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية، وهما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة ليس غير، ويسمي المتصوفة هذا الصدور «بالتجلي»، ويرى شهاب الدين السهراوردي أن العالم الروحاني صادر عن الملأ النوراني، عن الذات الأقدس، وهذا العالم النوراني مقابل لعالم الظلمة الذي هو عالم المادة، ويعرف هذا المبدأ «بحكمة الإشراق»، وليس هذا الرأي ناشئا عن نظر متصوفة الإسلام، بل وصل إليهم من الأفلاطونيات الحديثة التي تكونت نهائيا في مدارس أفلوطين وفروفريوس وجامبليكوس وأفروكلين، وذهب آخرون من المتصوفة إلى القول بالوحدة المطلقة؛ وذلك أنهم يزعمون أن الوجود له قوى في تفاصيله، وبهذه القوى كانت الموجودات وموادها وصورها، والقوة الجامعة لتلك القوى من غير تفصيل هذه القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية، وأحاطت بها من كل وجه، وهذه العقيدة هي المعروفة باسم «البانتشم» أو وحدة الوجود التي أخذت مبدأها في الأساطير القديمة والحكمة الهندية.
اتفق المتصوفة والمتكلمون على أن الخالق له التأثير في الموجودات، ولكن أغلب المتصوفة أضافوا إلى ذلك قولهم: «وإن جميع الموجودات هي عين الخالق»، وهذا هو عين نظرية وحدة الوجود التي جعلت ذاتية الإنسان عين ذاتية الباري.
وقد تكلم المتصوفة في النفسيات؛ وإجمال رأيهم أنهم أهملوا الظواهر الخارجية المحيطة بالإنسان المدركة بواسطة المشاعر الخمس، وجعلوا طريق الإدراك الحقيقي من القلب، فالقلب هو الذي يفيض بالمعرفة الحقة، وما تحمله الحواس ليس إلا مجرد غلط وخداع.
وأخذ المتأخرون من الصوفية بعقيدة وحدة الوجود، وذهبوا أيضا إلى القول بالحلول وأترعوا صحفهم بذلك، وفي كتاب المقالات للهواري كلام كثير، وتبعه في هذا الرأي ابن العربي وابن سيرين وابن العفيف وابن الفارض في قصائدهم المشهورة، وتطرق هذا الرأي إليهم من الإسماعيلية القائلين بالحلول وإلهية الأئمة، لذلك أخذ هؤلاء المتصوفة عنهم القول بالإمام وهو المعروف عندهم بالقطب، ومعناه رأس العارفين الذي لا يدانيه أحد في مقامه في المعرفة، وإذا مات ورث مقامه قطب آخر من رجال العرفان وغيرهم.
1
نامعلوم صفحہ
وقد عد الفقهاء وأهل الفتيا أكثر آراء المتصوفة بدعا في الدين يجب الرد عليها ودحضها، وقد انبرى لهذه المهمة كثير من الفقهاء والقضاة للرد على مقالات الصوفية، فحملوا عليها حملات شعواء بالنكير سائر ما وقع لهم في طريقتهم، وقد رد عليهم ابن خلدون في مقدمته؛ وفصل القول في ذلك في أربعة موضوعات وهي: الكلام على المجاهدات، والكلام في الكشف، والتصرفات في العالم والأكوان، والألفاظ المشكلة. فتناول ابن خلدون كلا من هذه الموضوعات وناقشها ورد على الفقهاء.
وذكر الغزالي في كتاب الإحياء كثيرا من البراهين الشرعية على صحة طريق أهل التصوف في اكتساب معارفهم عن طريق الإلهام؛ إذ قال: «إن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفا بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك بنفسه قط ينبغي أن يؤمن به؛ فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدا، ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات.» ويسوق الغزالي هذه الشواهد الشرعية والتجريبية والقصصية بما تراه مفصلا في كتابه، من ذلك تعرف أن روح الدين الإسلامي لم يكن ضد المتصوفة في جهادهم وزهدهم ومحاسبتهم النفس، ولم يكن خصما لهم في مشاهداتهم وإدراكهم.
أما بروكلمن المستشرق الألماني فقد قسم المتصوفة في كتابه «أدب اللغة العربية» إلى عشرين طبقة مراعيا في ذلك التقسيم الزماني والمكاني، وذكر في كل طبقة جميع التابعين لها ناصا على عدد مؤلفات كل متصوف مع بيان المطبوع والمخطوط وأماكن وجودها.
وتبدأ الطبقة الأولى من منتصف القرن الثاني الهجري إلى ابتداء القرن الخامس، وقد ذكر في هذه الطبقة أحد عشر صوفيا، وتبدأ الطبقة العشرون وهي آخر الطبقات من أوائل القرن الثالث عشر إلى الوقت الحاضر وهم متصوفة مصر وعددهم ستة.
أول المتصوفة من الطبقة الأولى هو الحارث بن سعد المحاسبي البصري ويكنى أبا عبد الله، وهو أول شخص عرف من المتصوفين الذين نسجوا على منوال التصوف المسيحي.
كان شديد الزهد والورع، وعرف بالمحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه، اجتمع له علم الظاهر والباطن فكان خاضعا لربه ملازما على الدوام لمجاهدة النفس ورياضتها والزهد في ملاذ الحياة الدنيا، ومن زهده أنه ورث من أبيه ألف درهم فلم يأخذ منها شيئا؛ لأن أباه كان قدريا، فرأى من الورع ألا يأخذ ميراثه، وقد مات وهو محتاج إلى درهم.
وما يؤثر عنه أنه كان إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك على أصبعه عرق فيمتنع عنه.
أما مؤلفاته فمنها: (1) مقاصد الرعاية: وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها. (2) رسالة في الفضائل العشر الموصلة إلى السعادة. (3) شرح المعارف وبذل النصيحة. (4) رسالة في الأخلاق.
ومن تمام المعرفة بالذات الإلهية - أي بالله - تمام إنكار الذات، وهي الحالة التي يعبر عنها بالفناء، وهو على ثلاثة درجات: (1) فناء أهل العلم المتحققين به. (2) فناء أهل السلوك والإرادة. (3) فناء أهل المعرفة المستغرقين في شهود الحق. فأول الأمر أن تفنى قوة علمه وشعوره بالمخلوقين في جنب علمه ومعرفته بالله وحقوقه، ثم يقوى ذلك حتى يغيب عنهم، بحيث يكلم ولا يسمع، ويمر به ولا يرى، وذلك أبلغ من حال السكر، ولكن هذه الحال لا تدوم هكذا. وفناء أهل المعرفة على ثلاث درجات: (1) فناء المعرفة في المعروف ، وهو الفناء علما. (2) فناء العيان في المعاين، وهو الفناء جسدا. (3) فناء الطلب في الوجود، وهو الفناء حقا. فالأول وهو غيبة العارف بمعروفه عن شعوره بمعرفته ومعانيها، فيفنى به سبحانه وتعالى عن وصفه هنا وما قام به؛ فإن المعرفة فعله ووصفه، فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفعلها. ولما كانت المعرفة فوق العلم وأخص به كان فناء المعرفة في المعروف مستلزما لفناء العلم في المعرفة، فيفنى أولا ثم تفنى المعرفة في المعروف. والثاني هو فناء العيان في المعاين، فالعيان فوق المعرفة، فإن المعرفة مرتبة فوق العلم ودون العيان، فإذا انتقل من المعرفة إلى العيان فني عيانه في معاينته كما فنيت معرفته في معروفه. والثالث وهو فناء الطلب في الوجود، فهو أن لا يبقى لصاحب هذا الفناء طلب؛ لأنه ظفر بالمطلوب المشاهد، وصار واجدا بعد أن كان طالبا، فكان إدراكه أولا علما، ثم قوي فصار معرفة، ثم قوي فصار عيانا، ثم تمكن فصار وجودا.
2
نامعلوم صفحہ
هذه أقوال الصوفية في نظرية المعرفة، ظهرت واضحة في الدور الثالث من أدوار التصوف الإسلامي ما بين سنة 200ه وسنة 300ه حين أصبح الزهد فيه لا غاية، بل وسيلة للوصول إلى المعرفة والإشراق، وإذا أردنا أن نذكر تلخيصا صغيرا لهذه النظرية لا نرى في الواقع أحسن من رأي الأستاذ نشلسن حين قال: لقد ميز الصوفية بين ثلاثة أشياء؛ أي بين القلب والروح والسر؛ فالقلب يستطيع أن يتعرف كل الأشياء وماهياتها، وإذا أضيء بالإيمان والمعرفة استطاع أن يعكس على صفحته كل ما يحويه العقل الإلهي، ويتنازع القلب قوتان: إحداهما المعرفة التي تفيض من الله على العبد، والأخرى هي أوهام الحس، والمرء لا يعرف الله بالحس؛ لأنه لا مادي، ولا بالعقل والمنطق؛ لأنهما لا يخرجان عن دائرة المتناهي، بل بالفيض والوحي والإلهام، فالقلب يضم بين جوانحه العالم كله، والله وحده هو الذي ينير القلوب، ويزيل ما يغشيها من شوائب الحس؛ وذلك بتآزر العبد مع الرب في ذلك، أعني بالمجاهدات والرياضات، والأفعال التي لا تصدر عن الله أفعال باطلة، وكل ما يعمله الصوفي لا يبتغي وراءه أجرا، بل إن مطلبه الوحيد هو رضاء الله عنه، ومعرفة الصوفي معرفة مباشرة؛ لأنها تستند على الوحي، أو على الرؤية المباشرة، فهي ليست نتيجة لأية عملية عقلية، وإنما تعتمد كلية على إرادة الله ومحبته وفيضه على من اصطفى من عباده، ومع اتفاق المسلم العادي والصوفي في أن الله واحد؛ فإن الأول يعني بذلك أنه واحد في ماهيته وصفاته، أما الثاني فيرى أن الله هو الواحد الحقيقي الذي لا يوجد غيره في الكون، فهو يتضمن كل الظواهر الأخرى، ولما كان الصوفي لا يعرف الله وكل أسرار الوجود إلا إذا وحدها في نفسه، فهو بذلك يعد عالما صغيرا، فمعرفة الصوفي إذن هي اتحاد.
الطرق الباطنية
الكشف الباطني يشغل جانبا ضخما من رسالة الغزالي؛ إذ هو في طليعة الفكر الإسلامي، بل العالمي الذين آمنوا بإلهامات الروح، بل جعلوا من تلك الإلهامات وسائل وغايات للإرشاد والهداية.
وقد اختلف المفكرون قديما وحديثا في طريق المعرفة، وهل تتأتى عن طريق الحواس الخمس وحسب؟ أم لها سبل وطرق باطنية إلهامية أخرى؟
فالماديون لا يرون للمعرفة بابا إلا الحواس الخمس المتصلة بالعالم الخارجي، ويقررون أن لا مصدر فوق هذا تهبط منه المعرفة، غير الخيال والتصور، وهم شديدو التهكم برجال الكشف الباطني ومن سلك مسلكهم من أرباب القلوب أو الرياضة العقلية، ذلك سبيل أصحاب المذاهب المادية من الفلاسفة.
أما الصوفية والروحانيون على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم فيقررون أن للعلم وسائل باطنية تصل بين النفس الإنسانية والعالم الروحاني، يلمسها كل من صفت نفسه من أدران المادة وتخلصت من شوائب الحياة، فيحصل من هذا الطريق على أسرار الوجود وخفايا الخلود وحكم تعلو على الحواس الخمس والمعارف التي تدركها هذه الحواس.
والعلم الحديث القائم على الاستقراء والمشاهدة يعترف في صراحة بأن للمعرفة وسائل أخرى غير الحواس الخمس، وأن هناك إلهامات روحية غامضة لا سبيل إلى معرفة أسرارها أو إنكارها أو التكهن عليها.
فمسألة العقل الباطني والتنويم المغناطيسي الذي عجز الماديون عن إنكاره أو تشكيك النفوس فيه ، ما هو إلا ضرب من ضروب الأرواح السابحة التي يمكن للأرواح البشرية أن تلتقي بها وتتحدث إليها وترشف من نبعها ومعارفها ما شاءت من أسرار وفنون، وقد دل العلم الحديث على أن المنوم تنويما مغناطيسيا بعد أن تتعطل حواسه يتقمص شخصية أرقى من شخصيته وتتلبسه روح عاقلة واسعة الإدراك سامية المعارف، تتحدث عن أدق المسائل وأغمض المسالك، ومن مشاهدات العقل الباطني ما يلمح في كثير ممن نفذ إليهم شعاعه في ناحية خاصة كالحسابين على البديهة؛ وهم طائفة تلقى عليهم أغمض المسائل الرياضية وأدقها التي تحتاج إلى زمن كبير في التفكير والعمل، فيجيبون عنها فورا وهم لا يدرون ولا يعرفون كيف ولا متى حصل هذا؟
وهناك أطفال يوقعون على الموسيقى قطعا وألحانا يعجز عنها أئمة هذا الفن؛ وهم لا يعرفون كيف صنع هذا اللحن أو رتب ذاك النغم! وقد كتب الشاعر «موسيه» عن نفسه فقال: «أنا لا أعمل، ولكني أسمع فأفعل فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني.» وكان «لامارتين» يقول: «لست أنا الذي يفكر، ولكن هي أفكاري التي تفكر لي.» وروى الشاعر «رينيه» أنه قد ينام غالبا وهو يصنع قطعة من الشعر لم تتم فيستيقظ فيجدها تامة في اليوم التالي عندما يفكر فيها. أما سقراط فقد كان يسمع بأذنيه ما تلقيه إليه الروح.
بل إن هناك مذاهب فلسفية قديمة قامت بأسرها على المناجاة الروحية والاتصال بالله، فأفلوطين في مدرسة الإسكندرية يرى أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة، أما لبرتش في القرن السابع عشر فيقول باتصال مستمر بين العبد وربه. فمعرفتنا ليست إلا فيضا من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.
نامعلوم صفحہ
أما أرسطو الذي كان واقعيا في بحثه وطرقه، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته فقد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراساته النفسية على شيء من الفيض والإلهام.
ومن مذاهب العلم الحديث «مذهب المتأملين» الذين يؤمنون بالتأمل ويفضلونه على القراءات والدراسات ، فأصحاب المذاهب الفكرية وقادة الرأي لديهم كانوا من المتأملين، ولم يكونوا من الذين أفنوا حياتهم في البحث والدرس.
والصوفية في الإسلام تحمل لواء الكشف الباطني، وقد ازدحمت مكاتب الفكر الإسلامي بتراث ضخم للصوفية التي حوت معارفها ينابيع من العلوم والفنون ما أثار جدلا وحوارا، ولا تزال تثير جدلا وحوارا.
ولا ريب في أن الصوفية قد وجدت في الغزالي قائدا بارعا ومحاميا لبقا وشارحا ساحرا يأسر القارئ إلى صفوفه ويكسب المعارك بفنونه، فاستطاع أن يجعل منها علما واضحا مهذبا، أو كما قال العلامة ماكدولاند: «إن الصوفية بلغت بفضله ونفوذه وتأثيره مكانا ثابتا وطيدا في الإسلام.»
وتفوق الغزالي في تاريخ التصوف مرجعه إلى تفوقه العلمي؛ فقد درس العلوم الفلسفية والتقليدية والجدلية والمذهبية دراسة لم تتيسر لكاتب صوفي سواء تقدم به تاريخ الزمن أم تأخر.
ومن أجل هذا أصبح الغزالي كاتب الصوفية الأول، وبفضله وضحت أسرارها ومعانيها، وتحددت أهدافها ومراميها، وكما حطم نفوذ الفلسفة في المشرق بعد سيادة وهيمنة، أطلق علم التصوف في السماء يسبح خفاقا في قداسة ونور وإجلال.
والغزالي يؤمن بأن معارف الباطن هي طريق الهداية، لأنها اتصال مباشر بالحقائق الخالدة والأسرار النورانية، وصلة مستمرة بين العبد والخالق، أساسها المحبة المتبادلة والإلهامات المشرقة.
وقد أطلق الصوفيون على المعرفة الروحية لقبا يجعلها أصلا من الأصول، لا فرعا من الفروع، فأسموها علوم الباطن، وقاموا ثقافتهم وعبادتهم على أساسها.
وعلم الباطن عند الغزالي هو غاية العلوم، وقد عرفه بقوله:
إنه عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة، كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معان مجملة غير متضحة، فتصح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بإدراك حقائق علم الدنيا وعلم الآخرة، وهذا ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا ولا سبيل لهذا العلم إلا بالرياضة والتعليم، وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب أو لا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء إلا مع أهله ، وهذا هو العلم الخفي الذي أراده
نامعلوم صفحہ
صلى الله عليه وسلم
بقوله: «إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا أنطقوا به لم يجهله أهل الاغترار بالله.»
واعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة، وإنما ينكرها القاصرون، وقد قال
صلى الله عليه وسلم : «إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلقا.» وقال علي وأشار إلى صدره: إن ها هنا علوما جمة لو وجدت لها حملة. وقال أيضا: لو أردت أن أفسر الفاتحة بما أعلم لاحتجت إلى ثمانين بعيرا. وقال ابن عباس في قوله تعالى:
الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن : لو ذكرت تفسيره لرجمتموني، وقال أبو هريرة: «حفظت من رسول الله وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم.» وقال الرسول: «ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسر وقر في صدره.» وقال سهل التستري: للعالم ثلاثة علوم: علم ظاهر يبذله، وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله، وعلم هو بينه وبين الله لا يظهره لأحد، فإن قيل إذن الظاهر خلاف الباطن - وفي هذا إبطال للشرع - كان الجواب أن الشرع عبارة عن الظاهر، والحقيقة عبارة عن الباطن، وإن كان لا يناقضه ولا يخالفه، ولا يكون للشرع سر لا يفشى، بل يكون الخفي والجلي واحدا، وإنما هو اختلاف العقول والأفهام والظرف والمكان، وإن هناك من يدرك الشيء جملة ثم يدركه تفصيلا بالتحقيق والفروق، وذلك كما يتمثل للإنسان في عينه شخص في الظلمة أو على البعد، فيحصل له نوع علم، فإذا رآه بالقرب أو بعد زوال الظلام أدركه إدراكا أوفى.
مراحل التصوف الإسلامي
قبيل الوحي المحمدي كان الرسول يتبتل ويتعبد في غار حراء مطلقا روحه للتأمل والتفكر في بدائع الله وآياته الكونية صارفا قلبه عن متاع الحياة وشواغل الوجود، ليتفرغ بقلبه وعواطفه للمناجاة والعبادة وتلمس المعرفة حتى كانت العرب تقول: «إن محمدا عشق ربه.»
وبداية الأنبياء هي نهاية ما اصطلح على تسميتهم بالصوفية الذين يقولون إن المجاهدة والمحبة، والفناء في معاني المحبة والعبادة تعد الروح للتذوق والتلقي وتوصل إلى العلوم والمعارف، فالمعارف - في اعتقادهم - كامنة في الروح البشري أصيلة في مادتها لا دخيلة عليها، والتغلب على الجسد بإعلاء مكانة الروح يمزق تلك الحجب ويرفع الظلمة التي تحول بين الروح والنور.
ويعبر الغزالي عن المعرفة بقوله: «إنها نور يقذف في القلب.»
وقد كان الإمام مالك يقول: «ليست المعرفة بكثرة الرواية، ولكنها نور يضعه الله تعالى في القلب.»
نامعلوم صفحہ
وقد أثار التصوف جدلا وحوارا في الفكر الإسلامي، وأكبر الظن أن هذا الجدل أو هذا الحوار سيبقى خالدا ما بقي الفكر، كما أوضحنا قبلا.
والذين نقدوا التصوف الإسلامي وجهوا نقدهم الأكبر إلى أهداف ثلاثة:
فالفلاسفة وأصحاب المذاهب العقلية عابوا طريقته إلى المعرفة، وأنكروا أن يكون التفرغ والتجرد من متع الحياة والزهد في شهواتها ونعيمها سبيلا إلى المعرفة، بل سبيل المعرفة عندهم هو تغليب أرقى أجزاء النفس على الحواس وهو يقصدون بذلك قوى العقل وإرادته، كما وصفوا الانتصار العقلي على الحواس بأنه أرفع مراتب السعادة، كما يقول ابن رشد.
وهم بذلك يؤيدون الصوفية أكثر مما ينقدونها أو ينقصونها؛ لأن في سعيهم إلى تغليب العقل نزوعا إلى الصوفية وإن اختلف الوضع فنادوا بالعقل ونادى المتصوفون بالروح.
وعلماء الاجتماع ورجال الأخلاق تهكموا بالصوفية وأساليبها، وأسرفوا في التهكم والتجريح، لأنها في نظرهم لا تصلح للحياة العملية، ولا يقوم نظام المجتمع ولا يمكن أن تتأسس على نظمها الزاهدة الأمم.
وتلك شهادة للتصوف لا عليه؛ فهي تدل ضمنا على أنهم لا ينشدون مظهرا في الحياة ولا غلبة في مضمارها، ولا يبغون مأربا ولا يتلمسون مغنما من مغانمها، وإنما ينشدون طهرا وقربا من الله وفوزا برضوانه وعبادة للعبادة، بل إن التصوف الإسلامي جعل العبادة أصلا والمعرفة فرعا.
والصوفيون لا يقولون إن طريقهم للناس جميعا؛ لأن المثالية لم تكن يوما من الأيام شرعة مباحة لكل من يخطر بقدمين على الكوكب الأرضي.
وليس في استطاعة الناس جميعا أن يكونوا ملوكا، ولا أن يكونوا فلاسفة أو أطباء مثلا أو غيرهم من الطوائف والمذاهب العقلية والعلمية.
وأما الفقهاء وعلماء الكلام فقد هاجموا المتصوفة هجوما عنيفا، بل غالوا في هجومهم حتى رموهم بالمروق والضلال ومفارقة الشريعة وظاهر السنة.
وهنا يبدو موقف دقيق؛ ففريق من المتصوفة قد غالوا وأفرطوا كجماعة الحلوليين الذين قالوا بوحدة الوجود، وفريق آخر عبث بظاهر الشرع وأفرط في السبحات والوثبات والاستغراقات حتى تحلل من الفرائض والآداب.
نامعلوم صفحہ
ولكن التصوف الصادق لا يعترف بهؤلاء ولا هؤلاء، بل يبرأ منهم ويهاجمهم بأشد من هجوم الفقهاء أنفسهم.
ودستور الصوفية وصفاتهم يرسمه الغزالي ويوضحه بقوله في كتاب «ميزان العمل» عند ذكره لعلامات السائرين إلى الله فيقول:
اعلم أن سالك سبيل الله تعالى قليل والمدعي فيه كثير، ونحن نعرفك علامتين له، العلامة الأولى: أن تكون جميع أفعاله الاختيارية موزونة بميزان الشرع موقوفة على حد توقيفاته إيرادا وإصدارا وإقداما وإحجاما، إذ لا يمكن سلوك هذا السبيل إلا بعد التلبس بمكارم الشريعة كلها، ولا يصل فيه إلا من واظب على جملة من النوافل، فكيف إليه من أهمل الفرائض، والسالك لسبيل الله يعرض عن الدنيا إعراضا لو ساواه الناس بكلهم لخرب العالم.
فإن قلت: فهل تنتهي رتبة السالك إلى حد ينحط عنه بعض وظائف العبادات ولا يضره بعض المحظورات، كما نقل عن بعض المشايخ من التساهل في هذه الأمور؟ فاعلم أن هذا عين الغرور، وأن المحققين قالوا لو رأيت إنسانا يمشي على الماء وهو يتعاطى أمرا يخالف الشرع فاعلم أنه شيطان وهو الحق.
وإذن فالغزالي يقرر بأن المتصوفين فئة خاصة، ولا يمكن أن يكون العالم على مثالهم وإلا لخربت الدنيا وتغيرت معالمها وفسد نظامها.
كما أنه يربط التصوف بالشريعة رباطا لا ينفصم، فيجعل التمسك بقواعد الشريعة غاية السالك، فإذا خالف الشريعة ولو سار على الماء وطار في الهواء فهو شيطان.
تلك هي الصوفية الكاملة التي يصفها الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال بقوله:
إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.
وماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها وأول شروطها تطهير القلب عما سوى الله تعالى ومفتاحها استغراق القلب بالكلية في ذكر الله وآخرها الفناء بالكلية في الله، وأول هذه الطريقة المكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
ينقسم التصوف الإسلامي إلى قسمين: قسم يتعلق بالتربية وتهذيب الروح ونبل الخلق والتحلي بالفضائل والمحاسن الأدبية، وهو ما اصطلح على تسميته بعلم المعاملة، وقسم يتعلق بالرياضة الروحية والعبادة وما فيها من نور وطهر وكشف وفيض.
نامعلوم صفحہ
والقسم الأول هو عماد فلسفة الغزالي الأخلاقية، بل هو عماد كتابه الأكبر «الإحياء»، الذي خلد في تاريخ الفكر الإسلامي وخلد به الغزالي «كحجة للإسلام» توضيح فضائله وأنواره.
وهو مادة دسمة لرواد الأخلاق، ومادة دسمة لمن يبغي إنسانية نبيلة مهذبة لا تعرف التخاصم والتنابز بالألقاب ولا تعرف الفسوق والجدال وسوء الخلق، وفيه تتجلى وتبرز معاني الحديث الشريف: «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.»
وأما القسم الثاني وهو قسم العبادة والفيض، فأول شروطه كما يقرر الغزالي: معرفة الكتاب والسنة معرفة عليا خلافا لمن قال: إن الفيض يأتي بالطهارة فقط ولو لم تكن هناك معرفة بالكتاب والسنة والفقه، ويسمى هذا القسم في اصطلاحاتهم «بالطريق»، وقد قسموه إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى:
مرحلة العمل الظاهر؛ أي مرحلة العبادة والإعراض عن الدنيا وزخرفها وزينتها والزهد في شهواتها والانفراد والعكوف على الذكر والاستغفار.
والمرحلة الثانية:
مرحلة العمل الباطني بتزكية الأخلاق وتطهير القلب وتصفية الروح ومحاسبة النفس ومراقبتها والتجمل بالأخلاق النبيلة والصفات الزكية.
والمرحلة الثالثة:
مرحلة الرياضة والمجاهدة التي يقول فيها الرسول: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر .» وبتلك المجاهدة يقوى سلطان الروح وتتحرر النفس من الأدران الأرضية فتسمو وتصفو حتى تنطبع فيها حقائق العالم وأسراره، وينسكب في القلب نور ينكشف به جمال العالم وجلاله ودقائقه وأسراره، فيرق الحس ويتنبه الشعور ويستيقظ الإحساس فتكون حركة حياة في المشاعر عامة، وتشعر تلك المشاعر بلذة عليا وعلوم نورانية تقوى في النفس حتى تصير لازمة، ويتوالى الكشف للنفس وتزاح عنها الحجب شيئا فشيئا حتى تصل إلى الأنوار العليا في عرفهم.
أما المرحلة الرابعة:
نامعلوم صفحہ
فهي مرحلة الفناء الكامل بوصول النفس إلى مرتبة شهود الحق بالحق، وانكشاف العوالم الخفية والأسرار الربانية وتوالي الأنوار واللذة الروحانية.
وتلك المرحلة هي مرحلة الخطر، ومن أجلها نشبت المعارك، وأن يتذوق التصوف ثم يدرس أخلاقيات الغزالي فيتذوق نبل رسالته الأخلاقية وجلال شأنها.
وإن كان رجال التربية وأساتذة الفكر المثاليين يفكرون اليوم في إيجاد طبقة من الإنسانية ممتازة كاملة الرجولة قوية الحيوية سامية الخلق والفكر متلائمة التناسق ممن أطلقوا عليها اسم «سوبر مان»، أي الرجل الكامل أو الخلق الكامل، فقد وضع الغزالي منذ قرون الصورة الحقيقية التامة لهذا النوع الممتاز من البشرية السعيدة الطاهرة.
فإن المبادئ الأخلاقية النبيلة التي وضعها الغزالي وشرطها للمؤمن لجديرة بإيجاد مجتمع إنساني ملائكي فاضل سليم من الضغن والتنازع، بعيد عن الفحش والرذيلة.
وإن النظم التي سنها الغزالي ووضعها للمجتمعات وطرق اتصالها وتعاملها وعوامل اتحادها ومحبتها، لخليقة بإنشاء دولة أو عصبة من الأمم عالمية متحابة متعاونة متفانية في فضيلة واحدة، تهدف نحو وجهة عليا يرفرف عليها علم المحبة ويوحدها قانون الأخوة ويسعدها السلام الدائم للروح والقلب والأحاسيس.
ورسالة الغزالي الأخلاقية هي تطهير الجوارح تطهيرا كاملا عما يلوثها بين الفقهاء والصوفية، ومنها نشأ التيه لكثير من الصوفية؛ لأن من تزل قدمه هنا ضاع إلى الأبد.
وتلك المرحلة لا تكتب ولا توصف، لأنها خارجة عن نطاق التصور العقلي، والغزالي وهو علم الصوفية وكاتبها الأكبر لم يتعرض لها ولم يشغل قلمه بها، وإن كان لم ينكرها، بل تركها لأصحابها وأربابها.
ولكنه جال وأفصح في المراحل الثلاث السابقة ونثرها في كتبه نثرا أشبه بالنور والعطر، واستمد منها روعة أسلوبه وروعة تهذيباته وروعة مبادئه التي جعلت من الحياة محرابا أعظم لعبادة الله ودعوة عباده إلى الهدى والرشاد.
وقد تخصص الغزالي لآداب التصوف تخصصا جعله نسيج وحده بين رجال الفكر الإسلامي؛ فقد مزج الشريعة بالتصوف، كما مزج العبادات بروح من التصوف أطلق فيها النور والروح إطلاقا يبعث في القلب نشوة الإيمان ورعشة الخوف وفرحة الحس المطمئن إلى واجبه المقدس.
ودارس الأخلاق عند الغزالي، لا بد أن يدرس التصوف.
نامعلوم صفحہ
التصوف والمحبة
كانت هجرة الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة وتعبده في غار حراء أولى مراحل التصوف الإسلامي، وهنا ينبغي أن نبين أن هناك هجرة إلى الله وهجرة إلى الرسول، فقد قال تعالى في كتابه العزيز:
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ، وفي هذا المعنى ألف الإمام ابن قيم الجوزية المتوفى عام 751ه كتابا جعل عنوانه «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، بين فيه أن للعبد في كل وقت هجرتين: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه والافتقار في كل نفس إليه، وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه.
ولابن القيم كتب أخرى كثيرة، غير أن هذا أفضلها، لأنه يصور رأيه فيما يجب أن يكون عليه سلوك الإنسان في هذه الدنيا، وفي صلة المخلوق بالخالق من الفقر إليه والغنى به وفي الخير والشر، وكيف يكون الخير من الله والشر من أنفسنا، وفي القضاء والقدر وفي نفاة التعليل والحكمة والأسباب، وفي الإرادة الإنسانية والمحبة، وهذه كلها مسائل دقيقة خطيرة شغلت بال المسلمين منذ فجر الإسلام، وهي شاغلة لأفكار المؤمنين بوجود الله من أصحاب الأديان، بل هي شاغلة لأذهان الكفار والمشركين ما دام المجتمع الإنساني فيه الخير والشر والعدل والظلم.
ولقد حاول الفلاسفة والمتكلمون والصوفية حل هذه المشكلات، كل فرقة حسب منهجها ومذهبها فاختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا، وخيل إلى أصحاب هذه المذاهب أنهم ملكوا عنان البيان واختصوا بالمنطق والبرهان، فسموا أنفسهم الخاصة وسائر أفراد المسلمين دهماء وعوام، وأطلقوا على الجمهور أهل السنة، والإسلام الصحيح لا يعرف خاصة وعامة أو أرستقراطية فكرية واجتماعية.
1
وقد تصدى من أهل السنة في كل عصر رجال يجادلون الفلاسفة والمتكلمين والصوفية، ولكن أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ومثلهما في تاريخ الإسلام مثل سقراط وتلميذه أفلاطون في تاريخ الفلسفة كلاهما لا ينفصل عن صاحبه.
أما أول مسألة يحسن تقريرها في هذا الصدد فهي علة احتياج العالم إلى الله، وقد بادر ابن القيم بعد خطبة الكتاب بنفي مقالة الفلاسفة والمتكلمين وإثبات دليل آخر غير دليليهما، فقال: ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله تعالى أمر ذاتي لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته.
نامعلوم صفحہ
ثم مضى بعد ذلك فلم يتعرض للفلاسفة والمتكلمين الذين عني بالرد عليهم في بعض كتبه الأخرى، ولكنه اهتم بالصوفية، إذ إن مذهبهم يرمي إلى الوصول بل الاتصال بالله، وهو أليق المذاهب بالهجرة إليه، واصطلاحاتهم في ذلك تنم عليهم؛ فهم يصفون المتصوف بالسالك والمسافر والسائر، إلى آخر هذه النعوت المميزة لأرباب السلوك وأصحاب الطريق.
هذا، والصوفية أصناف؛ منهم المعتدلون ومنهم المتطرفون. ولهم رموز واصطلاحات لا يفهمها إلا المريدون، ولقد رثى ابن القيم للصوفي الذي يحمله التصوف على ولوج باب الحلول فيقول: سبحاني أو ما في الجبة إلى الله، ونحو هذا من الشطحات التي نهايتها أن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال. والحلاج هو المقصود من هذا القول: ما في الجبة إلا الله.
يطعن ابن القيم التصوف والمتصوفة في الصميم، ويبطل غاياتهم كالقول بالحلول والاتحاد والفناء، ويسفه طريقهم، ويناقش أئمتهم البارزين. أورد رأيهم في الفقر، وهو باب السعادة وبداية الطريق. قال أبو المظفر الفريسي : الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة، وعقب القشيري على هذا القول بأن صاحبه يشير إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيارات والرضا بما يحويه الحق سبحانه. واعترض ابن القيم عليهما فقال: «إنه كلام مستدرك خطأ، فإن حاجات العبد إلى الله بعدد الأنفاس، وأما أن يقال لا حاجة لله إلى الله فشطح قبيح.»
الواقع أن مرد الخلاف بين أهل السنة والصوفية في طريقة التفكير هو أن المتصوفة يحكمون الذوق ويدركون الأشياء بعين القلب لا بنور العقل، أما أهل السنة فيجعلون الشرع قبلتهم ويتبعون الكتاب والسنة وينفذون إلى الحقائق «بالعقل الصريح والفطرة الكاملة»، ولابن تيمية كتاب اسمه: «موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح» رد فيه على مزاعم الطاعنين في أهل السنة. وقال ابن القيم: أما تحكيم الصوفية مجرد الذوق وجعل حكم ذلك الذوق كليا عاما فهذا ونحوه من مثارات الغلط.
ونحن نوافق أهل السنة في هذا الرأي الذي يجمع بين النقل والعقل ويوفق بينهما، ويجعل المعول على العقل في تفسير النصوص والنظر إلى الأمور، والرجوع إلى العقل الصريح هو أول لبنة في بناء مذهب ديكارت من الفلاسفة المحدثين، وهو القائل: «العقل الصريح هو أكثر الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي.»
أما الذوق وهو طريق الصوفية فهو منهج لا يتفق مع طبيعة الحياة، ولا يفسر كل شيء ولا يتفق عليه جميع الناس ولا تقبله جميع العقول.
ولقد حكى أبو حامد الغزالي عن نفسه أنه طاف بجميع المذاهب فلم يجد بغيته أو شفت غلته، فانتهى إلى التصوف الذي عده أفضل المذاهب وأليقها بالاتباع، واستطارت شهرة الغزالي ولقب بحجة الإسلام واتبعه كثير من الناس.
فأما ابن القيم فإنه يعترض على الصوفية بأن ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك، وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذي يضرب بزهده المثل؛ فقد نادوا بالتوكل ورفضوا الأسباب، فأجابهم ابن القيم، فهذا كما أنه ممتنع عقلا وحسا فهو محرم شرعا ودينا، فإن رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين ، وإن أريد به رفض الوقوف معها والوثوق بها، فهذا حق، ولكن النقص لا يكون في السبب ولا في القيام به، وإنما يكون في الإعراض عن المسبب تعالى، فمنع الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل والشرع، وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح في التوحيد والتوكل، والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر، وهو الكمال.
إذا كان الله هو الخالق المبدع، وهو العليم القدير، وهو الفعال لما يريد، فلماذا يعاقب الناس على أفعالهم؟ وإن قلنا: الإنسان حر، فأين إرادة الله؟
هذه هي المشكلة الكبرى: القضاء والقدر، وحرية الإرادة، وكيف يمكن التوفيق بين القضاء والقدر، وبين الأمر والوعد والوعيد؟
نامعلوم صفحہ
تحيزت بعض الفرق للقدر وحاربت الشرع، وتحيز بعضها الآخر إلى الشرع وكذب القدر، والطائفتان في نظر ابن القيم ضالتان.
وآمنت فرقة ثالثة بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي، ولكنهم جعلوا مشيئة الله وقضاءه دليلا على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه، وقال بعضهم: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها!
وهذه كلها أقوال مشهورة؛ فالمعتزلة ينسبون الحرية للإنسان، وبهذا يصح عندهم الوعد والوعيد، والجبرية يثبتون القضاء والقدر ويعطلون حرية الفرد، وجاء الأشاعرة فقالوا بنظرية الكسب الأشعري التي أصبح يضرب بها المثل في الدقة والخفاء، حتى ليقال: أخفى من كسب الأشعري، وخلاصتها أن أفعال العباد مخلوقة لله مكسوبة لهم، فجمعوا بين الإرادتين.
أما أهل السنة فيختلفون عن هؤلاء جميعا، وهم غير الأشاعرة، فإن قلت إن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من الحنابلة، فلا تنافي بين الحنابلة وأهل السنة؛ أليس الإمام أحمد بن حنبل هو الذي ضرب حتى خلعت كتفه في محنة خلق القرآن، ورفض الجواب وقال: القرآن كلام الله، لا أقول مخلوقا أو غير مخلوق.
ورأي ابن القيم في القضاء والقدر يتلخص في شيئين: أنه هناك حكمة إلهية في كل ما خلقه الله وأمر به، وأن الخير من الله والشر من العباد.
الحكمة من صفات الله والحكيم من أسمائه الحسنى، ومن حكمته أنه خلق هذا العالم مركبا من أضداد؛ كالليل والنهار، والبرد والحر، والداء والدواء، وخلق الإنسان الطيب ومنه الخبيث.
فإن قيل: لم خلق الله الأضداد، وهلا جعلها كلها سببا واحدا؟ قال ابن القيم: وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات وترتيب آثارها عليها، وإيصال ما يليق بكل منها.
وسأل ابن القيم أستاذه ابن تيمية: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة من المفاسد مشتملة على المصلحة الخالصة؟ قال ابن تيمية: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالما آخر غير هذا. أما حقيقة نفس الإنسان فإنها جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، فما حصل لها من كمال وخير فمن الله، وما حصل لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها، فإن قيل: لم لا تكون النفس خيرة، كان هذا بمنزلة أن يقال: هلا تجرد الغيث عما يحصل به من تغريق وتخريب وأذى، وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم.
فكمال القدرة بخلق الأضداد، وكمال الحكمة تنزيلها منازلها، والعالم هو الذي يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولها لجميع ما خلقه الله ويخلقه.
أما الجديد في مذهب ابن القيم فهو مذهب المحبة بها يفسر جميع المشكلات السابقة، فقد خلق الله العالم وأحب من خلقه عبادته، فقال:
نامعلوم صفحہ
وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون ، قال ابن القيم: فأخبر سبحانه أن الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبته، وهو سبحانه، كما أنه يحب أن يعبد ويحب أن يحمد ويثنى عليه ويذكر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى.
فالله سبحانه يحب نفسه أعظم محبة ويحب من يحبه، وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك.
ويذهب ابن القيم إلى أبعد من هذا؛ فهناك عقد إلهي بين الله وعباده ثمنه الجنة، وفي ذلك يقول: فالله سبحانه خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم، وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له، مصطفاة عنده، مرضية لديه، فالسلعة أنت، والله المشتري، والثمن الجنة.
ومحبة الله من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعصيته؛ فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها.
وإذا ما اقترنت المحبة بالإجلال والتعظيم أدت إلى الانقياد.
والمحبة أنواع: طبيعية مشتركة، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء، ومحبة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، ومحبة أنس وإلف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة. وهذه الأنواع كلها لا تستلزم التعظيم، ولا يتعارض وجودها في الإنسان مع محبة الله، ولهذا كان رسول الله يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وكانت عائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق.
أما المحبة التي لا تصلح إلا لله فهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، قال الله تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله .
والمحبة تقتضي إيثار المحبوب على غيره، والإيثار نوعان: إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حب وإرادة، والمحبة الصادقة في الإيثار الصادر عن الإرادة في إيثار المعاوضة وطلب الحظوظ.
نامعلوم صفحہ
ولا محبة بغير إرادة، فهي أساس العبودية الذي لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إرادة له.
أما التجرد عن الإرادة إطاعة لهوى المحبوب، فهو عند ابن القيم باطل كما قيل:
أريد وصاله ويريد هجري
فأترك ما أريد لما يريد
والتحقيق عنده أن المحبة هي موافقة المحبوب في إرادته، بأن يبقى مراده مراد محبوبه، وهذا عند الصوفية نقص في العبودية وهو عند ابن القيم من كمال الإسلام.
وعلى هذا النحو يحل ابن القيم مشكلة التوفيق بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية لا بطريق الفلاسفة أو المعتزلة أو الأشاعرة أو الصوفية، بل بطريق المحبة.
المتصوفون وآراؤهم وطبقاتهم
كان للصوفية لغة خاصة بهم، وتعبيرات استقلوا بها في الإفصاح عن مذهب وحدة الوجود الذي كانوا يدينون به، ولكن هذه التعبيرات شاكت المسلمين وروعت الفقهاء وجعلتهم يحتاطون منهم، ويعتزلون مجالسهم، فلما رأى المتصوفون ذلك أعلنوا أن لهم حالتين مختلفتين؛ حالة الصحو،
1
وحالة الغيبوبة، فأما الأولى فهم ينطقون فيها بالشريعة، وأما الثانية فهم يعبرون فيها عن الحقيقة، وقد سمى الفقهاء تعبيراتهم في الحالة الأخيرة بالشطحات، وغفروها لهم، لأنها تصدر عنهم في حالة الغيبوبة التي تشبه النوم أو السكر المباح، ولكنهم لم يقبلوا هذه التعبيرات منهم في حالة الصحو مطلقا، بل عدوها جريمة تستوجب القصاص، ولهذا أفتوا بقتل «الحلاج»؛ لأنهم أثبتوا عليه أنه نطق بهذه التعبيرات في حالة الصحو، ومن هذه التعبيرات قولهم مثلا: «أنا الحق، أنا الأول، أنا من الكل والكل أنا، أنا العرش، أنا اللوح، أنا القلم، أنا منذ الأزل وإلى الأبد»، أو مثل قول الحلاج: «ما في الجبة غير الله.» إلى غير ذلك من الألفاظ التي توهم بظاهرها الكفر وتعبر في حقيقتها عن فكرة وحدة الوجود، وقد روى ابن خلكان عن الغزالي أنه لما اطلع على كلام الحلاج وافق عليه وحبذه وقال: إنه من فرط الحب للذات العلية والتفاني فيها، فهو من قبيل قول القائل:
نامعلوم صفحہ